العدد العاشر - ربيع 2010م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

المفارقة في العنوان الشعري عند الشاعر عبد الله هادي سبيت
«الدموع الضاحكة» أنموذجاً (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

د. حفيظة الشيخ
أستاذ الأدب العربي - جامعة عدن

 

يوظف عبد الله هادي سبيت، بوعي منه أو دون وعي، بعضاً من الأساليب السردية الحديثة التي تصل إلى حد الرمز والمفارقة والأسلوب الساخر، واستخدام التذكر والاسترجاع والحوار... وكل ذلك يوضح قدرة الكاتب وموهبته في الانفتاح على فن آخر هو فن القصة.
إن المتمعن في شعر سبيت، لاسيما ديوانه «الدموع الضاحكة» محل المقاربة، يلحظ ولعه بالمفارقة وتوظيفه للمفارقة الموجبة والدالة، بدءاً من العنوان أحياناً مروراً بالموضوعات والصور الوضعية وانتهاءً بالنسيج اللغوي والبناء الفني؛ لذا يمكن القول إن توليد المفارقة في مواضع كثيرة من شعره يعتبر سمة مميزة لصوته الإبداعي، كما ميزته رومانسيته وصوفيته وميله إلى استحضار الطبيعة في نصه الشعري.

ولعل من المفيد الحديث السريع في مطلع هذه الورقة عن المفارقة كمفهوم مجابه، متعدد الصور، وغير مستقر، ومتداخل، وهو مصطلح غربي لم تعرفه العربية ولم يدخل دراساتها إلا من وقت قريب، عبر الترجمة. ويشير بعض الدراسات إلى أن هذا المصطلح ظهر لأول مرة في العالم على يد سقراط، فهو (سقراط) -بحسب كيركيغارد- أستاذ المفارقة بلا منازع. ثم انتقل المصطلح بعد ذلك إلى الدراسات الأوروبية في انجلترا وألمانيا. وكانت الكلمة تأخذ طوابع فلسفية لدى الفلاسفة الأوروبيين، حتى جاء فريدريك شليجل وأدخل مصطلح «المفارقة» إلى مجال الأدب، كما يصرح بذلك رينيه ويليك في كتابه «تاريخ النقد الأدبي». وكانت المفارقة عند شليجل تعني «شكلاً من النقيضة، وهي إدراك لحقيقة أن العالم في جوهره ينطوي على تناقض». وهذا الرأي يقودنا إلى محاولة إيجاد تعريف للمفارقة، فمما سبق نجد أن الميزة الأساسية في المفارقة هي التعارض أو التناقض أو التنافر أو التباين بين الحقيقة والمظهر، بمعنى آخر: إن العلاقة بين الظاهر والباطن ليست علاقة تشابه، وأن للمفارقة بنية درامية أو صورة مزدوجة; إنها -كما يرى فريدريك شليجل- «توتر الأضداد». وبإمكاننا بعد قراءة ما سبق أن نفهم أن المفارقة تنفتح على مستويين للمعنى في التعبير الواحد: المستوى السطحي للكلام، والمستوى الكامن الذي لم يعبر عنه ولكن المتلقي يشعر معه بتضارب في الكلام وتلميحات تدفعه إلى تعرية الكامن فيه؛ فهي رفض للمعنى الحرفي للكلام لصالح المعنى الآخر، المعنى الضد الذي لم يعبر عنه.

وتتجلى أهمية المفارقة من كونها جزءاً من بنية الوجود. فـكيركيغارد يرى أن «ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة». وأناتول فرانس يرى أن «عالماً بدون مفارقة يشبه غابة بلا طيور». وأما في عالم الأدب فإن ريتشاردز يرى أن «المفارقة دائماً من الصفات المميزة للشعر الرفيع». وتأتي جماليات المفارقة في التلقي من كونها تنطوي على مبدأ عدم التوقع بين ما يحدث فعلاً وما نتوقعه، أي أن الأحداث والأمور تجري بشكل يخيب توقعاتنا أو خططنا مما يثير فينا الدهشة والتأمل. وتجدر الإشارة إلى أن الأدب العربي القديم عرف هذا النوع من المفارقة تحت مسميات كثيرة: التهكم، السخرية، لطائف القول، المدح بما يشبه الذم والعكس، حسن التعليل، التورية، المجاورة... لكن الأدب العربي والنقد العربي الحديث يأخذ المفارقة -اليوم- كما ظهرت في الشروح والنقود الأوروبية.

