العدد الرابع - ربيع 2008م

   
 

دراسات
 

مقاربات أولية عن واقع الرواية في اليمن (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. عبد العزيز المقالح

أتفق في البدء مع الرأي الذي ذهب إليه بعض الباحثين العرب، وهو أن للرواية العربية أصلاً عربياً، لا يبدأ مع حكايات "ألف ليلة وليلة" فحسب؛ وإنما يمتد إلى كثير من السرديات العربية التي تشكل مرجعاً بالغ الأهمية لهذا الفن، الذي انتقل إلى الإبداع الروائي العربي مجدداً مع بداية العصر الحديث، بعد أن استقام على جماليات فنية وعلى شكل ثابت في بلاد الغرب. وتغدو الإشارة إلى هذه الحقيقة في مدخل البحث من الضرورة بمكان، لكي يعاد التوازن الموضوعي إلى الدراسات والأبحاث المتعلقة بظهور أوليات القصة القصيرة والرواية العربية بشكلهما الراقي، وحتى لا ننتهي إلى القول بأن سلطة الغرب قد وسعت مكتسباتها الأدبية على حساب الموروث النثري العربي، وأن العرب ظلوا، وما يزالون، فيما يكتبونه من إبداع، ويؤلفونه من أفكار في كل الأزمنة، عالة على هذا الغرب الذي لا يخفي تأكيده أنه سبق له أن أخذ منهم، واستعان بما توصلوا إليه في كثير من أشكال الفنون والآداب. ويأتي موقفنا هذا من منطلق إحقاق الحق، وليس من باب المكابرة والادعاء أو التقليل من شأن الآخر، ومن إنجازاته. وهذا الموقف لا يندرج في سياق رفض المثاقفة مع الآخر والتنكر لما لهذه المثاقفة الفنية والأدبية من فضل لا يُنكر.

وبينما كان رولان بارت جاداً وصادقاً حين قال: "لا يوجد شعب، لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا في أي مكان، من غير قصة"(1)، كان الناقد والأديب الموسوعي الراحل فاروق خورشيد محقاً عندما أثبت بموضوعية تامة دور العرب في قصصهم، وحكاياتهم ومسامراتهم وأخبارهم في التأسيس لهذا الفن، مؤكداً: "إننا نستطيع أن نقسم دراسة الرواية العربية إلى عدة مراحل، فهي تبدأ أولاً بمرحلة كتب الأخبار التي ظهرت في العصر الأموي، واستمرت إلى العصر العباسي... وهذه تدل على خصائصها وتبين ملامحها كُتُب وهب بن منبه وعبيد بن شريه من خلال ابن هشام. وتأتي بعد ذلك مرحلة التأليف المعاصر في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، في مثل كليلة ودمنة، وسيرة ابن إسحاق التي يقدمها للأدب العربي ابن هشام. ثم يظهر في القصص الشعبي المجمّع في أمثال كتاب ألف ليلة وليلة. ونلمح آخر الأمر صورة من الرواية العربية في سيرة عنترة، وذات الهمة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، وحمزة البهلوان..."(2)

 

ولا يعنينا القول كذلك إن العرب في قصصهم ورواياتهم المعاصرة تأثروا بالآخر الغربي والشرقي معاً، لأن محاكاة الأشكال في بداية الأمر، تعد من الأمور التي عرفتها الآداب بعامة، فكل شكل فني استقصى هيئته من شكل سابق له، وإن أية ممارسة إبداعية أدبية جديدة هي نتاج ممارسة معرفية إنسانية سابقة لها. لكن ذلك لا يعفي الباحث الحصيف من التزام الحقيقة، والاعتراف بدور المؤثرات المحلية والعربية في رسم بعض الخصائص والسمات، تلك التي تجعل من الرواية العربية شيئاً مغايراً عن الإنجاز الروائي العالمي، لا من حيث التقنية، وإنما من حيث تحديد ملامح الفضاء الروائي المقيد بالواقع والمرتبط به، والذي يتوازن في أثناء الممارسة الإبداعية مع الأوضاع الاجتماعية والعاطفية العربية حتى لدى كبار الروائيين العرب، وفي الطليعة يقف نجيب محفوظ أغزرهم إنتاجاً، وأكثرهم شهرة على الصعيدين القومي والعالمي. فالروائي العربي ابتداءً من الإربعينيات وحتى السبعينيات من القرن المنصرم يومئ في رواياته ويشير أكثر مما يكشف، سواء في السياسة أو الجنس أو الدين، وفي قضايا أخرى حيث تظل ساحة المسكوت عنه في الأعمال الروائية العربية أوسع مما هي عليه في روايات الآخرين باستثناءات لا تكاد تذكر، أثارت من الضجة حول موضوعاتها أكثر مما أثارت من التساؤلات حول بنيتها وتنويعاتها الفنية.

محاكاة الأشكال في بداية الأمر، تعد من الأمور التي عرفتها الآداب بعامة، فكل شكل فني استقصى هيئته من شكل سابق له، وإن أية ممارسة إبداعية أدبية جديدة هي نتاج ممارسة معرفية إنسانية سابقة لها

ولا ننسى –في هذا المدخل- والحديث يتمحور حول واقع الرواية في اليمن، أن نشير إلى أن هذا البلد –شأنه شأن بقية الأقطار العربية- يحتفظ في مدوناته، وفي ذاكرة مواطنيه بكنوز من السرديات والمرويات، والأساطير التي تناقلتها وتتناقلها الأجيال، وتشكل باعثاً محلياً على الإقبال نحو هذا الفن وإبداعه.

والإشكالية الأهم التي تجدر –من وجهة نظري- مناقشتها في هذا المدخل هي تلك التي يطرحها سؤال بات حديث الساحة الأدبية، وهو: هل ما زال العصر الذي نعيش في رحابه عصراً للشعر، أم أنه صار عصر الرواية؟ وقد ورد السؤال ضمنياً في دراستين نقديتين بالغتي الأهمية هما: "عصر الرواية" للدكتور محسن الموسوي بغداد 1985، و"زمن الرواية" للدكتور جابر عصفور1999.

إن قراءة عميقة للواقع الأدبي العربي المعاصر، قد يصدر عنها موقف متشائم يحيل إلى أن العصر (العربي)، وبعبارة أدق المرحلة العربية الراهنة ليست للشعر ولا للرواية، ولا لأي عمل إبداعي يرقى بالذوق الإنساني ويرتفع بالوجدان. إن الأحداث الجارية والمتغيرات المتلاحقة، تطارد روح الإنسان، وتسعى إلى تغريبه وتشتيته، وتجعله خادماً في بلاط العولمة، تلك التي لا تجيد لغة الفن، ولا تتقن سوى لغة واحدة هي لغة الدولار واليورو. ومع ذلك فلا مناص من الجواب على سؤال كهذا يتردد كلما أمسك الإنسان بغلاف رواية أو ديوان شعر؛ لمن منهما يكون العصر؟ وهل وصل الصراع بين هذين الفنين المتشابكين إلى درجة تجعل أحدهما قادراً على إقصاء الآخر؟

لن أنحاز في الإجابة إلى من يقول إن الرواية العربية لم تصل بعد إلى المستوى الذي يؤهلها لتحل محل "ديوان العرب". ولكني أحبذ القول إنه ينبغي أن يكون العصر لهما معاً، ولكل الفنون القولية وغير القولية التي تسعى إلى حماية الإنسان من نفسه، ومن قوى الشر الكثيرة التي تتربص به لتعود بالمجتمعات الإنسانية إلى عصر اللافنون، عصر القتل والتنافس على المال والسلطة، عصر تعذيب الروح والضمير والجسد. وسيظل لكل من الرواية والشعر –ومن موقف جمالي وأخلاقي- دور كبير لمقاومة الحس الحيواني الذي بدأ يخترق بعض المجتمعات المتقدمة مادياً، ويسوقها بقوة الغريزة إلى الإغراق في العدوانية، والتلذذ بتعذيب البشر الأبرياء الذين لا يملكون حولاً من قوة عسكرية أو اقتصادية.

