أما
بعد
لقد
غدونا ألماً صافياً ()
رسالة
من الدكتورة يمنى العيد إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح.
الأخ
الصديق الدكتور/
عبد
العزيز المقالح
أود أن أكتب لك، لكني أجد الكلام صعباً لأنه معلق بين ما نرى وبين ما نود
أن نرى. أجلس ساعات طويلة على غير عادتي، إلى الشاشة الصغيرة، الأقمار الصناعية
تنقل لنا مباشرة ما يجري. محطاتهم الأميركية (CNN)
والفرنسية (TEY)
والإنكليزية (Sky News)
تنقل لنا. هم يفعلون ويصورون، ونحن نرى، نشاهد كل ما يجري: الحرب في الخليج،
الآراء، المواقف، التظاهرات... وفي كل العواصم العربية والغربية. يقدمون لنا
المشهد بعيونهم، ولكننا ننظر إليه بعيوننا وقلوبنا، نرى ونتألم؛ نتألم أكثر من
الألم. لقد غدونا ألماً صافياً.
الحرب، الفضيحة، المأساة... ماذا أقول؟ فالكسور تملأ قلوبنا، لكننا نعي أن
علينا أن ننهض من تدمير إلى تدمير، وبين دمارين ننهض، كأن علينا أن نكرر
البدايات. هل علينا حقاً أن نكرر البدايات! ألا تعتقد أن علينا أيضاً، الآن
وأكثر من أي وقت مضى، صياغة أسئلتنا حول مفهوم التحرر الوطني في تعقدها!؟ من
الصعب عليّ القبول بفهم لها يضعها في حدود علاقة ثنائية بسيطة؛ علاقة بين
قطبين، كما هو سائد في معظم الخطاب الثقافي العربي، أي بين الـ «أنا»
والـ«آخر»، أو الشرق والغرب، أو المركز والأطراف... ذلك أني أرى في مثل هذه
العلاقة تغييباً لطبيعة الطرف/ القطب، بل إن الطرف/ القطب، وخاصة «أنا»- «شرق»-
«طرف»، يبدو في هذه العلاقة، أو قد يبدو، واحداً مما هي هذه الـ«أنا»، ومن هو
هذا الشرق، أو هذا الطرف؟ هل هو الكل أم هو النظام أم هو المجتمع أم هو الثقافة
أو السياسة أو التاريخ...؟ وهل تتساوى في الطرف التيارات أو المواقف... من حيث
علاقتها بالمركز؟!
ألا تعتقد أننا بحاجة إلى فكر نقدي (ولا أقول إلى نقد أدبي)؟ ألا ترى إلى
أهميته، وأهمية تأمين شروط لممارسة مثل هذا الفكر، فلا نقع في الارتجال ونسمي
ذلك ديمقراطية؟ ذلك أن ممارسة الفكر النقدي هي في الواقع، ممارسة المعرفة؛
المعرفة في متغيرها الذي هو أيضاً متغير معرفي. ولئن كان للمعرفة طابع القناعة،
أو كانت المعرفة تؤدي إلى القناعة، فإنها ليست ثابتة، ليست مساحة أبدية بل
وظيفية تاريخية. ونحن معنيون بإنتاجها كي لا نقع في سهولة القبول وفوضاه أو
عفويته. نحن مدعوون لإنتاج متغيراتنا المعرفية وفق خصوصية تركيباتنا
الاجتماعية، وهذا عمل شاق وطويل ويحتاج إلى إخلاص حقيقي، وجهد جماعي، وتضحية،
و...
إعذرني على هذا الكلام الذي ليس مجاله في هذه الرسالة ولا أوانه في هذا
الظرف التاريخي الفادح، لكني طافحة بالقهر من هذا الذي أسميه الجالس على أعلى
كرسي فوق كرتنا الأرضية، أمّنا الحزينة، ويريد أن يفرض علينا كل ما يخدم
مصالحه، وفوقها إذلالنا. أشعر بأننا نقف على حافة الهاوية. ولكني أعي أننا نملك
القدرة على عدم السقوط، وأن بإمكاننا أن نتجاوز البدايات، حلقة التدمير والنهوض
المفرغة، لنراكم باتجاه تطورنا الذي يحقق ذواتنا، أي تحررنا الفعلي. هل
بإمكاننا أن ننظر إلى القصر لنرى بوضوح ما يشدنا إليه، ما يدمرنا كلما أعلينا
البناء؟
نحن هنا، أو كثير منا، مصابون بأكثر من المرارة. شخصياً لم أستطع أن أكتب
سوى مقالة واحدة. حين شاهدت مجزرة العامرية لم أقوَ على الصمت، فكتبت وأشرت إلى
القاتل الذي يبتسم، هذا الذي يجلس فوق أعلى كرسي ويعمل على قتلنا. ونشرت مقالتي
في جريدة «السفير» التي نشرت باستمرار مقالات لأكثر من أديب وكاتب، مُديِنةً
الغزو الأمريكي.
في اتحاد الكتاب شكّلنا لجنة متابعة، وأصدرنا أكثر من بيان، ووجهنا أكثر من
رسالة تستنكر وتدين وتفضح الأهداف البعيدة، وتطالب بإيقاف هذه الحرب المبطنة
بأهدافها. رسالة إلى الأمين العام، رسالة إلى الكتَّاب والمثقفين الغربيين،
ورسائل إلى هيئات عربية وعالمية عدة.
