العدد العاشر - ربيع 2010م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

 "شيء بسيط".. هو كل شيء دمّر حياتنا ووجودنا وبلادنا
تحليل مسرحية «الشيء» للمبدع شاكر خصباك
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

حسين سرمك حسن
ناقد من العراق  

 

صراع الفرد مع السلطة، هو صراع الذاكرة مع النسيان.

                                        ميلان كونديرا

ملوّحين بأسلحتنا الحمراء فوق رؤوسنا، لنصرخ جميعا: سلام، حرية، تحرر

                                             شكسبير

على الرغم من تقديمنا الطعام إلى الذئب، فإنه ينظر دائما شطر الغابة.

                                             تورجنيف

 

كتب المبدع الكبير شاكر خصباك مسرحيته: «الشيء»(1) في عام 1966، وقد قال عنها المبدع الراحل عبد المجيد لطفي عام 1972: «إن مسرحية «الشيء» عمل وثائقي كبير لا يُلهم به إلا رجل حساس نبيل إلى جانب كونه أديبا وفنانا. ولقد ظننت قبل أن أقرأ مسرحية «الشيء» أننا لم نخرج ولو بكسب جزئي للأدب من خلال تلك المعارك الوطنية ومن هذه الردة المأساة. إنني أقول جادا وغير مجامل إن مسرحية «الشيء» إدانة صارخة ليس لليوم ولا لغد قريب، وإنما إدانة تلقى البرابرة وحملة الأحقاد أجيالا. فلقد ضمت المسرحية أكثر الوجوه الوطنية نبلا وبراءة، وأثقف من في البلد من عقول ومواهب وبسالة. ولا أعتقد إلى هذه اللحظة أن كاتبا كتب شيئا من وحي آلام تلك المرحلة السوداء ما يوازي دقة وحرارة وجمال مسرحية «الشيء»».

وارتباطا بوجهة نظر عبد المجيد لطفي فإن من الظواهر الغريبة في الأدب العراقي ندرة النصوص التي تتناول محنة السجن السياسي، رغم أنه البلد الأكثر إيغالا في هذا الموضوع عبر تاريخه المديد، بل إن العراق بأكمله كان يوصف في بعض المراحل من تاريخه المعاصر بأنه عبارة عن سجن كبير. وإذا عدنا إلى تاريخ كتابة شاكر خصباك لمسرحيته هذه (1966) فسينتزع هذا المبدع -عن استحقاق وجدارة- الريادة في مجال أدب السجون السياسي في الأدب العراقي، يليه المبدع فاضل العزاوي في روايته «القلعة الخامسة» (1972)، ثم المبدع يوسف الصائغ في روايته «المسافة» (1974). وعن هذه المسرحية أيضاً قالت المستشرقة الإسبانية روزاريو ريكو، في حديث لمجلة «ألف باء» العراقية عام 1982: «في رأيي أن مسرحية «الشيء» تقف على صعيد واحد مع كبريات المسرحيات العالمية».

وتتكون المسرحية من ثلاثة فصول، تجري أحداثها كلها في «الزنزانة رقمفي المعتقل العسكري. وتتوزع أدوار المسرحية على ست عشرة شخصية أساسية، أربع شخصيات تمثل السلطة الدكتاتورية القمعية الباطشة (الرئيس آمر المعتقل، الملازم، ونائب الضابط، والجندي حارس الزنزانة)، واثنتا عشرة شخصية اختارها الكاتب بذكاء لتمثل الطيف الأوسع الذي يمثل قطاعات المجتمع العرقي؛ ففيها الصحفي والطبيب والمهندس والقاضي وأستاذ الجامعة والضابط والموظف والمصوّر والقصاب والطالب الجامعي والعامل. واختيار هذا الطيف الواسع يبغي إثبات أن السلطة القمعية لا توفر أحدا، وأنها عدوة للجميع ولا ينجو من قبضتها حتى السلطة القضائية التي يفترض أنها تضبط الجانب القانوني العلاقاتي في حياة أي مجتمع، ولا الضابط الذي يشكل ذراعها المسلحة. كما أن زج القصاب في المعتقل، وبسبب تهمة سياسية، يعني أن التذمر الاجتماعي قد استشرى إلى حدود فظيعة بحيث شمل حتى أبسط المهن الاجتماعية، وأن بطش السلطة الدكتاتورية عندما يستشري سيكون مثل الفيل الهائج في الغابة والذي -حسب المثل القديم- لن يؤذي غير العشب الهش.

