العدد الرابع - ربيع 2008م

   
 

دراسات
 

الرواية والتراث السردي
الأنساق الثلاثية في «ألف ليلة وليلة» 
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

ذياب شاهين
باحث وشاعر من العراق

 

 

تمهيد

يبدو أن النسق الثقافي في جذوره التاريخية مرتبط بسلطتين متنازعتين تاريخياً، هما: سلطة الآلهة الأم، وسلطة الإله الذكر. ولما كانت الأولى مسالمة وحـالمة وتمثل عالماً وادعاً وآمناً في «زمكانها» المعاصر، فهي ظلت تمثل المنابع الأولى للأنساق الثقافية في بداية سيرورتها ومن ثم تبلورها لحين نضجها. وهذا بالتالي أثر تأثيراً غير منظور في مدى تشكيل هذه الأنساق للبنية الذهنية للعقل البشري، وكذلك في مدى قدرة هذا العقل في تكوين وتجديد أولياته، تأطيراً وصياغة، وبالتالي تهذيب قدرته وتطويرها للتعامل المعاصر في كل آن ومكان مع الرموز والإشارات التي ينبجس منها هذا التطور، والذي هو مرتبط قطعاً بالنشاط الإنساني الحثيث معارفياً في مستوياته السياسية والاجتماعية والانثروبولوجية.

يقول الناقد الدكتور عبد الله الغذامي حول تبلور ونشوء النسق الثقافي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية: «في العصر العباسي الأول جرى فرز ثقافي تقررت معه الخريطة الثقافية العربية. وإن كان آخر العصر العباسي قد شهد ميلاد النسق الثقافي الفحولي الذي تمت العودة إليه وتمثله مع مطلع العصر الأموي، فإن مشروع التدوين في العصر العباسي قد اعتمد النموذج الجاهلي/ الأموي، حيث جرى تدوين النسق الشعري الفحولي، مع ما يتبع ذلك من شعرنة للقيم ومن ترسيخ لصيغة الفحل الثقافي والإجتماعي».

وإذا كان النسق الثقافي العربي ذا جذر فحولي في بداية تدوينه، ممثلاً بالعمود الشعري بوصفه رمزاً لسيادة هذه السلطة ومركزية أدواتها، فإن النص القرآني قد كسر العمود الشعري العربي وطرح أساليب جديدة في الكتابة (كتابة النص القرآني المقدس)، حيث كان قد استلهم –جمالياً- الإيقاعات المكتنزة في اللغة العربية، وآذن ببداية مرحلة نثرية سماوية متعالية، مجترحاً قطيعة معرفية مع ما سبقه من النصوص، وكأنه يريد أن يخبرنا أن النص الشعري مرتبط بأهل الأرض، والنثر مرتبط بما هو سماوي ومقدس وباهر.

إن هذا الكسر المقدس للعمود الشعري غير المسبوق، ولو بمستواه الرمزي، قد ساعد في سيادة النص النثري واتساع أساليبه، ومن ثم أدى إلى تحجيم الشعر وربما تهميشه ولو إلى حين. إذن فالصدمة التي خلقها النص القرآني في الذائقة العربية قد أخذت مداها، لأنها جاءت قوية وراسخة ومتحدية، وفي مجال كان فيه العرب بارعين ومبدعين، ونقصد بذلك فن القول لا غيره.

