العدد الثاني - ربيع 2007م

   
 

دراسات
 

الصور الصحراوية في ديوان علي جعفر العلاَّق "سيّد الوَحْشَتَين"

أين رحل الماء؟

د. خالد علي مصطفى

 

-1-

نطوي ديوان الشاعر العراقي علي جعفر العلاَّق "سيد الوحشتين"(1) على مدٍّ رثائي تفجعي، يتصاعد مع توالي القصائد، إلاَّ من بضعٍ منها. وهو رثاء يقترب، بهذا العدد أو ذاك، من صور الندب في الشعر السومري والبابلي القديم، ولاسيما في قصائد البكاء على تموز القتيل، أو الغائب في ظلمات العالم السفلي، بحسب أساطير ذاك الزمان.

إذا كان "الندب" القديم يصدر عن موكب جنائزي جمعي، فإنه في شعر علي جعفر العلاَّق يصدر عن "ذات" ممزقة بين حلم قتيل وواقع قاتل: واقع يختلط فيه "الضحى بالضحايا" (ص158)، ويتماهى "الحبر فيه بالحرب" (ص97)، ويغني "قابيل فيه لطوابير من الغربان" (ص25). لقد عاد كل شيء إلى العصور الحجرية الهمجية؛ عاد مشوشاً، غائماً، ملطخاً بـ"قاتل يجتاحه قاتل" (ص92). فهل يمكن بعد ذلك، إلاَّ أن يتحول الشعر إلى بكائياتٍ ترثي الذات، وترثي البشر، وترثي الوجود؟

يخيل إليّ أن هذه النبرة الرثائية في "سيد الوحشتين" نبرةٌ جديدة في شعر علي جعفر العلاَّق، على حد علمي؛ نبرةٌ تدفع به إلى الوقوف في موكب شعراء الندب العراقيين، الذين يتقدمهم السيّاب العظيم. لا بد هنا إلاّ أن يتذكر الإنسان هذا المقطع من قصيدته "مدينة بلا مطر":

وفي غُرُفاتِ عشتارِ

تظلُّ مجامدُ الفخار خاوية، بلا نارِ!

ويرتفع الدعاءُ كأنّ كلّ حناجر القصبِ

من المستنقعاتِ تصيحُ        

لاهثةً من التعبِ

تؤوبُ إلهةُ الدّم، خبزُ بابلَ، شمسُ آذارِ

ونحن نهيم كالغرباء

من دارٍ إلى دارِ

لنسأل عن هداياها.

جياع نحن –وأسفاهُ!- فارغتان كَفاها،

وقاسيتان عيناها،

وباردتانِ كالذهب...".

 

وما من شكٍ في أن "سيد الوحشتين" يذهب، في نبرته التفجعية، ما ذهب إليه السيّاب من قبلُ، وإن بصورةٍ مختلفة؛ ذلك أن تفجُّع السياب يتم من خلال تصور أسطوري، تغيب فيه ذات الشاعر، وهو الأمر الذي يكسب قصيدته ما يمكن أن أسميه "موضوعية التصور الشعري". أما في "سيد الوحشتين" فإن التصور الشعري يقوم على الغنائية الذاتية المباشرة، على الرغم من تقنع بعض قصائده بأقنعةِ شعراء قدماء (المجنون، امرؤ القيس، مالك بن الريب).

جاء الغناء الرثائي الذاتي في "سيد الوحشتين" تعبيراً عن ردودٍ انفعاليةٍ حادة، تتوالى في حالات كثيرة على هيئة نفثات حارقة مؤلمة صادرة عن طبعٍ لا تطبع. وهذه هي حال الشعراء العراقيين عامة؛ فهم ينطلقون في الأعم الأغلب، عن إحساسٍ بالجرح، لا عن احتفالٍ بالبسمة؛ تراهم بين نادب وغاضب، وقلما تراهم بين متأمل، أو متدبر، إلا في حالات استثنائية، يستوي في ذلك الشاعر المتزيي بزي القدماء، والشاعر المتزيي بالحداثة وما بعدها. وإذا استثنينا محمود البريكان، فإن الشعر العراقي، سواءٌ أكان عمودياً! أم حراً، أم نثراً، لا تمتد إليه يد التنقيح والتحكيك والتثقيف، إلا على نحو عارض.