المفارقة في العنوان

العنوان في الأعمال الإبداعية، شعراً أو نثراً، وحتى في المقالات الصحفية، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، هو الرسالة الأولى التي يرسلها الكاتب إلى المتلقي. وتلعب لغة العنوان وتركيبته الصوتية والسياقية دوراً فاعلاً في الإيحاء بدلالة النص ومن ثم جذب المتلقي إليه. ومن هنا يمكن القول إن العنوان هو البهو الذي ندلف منه إلى النص.

وإذا ما أردنا التوقف أمام بعض عناوين سبيت لمعرفة دلالاتها المفارقة، سنجد أن الدلالة المسيطرة على العناوين -التي اخترناها من الشعر العاطفي على سبيل المثال وليس الحصر- هي الشكوى من ظلم الحبيب وبعده ونسيانه وتدللـه ولا مبالاته، وهجره أحياناً، وغير ذلك مما يفضي إلى وقوع الشاعر فريسة للحزن والسهد والسهر والاسترسال في الذكريات والتمسك بالمحبوب والوفاء له والصبر عليه، وغير ذلك من الدلالات الصادرة من صميم موقف الشاعر الرومانسي. ويمكننا الوقوف أمام بعض العناوين لقراءتها واستخلاص كوامن المفارقة فيها، لغة ومضموناً; وذلك لأن بعض قصائد سبيت تستهل بعناوين مجابهة وصادمة. فقصيدة «يا حياتي والعدم» ينطوي عنوانها على تضاد في إحساس الشاعر بمن يحبه، فهو الحياة له وهو العدم في آن واحد. وتبدأ المفارقة في هذا النص الشعري من لحظة استخدام الشاعر مفردة «باهجرك» عشرين مرة في هذه القصيدة، وهي مفردة من حيث صيغتها الزمنية تدل على وقوع فعل الهجران في المستقبل، وقد وردت ضمن خطاب عاطفي انفعالي يهدد بتحويل مسار العلاقة الحميمة باتجاه آخر مناقض، ففي حين أن المخاطب (المحبوب) يعني بالنسبة للشاعر كل الحياة والهناء والجنة، وبعدما «الحب زيّد في العلم» إشارة إلى كبر هذه العاطفة وامتدادها في نفس الشاعر، وظهورها واشتهارها، يأتي خيار الهجر كحل نهائي لعلاقة يموت فيها الشاعر ويحيا ألف مرة، فلا هو بالوصل حي ولا بالهجر; لأن في الوصل معاناة، ولأن الهجر لمن كان يعني الحياة للشاعر سيعقبه بكاء مر: «العين باتبكيك دم»، وسيعقبه ندم مميت: «باذوب من بعدك ندم»، وشعور بالوحشة: «كان حبك جنتي بات غاية وحشتي».

ومن هنا كان العنوان معبراًعن حالة التناقض التي سيطرت على الشاعر، وامتدت إلى كامل النص، باعتبار أن العنوان يشكل جزءاً من الدلالة الكلية للنص.

وقد جاءت المفارقة في هذا النص ضمن مجموعة من الصور الشعرية المتخمة بمكابدات الشاعر في حال اختياره الهجر؛ ولكن هذا الخيار يشف من خلال لغته عن معنى آخر مناقض للهجران. والمفارقة بهذا المعنى تكون طريقة في الكتابة ترغب في أن يظل السؤال قائماً عن المعنى المراد من سطح الكلام طالما أن المفارقة قول شيء والإيحاء بنقيضه.

