العدد الثاني - ربيع 2007م

   
 

دراسات
 

من أسرار التقنية في شعر المقالح

شعريّة التماثل والانزياح

قراءة في ديوان "أوراق الجسد العائد من الموت"

 عبد الله حسين البار

 

   درج الدرسُ الأدبيُّ سنواتٍ طوالاً على تحصيل النواتج الدلالية من ثنايا النصّ، والكشف عن مغازيه ومعانيه، وما اشتمل عليه من أغراضٍ وموضوعات. فتاهت طرائق النصّ في تشكيل الدلالة وإنتاجها. وغامت خصائصه الأسلوبية في ثنايا شروح المعاني وتبيان الأفكار. ولقد كان من السهولة بمكانٍ الحديث عن مواقف الشاعر من الحياة، ورؤاه لها، ما دام النصُّ تعبيراً عن ذاته، وليس تشكيلاً للعالم باللغة. وغدا الحكم على الشاعر، أو له، أمراً هيّناً، يستطيعه كلّ ذي قدرةٍ على الذوق والقول. وصار إسباغُ الصفاتِ الأشتاتِ شأناً متيسِّراً، ما دامت الأخبارُ مبذولةً، ومناسباتُ القولِ ذائعةً، ومعاني النصِّ ومغازيه واضحة.

أتراه لهذا نظر دارسون محدثون إلى أشباه ذلك التحليل ونظائره نظرةَ النافر العازف عن ولوج دوائر اهتمامه، وإن نهل بعض أصنافه من علومٍ مستحدثة كالنفس والاجتماع والفلسفة وما إلى هنالك من ذلك؟

ولقد عابوها، وإن كانت وسائلَ مسعفةً على التأويل والتحليل، ما دامت تغزو النصَّ بالمعنى، وتنتهك شعريته باستباق معطيات الدلالة أو توجيه معطيات النصّ للوصول إلى الدلالة دون اعتناء بطرائقه في التشكيل وخصائصه الأسلوبية في جلاء المعنى وإنتاج الدلالة.

لقد أفضى إيغال الدرس القديم في مقولاتِ أغراضِ النصّ وموضوعاتِه (وهي إطارات كلية افترضها الآخرون وفرضوها على الشعر) إلى ضمورِ النصّ بأنْ غدا وثيقةً، كائنةً ما كانت صفتُها، يستعين بها الباحث لتبيان أفكاره ورؤاه، أو غدا صدىً باهتاً لأحاسيس الشاعر وأفكاره ولا غير. في حين أنّه عالمٌ ثريّةٌ أبعادُه، متراميةٌ آمادُه، عميقةٌ أغواره، تتجدد عناصره بتجدد الأزمان. ومن هنا ينهمر في الأيام، ولا يكفّ عن التألّق، أو تجديد سمة الانبهار به في  كلّ آن. ولعلَّه لشيءٍ من هذا، انحصرت مناهج الدرس الحديث في النصّ، تشرّحه، وتفكّكه، وتتأوّل أبعاده ومراميه، وتكشف عن طرائقه في إنتاج الدلالة، وعن تشكيلِ عوالمه التخييليّة. وإنّ لها في تحقيق ذلك كلّه وسواه طرائقَ قِددا تسهم في جلاء ذلك كلّه وتبلوره.

وأيّةً كانت تلك الطرق، فإنّها تنحصر في دوالّ النصّ ولا تتجاوزها، وتأبى أن تلج دوائر القيمة، ودروب الحكم على النصّ، أو له، ولو أسعفتها في تحقيق ذلك الأخبار أو ما تهيّأ من الأشعار، وهو إجراءٌ درجت عليه مناهج الدرس القديم دون تقصٍّ وتقرٍّ وتجاوزٍ للشاهد المبذول وإنْ دَلّ. ولذلك غدا البحث عن شعريّة النصّ سبيلاً للكشف عن تميّزه وفرادته وسموِّه على سواه من مظاهر القول وتشكّلات الكلام.

والشعريّة شفيعة السمة. فهي لدى المبدع غاية يتقصدها, وبها يشكّل عوالمه التخييليّة. وهي عند الدارس وسيلة لتفكيك الرسالة وتبيان مظانّ التخييل فيها, وقوانينه المحكمة تشكيل عناصره وتكوين بناه. ومن هنا صارت لنا شعريات, ومنها ما كان "التناسب والتماثل" مبدأها كما هي عند جاكوبسون, ومنها ما كان "الانزياح" قانونها كما هي عند جان كوهين. ومن الممكن ذكر الدكتور كمال أبوديب، فقد دعا إلى شعريّة الفجوة ـ مسافة التوتر.