إذن فالنص، أي نص، محكوم بالسياق التاريخي الذي ينتجه. وإذا كانت البنيوية Structuralism قد كشفت عن القوانين التي يشتغل عليها النص في بناء ذاته وفرض سلطته، اعتماداً على علامة سوسور، أو إشارة شارل سندس بيرس، إلا أنها تحاول أن تكشف عن هذه القوانين بالاعتماد على ما هو داخل النص، أي ما كان متضمناً في متنه وليس ما هو خارج متن النص. ولكن إذا كان للنص قوانينه الداخلية، فذلك لا يعني بالضرورة أنه لن يكشف عن قوانين الخارج، أي ما هو موجود خرج متن النص، لأن ذلك سيدمغ النص بالانغلاق البنيوي، والنص، أي نص، في طبيعته مفارق لهذا الإنغلاق المفترض، وإلا لما كان نصاً، إذ أنه -شاء أم أبى- سيكشف عن قوانين أخرى تقع خارجه وتؤثر فيه وتعيد صياغاته وميكانزماته في كل حين، ولو اختلفت الأماكن التي يجدد فيها النص مكوناته.

 

النسق الثقافي/ حكاية الملك شهريار

 تمثل حكاية الملك «شهريار» وأخيه الملك «شاه زمان» مدخلاً وإطاراً لقصص «ألف ليلة وليلة». حيث أن أحداثها تبدأ في الجزء الأول. وقبل أن يبدأ قص «شهرزاد» وكلامها المباح، يحصل قطع فني لأحداثها، لتدس أحداث الليالي الألف على لسان «شهرزاد»، لتستكمل أحداث الحكاية بعد نهاية الليلة الأولى بعد الألف، في نهاية الجزء الرابع، وهي القصة الوحيدة التي تروى على لسان الراوي أو الرواة (مبدعي النصوص) في المجموعة كلها وليس على لسان «شهرزاد».

يوحي المبنى الحكائي، من خلال أحداث الحكاية التي يرويها الراوي الكلي العلم، بوصفه ممثلاً للسلطات التي أبدعت النص، بأن حدثاً جللاً كان قد حدث مزلزلاً كيان هذه السلطات. حيث نفهم من خلال السياق أن السلطة البطرياركية ممثلة بالملك «شهريار» وأخيه «شاه زمان» قد تعرضت لمخاطر عظيمة على يد الآلهة الأم وسلطاتها المندحرة تاريخياً من جديد. أي أن هذه السلطة المغيبة عادت للظهور مستغلة بعض الهفوات والفجوات في طبيعة بناء السلطة الذكورية نفسها، لتشتغل سراً وتعيد نشاطها عاملة على تقويض وتخريب هذه السلطة من الداخل، تمهيداً لنخرها ومن ثم إسقاطها، لبناء نظام (جديد قديم) مكانها يستمد سلطاته وقوته من سلطات الآلهة الأم المقموعة.

يخبرنا النص أن بنات حواء، وعلى أعلى المستويات، ممثلات بزوجتي كل من الملك «شاه زمان» والملك «شهريار»، هما من قاد هذا التمرد الخطير، حيث عملت كل منهما على خرق قانون مهم من قوانين السلطة الذكورية على انفراد، وقامت على ممارسة الجنس (البغاء) خارج المنظومة الشرعية (الزواج) التي سنتها السلطات البطرياركية لدوام سيطرتها الدائمة. وهذه الممارسة الملغاة هي ما كانت تقوم بها –حقيقة- الآلهة الأم في معابدها سابقاً، أي في العصور السحيقة، قبل دحرها وإلحاقها قسراً بالقانون الأبوي الذي سنته المؤسسة البطرياركية (الأبوية).

وقد حدث كل ذلك عندما اكتشف الملك «شاه زمان» -صدفة- اختراق زوجته للقانون الأبوي وبصورة فظة، عندما وجدها نائمة مع أحد عبيده في فراشه متلبسة بجريمة الزنا، فما كان منه -بحسب ما يخبرنا به النص- إلا أن يشهر سيفه ويرديهما قتيلين، إلا أنه وقع صريعاً لهذه المفاجأة، تاركاً مملكته وسلطاته، ليتسرب المرض والعطل إلى جسده وروحه، وليبقى مصدوماً لا يعرف كيف يتصرف.