وأما العنوان: «ألا لما متى يبعد وهو مني قريب؟» فإنه بتركيبته السياقية المشتملة على «ألا» الاستفتاحية وصيغة السؤال: «لما متى يبعد؟» (أي: إلى متى؟)، فإنه يكشف عن حالة من الدهشة والاستغراب أصابت الشاعر لاختيار صاحبته البعد عنه اعتقاداً منها أن في البعد خلاصاً من حالة العشق التي تجمعهما، في حين أن البعد لا يعني بالنسبة للشاعر إلا الاقتراب والالتصاق الأكثر بالمحبوبة. وهنا تكمن المفارقة؛ فالبعد لا ينسيه إياها، بل إنه يهيج الذكرى ويلهب خيال الشاعر، حيث يتجسد أمامه شخصها وهيئتها بكل ما تنطوي عليها من صفات أنثوية جمالية، فكأنه يراها أمامه رأي العيان: «شفته شوف قدامي»، «شفته من بين الدموع»، مما يجعلها «بعيد عني وهو أقرب» على حد تعبيره.

ويذكرنا عنوان: «ريت الهوى بالسوية» بقول المتنبي في خلافه مع سيف الدولة: «لو كان يجمعنا حب لغرته... فليت أنَّا بقدر الحب نقتسم»؛ فهذا العنوان ينطوي على مفارقة يحسها الشاعر المحب المخلص، والذي لم يجازَ على صدقه وحبه وإخلاصه بالمثل، ففي الوقت الذي أسلم فيه أمره للحبيب: «لحكم الغرام سلمت روحي وقلبي هدية»، وفارق الأهل والمحبين لأجله: «منعت الكلام حرمت أهلي ومن كان ليَه»، وجعله وساماً على صدره يتحدى به العالم: «فعلتك وسام جاكرت بك كل هذي البرية»، وتحول إلى سلاح بيده يستخدمه في الشدائد: «أنا لك حسام دايم بيدك لكم من عَجية»؛ لم يجد من هذا الحبيب إلا الظلم والخصام والجراح والانتقام والسقم ومزيداً من الهيام تحولت معه حياة الشاعر إلى ظلام.

وهنا يكون الإحساس بالتباين الشديد بين عواطفه وعواطف محبوبته قد أثار في نفسه شعوراً بالظلم وغياب العدل، وهو شعور جعله يتمنى أن يكون نصيبه في الحب نصيباً عادلاً يتساوى فيه مع من أخلص له. وتكمن المفارقة هنا بين ما كان يأمله الشاعر ويتمناه بل ويتوقعه، وبين ما حدث فعلاً وهو مخالف تماماً لتوقعاته. وهذا هو أهم مبدأ تقوم عليه المفارقة.