 

طموح البدايات الروائية في اليمن

لئن شهدت اليمن في الثلاثين عاماً الأخيرة انطلاقة نسبية في مجال نشر الأعمال الروائية؛ فإن الشعر والقصة القصيرة ظلا يتصدران ساحة النشر. وما زال التوق إلى كتابة هذين النوعين من الإبداع أيسر لسهولة كتابتهما ونشرهما، ونظراً لما تتطلبه الرواية من جهد وزمنٍ طويل، وما تفرضه على كاتبها من صبر وسعة بال. لذلك يظل ما نشر من روايات في اليمن قياساً بالشعر والقصة القصيرة محدوداً. وإذا ما استقرأ الدارس حضورها في الإنتاج اليمني سيجد نفسه متوقفاً عند ثلاثة اتجاهات في الكتابة الروائية، هي:

أولاً: الاتجاه التقليدي المؤسس، وهو الذي جاء محاكاة للرواية التقليدية العربية بأبعادها الموضوعية والتاريخية منها والعاطفية، وبأبعادها الفنية الكلاسيكية والرومانسية. وأبرز ممثلي هذا الاتجاه في اليمن هم: الكاتب الصحفي محمد علي لقمان (المحامي)، والشاعر والمناضل السياسي محمد محمود الزبيري، وعلي محمد عبده، وعبدالله محمد الطيب أرسلان.

ثانياً: الاتجاه التجديدي الذي تجاوز الاتجاه السابق في اقترابه من البناء الروائي الحديث، والنظر إلى الرواية بوصفها فناً أدبياً له شكله وخصوصيته ومرجعيته الفنية. وأتباع هذا الاتجاه يشكلون عدداً لا بأس به من الروائيين والروائيات ممن يصعب حصرهم.

ثالثاً: الاتجاه الأحدث، وأتباعه قلة أو نخبة صغيرة العدد من المبدعين الشبان، وأعمالهم الأولى تبشر بإنتاج رواية متمردة في الفكرة واللغة والبناء، رواية تكسر خط السرد المتعارف عليه، وترفض في الوقت ذاته فكرة الترابط المنطقي للأحداث وما تفرضه نمطية الحبكة، وتسعى جاهدة إلى إثبات ما يقال عن التداخل بين الأجناس الأدبية، وإلغاء الحواجز بين الشعر والنثر، أو بين الرواية والشعر، مع اهتمام واسع بالرمز. والمبشرون بهذا الاتجاه هم: حبيب سروري، ومحمد عبدالوكيل جازم، وسمير عبد الفتاح، وهند هيثم. والأخيرة شابة في العشرين من عمرها، والإشارة إليها تلفت النظر إلى أن دور المرأة كان غائباً عن عالم الإبداع بأشكاله المختلفة، لكنها في العقود الأخيرة من القرن العشرين استطاعت أن تحقق شيئاً من الوجود اللافت في الشعر والقصة القصيرة، كما في الرواية، حيث شهدت الساحة الأدبية في العقود الأخيرة عدداً

لا بأس به من الروائيات ومنهن: شفيقة زوقري صاحبة رواية "مصارعة الموت" (1970)، ورمزية الإرياني في روايتيها القصيرتين "ضحية الجشع"، و"قتلنا القات" (بدون تاريخ)، ونبيلة الزبير في رواية "إنه جسدي" (2004)، ونادية الكوكباني في رواية "حب ليس إلاَّ" (2006)، وإلهام مانع في رواية "صدى الأنين"(2005)، وعزيزة عبدالله في رواياتها الأربع: "أحلام نبيلة" (1997)، و"طيف ولاية" (1997)، و"أركنها الفقيه" 1998م، و"تهمة وفاء"(2000)، وهند هيثم في روايتيها "حرب الخشب" (2004)، و"أنس الوحشة" (2006).

ولأن التجارب الروائية الصادرة حتى الآن قد بلغت من خلال الإحصائية السابق ذكرها ما يزيد عن 175 رواية؛ فإن الوقوف عندها جميعاً يتطلب زمناً طويلاً، كما يتطلب أكثر من كتاب، لذلك سأكتفي هنا بالحديث عن بعض هذه التجارب معتمداً على المتوفر منها بين يدي في أثناء كتابة هذه الدراسة. وسأعتمد في الحديث عنها نظام التتابع، للسياق الزمني، وما يفرضه من التزام التسلسل في التناول.

 

 إن الأحداث الجارية والمتغيرات المتلاحقة، تطارد روح الإنسان، وتسعى إلى تغريبه وتشتيته، وتجعله خادماً في بلاط العولمة، تلك التي لا تجيد لغة الفن، ولا تتقن سوى لغة واحدة هي لغة الدولار واليورو

الاتجاه التقليدي

رواية "سعيد (1939) هي أول رواية تكتب وتنشر في اليمن. ومؤلفها الكاتب والصحفي والمحامي محمد علي لقمان، هو واحد من أهم رجال التنوير في اليمن. وروايته هذه التزمت بالبناء التقليدي في شكلها. أما موضوعها فقد كان شأن الروايات الواقعية الأولى تبليغاًً إرشادياً، ويلاحظ فيها تقاطع السياق السردي بالأشعار التي تلخص المواقف، كما تقوم على فكرة الصراع بين الخير والشر، وتنتقل بالقارئ من التفاؤل إلى التشاؤم أو العكس، وتسعى إلى إبراز أثر البيئة في تربية الأجيال. أما قيمتها الأساسية، فتنبع من كونها أول عمل روائي يسجل معرفة اليمن بهذا الفن الحديث. وعلى الرغم من كونها محاولة أولى في هذا السبيل؛ فإنها كما يقول الناقد الدكتور عبدالحميد إبراهيم: "ذات لمسات فنية مبكرة فهي أول رواية يمنية عُثر عليها، تتخذ من ذلك الشكل الجديد قالباً، وتقدم شخصيات تدور حول محور معين. قد لا يكون الصراع فيها غنياً، ولا العلاقات متداخلة، ولكنها تنبَّهت إلى كثير من الحيل الروائية الجديدة، ففي مواطن كثيرة تتخذ من وصف الطبيعة خلفية لتجسيد حركة الشخصيات، فقد تتحدث عن جبل شمسان -مثلاً- الذي يقف شامخاً وتحته الكثير من أبنائه الضالين المنحرفين، ويبدو في وقفته غاضباً مخيفاً، كأنه يوحي للعدنيين "بما ناله من الكدر والغضب لوصولهم إلى تلك الدرجة من الجهل المشين، وفي مواطن كثيرة أيضاً يصف الأمكنة والقصور، ويتحدث عن عادات اليمن الشعبية، وهو يميل في أحايين كثيرة إلى التحليل النفسي، ولا يقف بالشخصية عند عواطفها الظاهرة"(3).

تكشف رواية "سعيد" بوضوح الموقف السياسي لمؤلفها، الذي كان يدعو إلى مهادنة الاحتلال انتظاراً -كما يقول أحد أبطالها- لظهور المهدي المنتظر، الذي سينتهي بظهوره دور المخترعات الحديثة القاتلة كالمدافع والدبابات والطائرات، وحينئذٍ يسهل على المواطنين التغلب على الغزاة المحتلين. وبطل الرواية، سعيد، نموذج للثائر الذي يكتفي، نظراً لوقوعه تحت سلطة الاحتلال، بمحاربة الخرافات والاحتكام إلى روح العصر، وما يتطلبه من احتياجات في ضوء الحقائق العلمية الملائمة لروح الإسلام، وقد بدأت ثورة "سعيد" منذ وقوفه في وجه والده التاجر الغني، الذي رفض أن يرتبط سعيد بابنة أحد الفقراء للزواج، لأنها –كما يقول الأب- ليست في مستواهم في النسب والثراء.

وهكذا تتناول الرواية، من خلال سعيد، وشخوص أخرى متناقضة أوضاع مدينة عدن في العقود الأولى من القرن العشرين، وترصد الفوارق الطبقية التي بدأت في الظهور بين الأثرياء وغيرهم من فقراء المدينة، وهي الثيمات الرئيسة في الروايات التقليدية، تلك التي تتحدث عن ابن الغني الذي يحب فتاة فقيرة، ويحاول الزواج منها فتحول تقاليد الأسرة بينه وبين ما يريد. كما تكشف عما يفرضه الغني من شروط ضرورية عند بدء اقتران الشاب بالفتاة لتكون زوجة له، ومنها أن تكون الزوجة من أسرة تماثل أسرته في الثراء.