المفاجأة السارة

تحدث هذه المفاجأة (السارة المحزنة) في سراي الملك «شهريار»، إذ يكتشف الملك «شاه زمان» أن زوجة أخيه «شهريار» تقيم طقساً مثيراً مع خدمها وعبيدها، حيث يمارس الجميع فيه البغاء الجماعي. وهذا يعني أن القانون الأموي (نسبة للآلهة الأم) لم يندثر كما كانت تتصور السلطات الحاكمة، بل كان يشتغل، وعلى نطاق واسع، في الظل، وهو يعمل سراً وبعيداً عن أعين السلطات الذكورية الحاكمة. وهذا يعني أن الاختراق الأنثوي لقوانين الذكورة في مملكة «شهريار» قطع أشواطاً بعيدة في استرداد مكانته وتقويض القوانين البطرياركية من الداخل. وهذا الحدث الذي اكتشفه «شاه زمان» صدفة في مملكة أخيه جعله ينسى مصيبته، ليس هذا فقط، بل جعله يسترد صحته التي فقدها سابقاً، إذ أيقن أن الذي حدث له إنما يشمل الجميع، ولا يفرق بين ملك وآخر، وما فعلته زوجته تفعله أيضا زوجة أخيه «شهريار»، فكلتاهما عملت على خرق القانون الذكوري، وتحاول الرجوع إلى قانونها الأصلي لاسترداد سلطاتها المقموعة والمغيبة، ولو بالسرِّ.

إن الملك «شاه زمان» وجد في مصيبة أخيه «شهريار» ما يخفف عنه مصيبته ويساعده على استرداد رباطة جأشه، لذا نجده وقد استرد رغبته في الأكل والشرب، وليستعيد صحته بسرعة، وهذا ما أثار استغـراب «شهريار» عندما رجع من الصيد ورأى «شاه زمان» وقد تعافى من مرضه. حيث نقرأ:

«ونظر الملك شهريار إلى أخيه الملك شاه زمان وقد ردّ لونه واحمرّ وجهه وصار يأكل بشهية. فتعجب من ذلك وقال: كنت أراك مصفر اللون والوجه، والآن قد رد لونك، فاخبرني بحالك. فقال له: يا أخي، إنك لما أرسلت وزيرك إليّ يطلبني للحضور بين يديك، جهزت حالي وبرزت من مدينتي، ثم إني تذكرت الخرزة التي أعطيتها لك في قصري، فرجعت فوجدت زوجتي معها عبد أسود وهو نائم في فراشي، فقتلتهما، وجئت إليك وأنا متفكر في هذا الأمر، فهذا سبب تغير لوني وضعفي. وأما رد لوني فاعفُ عني من أن أذكره لك. فلما سمع أخوه كلامه قال له: أقسمت عليك بالله أن تخبرني بسبب رد لونك. فأعاد عليه جميع ما رآه» (ألف ليلة وليلة – ج 1. ص 10).

لقد أخبر الملك «شاه زمان» أخاه الملك «شهريار» بما رأى من فعل زوجته. وتأكد الملك «شهريار» من قول أخيه بعد أن رأى زوجته تفعل ذلك فعلاً، فما كان منه إلاّ أن قال لأخيه «شاه زمان»: «قم بنا إلى حال سبيلنا، وليس لنا حاجة بالمُلك، حتى ننظر هل جرى لأحد مثلنا أم لا، فيكون موتنا خيراً من حياتنا. فأجابه لذلك» (م ن ص 10).

يخبرنا النص أن «شهريار» الملك لم يتخذ قراراً مستعجلاً بقتل زوجته (كما فعل ذلك شاه زمان) لاختراقها القانون الأبوي وعودتها لقانونها الأمومي الفطري، بل كان يريد أن يرى حجم الاختراق هذا ومدى قوته، وعلى أساس ذلك سيكون القرار لاحقاً. وضمن هذه الرؤية فإن قراره بالسفر سيكون له معناه العميق، فهو لم يكن هرباً من الحقيقة الموجعة بقدر ما كان استعداداً وتحضيراً للقرار التالي، وهذا يعني أن «شهريار» أكثر حكمة وعقلانية من أخيه «شاه زمان»، حيث لم يرتعب أمام سطوة وقوة الممارسات الأنثوية، بل حاول جاهداً امتصاص الصدمة ليكون قراره صحيحاً وفي وقته المناسب. وبالطبع سيعتمد اتخاذ القرار على ما سينكشف أمامهما من أحداث في سفرتهما.