ماذا أقول لكم في صنعاء؟ ماذا أخبركم عنا هنا في بيروت وهي تنتقل من دمارها
إلى صمتها؟! ولكنا نود أن نقول... نقول، وسنعمل كي يبقى للقول قدرته وفاعليته،
فالثقافي يبدو اليوم هاماً.. وتأمين شرطة هو الأهم.
لكن شرط الثقافي والعمل على تأمينه (النضال) قد ينسينا الثقافي نفسه، وهنا
الخطورة. والدرب طويل، طويل... والحقيقة لا تموت.
بيروت/28/2/1991
إشـــارة
رسالة الأستاذة الدكتورة يمنى العيد تمثل دون شك صوتاً عربياً شديد الحزن
والنقاء وفي ذكرى مناسبة هي الأوجع على قلب كل عربي، تلك هي مرور خمس سنوات
قاسية عجاف على سقوط بغداد واحتلال العراق، ذلك الاحتلال الذي بدأ مع الغزو
الذي قادته الولايات المتحدة وحلفاؤها في مطلع عام 1991، زمن كتابة هذه
الرسالة، والذي استمر احتلالاً غير مباشر لمدة ثلاثة عشر عاماً قبل أن يتم
الاجتياح الأخير ويبسط الاحتلال نفوذه على هذا البلد العربي العظيم تحت ذرائع
ومبررات عديدة لم يصمد منها سوى مبررين اثنين هما مبرر الاستيلاء على النفط،
والدفاع عن الكيان الصهيوني الحليف الأقرب والحميم إلى قلب الإدارة الأمريكية.
عمر هذه الرسالة إذاً، سبعة عشر عاماً بالتمام والكمال. وقد بعثتها الدكتورة
يمنى العيد أثناء الغزو الأول للعراق، والذي تم في مطلع عام 1991 وتوقف بعد أن
نجح في تدمير العمود الفقري للجيش العربي في العراق، وكان تمهيداً للاحتلال
الذي بدأ قبل خمس سنوات (2003). ومعلوم أن الولايات المتحدة كانت ومن قبلها
الكيان الإسرائيلي يخشيان من بناء جيش قوي في الوطن العربي أو الأقطار
الإسلامية المجاورة، لما يشكله ذلك من تهديد مباشر للوجود الصهيوني في المنطقة.
وكان البيت الأبيض قد نجح في أوائل الثمانينيات في إشعال نيران الخلافات
الخامدة بين العرب والجارة القريبة إيران، وفي استدراج العراق وإيران إلى حرب
طاحنة ظن أن وقودها سيكون الجيشين الإيراني والعراقي. واستمرت الحرب التي بلا
مبرر بين البلدين الجارين ثماني سنوات أكلت الأخضر واليابس والتهمت عشرات
الآلاف من الجنود والضحايا المدنيين والثروات والبنى الاقتصادية والعمرانية،
ولكنها لم تحقق الغرض الذي هدفت إليه الإدارة الأمريكية يومئذ؛ فقد استفاد
الجيشان من الحرب خبرة وقوة، ومكنتهما من تعلم دروس جديدة في فن القتال، مما
زاد في هلع الكيان الصهيوني وزاد غيظ الإدارة الراعية والداعمة لهذا الكيان،
الأمر الذي أدى إلى افتعال خلاف حاد بين الجارتين العربيتين الكويت والعراق،
واستغلال نتائج الخلاف، الذي دفع إلى دخول الجيش العراقي إلى الكويت، لتدميره
من هناك والقضاء على إمكاناته في حرب كان أفظعها تلك النتائج التي أسفرت عنها،
ولعل أقلها الانقسام الذي تم داخل العائلة العربية والذي استمر يتصاعد ويكتسب
المزيد من الشروخ والانشقاقات إلى أن وصل إلى وصل ما إليه الآن.
رسالة الدكتورة يمنى بوضوحها وبصدق المشاعر التي تعبر عنها ليست في حاجة إلى
شرح أو تعليق، وكم كانت عميقة وصادقة في تصوراتها لما كان يحمله ذلك الغزو
المشؤوم وما يبعثه في النفوس النبيلة من قلق على المصير وشعور مرير بما ينتظر
العرب من مفاجآت هي في حكم الواقع المعاش! ومع كل ذلك فإن الرسالة لا تخلو من
خيوط ضوء ومن تفاؤل لا بد أن يسحب نفسه على الظروف الحالية التي احتشدت
بالمقاومة والتحدي الصلب للاحتلال الذي ظل ثلاثة عشر عاماً يدرس الاحتمالات قبل
أن يغامر في الاستيلاء على العراق وآبار نفطه وقتل مليون من أبنائه وتشريد
أربعة ملايين، واتساع دائرة الدم والتدمير وتمزيق أواصر القربى والمواطنة
وتعميق الخلافات المذهبية والإثنية... إلى آخر ما في جعبة احتلال يريد أن يطيل
أمد بقائه في بلد يتمتع بأكبر مخزون نفطي في العالم.
شكراً وأزكى تحية للناقدة الرائية يمنى التي تخشى على الثقافة العربية من
الدبابات خوفها على الانسان.
«غيمان»
|