أما النموذج الثاني الذي سنقدمه في هذه المقاربة الأولية عن بدايات الرواية في اليمن فهو رواية "مأساة واق الواق" للشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري، وهي مشروع وطني سياسي خلاّق، وبنية تراجيدية نائحة تعكس عذاب الإنسان في اليمن وغربته عن العصر، وشكواه من حكامه الظالمين، وحنينه إلى العدل والمساواة والشعور الكامل بالآدمية. والبنية الفنية للرواية تأتي على شكل منامات يتولى شأنها منوّم مغناطيسي، وتذكر بـ "رسالة الغفران" للمعري من ناحية، ورواية "سيرة عيسى بن هشام" للمويلحي من ناحية ثانية. والزبيري في منامه الرمضاني (حدث في شهر رمضان) ينقلنا من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى الجحيم أولاً، ثم إلى الجنة ثانياً، لكي نشاهد في الانتقالة الأولى كيف يعذب الله الطغاة الظالمين لشعوبهم، ولكي نرى في الانتقالة الثانية مشاهد من النعيم الذي يقيم فيه الشهداء، وهي مشاهد في كلتا الحالتين تخييلية تبهر بإيحاءاتها وما تتركه في نفس القارئ من شعور بالكراهية للظلم، ومن تعاطف غير محدود مع المظلومين. وإذا كانت مشاهد الوصف شأن المشاهد التأملية تخرج بالعمل عن سياقه الروائي؛ فإن فتنة هذا الجانب تظل عالقة بالذهن إلى ما بعد القراءة بأيام وليالٍ، فقد أنجز الروائي كتابتها بكفاءة بلاغية عالية تذكِّر القارئ بأن مؤلفها شاعر مبدع بامتياز.

وليست مجازفة أن يرى فيها عدد من النقاد ملامح ملحمية. ومن هؤلاء الناقد الدكتور حاتم الصكر الذي يرى أن "ملحمية هذه الرواية، تكاد تكون من أبرز سماتها، فقد استعرضت جملة موضوعات في عمل واحد، وجمعت بين الملائكة والبشر، والشهداء والطغاة، بين الأرض والسماء، وبين الجنة والجحيم، وكل ذلك يؤهل هذا العمل ليكون ملحمة تروي للعالم في وقت من الزمن ما كانت عليه الأوضاع في يمن ما قبل الثورة، مستعرضة بطولات المناضلين اليمنيين، وغيرهم في السجون والمعتقلات، وفي ساحات الإعدام عند مواجهة الموت، ساعة يُقْتَل الابن ذبحاً أمام عيني والده، وساعة تندب الأم أبناءها الثلاثة، وهي واقفة شامخة تفضح الطاغية الكبير وتنذره من عواقب فعلته، كأنها عرّافة "دلف" في الأساطير اليونانية"(4).

"العزي محمود" بطل الرواية، هو الزبيري نفسه، وهو الشخصية المحورية في الرواية والسارد لأحداثها، وقد حمل نفسه وحملنا معه من الواقع اليمني المكتظ بالضحايا والمظلومين إلى فضاء مفعم بالتخيل من خلال منامه الرمضاني، وسبق له أن عاش حياته النضالية، رغم قسوتها وواقعيتها المريرة، إلى حالة صوفية أثيرة تجعله يعيش في حالة من الطمأنينة والرضا النفسي. إنها صوفية شفافة تقاوم الغموض والدروشة، وتجعل المعنى الروحي قريباً من وعي الإنسان العادي الذي توجهت الرواية إليه لإيقاظه من سبات القرون، وتضع يده على الجرح النازف في قلب الشعب لتمكينه من تفسير ما يجري في الواقع تفسيراً يتحول به من السخط السلبي الصامت إلى فعل ينتج عنه مزيد من التغيير. ومن نافل القول أن الزبيري وجد في اللغة الشعرية عنصراً مساعداً يذكي لدى القارئ لهيب الرغبة في متابعة الأحداث، والتعرف على أبعاد التجربة الثورية التي شهدتها اليمن ما بين عامي 1948 و1955، وما رافق فشل الثورتين من قطع الرؤوس وإقامة المشانق. ربما كان هناك بطء في السرد وكثير من الاستطراد، وتعدد غير محسوب للشخصيات المنتزعة من الواقع بأسمائها الحقيقية، وباستدعاء شخصيات أخرى من التاريخ الإسلامي؛ إلاَّ أن القارئ لا يشعر بالملل أو يساوره شعور بأنه إزاء وصف تقريري مباشر.

وإذا كان العمل الروائي، التاريخي بخاصة، مشروطاً بالزمان والمكان؛ فإن لرواية "مأساة واق الواق" زماناً ومكاناً مختلفين عن أزمنة وأمكنة كل الروايات، فلها زمان على الأرض وآخر في الفضاء، ولكنه لا يقوم على الأرض، وإنما في الفضاء تارة وفي الجحيم والنعيم تارة أخرى. ولفكرة هذا العمل جذور عميقة ضاربة في ثقافة المؤلف الدينية والوطنية، مما ساعد على بناء الجانب التخييلي في الرواية. ولست أبالغ حين أشير مرة أخرى إلى أن جميع عناصر التراجيديا بمعناها الفاجع والحزين تتجمع في هذا النص الروائي المدهش.

 

الاتجاه التجديدي

تشكل الكتابة السردية لدى محمد عبدالولي علامة فارقة في كيان هذا النوع من الإبداع في اليمن. لقد كانت دراسته في موسكو وإتقانه اللغة الروسية مدخلاً إلى قراءة الأعمال الروائية والقصصية الروسية في لغتها الأصلية دون حذف أو اجتهاد في الترجمة. ولم يكن جزافاً أن يطلق عليه عدد من النقاد وصف "تشيخوف اليمن"، فقد نجح في مجموعاته القصصيه الثلاث في بناء تجربة سردية تبعث على الإعجاب. وكانت تجاربه القصصية، وبلا أدنى تحيز أو مبالغة، هي التي أحدثت تحولاً بالقصة القصيرة في اليمن، من مجال الحكاية إلى مجال الفن القصصي كما ينبغي أن يكون.

في مقدمة روايته "يموتون غرباء"، وهي روايته الوحيدة المكتملة، يشير صديقه ورفيق دراسته الأديب الراحل عمر الجاوي إلى أن «القصة اليمنية شهدت في حياة محمد عبدالولي ازدهاراً لم يسبق له مثيل. ويعود الفضل في ذلك إلى تنوّع تجربته وثقافته، وموهبته الفنية التي صقلها بدراسة فن القصة، إذ لم يعتمد على جهده الفردي الذي اكتسبه من القراءة المتواصلة، وإنما تابع في أثناء دراسته في مصر كل الندوات والمحاضرات التي كرست مناقشاتها حول العمل الروائي. كما أنه درس في معهد جوركي للآداب في موسكو مدة عامين. لقد تعرف عن كثب بكبار أساتذة القصة القصيرة العرب والأجانب، وسمع تقييماً من كبار الأساتذة لإنتاجه القصصي المترجم إلى اللغة الروسية. وكان يحب في بداية حياته القصصية تشيخوف، ويوسف إدريس، وحنا مينة، وغيرهم، إلى درجة الجنون. ورغم ذلك، لم يقع كغيره من الناشئين في شبكة التقليد والمحاكاة. وظل يكتب على سجيته دون التفات إلى حصيلته الثقافية"(5).

 إنّ للرواية العربية أصلاً عربياً لا يبدو مع حكايات ألف ليلة  وليلة  فحسب بل يمتد إلى كثير من السرديات العربية التي تشكل مرجعاً لهذا الفن