لكنّ الأهمّ أمراً, والأجلّ شأناً، هو أن النص الشعريّ أعظم من أن يذلّ لواحدةٍ من تلك التصورات وإن عظمت مكانة, وهو أكبر من أن يلين قياده بكليته لها. وذلك حال أوجب ـ في النص الشعريّ ـ البُعد عن القوالب الجاهزة وتطبيق المقروء المعروف على النص, فكان الانطلاق منه إليها وليس العكس. لقد غدت تلك الطرائق التحليليّة وسيلة يدعم بها الاستنتاج. وأمكن النص من تعديل أساليب تحليلها وتوجيهها بما يتلاءم مع طبيعته اللغويّة وخصائصه الأسلوبيّة.

ذاك يقين أفضى إليه تأملٌ في النص من حيث هو, وتدبرٌ لطرائق التحليل اللغويّ الحديثة. ومن هنا لا تراه يخصّ شعر المقالح دون سواه، وإنما يلتقي فيه معه آخرون من أمثاله، هم في السَّمْت الأعلى من الشاعريّة وبراعة التخييل والقدرة على التشكيل.

ولك ان تراها قضيّة عامة, فلا ضير من ذلك. ولتكن سبيلاً لحوارٍ خصب يثري العقل، ويزيد الوجدان اتقاداً، وإن كان المقام مخصوصاً بشعر المقالح دون سواه.

والمداخل إلى شعر المقالح عديدة، يعرفها متدبرو شعره، والمتأملون فيه ليل نهار. ولا تزال مظانّ منه لم يبلغها الدرس النقديّ، على كثرة ما كُتب عن شعر المقالح عامة, أو تناوله ديواناً مفرداً عن غيره من دواوين شعره. وعندي أن هذه واحدة من أمارات العبقريّة وعلاماتها. أو فقل لي لِمَ قال أبو الطيب من قبل:

أنام ملء جفوني عن شواردها                ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

 

إن لم يكن لشيء من هذا الذي نجد مثله في شعر المقالح؟!

ولقد عني الدرس النقديّ بشعر أبي الطيب، ولا يزال. ولن يكف الدرس النقدي عن الاعتناء بشعر المقالح، صورة مكتملة عامة أو دواوين مفردة أو قصائد أشتاتاً. وهو على أي حال جدير بمثل ذلك الاعتناء.

والحديث عن التماثل والانزياح، في ديوان "أوراق الجسد العائد من الموت"، حديث -في أصله- عن ظاهرة أسلوبيّة تتجلّى في شعر المقالح كلّه، فلا تخلّ بها قصيدة من قصائده. حتى ليمكن القول إنها القانون الذي يُحْكِمُ طرائقه في التأليف, وأساليبه في الأداء.

وإذا كان التماثل ـ كما هو عند جاكوبسون ـ مبدأ يختص بمحور الاستبدال، وتنتج عن إسقاطه على محور التوزيع شعريّة الرسالة, فهو في شعر المقالح كذلك, لكنّه يتجاوز ذلك المبدأ فيخرج عليه ليلج دائرة الانزياح؛ مما يحقّق للنصّ ديناميكيّة تتخطّى استاتيكيّة المماثلة والتوازي والتقطيع الأفقي كائناً ما كان مداه.

وخذ على ذلك مثلاً قوله:

هبط الليل عند الظهيرة

واحترق الشجرُ القرويُّ بماء الظهيرة

فارتعشت في عيون الصبايا الجرارُ

هوى النبع

غاض حديث الصبايا

استحال نداء الخلاخيل دمعاً

أسال دمَ العشب

والماعز اصطاده لهبٌ لا يرى

هل أتى الموت مختفياً في ثياب الظهيرة؟ هل...؟

وبكى جسد الأرض

     واختلطت ببقايا المرايا عيون مشققةٌ وشتاءْ...

تنهض الشعريّة هنا على أساس من تماثل الترادف الدلاليّ، منسوجاً في بنية التقابل الضدي. فهبوط الليل عند الظهيرة، يترادف دلالةً مع احتراق الشجر بماء الظهيرة. وكلا التركيبين يتحكم فيهما تقابل ضديّ يوجد للشيء حضوراً في مكان نقضيه. "الليل" يحل محل "الظهيرة", و"الماء" يتلبس صفة "النار" فيحرق "الشجر الأخضر النديّ".