 ما حدث للملكين «شهريار» و»شاه زمان» في سفرتهما تلك كان مثيراً حقاً، وهذا ما أبانه النص، حيث نقرأ ما يلي: «ولم يزالا مسافرين إلى أن وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين ماء بجانب البحر المالح. فشربا من تلك العين، وجلسا يستريحان. فلما كان بعد ساعة مضت من النهار إذا هما بالبحر قد هاج وطلع منه عمود أسود صاعد إلى السماء وهو قاصد تلك الموجة. فلما رأيا ذلك خافا وطلعا إلى أعلى الشجرة، وكانت عالية، وصارا ينظران ماذا يكون الخبر. وإذا بجنيّ طويل القامة، عريض الهامة، واسع الصدر، على رأسه صندوق، طلع إلى البر وأتى نحو الشجرة التي هما فوقها، وجلس تحتها. فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة. فلما نظر إليها الجني قال: يا سيدة الحرائر، التي قد اختطفتك ليلة عرسك، أريد أن أنام قليلاً. ثم إن الجني وضع رأسه على ركبتها ونام» (م ن ص10).

إن القارئ ليندهش بهذه المرأة التي يخلع عليها الجني لقب «سيدة الحرائر»، وهي امرأة كان قد اختطفها في ليلة عرسها، وأينما يذهب يأخذها معه، وعندما يريد أن ينام قليلاً فهو ينام على ركبتها. وهذا الحب غير الواقعي لهذه الفتاة هو في حقيقته امتلاك غير معقول. كما أن المرأة هذه هي ليست سوى أسيرة لهذا الجني، لأنه حصل عليها بطريقة غير شرعية. أما هو فلن يعدو أن يكون سوى عبد لها، بالرغم من كونها مختطفة وأسيرة له. ولو تابعنا ما يقوله النص عما حصل بين المرأة والملكين (شهريار وشاه زمان) سنقرأ ما يلي: «فرفعت رأسها إلى أعلى الشجرة، فرأت الملكين، فرفعت رأس الجني من فوق ركبتها ووضعتها على الأرض ووقفت تحت الشجرة، وقالت لهما بالإشارة: إنزلا ولا تخافا هذا العفريت. ونزلا إليها، فقامت لهما وقالت: قفا. وأخرجت لهما من جيبها كيساً وأخرجت منه عقداً فيه خمسمائة وسبعون خاتماً. فقالت لهما: أتدريان ما هذه؟ فقالا لها: لا ندري. فقالت: لهما أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة من هذا العفريت، فاعطياني خاتميكما أنتما الآخران؟ فأعطياها من يديهما خاتمين. فقالت لهما: إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي، ثم إنه وضعني في علبة وجعل العلبة داخل صندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمراً لم يغلبها

شيء» (م ن ص 11).

 

السؤال المطروح هنا هو: هل أن هذه الأنثى أسيرة للقانون الأبوي أم أنها لا تعـدم الوسيلة واغتنام الفرصة للانتقام من السلطات الذكورية، سواء نادى بها أهل الأرض (شهريار وشاه زمان) أم أهل السماء (الجني)؟ في واقع الحال يمكننا القول إن زوجتيْ «شهريار» و»شاه زمان» قد اخترقتا القانون الذكوري وعادتا لقانونهما الأصلي، رغبة منهما في استرداد سلطاتهما، كما أسلفنا سابقاً. ولكن المرأة الثانية فعلت ما فعلت لأن الجني حرمها من أن تكون ضمن القانون الذكوري، ويبدو أنها فعلت ذلك انتصاراً لهذا القانون، أي القانون الذكوري. وهذا له دلالة واضحة لا بد أن الملك شهريار قد فهمها واستلمها بصورة جيدة وعلى أساسها سيكون رد فعله، وكما سنرى ذلك لاحقاً.