ورواية "يموتون غرباء" أول عمل روائي في اليمن تحقق له من آليات الفن السردي ما يجعله ينتمي إلى عالم الرواية في إطارها العربي الحديث بجدارة. ومن الواضح أن محمد عبدالولي صاحب هذا العمل الروائي البديع، كان قد بدأ كاتباً للقصة القصيرة، ولم يتجه إلى كتابة الرواية إلاَّ بعد أن نضج وعيه بعالمها الجميل. وقد اختطفته المنية بعد أن أنجز كتابة روايته الأولى هذه، وشرع في كتابة روايته الثانية "صنعاء مدينة مفتوحة"، تلك التي لم يمهله القدر لاستكمال كتابتها، وقد تم نشرها عن «دار العودة» في بيروت، وأعيد نشرها في أعماله الكاملة عن الدار نفسها. و"يموتون غرباء" هي رواية الهجرة اليمنية، وما يحف بهذه الظاهرة من آثار اجتماعية ونفسية... فهي تقدم صورة عن مئات الآلاف من اليمنيين الذين اضطرتهم ظروف بلادهم في الماضي، عندما كانت خاضعة للطغيان والاحتلال، إلى الهجرة. وكانت الحبشة والصومال والسودان هي أكثر مواطن الهجرة، لقربها من بلاده اليمن، لا يفصلها عنها سوى البحر الأحمر. و"عبده سعيد" بطل رواية "يموتون غرباء" مهاجر يمني مقيم في العاصمة الأثيوبية "أديس أبابا"، وصاحب دكان صغير في إحدى حارات هذه المدينة. إن حيز المكان في الرواية لا يتعدى حدود هذا الدكان، وأهم أحداثها تدور حول "عبده سعيد" وحياته المحصورة في هذا المكان الضيق، لكنها (أي الرواية) تفتح أبوابها ونوافذها لاستقبال أخيلة " "عبده سعيد" وتأملاته، وحنينه اللاهب إلى وطنه، وإلى قريته التي غادرها في مطلع شبابه، على أمل أن يعود إليها بعد أن تكون أسباب الهجرة قد انتهت؛ غير أن ذلك الأمل لم يتحقق، ومات "عبده سعيد" بعيداً عن وطنه وقريته، وعلى قبره وقف جماعة من اليمنيين يتحدثون بحسرة، ومما قاله أحدهم: «أنت تعرف أنه مات، ولم يترك شيئاً طيباً في حياته سوى الآلام.. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة، وابن لم يعرفه.. وأرض لم يقدم لها أي قطرة من دمه... لقد مات غريباً كما يموت مئات اليمنيين في كل أنحاء الأرض، يعيشون ويموتون غرباء دون أن يعرفوا أرضاً صلبة يقفون عليها.. أما هذا القبر، فهو ليس قبره، إنها ليست أرضه وليست أرضنا، إنها قبور أناس آخرين.. قبور الأحباش نحتلها نحن، ألا يكفي أن نلتهم اللقمة من أفواههم لنلتهم حتى قبورهم؟! يا إلهي! كم نحن غرباء! كم نحن غرباء!"(6).

وإذا كان محمد عبدالولي قد فرض ريادته في عالم القصة والرواية في اليمن، فإن زيد مطيع دماج، يعد –في ساحة السرد القصصي والروائي- الأقرب إلى نهجه والتواصل في تطوير مساره التجديدي، وروايته "الرهينة" (1986) شكّلت منجزاً روائياً متقدماً في لغتها، وفي مستوياتها السردية ورموزها، وهي الخطوة اللاحقة في النضج والاكتمال بعد "يموتون غرباء" لـ محمد عبدالولي، من حيث التقنية الروائية، وصفاء اللغة والدقة في صياغة الواقع بشفافية وبساطة غير مفتعلة. ولهذه الأسباب لقيت اهتماماً واسعاً في الوسط المحلي وعلى الصعيدين العربي والعالمي، وتمت ترجمتها إلى عدد من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهندية. تعالج هذه الرواية في موضوعها حقبة بالغة الأهمية من تاريخ اليمن قبل أن يقوم بثورته الأولى المسماة بالدستورية، وهي الحقبة التي اشتدّ فيها نظام الرهائن، وصار علامة مميزة وصارخة للعهد الإمامي المتوكلي. ومن هنا اختار المؤلف بطل روايته واحداً من هؤلاء الرهائن الذين يتم انتزاعهم من أحضان والديهم، وإلقاؤهم في السجون لإثبات ولاء العائلة للإمام، وعدم الخروج عن طاعته. وكان أفراد الأسرة الحاكمة يختارون الأذكياء من بين هؤلاء الرهائن للخدمة في القصور ونقل الرسائل من وإلى هذه القصور، المحاطة بالأسوار والجنود، والتي لم يكن يسمح لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها إلاَّ بإذن. ويكون الرهينة، الذي يتحول اسمه داخل هذه القصور وخارجها إلى "الدويدار"، ممن لم يتجاوز في السن مرحلة البلوغ، مع أن التأكد من ذلك في بلد خالٍ من نظام التسجيل المدني للمواليد، يبدو مستحيلاً.

الرواية إذاً، تغوص في عالم القصور الملكية، وتنقل بواقعية لا تخلو من سطوة الخيال، ما كان يدور في قصر الإمام وقصور حاشيته، وما كانت تعاني منه الحريم من قسوة وحرمان وحنين حقيقي إلى الحرية، التي تتمكن معها تلك الطيور البشرية الأسيرة من الفكاك والانطلاق خارج الأسوار، لتعيش كما يعيش بقية الخلق في حرية وأمان من المجهول، وذلك ما كانت ترفضه تقاليد القصور بتشدد عنيد، وكان خروج النسوة من قصر إلى آخر لا يتم إلاَّ في مناسبات متباعدة، وتحت حراسة مشددة وعلى سيارة البريد.

 "الرهينة" (1986) شكّلت منجزاً روائياً متقدماً في لغتها، وفي مستوياتها السردية ورموزها

"كانت سيارة البريد مغطاة من الأمام بقفص خاص بالسائق وراكب بجواره فقط. أما من الخلف الواسع فقد كانت مغطاة بقماش خشن رمادي اللون تتخلله من جانبيه بعض نوافذ بلاستيكية صغيرة معتمة لا تسمح للضوء بالدخول بعامل تقادم الزمن! وكانت الفتحة الخلفية للسيارة هي التي سيدخل منها النسوة، وعلى إسدالها بعد ذلك كان السائق عجولاً يحث بواسطة بوق سيارته الجميع للصعود، وقد ركب بجواره في مقدمة السيارة أحد الخاصة من رجال النائب الذين يثق بهم ويركن إليهم في المحافظة على نسوة القصر!"(7).

و«زيد» في روايته كما في قصصه القصيرة يجيد رسم شخصياته بعمق يبعث على الإعجاب. ولأني زاملته طويلاً فقد كشفت بعضاً من أسرار تجربته في رسم الشخصيات؛ فقد كان يُمضي كثيراً من الوقت الذي يقضيه مع الزملاء في جلساتهم اليومية في قراءة الوجوه والملامح المميزة، وكان يتوقف عند بعض ملامح الغضب أو الرضا في هذه الوجوه لالتقاط صور معينة تكون نموذجاً ما لتجربة إبداعية قادمة له.

وتبقى الإشارة إلى أن زيد مطيع دماج، كرفيقه محمد عبد الولي، جاء إلى الرواية من عالم القصة القصيرة، وبعد أن كان قد أنجز مجموعتين قصصيتين من مجموع خمس مجموعات قصصية هي "طاهش الحوبان"، و"العقرب" و"الجسر"، و"أحلام البنت مياسة" و"المدفع الأصفر". ولكنه مثل رفيقه –يا للآسف!- غادر الحياة قبل أن يستكمل مشروع روايته الثانية التي بقيت حتى الآن غير مكتملة وغير منشورة.

 

الاتجاه الأحدث

إن ما ندعوه بالاتجاه الأحدث في الكتابة الروائية، هو هذا التيار المتمرد الذي أخذ على عاتقه التحرر نهائياً من قبضة الأسلوب الروائي التقليدي الذي يعتمد الخطاب الحكائي ويفرض للعمل السردي بداية ووسطاً ونهاية. وفي مناخ التطور الإبداعي الذي يواكب التبدلات والمتغيرات الثقافية الراهنة تشهد النصوص المسرودة تحولاً جوهرياً في الشكل كما في المضمون، ويواصل التيار التحديثي في الرواية العربية تمرده من خلال تجاوزه لما أسميناه بالاتجاه التجديدي ويحاول الابتعاد عن رسم الشخصيات وتنامي أدوراها داخل إطار زمني ومكاني محددين. إنه باختصار شديد تيار يبحث أو بالأصح يؤسس كتابة سردية فنية منغلقة داخل نظام مفتوح على التداعيات الحرة إذا جاز التعبير. وبعض نماذج سردية من أعمال هذا التيار التحديثي لا تشكل صدمة للذائقة السائدة فحسب، وإنما تشكل كذلك صدمة للذاكرة التي اعتادت على الرواية في صورتها الواقعية التقليدية. والقليل من هذه النماذج تقدم أعمالاً فائقة تصل بالقارئ من خلال تحررها في التعامل مع المكان والزمان والأشياء إلى أقصى آفاق المتعة.