هنا يقوم التماثل مبدأ يسهم في خلق التناسب بين الدوال على محوري الاستبدال والتأليف, ويحقق الشعريّة للنص. وهي لا تقف عند ذلك، بل تتجاوزه إلى نوع آخر من التماثل على مستوى بناء الجملة من حيث اتساق بناء عناصر تكوينها الأصليّة. فنجد فعلاً يتلوه فاعل، ثم مكملات، في قوله:

هبط الليل عند الظهيرة

واحترق الشجرُ القرويُّ بماء الظهيرة

وهو تماثل ينزاح عنه النص باستعمال آلية التقديم والتأخير في قوله: "فارتعشت في عيون الصبايا الجرارُ", فيكسر ثبات النسق, ويحرر الكلام من رتابة منتظرة. ومن هنا يكون استخدام حرف العطف (الفاء) بديلاً مناسباً (للواو، الذي جاء رابطاً بين الجملتين الأوليين). وهو ما يكرره النص في الأسطر التالية على ما سلف:

هوى النبع..

غاض حديث الصبايا..

استحال نداء الخلاخيل دمعاً ..

أسال دمَ العشب.

فالتماثل ظاهر على مستوى بناء الجملة، ممّا يفضي إلى اتساق الكلام في نسقٍ يتماهى مع أصول الجملة الفعليّة؛ لكنّه ينزاح عنه في السطر الثامن من المقطع المذكور سلفاً باستعمال آلية التقديم، "والماعز اصطاده لهبٌ لا يرى"، ليحرر الكلام من رتابة النسق.

على أن ثمة تماثلاً آخر يحتوي تلك السطور الأربعة, وأعني به التماثل على مستوى الحركة. فتوالي الأفعال (هوى، غاض، النداء استحال دمعاً يسقط، سيلان دم العشب...) يدلّ على حركة رأسيّة تبدأ من أعلى وتنساب إلى أسفل، فتتضمن معنى السقوط والهبوط. ثم يجيء الفعل في السطر الثامن ليكسر نسق تلك الحركة ويحولها من رأسيّة إلى أفقيّة, فيمثل انزياحاً عن النسق, وعدولاً عن الآلية المتحكمة فيه.

ويتجلّى التماثل -في النص المذكور سلفاً- من خلال الدوال. فنجد ان صيغة الاسم تكررت فيه ستاً وعشرين مرة, وجاءت صيغة الفعل اثنتي عشرة مرة, واستعمل الاسم المشتق مرتين.

هذا التماثل على مستوى الدوال يقتضي -من حيث شيوع الاسم- أن يُبنى الكلام على أساس من بناء الجملة الاسميّة. لكن المتجلي في بنية النص هو الجملة الفعليّة ولا غير, فلم يكن شيوع الاسم في النص إلا على مستوى الإفراد. أما من حيث التركيب فقد جاء بناء الكلام على أساس الجملة الفعليّة. وإنما جاءت الدوال الاسميّة مسندة إلى فعل, أو مضافة إلى ظرف, أو مسبوقة بحرف جر. وحتى الانزياح عن نسق أصول الجملة الفعليّة بتقديم الفاعل على الفعل في قوله: " والماعز اصطاده لهبٌ لا يرى" إنما جاء محكوماً بنفس الآلية, فانزاح بتغيير في ترتيب عناصر الكلام ولا غير.

ويبرز التماثل على مستوى العلامات من خلال تكرار العلامة الواحدة مرّات في النص. وقد جاء قليلاً, فتكرر دال "الظهيرة" ثلاث مرات, ودال "الصبايا" مرتين, ودال "العيون" مرتين.

لكن غياب التماثل الصوتيّ في النص (لا نجد تجنيساً ولا ترديداً ولا تصديراً ولا ترصيعاً ولا حتى توظيفاً محكماً للقافية وحروف الروي) يوازيه حضور التماثل على مستوى المدلولات؛ مما يشي باستفادة النص من معطيات قصيدة النثر، من ناحية, لكنه يتعالى عليها باستعمال الوزن من ناحية أخرى؛ فتراءت التفعيلة عاملاً متحكماً في بناء النص. جاء توزع التفعيلات على النحو الآتي: فاعلن 24 مرة (53.4%)، وفَعِلُنْ 20 مرة (44.4%)، وفَعِلان مرة واحدة (2.2%).

على أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أنّ الشعر الكامل ـ كما هو عند جان كوهين ـ لا يكون كذلك إلا إذا تدامج فيه المستوى الصوتي بالمستوى الدلاليّ في آن.

وينبثق التماثل من ثنايا التوازي المتحكم في تركيب الكلام، لكنه لا يتقوقع في إطاره, وإنما ينزاح من ذلك ليحقق شعريّة تتجاوز النسق المألوف إلى ما يتوقع في خاطر.

