العدد الرابع - ربيع 2008م

   
 

دراسات
 

الفانتازي والغرائبي..
 
جوانب من السرد الروائي العراقي * (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                                               حاتم الصكر
 

إزاء مشهد متعدد المناخات والحاضنات الجغرافية والمؤثرات، يمكن لأي عمل سردي أن يفرز أو يؤشر اتجاهاً أو أسلوباً قد لا تجمعه بسواه أية روابط، كما كان الحال في السابق، حيث تتميز الأجيال بمزايا الواقعية أو الشاعرية أو التجريب وسواها من المؤشرات التي درسها الباحثون من قبل، أو رصدوها في النتاج الروائي الذي يبدأ فنياً برواية «جلال خالد» لمحمود أحمد السيد، الذي يعد رائد التجربة الروائية بعمله الصادر عام 1928 حاملاً مزايا البدايات وعيوبها كما هو مرصود في بدايات الرواية العربية عموماً. لكن باحثاً مثل روجر ألن يرى فيها عملاً «أكثر أهمية في تاريخ تطور الرواية العراقية، نظراً لأنها استخدمت لتصوير بعض الأحداث التي أحاطت بالثورة العراقية ضد الاحتلال البريطاني في عام 1920»(1). ولكن الرواية إضافة إلى ذلك تنبه للتحولات في الشخصية وإمكان تمثيلها سردياً، وإن تم ذلك بمباشرة وخطابية تنوب عن أفعال السرد وأحداثه.

ثمانون عاماً إذاً بين بداية الكتابة الروائية الفنية ووضعها اليوم، باتجاهاتها غير القابلة للحصر، سيكون سبيلنا لمعاينتها الوقوف قارئين لبعض تلك الأعمال التي تمثل أجزاء من هذا المناخ المتنوع والمتسع بشتى المعاني، منوهين بعشرات الأعمال الأخرى التي لا تقل أهمية فنية أو دلالية عن عينات الدراسة، لكن عدم تيسرها أو توخي الاختصار والتحليل أدى إلى الاقتصار على المعروض هنا.

 الفانتازيا والتداخل النصي

إذا كانت الرواية كما يلاحظ تودوروف، خلال قراءته لباختين، «هي التجسيد الأعلى للتداخل النصي والنوعي الذي يعطي تنوع الملفوظات حيزاً واسعاً للعمل»(2)، فإن التوسع الذي تميز به كثير من الأعمال الروائية العراقية المكتوبة في العقود الأخيرة، يؤكد ذلك ويعطي المجال للباحث كي يرصد تلك التداخلات النصية التي تعكس أكثر من ميزة، في مقدمتها النزعة التجريبية لدى الكتّاب، وشعورهم بضرورة الكتابة بحرية لا يهبهم إياها السرد التقليدي التصاعدي (الخطي) أو البناء المنطقي للرواية، كأنما يعادلون بذلك ما يجري على الأرض العراقية من أحداث لا تخضع لمنطق أو تفسير. وفي عمل شاكر الأنباري «كتاب ياسمين»(3) تقدم الفانتازيا حلاً لمؤلف يروي الكتاب ويحكي قصة تأليفه. ونجد الهروب إلى هذه التقنية (تقنية الكتاب داخل العمل) تضع الكاتب في عمله أو فوق أحداثه ودلالاته. وفي ثنايا الفصول الأربعة عشر القصيرة، والتي يتصدرها مقتبس من أمين معلوف يؤكد بنية الفقدان التي تؤطر العمل، ويتساءل عن طينة من يفقد وطناً بعد آخر، ومدينة بعد أخرى، وامرأة بعد أخرى، دون أن يندم أو يلتفت وراءه؛ كأنما ليضع الكاتب (لا الراوي) قُرَّاءه في إطار هذا الفقد ومحاولة التعويض عنه بإقامة مدينة متخيلة ومكان مخصوص فيها هو «مركز القلب المغنّي» الذي عاش فيه أحداث لقائه بياسمين التي تدير المركز وتسلط قوتها الروحية على داخليه، وتقوم بمهمة التأريض الذي تصفه بأنه «هو أن يكون الشخص هنا في اللحظة داخل الجسد. الوقوف داخل النفس والعيش في انسجام مع النفس»؛ لذا تتعهد ياسمين بأن تقود رواد مركزها إلى عالمهم الداخلي، وتجري تمارين تأريضهم الغريبة، كأن يقصوا على بعضهم قصص حياتهم، أو يتحدثوا نصف ساعة كاملة بكلام لا معنى له، لكي يتحكم العقل باللسان...