 

 

 

-2-

يميل شعر علي جعفر العلاَّق، في دواوينه السابقة، إلى شيء يختلف عما اعتاد عليه الشعراء العراقيون، من ندبٍ وتفجع. وبكاء يميل إلى الهدوء، بل إلى الهمس- منتزعاً مفرداته وصوره مما يدل على التفتح والخصب في الطبيعة والإنسان. ولا أذهب بعيداً حين أقول: إن شعر العلاَّق، قبل "سيد الوحشتين" ينطبق عليه قول الشاعر العربي القديم ذي الرُمَّة: "كأنّ الندى في ريشهِ يترقرقُ". ولذلك نرى أن "الماء"، دالاً ومدلولاً، يشيع في شعره شيوعاً ظاهراً. وقد عجزتُ، سابقاً ولاحقاً، عن أن أجد قصيدة له تخلو من "الماء" على وجه التحديد، وليس على ما ينضوي تحت حقلها الدلالي.

ومع ذلك، لا يفارق شعر علي جعفر العلاَّق، حسيّةَ الشعر العراقي، ودنيويته. لقد ظل بعيداً أيضاً، عن التأملات البعيدة في النفس والوجود، وعن التجريدات الذهنية؛ شعر يبتسم لكَ بهدوء، ويحدثك بهدوء، ويحاول أن يسير بكَ في وادٍ "ينوِّر في مجراه الزَّهرُ"، على حدّ تعبير عبيد بن ربيعة.

لعل شعر العلاَّق يقتربُ، في هذه الناحية، من الرومانسية المطعمة ببعض رواسم الرمزية الأسلوبية، كالإيحاء في التفكير، والتصوير في التعبير؛ كالتشخيص، وتراسل الحواس، ودلالة الصوت على المعنى...

أما في "سيد الوحشتين"، فقد وقف شعر العلاَّق على حافة الواقع، الحادة الخشنة الجارحة، يصيح من ألمٍ، ويتفجع بسببٍ من الانهيارات التي اختلط فيها "الحابل بالنابل"؛ شعرٌ تفيض منه اللوعة والحسرة، وكلٌّ منهما تتجاوز حدود اليأس، لتدخل في سديم العَدَمْ!

ومع ذلك ظل "سيد الوحشتين" محتفظاً بكثير من رواسمه السابقة، ولكن على نحو يزيد من حدة اليأس المفضي إلى العدم.

اتخذ التعبير عن الواقع الحاد الخشن الجارح، في "سيد الوحشتين"، صوراً دالةً على "الصحراء"، ليس باللفظ نفسه، ولكن بما توحي به الصور نفسها. وفي ظني أن هذا شيءٌ جديد في شعر العلاَّق. فإذا كانت "صور الماء" تطغى على شعره السابق؛ فإن "صور الصحراء"، في هذا الديوان، أصبحت "سيدة الوحشة"، أزاحت "صور الماء" وهيمنت عليها، وجعلتها متنحية عاجزة عن تأدية وظائفها في الطبيعة والإنسان، من خلال الشعر طبعاً! لقد دخلنا إلى "الأرض اليباب" وليس ثمة من "كأسٍ مقدسة"(2) تنقذها من الجدب الذي يحيق بها.

لم ترد لفظة "الصحراء" صريحةً في الديوان إلا في موضع واحد فقط (إن لم تخنّي عيناي)، جاءت في صيغة الجمع "صحارى" (ص79)، لتتماهى معنوياً مع لفظة "حصارات"، ولتشكل كلتاهما جناساً ناقصاً، على المستوى الصوتي. أما في غير هذا المكان فإن "الصحراء" تأتي بوصفها معنى مُجسداً في صورة موحية بها، أو لوحة دالة عليها، أو رمز مُشيرٍ إليها.

إذا عدنا إلى تجسيدات هذا المعنى الصحراوي، نجد أنه اتخذ منحيين تعبيريين مختلفين في الوجه، متحدين في الدلالة:

الأول: تقنُّع "الصحراء" بشخصيات مستقاةٍ من التاريخ الأدبي، عاشت حياة الصحراء، فأهلكتها (مجنون ليلى)، أو طوحت بها في الغربة بانتظار الموت (مالك بن الريب)، أو وقفت تنظر الهوادجَ الراحلة، من غير أن تحظى بغير "الأطلال" دالاً على الراحلين.