أنت يا وجه عكا المحاصر بين النقا والنقب

أنت عار العرب

أنت مجد العرب

أنت لم تعد لهباً, قمراً

يا لبؤس العرب!

ففي السطرين الثاني والثالث، يتوازى تركيب الكلام من حيث اعتماد بنيته على مسند إليه، وهو ضمير المخاطب (أنت), ومسندٌ مضاف إلى ما بعده, وهو قوله: "عار العرب" في الأولى و"مجد العرب" في الثانية. ولقد أفضى تكرار التركيب إلى شيء من الاستاتيكيّة تهيء الذهن إلى بنية شبيهة بالإرصاد, يؤكده تكرار ضميرالمخاطب (أنتَ). لكنّ النص يخيّب توقع المتلقي، فينزاح بالتركيب إلى حال آخر سوى الحال الأول. فيجيء التركيب الشرطيّ ليخلق إيحاءً جديداً بالموقف يختلف عما سبق (أنت لم تعد لهباً، قمراً، يا لبؤس العرب!).

وشبيه بذلك ما جاء في موضع آخر من نفس القصيدة:

في البراري يسير بطيئاً

يفتش عن ذاته في الحطام

يفتش عن لونه في الحطام

يفتش بين الحطام عن البندقية...

ويتجلّى التماثل في النص من جهة الناتج الدلاليّ الذي تولّده الدوال وتوحي به. لكنه لا يقف به عند ذلك الحال؛ فيتجاوزه إلى كونٍ غير الذي انبثق منه. ومن هنا يجيء الانزياح. قال:

كيف لي أن أناديكِ

أن ألمس الكلمات وأبكيكِ

يا بقعة الضوء في جسد العمر!؟

ينحني الصوت

تمتصه في الفضاء السحيق رياح رمادية

وأحاديث موتى يصلون

منذ متى ويدي تتوكأ قلبي

وتبحث عن غبطة في زمان الرماد!؟

 

هنا تتماثل في الدفقة الشعريّة، العلامات الدالة على الزمن المستقبل القادم من المجهول، مع العلامات الدالة على الزمن الحاضر المعيش من جهة نواتجها الدلاليّة. فيتراءى العجز في الحالين قائماً. العجز عن "المناداة, ولمس الكلمات, والبكاء" في زمن قادم يجيء. تأمل وظيفة "أن" في محض الفعل المضارع للاستقبال. يتراسل معه العجز الذي تشعه دلالة الأفعال (ينحني، تمتصه، موتى يصلون، يدي تتوكأ قلبي، تبحث عن غبطة في زمان الرماد)، وكلها صيغ فعليّة تدل على الزمن الحاضر.

هذا التماثل على مستوى نواتج الأفعال ودلالتها، يكسره النص بالخروج من دائرة الفعليّة وما تنثه من دلالات التجدد والتنوع والتغير، بالولوج إلى دائرة الاسميّة، حيث تقع الدوال على نسق الثابت وعدم التجدد، والقرار على الحال، كائنة ما كانت صفته.

الفصول ملوثة

الوجوه ملوثة

والعصافير تبحث عن لحظة للفرح...

 

ولعلّ ذلك يتضح على صورة أكثر جلاءً في قوله في مقطع آخر من نفس القصيدة:

ما الذي يجعل الشمس تبكي

وتمضي مبكرة نحو نافذة الليل؟

ها إنها تختفي!

كيف لي أن أحادث سيدة الضوء

أن أتقي ساعة الضجر المرّ

أن أبدأ الاتجاه المعاكس للحزن

أن أستعين بلؤلؤة القلب!؟

لا شيء

مغسولةٌ بالتراب العتيق طريقي

ومغسولة بالغياب...

يُنتج توالي الأفعال الدالة على توالي الزمن الحاضر (يجعل، تبكي، تمضي، تختفي) بتركيبها مع دوال آخرى، دلالة العجز عن الظفر بالمنشود؛ فـ"الشمس تبكي", والبكاء عجز, "وتمضي مبكرة", وفي ذلك زوال يتماهى مع الفناء, وهي "تختفي", ومن اختفائها يكون ظلامٌ دامس يفضي إلى عجز مرير.