 

وإذا تجاوزنا التأويل النصي وحللنا ما قرأنا أعلاه فنياً، سنجد ما ينبجس من ثنايا النص بنيوياً هو اتكاء مبدع النص واستعانته بصيغ حلمية وخيالية وخرافية لبناء نصه، وبالتالي فهي صيغ متقدمة وتمثل صدى الحقيقة وليس الحقيقة التي تسكن اللاشعـور. فالعفريت والمرج والبحر والعمود الأسود والخواتم هي رموز أكثر من كونها حقائق واقعية تساعد في فهم بنية النص. إذ إن مبدع النص حاول إنزال هذه الرموز الحلمية من عليائها، ودسها في النص بوصفها حقائق لا غبار عليها. أي أنه ألغى المعنى الباطن للرمز واكتفى بالمعنى الظاهر. أي أن الإشارة احتفظت بمدلولها الأول، ولم ينتقل بها مبدع النص إلى معنى آخر، كما لاحظ ذلك «رولان بارت» عند تحليله للأسطورة في قصاصته المعروفة حول الإشارة في الإسطورة. وبالتالي فإن نص الليالي يفارق الأسطورة والنص الشعري اللذين يمتحان في بناء كيانيهما، حيث تنتقل الإشارة إلى مستوى آخر غير المستوى القاموسي المعروف للملفوظ، ويقودان أيضاً للتعدد في مدلولات الملفوظ الواحد. إن مبدع الليالي يجد في الرموز أعلاه ما يساعده على تمرير أفكاره وبناء النص السردي وإثرائه وجلب مصداقية للنص من الخارج. وبالرغم من تشاكل نص الأسطورة مع نص الليالي في أن كلاً منهما يمثل ما تريده السلطات الحاكمة، إلا أن المزج ما بين الخيالي والحقيقي، وما بين الأرضي والسماوي، هو الذي جعل منه نصاً خالداً.

 

 صراع أم تواطؤ؟

 إذن يحيلنا النص إلى حقيقة النسق الثقافي المهيمن، والذي هو عبارة عن محصلة لسلطتين تشتغلان معاً بصورة متزامنة، إلا أنهما متعامدتان ومتقاطعتان مع بعضهما البعض حيناً، أو متوازيتان ومتعاضدتان حيناً آخر، مرة بصيغة صراع يضعفهما معاً، وهو ما لاحظناه ما بين «شهريار» و»شاه زمان» وزوجتيهما، ومرة بصيغة تواطؤ وتعاضد، وهو ما سنلحظه بين «شهريار» و»شهرزاد» لاحقاً.

 