 في الفصل الأول يصف لنا الكاتب حالة الزنزانة البائسة: «ضيقة لا تزيد مساحتها على تسعة أمتار مربعة، ذات نافذة صغيرة في أعلى الجدار المواجه للباب. الزنزانة عارية من الأثاث كليا. حينما ترفع الستارة يسود الزنزانة ظلام قاتم، ثم يظهر نور تدريجي.. يتسلل نور الفجر من النافذة الوحيدة ويبدد الظلام شيئاً فشيئا.. الزنزانة مزدحمة بالمعتقلين، بعضهم واقف وهو مستند إلى الجدار، وبعضهم جالس القرفصاء، والبعض الآخر متربع على الأرض. الصمت الحزين يخيم على الزنزانة، والكآبة العميقة والتعب الشديد يرتسمان على وجوه الجميع» (ص 69).

ومع البزوغ الحيي لنور الفجر الأول تحصل -بتخطيط من الكاتب طبعاً- حالة التضاد الأولى، حيث يرتبط هذا البزوغ، المرادف عادة للأمل والتفاؤل والسعي نحو حركة حياة جديدة زاخرة بالحماسة، بدخول ممثلي الطغيان: الرئيس والملازم ونائب الضابط. يستعرض الضباط الثلاثة المعتقلين بنظرات احتقار. ومن هنا يقدم الكاتب لمحة نفسية مهمة تتعلق بسيكيولوجية الجلادين. ففي الوقت الذي يبدي فيه الرئيس والملازم قدرا كبيرا من القسوة على المعتقل الأول (الأستاذ فاخرأستاذ الجامعة)، فإن نائب الضابط، صاحب الرتبة الأدنى، هو الأكثر شراسة على المعتقلين، إنه لا يجيد سوى الرفس جسديا، ولا يعرف غير تكرار جملة: «قوادين أولاد القوادة» لغويا! هؤلاء الجلادون الصغار هم الذين يكونون الأكثر خطورة على الضحية من الجلادين الكبار؛ فهم الأشد بطشا والأعظم شراسة ووقاحة. وهاهو نائب الضابط، وهو الأدنى رتبة بين الجلادين الثلاثة كما قلنا يقوم بدور الذراع الضاربة لهم إذا جاز الوصف. وفي العادة تتأسس للمؤسسة العقابية السياسية لغة خطابها ومصطلحاتها الخاصة. ونائب الضابط هذا لا يتردّد في استخدام هذه الشتيمة البذيئة أمام مرؤوسيه، وكأنها لغة التداول اليومي. وفي الغالب يعتبر الجلاد (وهذا ما يجمع عليه الكثير من السجناء السياسيين الذين كانوا يراجعونني في عيادتي النفسية وقد حطمتهم تجربة الاعتقال والتعذيب) إهانة «الأم» (أم السجين) من الثوابت في زعزعة معنويات السجين والتقليل من اعتباره الذاتيونائب الضابط هذا -وبتخطيط من الكاتب- يكرّر هذه الشتيمة - اللازمة حدّ الابتذال والمرارة. إنهم يتماهون مع الجلادين الأعلى رتبة، ولكنهم لا يمتلكون مؤهلاتهم، فيعوضون ذلك بالشراسة الفظة والشتائم البذيئة. وفي كثير من الأحوال -وهذا ما أثبتته دراسات سيكيولوجية الجلادين- تكون تلك الشراسة -في جانب منها- محاولة لتغطية مشاعر دفينة بالنقص. وهذا ما يظهر في سلوك الملازم مع المعتقل الأول (الأستاذ فاخر)؛ فالملازم يذكّر الأستاذ بأنه كان طالبا عنده في الكلية، متهما إياه بأن
بقية الأساتذة كانوا يرسبونه في الكلية لأنه كان يواجه أفكارهم الهدّامة، وأنه ( الملازم)
-
بخلاف ما كانوا يقولونه عن أنه لا يستحق النجاح- قد أصبح شيئاً مهماً، «رغم
أنوفكم - يسترق نظرة سريعة إلى النجمة فوق كتفه». وهذا الملازم لا يقل شراسة أيضا عن نائب الضابط؛ فهو يستخدم قبضتيه وقدميه لضرب المعتقلين؛ لكنه يستخدم شتيمةلازمة أقل حدّة (قذر ابن القذر). والرئيس - الرائد لا يشذ عنهم في ذلك، رغم أنه يعلن في البداية وهو يدعو نائب الضابط «ذو النون» إلى أن يتوقف عن ضرب الأستاذ فاخر: «اتركه! نحن عادلون ولا نؤمن بالعنف»، فهو سرعان ما يكشف عن دوافعه السادية منتقلا من التهكم على «أدمون المصور»: «بريء هاه، فالشتائم على أدمون الذي قال له إن سبب اعتقاله هو رفضه إعطاء الجندي الذي اعتقله إحدى الكاميرات: «إخرس! كلبوعلى «فائز الكمالي» الصحفي الذي لا يقف أمامه: «لماذا لا تقف يا كلب؟!»... فالعنف الجسدي الصارخ حين يهجم على «فائز» يوسعه ضربا ولكما ورفسا. وهذا الجلاد الأكبر يكشف