تتماثل مع ذلك الناتج الدلالي، نواتج دلاليّة أخرى تنثها جُملٌ جاء فيها الفعل المضارع مسبوقاً بـ"أن" التي تمحضه للاستقبال, فتتولّد عنها صور دالة على العجز عن التواصل مع المشتهى (أن أحادث سيدة الضوء), والعجز عن الاحتماء من المخاطر (أن أتقي ساعة الضجر المرّ), والعجز عن الفاعليّة الايجابيّة (أن أبدأ الاتجاه المعاكس للحزن)... إلى آخر ما هنالك من ذلك. لكن النص لا يمتدّ مع معطيات ذلك التماثل وإطارات نواتجه وإطارات نواتجه الدلاليّة؛ فينزاح عنها بالعدول عن الانحصار في التراسل الزمني، إلى الثبوت الذي يشعه التركيب الاسمي للجملة (لا شيء.. مغسولةٌ بالتراب العتيق طريقي.. ومغسولة بالغياب).

والأصل في العمليّة الكلاميّة عامة أن اللغة وسيلة للتواصل بين الجماعة, وكل دال (من حيث هو صوت) يستحيل إلى مدلول، (من حيث هو صورة سمعيّة). فيستثير (المدلول) دالاً, يستجيب له (الآخر) بمدلول آخر, وهكذا, على حسب تصوّر دي سوسير لذلك. لكن الشعر خرق لذلك الترتيب, وانتهاك لأصوله, ومن هنا يتلبس الكلام انزياحٌ, ويغدو الغموض سمة بارزة فيه.

ولقد يتجلّى الانزياح على صورة ساذجة وبسيطة, وهي التي تتمثل في عملية خرق أصول الجملة في العربية، فعليّة كانت أم أسميّة.

ولقد يتجلّى على صورة أرقى سمتاً وأوغل في درجات الشعريّة, وهي التي يعمد فيها النص إلى تشكيل العالم باللغة، تشكيلاً يبارح ما هو عليه أصلاً. وهنا تتراءى العلاقات بين الاشياء جديدة غير مألوفة في الواقع المعيش, لكن لها ما يسوّغ ائتلافها في عالم القصيدة. والغاية من مثل هذا الانزياح "خلق صورة تحمل معنى (رؤية) يتم عن طريقه كشف وإعادة اكتشاف الشيء (العالم) من جديد, وإعادة بنائه بعد عمليّة الخلخلة". وهنا تتجاوز اللغة حد الصفر، وتوغل في الشعريّة درجات, وتأبى أن يكون النص كتابة بيضاء؛ فيبرز من ثناياه موقف المتكلم في النص من العالم ورؤياه له:

يتأبطني حزني

أحمله في تابوت الكلمات

يحملني في تابو الأيام

يا الله!

الشارع في ثوب الزحمة ما زال كما كان

وحيداً صغيراً لا يكبر إلا في الليل

لماذا لا يكبر إلا في الليل

لا يتورم إلا في الليل؟!

رصيف الشارع يصعد أحياناً

لا يصعد, لا يهبط, لافتة أكبر من حجم الشارع

تتشظى في الأفق الدامي لوناً أبيض

تتشظى في الأفق الداكن لوناً أحمر

تتشظى في الأفق الساكن لوناً أخضر

تتشظى أشلاء شظايا لا لون لها

الشارع يكره لافتة لا تحمل لوناً

يكره كلّ الألوان...

تنشأ شعريّة النص من خلال مبارحة الدوال حدّ المواضعة، لتوغل في الاتساع. فيتجسد المعنويّ, ويتشخص الجماد, وتأتلف الدوال المتنافرة لتشكّل عالماً لا تقع على مرجعه الذي نقل النص عنه، فيتجلّى أمامك كياناً مفرداً يشدهك بتجلّيه وبما توحي به عناصره في النص. وهنا يتحكم مبدأ "التماهي" بين الدوال في طرائق تشكلها. وفي هذا عدول عن مبدأ "التماثل" كما قال به جاكوبسون. وإذا كان هذا المفرد العَلَم يذهب إلى أن الاستعارة تنشأ في الكلام على أساسٍ من التشابه بين الدوال في محور الاستبدال، فقد خالف النص ذلك ليصنع مبادئه التي تشي بغلبة التماهي على عناصره، ونشوء الاستعارة من ثنايا ذلك التماهي (يتأبطني حزني، أحمله في تابوت الكلمات، يحملني في تابو الأيام...) ومن هنا يكون للانزياح بعده العميق في النص.

أما إذا نظرت إلى التدبيج، وتبينت دلالته في النص، فقد مضيت إلى استكشاف موقف النص من العالم المحيط به ورؤيته له. على أنني لن أدلك على ذلك؛ فلست ممّن يُشغَل بنواتج النص الدلاليّة وإطاراته الكليّة. وحسبي ما قدّمت.