يكون الصراع واضحاً عندما تجد السلطات البطرياركية أن لها الحق، كل الحق، في سن قوانينها وفرضها فرضاً على الجميع، وخاصة قانونها الأبوي المتمثل بممارسة الجنس ضمن سلطة أو مؤسسة الزواج، لكي ينتمي الأبناء لآبائهم. وبالتالي فإن السلطة هذه ستقاوم كل قوة تحاول أن تعطل هذا القانون. كما أن الآلهة الأم ستبذل قصارى جهدها للإلتفاف على هذا القانون، وتفريغه من محتواه بأية صورة من الصور، وعند أية فرصة تلوح لها، ولو كانت جد بسيطة. فالعفريت مثلاً، كما لاحظنا، حاول تعطيل هذا القانون (قانون الزواج) عندما اختطف الفتاة في ليلة عرسها. والعفريت هنا يمثل قوة خارجية حاولت استبدال قانون بقانون آخر. أو -بكلام آخر- استبدال عصا بعصا أخرى لا تقل عن الأولى إيلاماً، بالإضافة إلى لا شرعيتها. وبالتالي فإن الرد المناسب على هذه السلطة هو تهميشها من قبل الفتاة، عن طريق ممارسة الجنس مع أشخاص آخرين في لحظة غفلة ولو قليلة (النوم) عندما تسنح لها. وهي عودة بكل بساطة للقانون الأول: قانون الآلهة الأم، وكأنها لا تجد مكاناً وادعاً وآمناً إلا بالعودة لقانونها هذا. مما يحيل إلى أن المرأة لا تنسى هذا القانون، فهو غائر في لا شعورها، وعن طريقه تمارس سلطاتها المقموعة. إذن فما تسميه السلطات البطرياركية البغاء أو الخيانة الزوجية هو في حقيقته الوجه الآخر لقانون الزواج الشرعي، والذي تقسر فيه المرأة أحياناً على ممارسة الجنس مع رجل لا تحبه. إذن فالمرأة عندما لا تحتاز سلطاتها عن طريق الأمومة فليس لها إلا أن تعود سريعاً لقانونها الأول وتمرغ أنف السلطة الأبوية بالوحل.

 

 إن هذه الحقيقة المؤلمة جعلت الملك «شهريار» يعلن ثورته المضادة على بنات حواء، فما كان منه إلاّ أن يشهر سيفه عليهن لرد الاعتبار إلى سلطته المنخورة والتي انهارت أمام عينيه بأسرع مما كان يتصور. لذا فإنّ ردّ فعله كان طبيعياً بقدر ما كان دموياً. فالموت الذي كان يقع على أية فتاة يتزوجها «شهريار» بعد الليلة الأولى إنما يمثل محاولةً استباقية لتعطيل قانون الآلهة الأم، ورد الاعتبار للقانون الأبوي الحاكم. ولكن هذا التعطيل الذي مارسه «شهريار» لم يكن تعطيلاً لقانون الآلهة الأم فقط، إنما هو تعطيل لقانون الإله الأب أيضاً، ولا يمكن أن يدوم ذلك طويلاً. إذن لا بد من ظهور شخص ما يوقف هذه المجزرة والنكبة التي حلّت ببنات حوّاء، وليس هنالك إلاّ حواء نفسها، والتي يمكن أن تقوم بذلك، فهي لن تعدم الحيلة والوسيلة للقيام بذلك العمل النبيل، ورد الرشد إلى الملك «شهريار»، والحفاظ على بنات جنسها من الفناء في لحظة من الغضب. ومن هنا تظهر شخصية «شهرزاد» بوصفها المنقذ والمخلص في هذا النص. وبالتالي فإن نص الليالي هذا ينتصر -بدون مواربة- لحواء وسلطة الآلهة الأم بوصفها سلطة منقذة ومخلصة للجنس البشري، وليست سلطة متهورة ومتسلطة كسلطة «شهريار».

 

ولو تتبعنا «شهرزاد» في خطتها، سنجدها بارعة في حل الإشكالية الناتجة عن انهيار الثقة بين «شهريار» وبقية النساء. فهي كمن عرف السبب ووضع يده على العـلة. حيث نسمعها تقول لأبيها: «بالله يا أبت، زوجني هذا الملك، فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المدينة، وسبباً لخلاصهن من بين يديه».