-
بتخطيط الكاتب الذي يعرّيه تدريجيا- عن أن ما تشدق به من وعد بالمحاكمة العادلة: «كفى يا ذو النون! سينال هؤلاء المجرمون عقابهم جميعا، فالثورة ستحاكم الجميع بعدالة كاملة، فمن عنده «شيء» نال عقابه، أما البريء فسيطلق سراحه»، ما هو إلا لعب لفظي سرعان ما تمزقه دوافعه العدوانية المسعورة حين تتصاعد المواجهة مع «فائز» فيصفه بأنه «صيد ثمين.. لا يستاهل ميتة سريعة.. أعددنا لهؤلاء المجرمين ميتة تليق بهم». وقاموس الجلادين كما قلنا يكشفهم من خلال المفردات التي تفلت فتعكس النوايا المضمرة التي تخالف ما يظهره اللسان، فالرئيس يستخدم وصف «المجرمين» للمعتقلين وكأنه يصدر بحقهم حكما مسبقا وهو يتحدث عن المحاكمة العادلة. إنه يتحدث عن الـ«شيء» الذي يجب كشفه لإدانة المعتقلين «المجرمين»، وهذا الشيء الذي حملت المسرحية اسمه هو أمر خطير جداً؛ إنه مجرد «شيء»، لكنه من الممكن أن يحيي ويميت إذا جاز التعبير؛ إنه «شيء» يبدو للسامع صغيراً أو بسيطاً، لكنه كان كافيا لإشاعة الخراب والدمار وسطوة الموت في حياة مجتمعات كاملة. إن فكرة الدكتاتورية وفلسفتها كلها تقوم على أن هناك «شيئاً» في داخل كل مواطن ينبغي التأكد منه والإمساك به و«تطهير» الفرد منه. وهذا الشيء هو أمر كارثي؛ إنه لعنة شاملة تحل على المجتمعات؛ وذلك لأن هذا الشيء قابل للتأويل وفق الدوافع البشرية المكبوتة، وهو أيضا قابل لأن يُسقط projected من الجلّاد على الضحية الأعزل. وهذا ما يقوم به الرئيس والملازم بصورة رئيسية. فهذا الرئيس يؤول صفة «فاخر» أستاذ الجامعة بأنه ما هو إلا «معلّم»، «والمثل يقول: إذا رأيت معلّما عاقلا فاسجد له... كلكم صقعاء». والعجيب أن أول من أطلق هذه الهجمة على المعلمينمعلمي الصبيان» كما يسمّيهم- هو الجاحظ (لاحظ الكيفية التي يتلاعب بها التأويل في خلق صور نمطية stereotypes ترسخ في أذهان الناس). هذه الصورة النمطية هي التي يلصقها الرئيس بـ«حسون القصاب»: «أنتم القصابون جميعا غشاشون.. لا تعرفون الإخلاص لزبائنكم أبدا. إن لم تغشوهم في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة فلا بدّ أن تغشوهم في الرابعة.. كلاب!». وهذا يتكرر أيضا مع «خليل» الموظف الذي يتهمه الرئيس بتقاضي الرشوة من التجار. ويظهر فعل عملية الإسقاط في أن الرئيس يفترض وجود النوايا التخريبية في أعماق أي معتقل، حتى في «نوري» الذي هو قاض، وفي أغلب الأحكام التي نطلقها ونضفي عليها صفتي «القطعية» و«الموضوعية» تكون طبيعتها الصارمة والنهائية منبعثة (مُسقطة) من دواخلنا وتشكّلها نوايانا المبيتة، أو «الشيء» الذي يلوب في أعماقنا الآثمة. وهذا «الشيء» هو في الواقع نابع من الوجدان الآثم والسرطاني الذي يكمن في لاشعور الدكتاتور أو الجلاد، وينتظر انتهاز فرصته السانحة، ممثلة بمركّب السلطة والقوة، للانفلات من عقاله وتدمير حيوات الآخرين. وتمتزج النزعات التأويلية بآلية الإسقاط، وبوضوح، في حوار الرئيس مع «الدكتور محمود» الطبيب، ففي أي حجة معقولة يطرحها الطبيب هناك تأويل جاهز ومُسقط يقذفه الرئيس في وجهه بلا رحمة:

«الرئيس (وهو يسجل): ماذا تعمل؟

الدكتور محمود: طبيب.

الرئيس: طبيب، ها!! لا شك أنك من صنف الأطباء الذين ينهبون أموال الفقراء، أولئك الذين يخدعون المرضى بحقن الماء المقطر.

  الدكتور محمود: الحقن ليست من اختصاصي، وأنا لا أتقاضى أجرا من الفقراء، كما يشير الإعلان على باب عيادتي.

الرئيس: هذه طريقة خبيثة لاصطياد البسطاء الذين تغشهم أمثال تلك العبارات».

كل هذه الحالات يمكن -حسب سياسة الشيء المخفي وفلسفتها- أن تشكّل إدانة لأي إنسان ومهما كان فعله أو طبيعة عمله أو ملابسات اعتقاله. يحاصر الرئيس المعتقل «أكرم» وهو ضابط برتبة ملازم أول، أي أنه رفيق سلاح كما يُقال ولا يجوز اعتقاله مع سجناء مدنيين من ناحية، ولا إهانته أمامهم من ناحية أخرى. إلا أن الرئيس لا يكتفي بتفنيد (تأويل) كل الحجج المنطقية التي يسوقها، ولا يصمه بالجبن فحسب، ولكنه ينقض عليه ويوسعه ضربا ولكما وصفعا. لكن أخطر ما في تأويلات الرئيس الجلاد هي تلك التي واجه بها «أدمون ياقو» المسيحي و«جنكيز» الكردي، فهي تعبّر عن المنحى الخطير الذي مزّق الشعب العراقي وهشّم وحدته. فلـ«أدمون» يقول الرئيس: «انضممتم إلى صفوف المخرّبين، كفرتم بنعمة البلد الذي آواكم يا شذّاذ الآفاق، أي أنه يعد طائفة «أدمون»، وهي المتأصلة جذورها في تربة هذا الوطن، طائفة دخيلة وطارئة. أما مع «جنكيز» الكردي فيبلغ التأويل أخطر مستوياته، حيث يهجم الرئيس عليه ويتهمه بتدمير العرب والعروبة، وصبغ نهر دجلة بدماء الآلاف من الضحايا، «حين احتللتم بغداد»، معتقدا أنه من التتار! هكذا يفتح هذا «الشيء»، البسيط والصغير والمهمل كمفردة، بوابات جحيم العذاب على مصاريعها بفعل هذا التأويل الذي يمرّر الدوافع السادية تحت أغطيته المتنوعة الخبيثة. وفي نهاية هذه الزيارة الاستطلاعية الدموية، يخاطب الرئيس المعتقلين بالحديث عن الجزاء العادل الذي يتناسب مع «الشيء» الذي -وهذا وعد أشد خطورة الآن- «سيُنتزع» من كل معتقل: «كفى يا ذو النون! سينال كل مجرم منهم عقابه في حينه. لا نريد أن نستبق الأحداث. سيجري تحقيق عادل مع الجميع وسننتزع منكم اعترافاتكم، فمن عنده شيء نال عقابه، أما البريء فسيطلق سراحه، فاطمئنوا! نحن أصحاب عقيدة وإن ثورتنا بيضاء قامت لإنصاف المظلومين. ونحن نعتقلكم هنا كإجراء احتياطي حفاظا على ثورتنا ونظامنا، ولكي نكشف عن أعداء الثورة والنظام الجديد». ومع الاستماع إلى هذه «الخطبة» لا يكتفي الكاتب برسم ردود الأفعال والتفاعلات الراهنة بين الجلاد والضحايا، بل يقوم أيضا بتصوير طبائع شخصيات الضحايا ومسارات سلوكاتها المستقبلية في المعتقل. يقوم بذلك من خلال إدراك أن المبدع لا يصرّح بل يلمّح، ولا يعلن بل يضمر، ولا يشهر بل يوحي، من خلال لمسات ريشته البارعة التي قد لا تتجاوز أحيانا ردة فعل من كلمتين قد لا تلفتان الانتباه. وهو في هذا الدور يشبه