في دنيا الرواية، كما في دنيا الشعر تماماً، ما يزال هناك من يعتبر الحداثة هرطقة وتلفيقاً وخروجاً عن المألوف، وكأنَّ أشكال الإبداع تسير على خط مستقيم إذا تجاوزته أفسدت معناه ومبناه. لكن من حسن الحظ أن المبدعين، وأقصد هنا المبدعين الحقيقيين، لا يتوقفون كثيراً عند تلك الأقاويل، ويظلون في حالة جهاد مستمر في التجاوز ومحاربة النمطية، وتؤكد الإنجازات الجديدة المتلاحقة صواب ما يفعلون، سواءً أكان ذلك على مستوى الشعر أم الرواية أم أي فن آخر. وفي عالم الحداثة وما بعد الحداثة يحق للمبدع أن يوظف إمكاناته اللغوية وخياله الراقي في صياغة ما يشاء، سيما في دنيا العمل السردي بما يمتلكه من حرية لا حدود لها. وأهمية الحداثة، المتوازنة منها بخاصة، أنها تسعى إلى إلغاء التوجه نحو الماضي، وتتجه نحو المستقبل. وهذا ما حاول الروائيون الجدد عمله بتفاوت في درجات النجاح والإخفاق.

وفي اليمن كما في غيره من الأقطار العربية تتحرك المحاولات وتقدم نماذجها المثيرة للجدل. وبين يدي الآن نماذج أربعة لروايات تنتمي إلى أنساق الحداثة في صورتها المتوازنة حيناً والمخاتلة حيناً، وكلها تعبر عن ظمأ لا محدود للخروج بشكل جديد للرواية، من خلال اقتراح تقنية تبدو لأول وهلة مفككة وغامضة، لكنها ما تلبث أن تتوضح وتلين من خلال احتفائها بالأشياء، وبالبشر، وبالمكان والزمان، من منظور مغاير لما كان الأمر عليه في الرواية التقليدية أو الجديدة. ويتجلى هذا الاتجاه أو المنحى عبر أعمال لثلاثة روائيين وروائية، وهم كما سبقت الإشارة: حبيب سروري، محمد عبدالوكيل جازم، سمير عبدالفتاح، وهند هيثم.

لحبيب سروري روايتان: "الملكة المغدورة"، و"دملان". الرواية الأولى ظهرت أولاً بالفرنسية، ثم ترجمت إلى العربية. في حين أن الرواية الثانية مكتوبة بالعربية، وهي الأهم في إنتاج هذا الروائي حتى الآن، وفيها يتماهى الشكل بالمضمون من ناحية، ويتشابك الواقعي بالتخيلي والأسطوري من ناحية أخرى، ويأخذ السرد كما الحوار حظه الوافر من التركيز والتكثيف، ومن تأدية المعنى المطلوب بأقل قدر من الكلمات والتعابير بلا زيادة ولا نقصان؛ فضلاً عن أن اللغة، وهي الأساس في مشروع الحداثة الروائية، تتحرر من البلاغة التقليدية، وتعود إلى ذاتها. لقد أدرك حبيب سروري، بوصفه عالماً في الرياضيات، كيف يؤسس لمنطلق نظري إبداعي، يساعده على توجيه مسار كتابته السردية، وتطوير مسار شخصياته الروائية سواءً في بُعدها الواقعي أم في بُعدها الأسطوري المتخيل. وهنا ميزة أخرى تحسب لهذا.

وكنت قد تناولت هذا العمل الإبداعي الروائي في قراءتين متتابعتين، جاء في إحداهما أن الرواية تتألف من ثلاثة أجزاء: الأول بعنوان "دغبوس"، وهو الشارع العدني الذي نشأ فيه الراوي، وفيه لن يستبعد القارئ حين يقرأ الرواية، أنه هو المؤلف نفسه. أما الجزء الثاني، فقد جاء بعنوان "سانت مالو" اسم المدينة الفرنسية التي استأثرت بحب هذا الروائي، ووجد فيها ما لم يجده في غيرها من المدن الفرنسية. والجزء الثالث من الرواية كان عنوانه "علبة السردين"، ويتمحور فيه الحديث عن صنعاء عاصمة اليمن الموحد. ومن هذه الأجزاء الثلاثة رغم ما يشي به التقسيم من ائتلاف بنائي متين، وقاسم مشترك يربط بين الأجزاء الثلاثة برباط وثيق من التداعيات وتشابك الأحداث، يقدم حبيب سروري الرواية بعبارة قصيرة جداً مستعارة من ألبرت آينشتاين، عالم الذرة المشهور. تقول العبارة: "الخيال أهم من المعرفة". وأزعم أن هذه العبارة كانت دليل هذا الروائي المبدع إلى الكتابة الإبداعية، وهو الباحث المنغمس في عالم الرياضيات والفيزياء. كما أن هذه العبارة، التي تختزل الصلة بين العلم والفن، وتحاول تفسير العلاقة بين الخيال والمعرفة وترسم ملامحها، تؤكد أن انبثاق المعرفة في عقل العالم تتضافر مع ارتعاشة الخيال في وجدان المبدع. وأعترف أن تناول هذا العمل البديع والمهم في حيز ضيق كهذا، يُعدُّ من باب الإخبار أو التعريف ليس إلاَّ، وبأن عملاً روائياً عالياً كهذا في طريقه لكي يأخذ مكانه في دنيا الإبداع.

قد تكون الصفحة الأولى وصفاً أو ثرثرة لغوية عذبة، وقد تضع القارئ وجهاً لوجه مع الحدث أو مجموعة الأحداث التي يتضمنها عملها الإبداعي المثير للدهشة

وعلى هذا النحو يمكن القول إن "دملان" رواية آسرة بكل ما للكلمة من معنى، تقوم بنيتها الخارجية على شكل رحلات، أو يوميات أو مذكرات، وهي حقول متنوعة من السيرة الروائية. وباختصار شديد، هي سجل حافل بما يثير ويُفتن من البحث عن البهجة المفقودة. ففي ماضي الكاتب وحاضره حكايات كثيرة يربطها خيط روائي دقيق، والمدن مكان هذه الحكايات وعتبات بحثها، ولن نطيل الوقوف عندها جميعاً، بل نكتفي بالإشارة إلى مدينتين، فقط هما: "سانت مالو" و صنعاء". المدينة الأولى التي يتحدث عنها الروائي في سياق التداعيات التي يمسك بعضها برقاب بعض، ويصفها بقوله: "سانت مالو، مدينة جذابة تضطجع على شواطئ الزمرد في أطراف شمال غرب فرنسا، تواجه شواطئ الغرب القصية: شواطئ كندا وأمريكا، أمامها في الجزء الآخر من الأطلسي "كييل" الكندية التي بُنيت لتكون مرآتها وتوأمها الجمالي في "العالم الجديد". "سانت مالو" مدينة ولدت في البحر وإلى البحر، منها انطلقت سفن قراصنة القرون العتيدة، مكتشفي كندا، محاربي البحار، وتجار الطرق البحرية البعيدة"(8).

تجدر الإشارة هنا، إلى أن حديث الروائي عن هذه المدينة لا يأتي لذاتها، ولا لجمالها ودورها في إيصال الفرنسيين إلى كندا فحسب؛ بل يأتي كذلك في سياق ربط النص الروائي بما سبق من أحداث وما سيلحق به، ولأن في هذه المدينة الفرنسية النائية شارعاً يحمل اسم "المخا" المدينة اليمنية البحرية المندثرة التي حوَّلها الإهمال إلى أطلال.

يعود الروائي، أو الراوي، لا فرق، بعد رحلة طويلة في فرنسا ومدنها، إلى وطنه؛ ليكتشف روح مدنها، وما اندثر منها وما لا يزال يقاوم الاندثار، ومنها صنعاء القديمة بخاصة، وهي واحدة من المدن المدهشة بحضورها التاريخي، والتي توشك أن تتحول هي الأخرى إلى أطلال وخرائب، إن لم تتداركها رحمة الله، واهتمام العالم بها. "صنعاء القديمة في الساعات المتأخرة من الليل عالم نادر بحد ذاته، شديد السيريالية. تختلف كثيراً عن صنعاء النهار وبداية المساء، تشبه من ناحية "المعجزات" في رواية "أحدب نوتردام"... صنعاء القديمة ساحرة جداً عندما تدثرها ظلمات الليل. في "قمرياتها الصنعانية" ألوان ليلية رومانسية تحملك عشرة قرون إلى الخلف، إلى ليالي ألف ليلة وليلة مباشرة. تذهلك صنعاء القديمة كل مساء بعبارة عميقة تسمعها من وجه يختفي في لمحة بصر لكنها تظل ملتصقة بذهنك مدى العمر"(9).