الثاني: صورٌ مستقاة من الواقع الخشن الحاد، تدل على "الصحراء" مباشرةً. وهي تأتي تعبيراً عن مشاعر ذاتية ترى الوجود (أو الواقع) منهاراً. وهو ما نتلمسه في معظم قصائد "سيد الوحشتين" على هيئة التماعاتٍ متوالية، كما في قصيدة "أوهام" (ص7)، أو متشظية في فضاء القصائد في مواضع مختلفة منها:

-         يهطل الليل على الليل كثيفاً، (ص12).

-         الحصى جاثم على أغانيه (...) هوادج في الريح (ص19-20).

-         إهدأي كالحصى يا طيور المنافي، (ص27).

-         أمن ذاك أم هاويةٌ؟ (ص37).

-         ليس إلاَّ الذئاب تسطع في الليل (ص41).

-         الحقول حصى.. (ص55).

-         لا شيء غير اصطدام المها بالمهالك (ص58)... إلخ.

 

ومع قليل من التفصيل، نجد أن "الصحراء" المقنعة تتناوح بين قطبين: موجودٍ ومفقود. أما الموجود فهو صوت القناع نفسه (وجميع الأقنعة الثلاثة هم من الشعراء)؛ وأما المفقود، فهو الحبيبة الغائبة (ليلى)، في قصيدة (المجنون) أو الحبيبة الراحلة في الهودج الغائم، في قصيدة (امرئ القيس) أو الحلم البعيد المنال (مملكة الرمان والندامى) في قصيدة (مالك بن الريب). هذا المفقود هو المثير الذي يؤدي بالمثار؛ فله السيطرة عليه، وقدرته على مد القصيدة بالانفعالات والمشاعر، التي تتجلى (في ذات المثار) دلالة على العجز واليأس والوحدة، فالميدان من حجرٍ في قصيدة (المجنون) والموت هو النهاية الحتمية (مالك بن الريب)، والطلل وحده هو الشاخص (امرئ القيس)؛ وهي جميعاً (الحجر، الموت، الطلل)، ذات فضاء صحراوي، يمكن أن يكون كلّ رمز منها دالاً على الآخر، على وفق مبدأ "تحولات الرموز"، وهي: تعددية الأسماء، ووحدة المسمى.

لا أريد أن أقع، هنا، في وحدة التفسير. غير أنّ هذه القصائد الثلاث المقنعة تجد تفسيرها المباشر في ختام إحدى رباعيات الشاعر العراقي علي الشرقي:

لم أجد في العراق ليلى، ولكن            

                                              كلَّ آن "أمُرُّ في مجنونِ".

 

ومن هذا الواقع الذي يشد المثير بالمثار على طبق من اليأس، تنبثق المشاعر المحبطة في هذه القصائد، من خلال توالي الصور الصحراوية فيها أيضاً. جاء في قصيدة المجنون:

1.               من ترى أوصلك اليوم إلى هذا المتاه؟

2.               خفاف الابل الحمقاء.

3.               حفرت البئر حتى بكت الإبرة.

4.               قبرة الوحشة، إبل هائجة.

 

هذه الصور الصحراوية، المباشرة منها وغير المباشرة، تعبير عن ردود فعل المثار (الشرود الذهني في (1) والعجز في (2،3) والضياع في (4). وهي حالات من اليأس الذي لا راد له).

تتحقق الوحدة الشعورية والبنائية، في هذه القصائد، جمعاً وشتى، من خلال أمرين:

الأول: علاقة الانقطاع بين المثير والمثار؛ وهذا سبب موضوعي مفروض على "ذات القناع"، ومن ثم على ذات الشاعر، إذا ذهبنا إلى أن صوت القناع هو صوت الشاعر نفسه، سواءٌ أكان الموضوع يستحق التقنع أم لا يستحق.

الثاني: ما تؤدي إليه علاقة الانقطاع من تعبير عن ردود فعل انفعالية يائسة ترى الواقع والوجود قد تحول إلى "أرض يباب". وهو (أي التعبير) نتيجة عاطفية ذاتية.