في عمله عمل المحلل النفسي الذي يقوم أداؤه الناجز على الإمساك بـالكلمات البريئة، وتأويل معناها المستتر بالطريقة نفسها التي يصل بها، من خلال تحليل المضمون الظاهر manifest content البريء للحلم. والذي قد يدعو إلى الاستخفاف أحيانا، إلى الإمساك بالرغبات اللاشعورية الدفينة التي تكمن في المضمون الكامن latent content. وليس عبثاً أن معلّم فيينا كان يقول إن «الأدباء هم أساتذتي الحقيقيون»، وقد وصل إلى كشوفاته العبقرية في علم النفس من خلال تحليل آثار سوفوكليس وشكسبير ودستويفسكي. لقد كانت الخطبة، المبدئية الختامية، جرعة سامة مدمّرة سقاها الرئيس الجلاد للمعتقلين. فبعد أن أشبعهم إهانات وضرباً، مستهتراً بكل حقوقهم، حتى أنه لم يوفّر القاضي «نوري» كرمز للعدالة، وقف يحدثهم عن حرصه على هذه العدالة المغدورة. إن التأثير النفسي لهذا السلوك هو أكثر بأضعاف مضاعفة من تأثيرات التعذيب الجسدي؛ إنه يضع المعتقل في حالة رهيبة من التناقض النفسي تشبه تلك التي وُضعت فيها كلاب بافلوف في العصاب التجريبي experimental neurosis، الذي هو اضطراب دائم في السلوك يحصل لدى حيوان خاضع لشروط سيكيولوجية تتجاوز القدرات الطبيعية لقابلية التكيُّف لدى جملته العصبية. تحصل انهيارات هائلة لدى كلاب التجارب المختبرية عندما تعطى لها صدمة كهربائية مؤلمة يعقبها تقديم الطعام. في سياسة الجزرة والعصا لا يتمزق الإنسان وجدانياً حين تلوِّح بهما وكل واحدة بيد؛ لكن التشوّش والاضطراب يحصل حينما تلوّح بالجزرة والعصا بيد واحدة. إنّها مؤثرات متضادة قادرة على جعل الإنسان يعاني من عصاب تجريبي دائم يكون مظهره الأساسي هو سمة «التضاد الوجداني» التي هي سمة في الشخصية العراقية، وليس الازدواجية كما قال العلامة الراحل علي الوردي. إن حالة من الحيرة والتضاد تصيب المعتقل حين يرى أن الجلاد يجلده وهو يعده بالعدالة. ويرى المحلل النفسي الشهير إريك فروم، وهو يحلل شخصية ستالين، أن الأخير كان يزرع حالة من هذا النوع في نفوس الجميع. اتصل ستالين بزوجة النائب اسيربيروفسكي ذات مساء وقال لها إنه سيرسل لها سيارة إلى أن يتم إصلاح سيارتها، لأنه سمع أنها تمشي على قدميها. وفي الصباح التالي وصلتها سيارة من الكرملين لتستخدمها، ولكن تم اعتقال زوجها وأخذ من المشفى مباشرة!!(2). ورجاء العدالة الذي تحدّث عنه الرئيس (ولا أعتقد أن الكاتب قد اختار رتبة الرئيس في الجيش عفويا، بل بقصدية عالية تتيح له اللعب على أوتار هذه المفردة: «الرئيس» بإيحاءاتها الواسعة) هو الذي خلق نوعا من التضاد في نفوس بعض المعتقلين، الذين، ورغم مهانتهم وهدر كرامتهم، وبعد خطبة العدالة المسمومة، نجدهم يردون بتعليقات مهادنة ومستخذية. فـ»خليل» الموظف يقول للرئيس: «بارك الله فيكم يا سيادة الرئيس، في حين يقول له «حسّون القصّاب»: «الله يديمك مولاي، وكلاهما قد أشبع