ليست هذه الرواية التي أطلت امتداحها مجرد وصف لمرئيات المدن ومشاهدها –كما قد يتوهم القارئ- أو تذكارات لأماكن وأزمنة تولت، وإنما هي بالإضافة إلى كل ذلك حشد هائل من الأحداث الغرائبية، التي يرتقي بعضها إلى درجة الأساطير، أو تفوقها إثارة وإدهاشاً. وفيها (أي الرواية) مواقف ساخنة مع النساء، سواءً تلك التي أجاد الخيال رسمها أم تلك التي أحسن الواقع صنعها.

"تمنيت أن أفتتح حياتي مع تيماء بإحدى هاتين البدايتين، لم أعرف كيف أُفَضِّلُ إحداهما على الأخرى، لاسيّما أنَّ اختيار إحداهما يعني إلغاء الأخرى تماماً.. لم ينقصني إلا رؤية تيماء فقط! تيماء التي طال انتظاري لها، صار قاتلاً. إلهي! كيف لي أن أراها؟ كيف لي أن ألمسها؟ أين هي؟... أريدها أمامي عارية كالواقع، متفجِّرة كينبوع. صرت أبحث عنها نصف مجنون، أتوسلها بالتجلي، بالحضور... سأجدها قريباً، سأراها، ستجيء حقاً، هي نفسها كما حلمتُ بها، كما رسمتها في خيالي"(10).

أما رواية "نهايات قمحية" (2003) فهي واحدة من الروايات الجديدة الآسرة في سردها وتقنيتها الفنية، كما في لغتها ذات الحساسية الشعرية. ومؤلفها محمد عبدالوكيل جازم، قاص وروائي شاب في مقتبل العمر، تسكنه هموم إبداعية مغايرة لتلك التي كانت تسكن الأجيال السابقة، ويتمتع بقدر عالٍ من الوعي الروائي إذا جاز التعبير. وقبل أن ندلف إلى الرواية يطالعنا هذا المقتطف: "هي سيرة مبتسرة من ذاكرة طيور غبشية أحاطت بحقول القمح باكراً". السؤال الذي يبرز أمامنا من قراءة هذا المقطع هو: هل يحيل هذا السياق إلى شيء كاشف عن شخوص الرواية وعنوانها، يستطيع أن يهتدي إليه القارئ؟ أظن أن الإجابة على هذا السؤال بـ "لا" ستكون أقرب إلى الحقيقة من الإجابة بـ "نعم"، لكن ربما تكشفت بعض دلالات هذا المقتطف بعد أن يكون القارئ قد أوغل في قراءة الرواية، أو ربما بعد أن يكون قد انتهى من قراءتها كاملة.

الرواية واحدة من سلسلة روايات وقصص قصيرة، تتناول واقع الثورة اليمنية وهمومها، وما أحاط بها من مؤامرات واضحة وخفية، ليس من منظور تاريخي أو توثيقي، وإنما من منظور فني وإبداعي مختلف، تقوم فيه التقنية الحديثة بالتضافر مع اللغة الفنية بدور، يجعل القارئ يغوص في عوالم شتى من الانفعالات والتفاصيل البالغة الإثارة والجمال. هناك مجموعة شخصيات يدور الفعل الروائي حولها بطريقة غير مباشرة، وهم خمسة طلاب يمنيين كانوا يتلقون الدراسة في الصين الشعبية، ولسوء حظهم لم يكونوا على دراية تامة بتقاليد الصينيين واحترامهم للعمل، وتقديرهم أو بالأرجح تقديسهم لحبة الأرز التي تشكل الغذاء الرئيس لهذا الشعب من آلاف السنين. ولهذا الخطأ وحده تم طردهم من الصين، وإعادتهم إلى بلادهم قبل أن يكملوا دراستهم، وربما قبل أن يبدأوها.

- «لماذا طردوكم؟

- لأننا عينة من شعب مستهتر.

- إن الشعب الذي أقام ثورة في واحدة من أكثر بلدان العالم حزناً، هذا الشعب لا يمكن أن يكون مستهتراً وأنت أحد رموزه.

- ولكنا أهدرنا طعامهم.. كان أكثر الأرز الذي نأكله لا يذهب إلى بطوننا، لكنه يذهب إلى الأرض.. هم لا يهدرون حبة أرز ونحن أهدرنا خمسة شوالات»(11).

كان هذا الخطأ أو بالأصح ذلك الاستهتار كافياً لأن يقذف بهم إلى البحر، ومنه إلى عدن ثم صنعاء. وقد جاءت عودتهم في الوقت المناسب ليقوم كل واحد منهم بدوره في الدفاع عن الثورة، والوقوف في وجه أعدائها الكثر. وإذا عدنا إلى البداية، إلى الصفحة الأولى من الرواية يصور لنا الراوي ظروف هؤلاء الخمسة: «كانوا خمسة وليس سوى الخيبة سادسهم.. أغمض البحر عيونه، وقذف بهم هكذا... معفرين في مرافئ عدن... منبوذين من أضواء العالم.. ملفوفين بأوراق الوجوم الصاخب... كانوا يشبهون الأرواح البيضاء المنكسرة، فقد هبطوا للتو كرذاذات البحر المصطدمة بصخرة الألوان الخبيئة في الفضاءات.. أخرجتهم «الصين الشعبية» بصفعة واحدة.. بصفعة واحدة عبر المحيط الهندي، والبحر العربي وخليج عدن، كل ذلك بضربة واحدة... طائشة... مثخنة بسحب مكفهرة... وعاقرة.. أسابيع كثيرة مرت وهم يلعقون ظلالاً متداخلة.. يقسمون بينهم أشجاناً متوهجة أكلها إعصار الخوف وهو يعبر بهم واحداً.. واحداً.. في بلاد غريبة يشاهدون مناطيدها اليومية لأول مرة.. ولأول مرة يشاهدون الرجال المقنعين بمجسمات بلاستيكية تحمل وجوه تنانين وأسود ونمور وأفاعٍ تتلوى في الهواء.. لأول مرة يشاهدون الشوارع الفسيحة الغارقة في الأضواء، والنساء العابرات بأثداء بازغة كالحلم وأثواب زرقاء مليئة بساعات العمل.. لم يكن يخطر على بالهم أنهم سيقرأون مذكرة مليئة بأحرف صينية محلقة كتصاوير الشياطين.. تلك المذكرة الرسمية الممهورة بوجه تنين ملتهبة والتي فهموا من تهدلاتها، وتوهج نبراتها «إنهم مطرودون من الصين الشعبية»(12).

تلك هي البداية، وذلك هو المدخل الاستهلالي إلى رواية يلعب فيها الواقع دوراً والخيال دوراً آخر، وتتحرك بين سطورها شخوص الطلاب الخمسة المطرودين من الصين، تبدو أحياناً غامضة لوضوحها وأحياناً واضحة لغموضها، منصور مقبل، أحمد المبردن، سعيد المفتاح، عمار الأبيض، وأنعم الحالس؛ فضلاً عن الشخوص النسوية: شريفة، وصفية، وسارة، وصباح، والأخيرة تبدو العلاقة بها أشد غموضاً، وتلوح في أحايين كثيرة كرمز، أو كمعادل موضوعي لليمن أو للثورة. يمتلك الروائي محمد عبدالوكيل جازم، لغة بديعة، وصفاء مخيلة عالية، تجعله يبت أشجانه وحنينه وانفعالاته في مقاطع شعرية تتخلل النص الروائي، دون أن تربكه أو تقاوم التماهي معه:

«تشكلت صنعاء من هالة ضوئية

عند بدء الخليقة

وفجأة نطّتْ إلى أعالي الشموس،

 وعلى حواف طينها

تناثرت قبلات الملائكة

تفاعلت كتلة ماء × كتلة حرارة عالية ×

انتشاء حكمة الملائكة

امتدَّ الانصهار إلى فوهة المكتمل

وتقطر

تقطر

تقطر

حتى صارت صنعاء

كما عرفها التاريخ»(13).