 

إذن فإن «شهرزاد» تعلم جيداً ما هي قادمة عليه. فأمامها طريقان أحلاهما مرُّ، إلاّ أنهما يؤديان إلى الغرض نفسه، وهو إنقاذ بنات المدينة من هذا الملك الذي لا يعرف لغضبه حدود (أي شهريار)؛ فإن عاشت ولم يقتلها فذلك يعني أنها أبعدت شبح الموت عن بقية الفتيات، وإن فشلت فذلك يعني أنها قد ماتت فداء لبنات المدينة، لأنها هي التي تبرعت وتطوعت للزواج من «شهريار» بملء إرادتها ولم يجبرها على فعل ذلك أحد، لأنها ابنة الوزير وبمنأى عن الخطر. لذا فهي قد خططت جيداً لهذا الدور الذي لا يحتمل أيّ خطأ، وباشرت بالخطة من أول يوم دخلت فيه بيت «شهريار». حيث نقرأ: «ثم لما وصلت إلى حضرة الملك بكت، فسألها الملك عما بها، فأخبرته أنها تريد أن تودع أختها، فأرسل الملك لأختها، ولما تم الجمع جلسوا يتحدثون، فسارعت أختها إلى القول: بالله عليك يا أختاه، حدثينا حديثاً نقطع به سهر ليلتنا! فقالت: حباً وكرامة، إن أذن لي الملك». لقد أذن «شهريار» بالحكي، وبالتالي نجحت خطتها المرسومة، واستطاعت عن طريق الحكي أن تسحر الملك وتتمنى عليه أيضاً، إذ نجحت في تعطيل موتها وموت بنات جنسها ليلة واحدة. ولا شك فإن ذلك يعتبر نصراً كبيراً لشهرزاد وقدرتها على ترويض الملك. حيث نقرأ عما حدث في تلك الليلة ما يلي: «وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة، إن عشت وأبقاني الملك. فقال الملك في نفسه: والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها».

 

إن ما يخبرنا به الراوي، الكلي العلم، في المقطع أعلاه، يمثل تقهقراً وتراجعاً أولياً من «شهريار» والسلطات الحاكمة. ويبدو أنها كانت مهيأة ومستعدة استعداداً نفسياً له. فالملك «شهريار» ومهما كان قاسياً فلن يستطيع مقاومة الإغـراء الأنثوي، وبحديه الطاغيين: جمال «شهرزاد» وطلاوة لسانها، وكذلك ذكائها الحاد، فضعفها انقلب إلى قوة وجرأة ودلال، ودلالها هذا تسلل كالترياق إلى عقل ومشاعر «شهريار». ويبدو أن «شهريار» أدرك أنه أمام صنف آخر من «حواء»، وقد قرأ الإشارات التي كانت تبعثها إليه «شهرزاد»، ووجدها إشارات إذعان وقبول بسلطاته من قبل الآلهة الأم، ولكن بشروط. لذا فإن قراره بإبقاء «شهرزاد» حية لاستكمال ما كانت قد بدأته، يجب فهمه ضمن هذا الإطار، لأنه يمثل برأينا بداية الاتفاق بين السلطتين، بل هو بداية لتواطؤ خفي وغير معلن بين السلطتين المتناحرتين.

 

 شهرزاد تحتاز سلطاتها

 لا بد أن «شهرزاد»، بوصفها ممثلة للآلهة الأم، أيقنت أن بقاءها مرتهن بالاستجابة للسلطات الذكورية وقانونها المهم، والمتمثل بممارسة الجنس ضمن مؤسسة الزواج وإنجاب الأطفال. وهذه الاستجابة الأولية تحتاج إلى وقت طويل (ألف ليلة وليلة) لإنجازها. والسؤال المطروح هو: ما الذي يمنع «شهريار» بوصفه ممثلاً للسلطات البطرياركية والتي طعـنت في كبريائها، من الفتك بشهرزاد طوال هذه المدة؟ ولكي لا يحدث ذلك لا بد لشهرزاد من أن تحتاز وظيفة أخرى وجديدة لكي تستطيع من خلالها إيقاف شهريار عن فعل ذلك، أولاً، ومن ثم توفير الوقت اللازم لتبرهن له أنها موافقة على ما يريده منها، وهي كذلك آسفة على ما فعلته زوجتا «شهريار» و»شاه زمان» من بغاء، ومستنكرة له.