لقد غدت الفانتازيا، المقدمة بهدوء ودون هيجانات لغوية أو أحداث خارقة، إطاراً للبحث عن مدن بديلة تصلح للعيش والحب والكتابة، مدن تستريح فيها الأرواح والأجساد؛ لكنها، ككل المدن الفاضلة، تظل حلماً أو أملاً بعيداً ووهماً يمنحه السرد تعيّنات لا تخفي استحالته

يتصدر الرواية فصل استباقي يعرفنا بجوهر السرد الذي يتمحور حول ياسمين ومركزها الروحي، ولقاء الشخصية الرئيسة بها وعزمه على تأليف كتاب حول التجربة الغريبة هذه، والتي يعترف بأنه لا يستطيع روايتها كما عاشها أو كما جرت في الواقع، بل كما ترد إلى ذهنه، ليدع للمتخيل أن يختلط بالواقع، والأحلام بالتداعيات. وسيكون الاهتمام بالتفاصيل تكملة لخلق غرابة مضاعفة في المكان، بعد أن تسلمنا ما يؤكدها عبر تسمية الشخصية، فهو: سلام ورحيم وسمير وحميد، ولديه قناعة تامة بأن «اسم الكائن لا يغير كثيراً من وجوده»، وهذا يجعل التغريب في الحدث ممكناً ومتسقاً مع المكان الفانتازي الذي تدور فيه الأحداث، ويقترب تأثيثاً سردياً من مكان علوي أو متخيل كيوتوبيا تديرها ياسمين بقوة أفكارها عن الحياة والوعي الذي تقول عنه إنه «قائد أوركسترا الروح و الجسد». وبطريقة ذرية تهتم بالتفاصيل الصغيرة يصف الراوي المكان عبر وعي الشخصية الكاتبة به. ويصبح الكتاب المزمع كتابته ليس كتاب «ياسمين» فحسب، بل كتاب الشخصية نفسه، وحلمه الذي لا يدري في لحظة ما هل هو حلم محض أم حقيقة، لاسيما وهو يسترجع أجزاء من حياته الماضية قبل لقائه بياسمين وعمله في المسرح وهربه في ليلة ثلجية، ونجاته عابراً حدود مدينته مقيماً في مجمع شبيه بمخيمات الأسرى أو اللاجئين، ثم ليدله طبيب غامض على مداواة روحه من خلال تعاليم ياسمين، التي يجدها عصية على التعريف ولا يمكنه تقديمها لصديقته، لأنها «فكرة تجسدت في امرأة تقطن بيتاً في جهة ما من الأرض». كما أنه هو نفسه راح يعيش أزمنة متعددة، ويحس أن عمره «يتجاوز القرون، وأنه كان في زمن آخر ومكان آخر باسمٍ يختلف عن اسمه».

 دروس ياسمين ستجعله يهجر بيته وزوجته وأسرته، بعد رؤية الكرنفال والألعاب الطريفة التي قدمت، وممثليها، تشاركهم فيها الحيوانات والأسماك. فأحسَّ أن مدينة أخرى تومئ له وتناديه. وها هو بعد إنجاز الكتاب يستريح لمدينة الحلم التي يجهلها، ويقرر أن ينجز كتباً أخرى ما تزال بانتظاره.