تلك هي صنعاء كما جاء وصفها على لسان منصور مقبل. أما منصور نفسه، فقد وصفته إحدى النساء العاشقات المتدثرة بالشرشف:

«رجل تشبه عيناه فاتحة القرآن الكريم

من جبينه تمر تجارب علماء الأنسال

حين خلقوا

من الجنات مشاتلَ للورد المبتكر

هو رجل يستلقي وفي فمه شفق أبيض

تلهبه نيران العفة

جفت تقاطيعه على مناديل وردية

من الماء

وجف الليل على سواد شعره

ما أجمله!»(14).

سيفاجأ القارئ بذلك النوع من الحكايات الغريبة التي التقطها الروائي من أفواه العجائز، عن واقع التخلف الذي كان يسود البلاد قبل الثورة، والذي واصل تأثيره المعيق بعد قيامها. ومما التقطته هذه الحكاية:

«مرة أشاعوا في القرى والشعاب أنه شوهدت امرأة تمسك قلماً في محاولة أولية لكتابة الألف، فحكم قاضيهم الشرعي بإقامة حد الزنا عليها، وشاهد الناس جميعاً سياط الرجال تهوي على امرأة مشرشفة بالسواد، وبالمقابل تهوي نفس السياط على «قلم» ما لبث حتى تطايرت أجزاؤه، وتلاشت...»(15).

ومن الروائيين اليمنيين الشبان سمير عبدالفتاح، وهو كاتب مسرحي وكاتب قصة قصيرة بامتياز. ورواية «السيد ميم» (2007)، هي روايته الأولى بعد مجموعتين قصصيتين وعدد من المسرحيات، ولأن الرواية تدور حول كابوس الموت، وهواجسه المرعبة، فقد افتتحها بمقتطف قصير يقول فيه:

«الحياة ليست رواية واحدة، والموت كذلك ليس رواية واحدة»، ثم تبدأ بعد ذلك الرواية:

«نحن نتكلم من أعماقك. الصوت الرتيب عاد يغمرني.. صوت رتيب بارد زلزل جميع أجزاء جسدي، ودفعني لفتح عيني..  ضباب رمادي مزعج غمر كل شيء أمامي ودفعني لإغماض عيني، الصوت الرتيب ارتفع أكثر:

- لقد انتهى كل شيء منذ زمن.. انتهى كل شيء بالنسبة لك منذ زمن ما يأتي الآن مجرد وضع ستارة بيضاء فوق وجهك.. لقد انتهيت.. أنت الآن رقم.. رقم ينتظر فقط أن يوضع في علبة الأرقام المنسية. فتّحت عيني ببطء محاولاً التعرف على صاحب الصوت، نفس الضباب الرمادي المزعج يغمر المكان، لا توجد أي حركة تدل على وجود أحد حولي، فانبعث صوتي متحشرجاً:

- من هناك؟!

فأتى الصوت متعجباً:

- هل نسينا؟!

- من أنتم؟!

- حدق جيداً!

 

فتحت عيني على اتساعهما،

لكن لم أر شيئاً، فعدت أصرخ:

- من أنتم..

 أنا لا أعرفكم؟ من أنتم..؟!»(16).

بهذه البداية الصاعقة والفاتنة في آن، يبدأ سمير عبدالفتاح روايته الموسومة رواية «السيد ميم». وفي ضوء هذا السرد كما في ذاك الحوار المثير، تتجلى سمات الأسلوب لدى هذا الروائي الشاب. وكلما أوغلنا في قراءة الرواية اتضح لنا أكثر فأكثر ما يتمتع به هذا الروائي من اقتدار على امتلاك موضوعه، والسير فيه ببراعة وذكاء شديدين، يجعلان القارئ يتمثل دلالاته وإيحاءاته المختلفة بشيء كثير من القلق والدهشة والإعجاب، فالصوت الحاضر للشخص الغائب يتواصل مع السيد «ميم» بطل الرواية حتى بعد أن خرج من النوم، وطلع ضوء النهار يعلن عن الحياة، فقد غرق في التفكير فيما حدث وشرع في تدوين ما سمع ورأى. «النهار والليل بتمتمتين مختلفتين... أحدهما يقودك للحياة والآخر للموت. كلاهما لديه طريقته المختلفة في التعامل مع الأجساد والأفكار. النهار يمدد الأجسام ويقلص الأفكار، والليل يقلص الأجساد ويمدد الأفكار، كلاهما لديه اهتماماته.. لكنهما لا يكتملان إلاَّ باستجابتك لهما نتيجة تأثيرهما عليك، هو ما يمنحهما حق التوالي عليك كل يوم»(17).

السيد «ميم» يسكن وحيداً في غرفة مستقلة في الطابق الثالث لأحد المنازل، وهو (أي الطابق) يتكون من أربع غرف وحمام ومطبخ مشتركين، في الغرفة المجاورة يسكن «عبده حسن»، وفي الغرفة الثالثة «سعيد»، وفي الرابعة «يحيى». عبده يعمل ممرضاً، وسعيد يحضّر لرسالة الماجستير في الأدب المقارن، ويحيى موظف في الجامعة التي يدرس فيها سعيد. تلك هي الأسرة الغريبة التي فرضت الظروف على السيد «ميم» أن يتعايش معها، وأن يحكي لأفرادها ما ينتابه من كوابيس ليلية تطارده وتؤرق نومه، حتى صارت معاناته جزءاً من معاناتهم. لكن أقرب الناس إلى السيد «ميم» «هاشم» ذلك الذي يعمل حفاراً للقبور ويتولى غسل الموتى. إن كلمات هذا الأخير تتسلل إلى أعماقه وتمنحه الهدوء، وتصور له في بعض الحالات أن في مقدوره أن يلقي القبض على الكابوس، ويسلمه إلى هاشم ليقوم بدفنه إلى الأبد، لكن الكابوس يتكرر بشكل دائم ولا يمل مطاردته والدفع به هو إلى عالم الموت.

السيد «ميم» يعمل في شركة ما، ويواظب على الحضور قبل الآخرين، وله زملاء وزميلات في الشركة، ولكثرة ما يحدثهم عن شبح الكابوس صاروا هم أيضاً يعانون من الكوابيس. أكثر زملائه قرباً إلى نفسه «حميد» الذي يتمتع بثقافة عالية ورؤية واقعية إلى الأمور، والذي يرى بعد أن يطرق معه كل الحلول، أن الموت لا يخيف، وأنه ضرورة لا بد منها للبشر أياً كانت محبتهم أو عشقهم للحياة برغم كوابيسها ومراراتها التي لا تحصى.

«يتأمل حميد نقطة وهمية في الفراغ، ثم يضرب الطاولة بإصبعه، أحياناً، أتخيل أن أحدهم عثر على ذاك السر.. سر الحياة. عثر على إكسير الحياة الدائمة.. ماذا سيحل به؟! سيعيش والأشياء تموت من حوله، يجلس ويتأمل اندثار الآخرين.. هذا مخيف.. الجميع يذهبون عبر البوابة ويتركونه وحيداً في هذا العالم... عندما أصل إلى هذه النقطة أقول لنفسي إن من الجيد فشل محاولات الخلود... فالحياة ستفقد الكثير عندما يختفي الموت.. ستفقد الكثير»(18).

إنها رواية بديعة بكل المقاييس الفنية واللغوية، وهي تُعدُّ رواية الترميز المقنع بذكاء عالٍ، يتقدم سمير عبدالفتاح بها ليتبوأ موقعاً متميزاً في صفوف الجيل الجديد من كتاب الرواية العربية الأحدث.

ومن النماذج الروائية الأحدث التي أخذت تعلن عن حضورها اللافت في اليمن رواية «الأنس والوحشة» (2006) للروائية الشابة هند هيثم. وسأبدأ اللقاء مع هذه الرواية بوقفة مع الصفحة الأولى، بوصفها العتبة التي يدلف منها القارئ إلى بقية الصفحات، لما تمثله من دور الدليل الذي يساعده على الاقتراب من العمل الروائي، أو الانصراف عنه. قد تكون الصفحة الأولى وصفاً أو ثرثرة لغوية عذبة، وقد تضع القارئ وجهاً لوجه مع الحدث أو مجموعة الأحداث التي يتضمنها عملها الإبداعي المثير للدهشة هكذا:

«في صباح صيفي أصفر بهيج. كان الحجاج جالساً في مقهى يبعد عدة شوارع عن قصره. كان غارقاً في بحر لا نهائي من الأفكار المتلاطمة. بصمت الموتى الأبدي كان يأكل دون أن يأبه لصخب بدء الحياة في المكان، لم يكترث للمحتفلين حوله ببدء يوم جديد. لم يلق بالاً إلى ضجة الحياة المبتهجة بانتصارها على الموت الليلي. ناظراً إلى الشارع من النافذة العريضة التي أمامه، لم يرَ غير اكتئابه المتضخم. لم يأبه للوقت، لم يعرف أن هذا اليوم مميز... سحبتْ كرسياً وجلست بجواره.. لم ينتبه لجلوسها.. صباح الخير.. صباح الخير.. رد بميكانيكية دون أن ينظر إليها أو ينتبه إلى تحية الصباح بلغة يألفها...»(19).