صفعا ومهانة. أما «أدمون» فإنه يجيب الرئيس بالإقرار بأنه كلب ردّا على تساؤله عن «متى ستحققون معي، وتطلقون سراحي؟». إن الكاتب يستغل -وهو الاستغلال الوحيد المبارك؛ لأنه يتم في محراب الإبداع- هذه المواجهة الملتهبة بين الجلاد والضحية ليس لكشف البنية النفسية للجلاد وفضحها بصورة دقيقة، ولكن أيضاً لاستكشاف الطبيعة السيكيولوجية للضحايا، وذلك من خلال تقديم صورة واقعية وعملية لكل منهم، صورة لا تؤسطر وتحلّق بالشخصيات إلى سماوات النمذجة الخارقة، بل تعرضها في قوتها وضعفها، في تساميها وانهيارها، في صمودها وإخفاقاتها. إن الكاتب يعرض لنا -في الواقع- أنفسنا الهشة، بعيدا عن الاستعراضات الوصفية البطولية -وبعضها مبرّر أحياناً- التي قد تفرضها العملية الإبداعية أو الحماسة الأيديولوجية. في رواية «قصة إنسان حقيقي» يُعرض علينا «بطل» مصنوع من الفولاذ وليس من لحم ودم ونفس بشرية لا بد أن تحزن لمقتل ابنها. لكن شاكر خصباك عملي وبسيط، عاش التجربة المدمّرة, ولاحظ بعيني بصره وبصيرته أن الإنسان معجون من الرحمن والشيطان، وأن له نفس أمارة بسوء المهادنة والخوف أحيانا. فبعد أن يخرج الرئيس وعصبته من الزنزانة يدور نقاش بين الأستاذ «فاخر» والصحفي «فائز» حول نوازع العدوان في النفس البشرية؛ ففي الوقت الذي يرى فيه «فائز» أن الجلادين قد خلعوا ثوب المدنية وعادوا إلى عصور الغاب لأنهم «فاشيست»، يمسك «فاخر» بالجذر الأعمق، حيث يرى أن المدنية ليست ثوبا يمكن أن يُخلع أو يُلبس متى شاء المرء، و»ما أغرب أمر الإنسان!! لقد مضت عليه آلاف السنين منذ هجر حياة الغابة وكوّن المجتمع، ومع ذلك مازال يحن إلى أخلاقها، وما إن تحك القشرة الرقيقة التي تغلّف خلقه حتى يظهر عاريا على حقيقته». إن جزءا من فلسفة الكاتب يتجلى في محاولة إظهار أن الإنسان ليس حيوانا ناطقاً أو اجتماعياً وحسب، بل هو حيوان «يُعذّب ويتعذب». لا يوجد حيوان يقتل حيواناً من فصيلته أو يعذّبه بالكهرباء مثلا عدا الإنسان. وبعد خطوات نجد «خليل» يقول: «لقد قاموا بثورتهم، فبارك الله لهم فيها. فما دخلنا في الأمر؟، وهو يضع أمام عينيه صورة أمه التي أعطته مصحفاً صغيراً يستعين به على شدائد المعتقل، ناسيا أن هذا المصحف نفسه يدعو للثورة على الظالمين. أما «حسون» فلا يفتأ يردّد: «يا ساتر يا رب، يا إلهي، الرحمة!». في حين أن «أدمون» مرعوب على أطفاله فيكرّر دائماً: «أنا بريء! أنا عندي أطفال!...». ورغم بوادر المهادنة والانخذال هذه، فإن الجلاد لا يقيم لها وزنا، حتى أن الرئيس لا يكتفي برفض طلب «حسون» للذهاب إلى المرحاض وهو يتلوى من الألم وحسب، بل يمعن في إهانته ووصفه بالكلب ويدعوه إلى أن «ينكسف» على حاله. لم تشفع المهادنات، لأن الجلاد يؤمن بلا هوادة أن هناك «شيء» في داخل أي فرد يلقى في غيابة جب السجن مهما داهن أو تزلّف، وإلا لماذا ألقي فيها؟!