لا أريد أن أُحيل قصائد علي جعفر العلاَّق، حين اتخذت هذه الطريقة البنائية، إلى بيانٍ عقلي موصولةٍ أوائله بأواخره على نحو منطقي؛ لأن هذا أمرٌ يقع خارج الشعر تماماً؛ وإنما الأمر وما فيه، أن الشعر، في جوهره، تعبير عن حالة الاصطدام الحادة، أو الهينة بين ذاتٍِ وموضوعٍ متصلين اتصالاً حيوياً، وتتنافر فيه الصور، فصلاً أو وصلاً، على نحو غير منطقي بسبب من منحاه التخييلي وآثاره العاطفية. غير أن هذا الاتصال الحيوي، لا يمنع بعد الإحساس الجمالي به، استجابةً إيجابية أو سلبية، أن نتلمس له ما يسوغ وجوده التخييلي الانفعالي.

أما إذا أتينا إلى الصور الصحراوية الأخرى المبثوثة في جملة قصائد الديوان، فإنها تأخذ المنحنى نفسه، في التعبير عن مشاعر اليأس المتفاقمة. وليكن تمثيلنا بهذه القصيدة القصيرة:

لك أن تتوهم أن المتاهات أشرعةٌ

والحصى سُحُبٌ ممطرة

لك أن تتوهم أن السراب نبيذٌ

                       وأنّ التماعاتهِ مسكرة

                       ولك أن تتوهمَ... لكن

     أهذا الذي أنتَ فيه خرابٌ وتيهْ،

         أم هو الوهمْ، يا سيدي؟!

إذا نَحينا "الوهم" عن الذات الشاعرة، في القصيدة؛ تعود "المتاهات" إلى حقيقتها الصحراوية، ويعود "الحصى" إلى جموده العاقر، ويعود "السراب" إلى تلامعه الكاذب. هنا، الذات الشاعرة تكون عرضة للجذب من جانبين: جانب في النفس يتمثل بـ"أضغاث الأوهام"، وجانب في الواقع يتمثل بالخراب والتيه... وهذا هو اليأس التام الذي يستعيده الشاعر في قصيدة "سيد الوحشتين" بأسلوب التشخيص:

أتدفأ بالحلم حيناً، وبالوهم حيناً،

وأرجعُ:

                  شيخٌ من البرد بين عظامي،

وشيخُ من الوهم بين اليدين...

أي أن "لحقيقة الصحراوية" تطرد التمنيات الكاذبة التي يستجلبها الوهم، أو الحلمُ، أو كلاهما. وفي كل الأحوال فإن "الصور الصحراوية" في جملة الديوان، تحقق مرة أخرى وحدة شعورية تشع بيأسها، ويتلامع فيها سراب الأمنيات الكاذبة، في جميع القصائد التي اتخذت من "الأرض اليباب" حقلاً صالحاً للحداثة الشعرية. وهي قصائد تنساب في مدّ غنائي متلون بألوان الصحراء (إن كان للصحراء ألوان متعددة)، ويتصاعد منها نغم يائس حد الفجيعة، بل حد العدم.

من حق الشاعر علي جعفر العلاَّق أن يبكي، وأن يتفجع، وأن يندب، على نحو مباشرٍ أمام وضعه البشري أو على نحو غير مباشر، في قصائده. ومن حقنا نحن أن نشاركه التفجع والبكاء والندب، لأننا جميعاً في وضع بشري واحد.

كلية التربية – جامعة ذمار

28/12/2006  


 

هوامش:

(1)      "سيد الوحشتين": على جعفر العلاَّق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2006.

(2)      إشارة إلى قصيدة "الأرض اليباب" للشاعر الأنيكو- أمريكي: ث. س. إليوت؛ إذ يدور أحد مفاصلها الرئيسة حول البحث عن "الكأس المقدسة" الكفيلة بإنقاذ الأرض من جفافها، والإنسان من عقمه. و"الكأس المقدسة" رمزٌ مسيحي موصول بحياة السيد المسيح (ع)، وعشائه الأخير، وصلبه، وقيامته، كما ينص على ذلك اللاهوت المسيحي.