لقد غدت الفانتازيا، المقدمة بهدوء ودون هيجانات لغوية أو أحداث خارقة، إطاراً للبحث عن مدن بديلة تصلح للعيش والحب والكتابة، مدن تستريح فيها الأرواح والأجساد؛ لكنها، ككل المدن الفاضلة، تظل حلماً أو أملاً بعيداً ووهماً يمنحه السرد تعيّنات لا تخفي استحالته.

الغرائبية والسرد

تمتثل الرواية لمكونات التعقيد التي تلبست الحالة العراقية لأسباب سياسية واجتماعية يمكن تلمس انعكاساتها السردية، والتي تمثلت، في أحد مظاهرها، بالغرائبية أو السرد العجائبي الذي يقترض من الفانتازيا خيالها المفرط، كما يمر بالواقعية السحرية والاستيهامات المبنية على الممكن، بعد تغليفه بشعرية شفافة لتغدو مرجعاً ثقافياً بارزاً، ولا تفوته التقنيات المستحدثة، لا سيما ما أسميناه تقنية الكتاب المفقود أو اللغز المبحوث عنه، بمغامرة قد تكلف الباحثين عنه حياتهم. وهي تقنية وردت في أعمال كثيرة ربما كان أبرزها «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، وظلال البوليسية التي أكدها العمل المهم «شفرة دافنشي».

وفي هذا الإطار كتب عبد الخالق الركابي عدداً من أعماله التي كان آخرها «سِفر السرمدية»(4) التي يربط إهداؤها بين الألم وحب الحياة، ثم يطوره ليغدو ثنائيات ضدية من نوع: الواقع/ الحلم، مكر الكاتب/ ظن القارئ، اللعب/ الكتابة، اللعب/ القراءة (بالضرورة)، الصداقة/ الخديعة، والسر/ كشف السر. وهي ثنائيات تتخلل السرد متناثرة، ولا تتنضد تتابعياً، لأغراض فنية بالطبع. بل إن الكاتب يتعمد المزج بين ثنائيتين مصيريتين في بناء روايته. إذ تتقابل روايتان هما: «سِفر الأزلية»، و«سِفر الأبدية». الأولى تبحث عن الثانية في شبكة من العلاقات السردية المكشوفة التي يصارح فيها الكاتب قرّاءه بمعضلات عمله، وينشئ ما يشبه الميتا-رواية، تسبح فيها رقابة الذات الكاتبة، وتسيح فوق النص، المكتوب أصلاً كرواية، وهو هنا نص «سِفر الأبدية». فيتحدث الكاتب عن عمله ومعضلة الفصل الضائع، الذي سيصل إليه بمعونة آلية من الحاسب واجتهاد صديقته، ليكتب الفصل الأخير الذي يسبق فصل «البياض». وهو يستعين بالشفرات والاحتمالات العلمية للوصول إلى كلمة السر التي تفتح ملف الرواية، وللوصول من بعد إلى فصل «الألم» في الحاسوب. بينما تتطور أحداث الرواية الثانية، التي تربط الأشخاص بالبحث عن النص المفقود، بسبب كلمة السر التي ستُكتشف لاحقاً للعثور على تتمة الرواية والبياض الذي يتركه للقارئ. وتكون الرواية بهذا التحليل ثلاثية متداخلة، تشكلها فصول «سفر الأزلية» المعنونة بفصول، ورواية «سفر الأبدية» المقسمة رقمياً، ليتكون منها بحسب كلمة السر، متن «سفر السرمدية»، التي تشكل البناء الحقيقي أو الظاهر في الأقل. ولكن الكاتب حاضر في بناء شخصياته ومصائرها والتدخل بين السرد والقارئ، حد المصارحة بالبحث عن سبيل للقص؛ «كيف لي الجمع بين مشاعر متناقضة تتنازعني اللحظة وقد أمسكت بالقلم لأبدأ بكتابة أولى صفحاتي؟». تتبعها الإشارة إلى «فطنة قارئ ينوب عني في إيجاد الجواب المناسب»(5). وهنا يحضر الكاتب في عمله استكمالاً للغرائبية التي تؤطر أحداث السرد وتنعكس في تقنيته. وهو حضور قد يبرر اختيار الكاتب لوحة «الوصيفات» لفيلاسكوز غلافاً، والتي يبدو فيها الرسام يمارس عمله منعكساً بين شخصيات العمل عبر المرآة في خلفية اللوحة. وهذا الحضور جزء من امتيازات الكاتب العراقي في العقود الأخيرة، وكأنه يندس بين شخصياته وأحداث عمله هرباً من حياة يصفها الركابي بأنها جحيم لا بد منه للعبور إلى «مطهر» القصة القصيرة و«فردوس» الرواية.