في الفصل الثاني يقدم لنا الكاتب لمحات تشير إلى أن المعتقلين قد طال بهم الأمد فبدؤوا بالتكيف مع حياة السجن. ففي الفصل الأول تُركوا ينامون على إسفلت الزنزانة، وهم الآن ينامون على بطانيات، كما أنهم يعلقون ملابسهم بمسامير في حيطانها ويرتدون البيجامات و»الدشاديش»، ويضعون المعلبات فوق رف النافذة، وهم يدخنون، وهذا ما يقوم به «فائز» الآن وهو مستغرق في التفكير ويقول لـ»فلاح» إن أقسى عذاب على الإنسان هو السجن، لأن الإنسان لم يُخلق ليحبس بين أربعة جدران، وهذا خلاف ما يقوله أدونيس عن أن أقسى السجون هي التي بلا جدران (الشعراء يتبعهم الغاوون). لقد مرّ شهر كامل على اعتقال هؤلاء الضحايا، وصار لزاما عليهم التكيّف، ولو مكرهين مع الحال المذلة الجديدة، والإنسان «حيوان متكيّف»؛ ضع قطة في غرفة مغلقة ولاحظ ضياعها واضطرابها. تكيّف أغلب أفراد المجموعة وهم في مفارقة مؤلمة يصعّد الكاتب من وقعها الباهظ من خلال أن هذا الفصل هو فصل الربيع وفيه تتفتح الحياة وتنتشي وتتحرر، في حين أنهم مسجونون ومهانون. وفي لمحة شعرية رائعة يجعل الكاتب عصفوراً يدخل الزنزانة ويحط على رأس «خليل» (هو طائر شاكر خصباك المعلّم - راجع دراستنا عن رواية «الطائر» في جريدة «الزمان» اللندنية). أي انسحاق هذا الذي يجعل الإنسان الذي نتشدق بأنه بناء الله على الأرض، أقل شأناً من عصفور محتقر!! يريد المبدع الإيحاء بأن الدكتاتورية تجعل الإنسان يحسد حتى الحيوان على حرّيته وانطلاقته. المهم أن المعتقلين لا يكتفون بالتكيّف مع حياة السجن المظلمة، بتثبيت برنامج يومي عملي للعيش هناك يوزّع الواجبات عليهم؛ فـ»فاخر» مدير الفرش العام و»أكرم» مدير الرياضة العام و»فلاح» مدير العلاقات العام... وهكذا! ويبدو أنهم، من حيث لا يشعرون، يقومون بلعبة دفاعية نفسية مضادة، حيث يؤسسون لـ»دولة» عدالة ومراضاة هي أشبه بـ»اليوتوبيا» التي كانوا يحلمون بها سابقا في حياتهم العامة ويقرؤون عنها على صفحات مصادرهم التثقيفية. وهم فوق ذلك يواجهون الضغوط الساحقة بالسخرية. والسخرية سلاح نفسي هائل في مواجهة التحديّات؛ إنها توسّع من ساحة التفاؤل، وتمنح الفرد طاقة مضاعفة على التعامل مع مصادر الأذى العاتية. وقد أكد علماء النفس الذين درسوا حياة أسرى الحرب في الحرب العالمية الثانية والحرب الفيتنامية، أن روح الدعابة والسخرية لا توفر فرصا أكبر وأكثر غنى للبقاء وحسب، بل هي تحيّد حتى بعض الجلادين. وهذا ما تحقق مع الحارس «عبّاس» الذي صار الآن متعاطفا و»متواطئا» مع المعتقلين ويتهاون في تطبيق أوامر إدارة المعتقل الصارمة، مدفوعا أيضا بطيبته كإنسان بسيط من عامة الشعب المسحوق. بعد أن يؤتى بـ»جنكيز» محطماً من غرفة التعذيب يعلق «أكرم»: «نحن السابقون يا جنكيز وأنتم اللاحقون. وكلنا في الهوى سوا.. كُرْد وعرب فد حزام!!» (أعتقد أن الأصح هو أنتم السابقون ونحن... لأن جنكيز هو من تعذب أولاً). وبعد أن يقوموا بإعادة ترتيب الزنزانة ويعلقوا حزمة الأحذية الثقيلة بمسمار، يقول «نوري»: «تغيّرت الغرفة بالفعل وهي تبدو الآن أوسع وأنظف وأحسن منظراً.

