العدد العاشر - ربيع 2010م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

أول الكلام
 

الطفل هو المبدع الكبير (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 عبد العزيز المقالح

"الإنسان العظيم هو الإنسان الذي لا يفقد قلب الطفل" - (حكمة شرقية)

 

في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي أصدرتُ كتابي «الوجه الغائب- دراسات في أدب الطفل العربي». وكنت توقفت فيه عند البدايات الأولى لهذا النوع من الأدب، الذي يُكتب للأطفال. ووجدت -عبر التتبع- أن الطفل العربي أكثر أطفال العالم حرماناً، وأن التأليف للأطفال -وهم المستقبل- غائب تماماً، وما المجلات التي كانت تصدر باسمه في هذا البلد العربي أو ذاك إلاّ تسالٍ لا تنمي معرفة الطفل ولا تكسبه ما يحتاج إليه سِنُّه من معلومات أولية في مجال الإبداع والفكر. ومنذ ذلك الحين (أي منذ صدور كتابي، عن دار المسيرة في بيروت) لم يحدث أي تغيير يُذكر؛ فما يزال الطفل العربي محروماً، والكتابة للطفل غير واردة في أذهان الناشرين والكتَّاب. وفي آخر معرض للكتاب حضرته وجدتُ الكثير جداً من الأوراق والأغلفة الملونة التي تخاطب عيون الطفل؛ لكنني لم أجد الكتاب الذي يخاطب عقله ووجدانه.

وأكاد أتذكر بالحرف ما قاله بعض الزملاء بعد أن قرؤوا كتابي المشار إليه. وكان سؤال أحدهم مريراً ومؤلماً: «إذا كان معظم الرجال والنساء في الوطن العربي محرومين من نعمة القراءة والكتابة، فماذا تتوقع أن تكون عليه حال الطفل العربي، هذا المخلوق المنسي في حساب الأنظمة، والذي بالكاد يعثر له والده على ثوب وغذاء!؟». وأعترف أن سؤالاً كهذا أثار قلقي وأدخلني في مسارب عديدة وجعلني أتجه نحو قراءة الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في هذه المنطقة العجيبة المليئة بالثروة والفقر والأمية؛ إذ يستحيل في أوضاعنا العربية الراهنة أن يجد الإنسان شيئاً من الإنصاف، رجلاً كان أم امرأة أم طفلاً.

 وبما أننا نناقش في هذه الكلمة موضوعاً محدداً، هو حرمان الطفل العربي من الكتابات التي ترتقي بوعيه وتوجه مساره في حياته القادمة، فإننا نقْصُر الحديث على كيفية التعامل مع الطفل العربي، الذي أتاحت له الظروف الخاصة أو العامة القراءة، والذي يذهب إلى المدرسة ويجد الإمكانات الضرورية كالطعام والثياب، لكنه يعاني من حرمان حقيقي في هذا الجانب من حياته، فما يُكتب له في غالب الأحيان من قصص، وما يُقدم له من معلومات، لا يخاطبه كإنسان، بل بوصفه طفلاً، وهو بالتالي يخاطب حجمه لا عقله، وهي نظرة ساذجة؛ فالطفل هو الرجل أو المرأة، ولديه من الأحاسيس والوعي ما يجعله يكتشف زيف الكثير مما يقدمه له بعض من يتوهمون أنهم يكتبون له، فضلاً عن أنهم لا يدركون مشكلاته وأبعاد رؤيته المبكرة للأشياء، ولا يحاولون الإصغاء إلى أسئلته العميقة، تلك المرتبطة بالواقع وما يعاني منه عالم اليوم من صراعات مفتعلة ومن حروب مدمرة وضحايا كثيرة من النساء والأطفال والأبرياء ممن لا حول لهم ولا قوة.

 إن الدراسات المعمقة في هذا المجال لا تنظر إلى الطفل من منطلق حجمه، وإنما من منطلق أسئلته ورؤيته إلى الحياة والناس والأحداث، ومن خلال تصوره لما يحدث في منـزله ومنازل الجيران، وما تتعرض له مدينته ووطنه من ويلات كان العقلاء -بشيء من الحكمة والتوازن- قادرين على تجنبها والعمل على إيجاد حالة من التعايش بين كل الفئات والانتماءات. كما أن نقاء الطفل وبراءة تصوراته تجعله يرى الحقيقة كما هي، بلا رتوش ولا تزييف. ويجدر بالكتَّاب والمبدعين أن يساعدوا أنفسهم في استقراء ما يقوله وما تهمس به شفتاه البريئتان وما تقوله انكسارات عينيه تجاه مناقشات الكبار وأحاديثهم المفعمة بالخوف والضجر.

 وحين قررت مجلة «غيمان» أن يكون «واقع الكتابة للطفل» سؤال هذا العدد، فإنما كانت تهدف إلى لفت الانتباه إلى المستقبل المنشود، بوصف الطفل الصورة القادمة لهذا المستقبل. ولا ينبغي أن ننسى في مناسبة كهذه أن نشيد بعدد ممن نذروا كل أوقاتهم أو بعضها، وكل إبداعاتهم أو بعضها، للطفل العربي، وفي مقدمة هؤلاء شاعر العروبة الكبير الأستاذ سليمان العيسى، الذي أبدع مكتبة شعرية للطفل العربي، ومن منظور مستقبلي واضح المعالم والرؤى. وكذلك كاتب الأطفال المعروف وصاحب الألف كتاب للطفل العربي الأستاذ عبد التواب يوسف، الذي سبق لي أن أهديت إليه كتاب «الوجه الغائب»، تعبيراً عن تقديري لجهوده الثرية في هذا المجال، واحتراماً لاختباره القائم على الاستمرار ومواصلة الكتابة للطفل بعد أن تراجع عنها.