أما المعرفة المعروضة في العمل فهي تتعدى مدركات الشخصيات، رغم الانتماء الثقافي لها: رسام، كاتب، باحث... مما حدا بمقدم العمل (الدكتور مالك المطلبي) للتساؤل عمّا إذا كان ما سماه «الإشهار المعرفي اللحوح»، الذي طبع المتن من أقصاه إلى أقصاه، تعبيراً عن ادعاء بالمعرفة المحيطة(6)، أي الشاملة، لاسيما وقد أثبت الروائي في ختام عمله جرداً بالمصادر التي رأى أنها أسهمت في تحديد معالم الطريق، فهماً واقتباساً، وكأنه يؤكد غرائبية عمله باندراجه في زمرة البحوث، بدليل المصادر التي اعتمدها، فضلاً عن الأفكار التي نوقشت في ثنايا العمل بالتداعي أو الحوار، كموضوع الصلة بين الرواية والواقع، وإمكان تحويل سيرة ما إلى عمل مستقل، والأثر المحتمل للتقنية على الحداثة الروحية والإبداع، وسواها من الموضوعات المعرفية التي تؤكد الطابع الثقافي البارز للسرد الروائي العراقي.

 

هوامش وإحالات:

(*) هذا جزء من دراسة مطولة للكاتب عن «المشهد الروائي في العراق» ضمن ندوة الرواية العربية -القاهرة- 2008.

(1) روجر ألن. «الرواية العربية». ترجمة: حصة إبراهيم المنيف. المشروع القومي للترجمة - المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة. 1997. ص 79.
(2) تودوروف. «باختين/ المبدأ الحواري». ترجمة: فخري صالح. الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة. 1996. ص 194.
(3) شاكر الأنباري. «كتاب ياسمين». المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت/ عمان.
(4) عبدالخالق الركابي. «سفر السرمدية». المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت/ عمان. 2005.
(5) طلب الاستعانة بمن يسرد عن الكاتب وينوب عنه أو يتلقى سرده مكرر في أكثر من عمل، نذكر منها مقدمة محمد خضير لقصته «رؤيا البرج»: «من لي بلسان ينوب عني في سرد هذه الرؤيا؟ هيهات! ما لك إلا لسانه. المهندس الذي صمم متاهة البرج واستقر فيها.. إهبط. اقتفِ أثره إلى خلوة الرؤيا...». واستهلال أحمد خلف لروايته «حامل الهوى»: «عاودني السؤال ثانية... من لي بامرئ يعيرني سمعه وبحسن الإصغاء، ويتلقف مني بيدين مخضبتين بالنعمى شكوى الكلام؟ تعبت من هذه البلوى...». ومدخل عبد الخالق الركابي لروايته «سفر السرمدية»: «كيف لي الجمع بين مشاعر متناقضة تتنازعني اللحظة وقد أمسكت بالقلم لأبدأ في كتابة أولى صفحاتي؟».
(6) د. مالك المطلبي. «مقدمة سر السرمدية». ص 288.