 

إن الوظيفة الجديدة والتي تلبي جميع الشروط أعلاه، والتي استطاعت من خلالها شهرزاد أن تسيطر على شهريار وتخلب لبه، هي وظيفة الحكي، وهي الوظيفة الثالثة بحسب علمنا، إذ إن «عشتار» هي سليلة «أنانا عشتار» التي احتازت أولاً وظيفة الجنس، ومن ثم احتازت وظيفة الحرب إلى جانب الجنس. وبالتالي فإن شهرزاد قد احتازت ثلاث وظائف، هي: الجنس، الحرب، والحكي. ولا شك فإن جداتنا وهن يحكين علينا أجمل القصص هن في الواقع يتقمصن دور شهرزاد، للحفاظ على جنسهن، ولنقل خبراتهن، إلى الأبناء والأحفاد حتى لا يتكرر الخطأ ذاته وتتكرر الفاجعة.

 

من خلال وظيفة الحكي يمكن القول إن السلطتين المتناحرتين قد تواطأتا معاً. فالأولى تحكي والثانية تستمع. وهذا في واقعه استجابة غير معلنة من شهريار لما تريده شهرزاد أيضاً، إذ وفر لها الوقت اللازم لتبرهن على جديتها وكذلك موافقتها على شروطه. فالحكي كان قد استمر لمدة «ألف ليلة وليلة»، وهي فترة كافية وطويلة نسبياً، وكأنها هدنة بين السلطتين المتصارعتين، وفيها توقف شهريار عن القتل فعلاً، لتلتقط الآلهة الأم أنفاسها وبالتالي الإعداد للجولة اللاحقة. إن تعطيل عنف شهريار ضد بنات حواء، ومنعه من ممارسة القتل، كان هدفاً أولياً لشهرزاد، وهذا ما أنبأنا به النص فعلاً. ولا بد لشهرزاد من الحصول على إقرار من شهريار بذلك. وهو ما حصلت عليه فعلاً، إذ إنها، وبعد الليلة الألف، تجد لديها الجرأة والشجاعة لانتزاع ذلك الإقرار ولو بصيغة الاستعطاف، حيث تقول له: «يا ملك الزمان وفريد العصر والأوان، إني جاريتك، ولي ألف ليلة وليلة أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين، فهل لي في جنابك من طمع حتى أتمنى عليك أمنية؟ فقال لها الملك: تمنَّيْ يا شهرزاد!».

 

كما يخبرنا النص أن موت شهرزاد كان مؤجلاً طيلة هذه الفترة، وقد خلّفت ثلاثة أطفال ذكوراً خلالها. والأطفال الذكور شيء مهم هنا لشهريار، لأن سلطاته ستنتقل إلى أبنائه، أي أن السلطات الذكورية جددت شبابها من خلال سلطات الآلهة الأم، وهو ما خططت له شهرزاد جيداً ونفذته. وهذا يعني أن سلطتها قد تبدّت من خلال سلطة الأب، وليس خارج هذه السلطة. أي أن وجود الأطفال الثلاثة يمثل تكريساً لسلطتها، أي سلطة الأمومة وكذلك سلطة الرجل، وهو ما يريده الملك شهريار أيضاً، فهو لا يمانع من أن تحتاز شهرزاد سلطاتها من خلال سلطاته وليس على حسابها بإقصائها أو دحرها، لذا فعندما طلبت منه شهرزاد أن يعفو عنها ولا يقتلها، رحمة بأطفالهما، وجدناه يقول لها: «يا شهرزاد، والله إني قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد، لكوني رأيتك عفيفة نقية، وحرة تقية. بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك. وأشهد الله على أني قد عفوت عنك من كل شيء يضرك. فقبّلتْ يديه وقدميه، وفرحت فرحاً زائداً، وقالت: أطال الله عمرك وزادك هيبة ووقاراً» (الليالي – ج 4، ص 319).