ستبدو الرواية للقارئ المتعجل من خلال هذه الصفحة، ومن خلال صفحات أخرى، رواية تاريخية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك. صحيح أنها توظف في رسم أحداثها شخوصاً من التاريخ: الحجاج بن يوسف، عبدالرحمن الداخل، أبا مسلم الخراساني، سيف الدولة، أبا الطيب المتنبي، أبا فراس الحمداني، خولة أخت سيف الدولة، بالإضافة إلى سيبويه، وحافظ الشيرازي، وأبي نواس، ومن العصر الحديث يحضر المغني العالمي «أدل»، والمفكر الرافض عبدالله القصيمي، والسياسي الأفغاني أحمد شاه مسعود. الأسماء حقيقية إذاً، والأحداث متخيلة. والروائية تلعب بالعصور وبالشخصيات كما يريد الخيال، وتأخذ مفاتيح فصول الرواية من أبيات شعرية جاهلية وأموية، وعباسية، ومعاصرة، وتتنقل بالقارئ من البصرة إلى حلب، ومنهما إلى هوليوود، ولندن، وباريس، وماريبا الأسبانية، وأماكن أخرى.

سيدرك القارئ تدريجياً أن الأسماء ليست وحدها التي حضرت في الرواية، وإنما الأفعال والنوازع، كما حضر الشعر واللغة، والرغبة في القسوة والسلطة والاندفاع العارم نحو البحث عن النفوذ. وتلعب الرموز دوراً بالغ الأهمية سواء من خلال الحجاج وأبي مسلم، وغيرهما ممن وجدوا أنفسهم منفيين في شوارع باريس رمزاً للثوريين العرب، الذين يقعون ضحايا اختطاف الآخرين لأدوارهم. ولعل الرمز الأكثر سطوعاً في الرواية هو المتجسد في الصراع داخل الأسرة الحمدانية، والذي يفضح -كرمز- ما يعاني منه العرب من تمزق وشتات وتصفيات متلاحقة، وما يعكس من عواصف سياسية وتدخلات أجنبية تضع الأخ في مواجهة أخيه، والمرأة خصماً لزوجها، والابن عدواً لأبيه.

ليس في الرواية ما يشير لأدنى حد من المباشرة. ومع ذلك فإن القارئ يستطيع بقدر من المتابعة الواعية أن يدرك دلالات هذه الرموز التي لعبت عليها الروائية الشابة، واستخلاص الهدف الحقيقي من الدور، أو الأدوار المثيرة التي تقوم بها الشخوص المستدعاة من أعماق التاريخ، لكي تعيد رسم صورة الواقع العربي الراهن، بما حفل به من جلادين ومتآمرين ومن ضحايا أبرياء. والأهم من كل ذلك هو الرمز العميق والواسع الذي تركزت عليه أحداث الرواية من خلال صراع الحمدانيين والتصفيات البشعة التي ألحقها الخلاف، وما يوحي به هذا الرمز من أثر الاختلاف المدمر على أفراد هذه الأسرة العربية، وما تعكسه معاناتها من صور الواقع الراهن وأبعاده الفاجعة التي تزداد حدة ومرارة مع مرور الأيام.

يطالعنا أبو فراس الحمداني في الرواية، وهو يلقي بيانه الانقلابي في التلفزيون الرسمي للدولة بعد استيلائه على الحكم قائلاً: إن هذا ليس انقلاباً بل انتقال سلمي للسلطة. ويغادر سيف الدولة البلاد ليعيش في بريطانيا على أمل العودة إلى الحكم. وسيلحظ القارئ أن للدور الأجنبي في الانقلابات العربية حضوراً مباشراً عبر الدلالات التي يجسدها رمز «انتوني اندرسون» البريطاني، الذي لم يقبل بأن يذهب سيف الدولة ليعيش في لندن منفياً، وعاجل بقتله خدمة لأبي فراس، كما يقول، حتى لا يعود سيف الدولة من جديد لاستلام السلطة في بلاده، وهو الفارس العربي المشهود له بالوقوف ضد المحاولات الأجنبية للهيمنة على الدولة العربية.

في دنيا الرواية، كما في دنيا الشعر تماماً، ما يزال هناك من يعتبر الحداثة هرطقة وتلفيقاً وخروجاً عن المألوف، وكأن أشكال الإبداع تسير على خط مستقيم إذا تجاوزته أفسدت معناه ومبناه

تتميز هذه الرواية بمجموعة من السمات الفنية، منها نجاحها في كسر خط الترتيب السردي، والتجرد من الترابط المنطقي للأحداث، واستخدامها الناجح لشعرية الموقف، تلك التي تُعدُّ من أهم عناصر شعرية التعبير. والمدهش أن شابة لم تكمل العشرين من عمرها تقتحم عالم سرد جديد، استطاعت أن تعرض خبرة الحياة الطويلة، بما اختزنته حياتها الصغيرة من اطلاع على روائع الأدب العربي والعالمي، ومن وعي مبكر بالهموم التي يعاني منها المجتمع العربي. وإذا ما استمرت في تصاعدها الملحوظ، فإنها ستكون واحدة من أهم الروائيين والروائيات في الوطن العربي. ولعل علاقة التصاعد هذه تجلت من خلال الفارق الكبير بين روايتها الأولى (حرب الخشب) وهذه الرواية، فلم يتمثل هذا التصاعد متجلياً في اللغة والأسلوب فحسب، وإنما كذلك في تقنية السرد والتطوير المغاير في البناء للخروج بشكل غير مألوف، بوصفه بنية تقوم على استخدام ضروب شتى من التخييل والرموز.

ولا أنسى أن أشير هنا إلى أن الأدب الحقيقي هو نتاج إنساني، يشارك في صناعته الرجال والنساء، من منطلق إبداعي لا علاقة له بالذكورة أو الأنوثة، وأن عليهما معاً، الرجل والمرأة، أن يبديا من التعاضد في هذا السبيل ما يكسر الحواجز، تلك التي يسعى البعض بسوء نية إلى إقامتها بين أبناء الجنس الإنساني الواحد.

 

 

الهـــوامـــــــش:

 

(1)        رولان بارت: مدخل إلى التحليل البنيوي. ترجمة: د. منذر عياشي. مركز الإنماء الحضاري، بيروت، ط2- ص7.

(2)        فاروق خورشيد: في الرواية العربية. دار العودة- بيروت- ط2- 1979، ص75.

(3)        د. عبدالحميد إبراهيم: القصة اليمنية المعاصرة، دار العودة،ط1- 1977م. ص149.

(4)        د. حاتم الصكر: «مأساة واق الواق»، مجلة «دراسات يمنية»، صنعاء، العدد 77 إبريل- يونيو 2005، ص27.

(5)        عمر الجاوي: الأعمال الكاملة لمحمد عبدالولي، دار العودة، بيروت1981، المقدمة، ص7.

(6)        المصدر نفسه: ص97.

(7)        زيد مطيع دماج: رواية «الرهينة»: دار رياض الريس. لندن ط3 ص112.

(8)        حبيب سروري: رواية «دملان»، ص171.

(9)        المصدر نفسه: ص355.

(10)      المصدر نفسه: ص240.

(11)      محمد عبدالوكيل جازم: رواية «نهايات قمحية»، إتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين -صنعاء ط1- ص16.

(12)      المصدر نفسه، ص9.

(13)      نفسه، ص98.

(14)      نفسه، ص99.

(15)      نفسه، ص128.

(16)      سمير عبدالفتاح: رواية «السيد ميم»، مركز عبادي للطباعة والنشر- صنعاء، 2007، ص7.

(17)      المصدر نفسه: ص25.

(18)      نفسه، ص116.

(19)      هند هيثم: رواية «الأنس والوحشة» مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر- صنعاء، 2006م، ص7 .