ويجبهنا عنوان آخر هو: «آسري ربي يصونه»، وهو عنوان خبري؛ أي: مكون من مبتدأ (آسري) وخبره الجملة الفعلية (ربي يصونه). وبإضافة اسم الفاعل (آسر) إلى «ياء المتكلم» يكتسب الخبر خصوصية ذاتية، خصوصية الامتلاك؛ فهذه المرأةالمحبوبة «آسرته». وبدلاً من أن يكون «الأسر» فعلاً أو حدثاً يخص الفاعل ويمتلكه، غدا المفعول به، أو من وقع عليه الأسر، هو صاحب الحال، فاستحالت المرأة وفعلها إلى شيء يخص الشاعر، المتكلم ويجهر باستحواذه (آسري). ليس هذا فحسب، وإنما تأتي أيضاً جملة الخبر بصورة دعائية (ربي يصونه)، حيث لا يكتفي الشاعر بكونه أسير هذه المرأة، وإنما هو يدعو الله أن يصونها ويحميها. وتظهر هذه الجملة الخبرية (جملة العنوان) ممتزجة بروح المفارقة، حيث المتوقع أن يتذمر المرء من الأسر ولا يفخر به ولا ينسبه أو ينتسب إليه، وأن يحمل الأسير مشاعر الحقد والكره لمن يأسره. لكن ما حدث خلاف هذا التوقع، وإذا بنا أمام شاعر يتغنى بأسره طالما أن محبوبته تمارسه عليه، بل ويدعو الله أن يصونها ويحميها: «آسري ربي يصونه، جنبه من كل شر، ثبته قَوَّى حصونه، آسري ربي يزينه، جنبه شر الحسود». يقول الشاعر هذا بالرغم من علمه أن «آسره» يمارس فعل البطش على كل الناس: «حط في قلعة جفونه سهم ما يخطي بشر، يا عيونه يا عيونه ارحمي هذا البشر». ويبرر الشاعر «لآسره» ممارساته الباطشة، في حقه وحق الناس، بما حباه الله من أسلحة فتاكة، فهو ذو قامة ممتلئة وهو ظبي الفلا، وبه خفة، ومبسمه خمري، والقمر طلعة جبينه، ويتمتع باللطف والظرف... وغير ذلك من الصفات الجمالية التي تحيل فعل الأسر والظلم والقهر وحظر الحرية والقسوة من قبل الآسر إلى إنصاف ورأفة في نظر الشاعر (ظالمي ما أنصفه! ما أجلفه! ما أرأفه!..). وواضح جداً تجاور المتنافرات في هذا النص، الظلم والإنصاف، الجلافة والرأفة. وتجاور الأشياء المتنافرة  هو جزء من طبيعة الوجود، ناهيك عن أن المفارقة تجعل المتلقي يشعر بتضارب في الكلام وتلميحات تدفعه إلى استكناه الكلام الكامن.

ويسير العنوان: «هاجري آسري» في فلك العنوان السابق، حيث يبدو التضاد واضحاً جلياً؛ فهو «أسير» لشخص «هجره». وتأتي المفارقة من كون «الأسر» مفردة تحيل إلى محدودية الحركة أو المكث الطويل في مكان ما، بينما تحيل مفردة «الهجر» إلى الحركة والابتعاد وترك المكان. وفكرة «التخلي» عن الشاعر الأسير من قبل «آسره» جلية في العنوان. ومع ذلك تتفكك شيفرات النص الداخلية على معنى مضاد، وهو التمسك بالحبيب مقابل تخليه: «هاجري غاية مرادي، ذا مُنى قلبي وسلوة خاطري». ويفسر النص مسألة التمسك بهذا الحبيب والإصرار على الإغراق في محبته من خلال تكرار كلمة «حبه وباحبه» سبع عشرة مرة، ومن خلال قول الشاعر: «لا هرج طرفه فؤادي ترجمان»، وفي موقع آخر «دوب قلبي جنب قلبه، لا رجف هذا مسى ذا في لبيح». ولا يخفى ما في هذه التعبيرات من إحساس بالتواصل والتوحد والتماهي مع الآسر الهاجر.

ومما تقدم رأينا كيف أن العنوان في بعض قصائد سبيت يحمل في ذاته مفارقة، لكنها تنسجم وتتساوق مع دلالات النص الداخلية، التي تنطوي على مفارقات تثير دهشة القارئ وتدعوه إلى التأمل.

ولا تفوتني الإشارة هنا إلى أن ديوان «الدموع الضاحكة» يختزل الكثير من فن المفارقة التي لا تصدر إلا عن ذهن متوقد ووعي شديد للذات بما حولها. كما أنه (أي عنوان الديوان) عنوان مفارقاتيٌّ يعبر عن شاعر وقع ضحية لمفارقات عديدة، فبدت صورته في الديوان ضحية بريئة غير محصنة، معرضة للظلم ممن هو أقوى منها، أو مسلمة أمرها له، وهذا ما يجعل المفارقة تنطوي على المضحك المبكي في آنٍ معاً.