فاخر: الفضل في ذلك يعود إلى اقتراحات مدير العلاقات العام البنّاءة، وإلى جهود المدراء العامين الآخرين المشكورة.

الدكتور محمود: على الشيخ خليل أن يتضرع إلى الله ألا تسقط هذه الأحذية على رؤوسنا.

خليل: سأدعو الله لذلك يا دكتور، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: أدعوني أستجب لكم...».

وخلف أستار المحادثة التهكمية تتربص روح تحرّشية غير ملموسة بما هو مرجعي ومؤسس. وهذا ما يحصل في حياة المعتقلات التي يبدأ فيها الإنسان بمراجعة أساسيات حياته ومنطلقاتها السلوكية التي تبلدت بفعل العادة المقيتة والرتابة المبلدة. لا ينصع وجه الحياة ويتألق إلا عند اقتراب شبح الموت، «المثكل» كما يصفه جدنا «جلجامش». وفي الوقت الذي كان المختصون القدماء بعلم النفس يجمعون على أن تجربة الأسر أو الاعتقال لا مآل أخير لها إلا خراب الإنسان ومسخ شخصيته، فإن الدراسات الحديثة كشفت أن هذه التجارب الكارثية التي توصف الآن في الطب النفسي ضمن متلازمة «عقبى الشدائد الفاجعة» posttraumatic stress disorder، التي لا يفلت من نتائجها الضارية أي إنسان، مهما كان عمره وخزين تجاربه وإرادته، يمكن أن تكون مدخلا لبناء شخصية الفرد بل تغيير سماتها الأساسية جذريا. يتحاور «نوري» القاضي مع «محمود» الطبيب بعد أن أمضيا شهرا واحدا في السجن:

«نوري: زوّدني هذا السجن بخبرة جديدة قد تفيدني في عملي في المستقبل... كنت أوقع عقوبات السجن البسيطة والشديدة دون أن يخطر على بالي ما سيلاقيه المحكوم عليه من عناء. وما أسهل ما كنت أعاقب بالحبس شهرا في المخالفات والجنح دون أن يخطر على بالي أن شهر السجن طويل إلى هذا الحد! ويخيّل إلي أن من الخير للقضاة أن يمروا بتجربة السجن قبل أن يمارسوا عملهم ليحققوا الجانب الإنساني في مهنتهم.

الدكتور محمود (ضاحكاً): أي أن يأخذوا كورساً عملياً في السجن قبل أن يعيّنوا قضاة! أنا أؤيدك في ذلك. كما أنني أعتقد مثلك أن الأطباء ينبغي أن يمروا بـ«دورة» مرضية حتى يقدّروا آلام المريض حق قدرها ولا يستهينوا بها...».

 من المتوقع كثيراً أن يتحطم الإنسان تحت ضغوط تجربة الاعتقال، ولكن -واستعارة من عبارة همنغواي الشهيرة- يجب ألاَّ يُهزم. ألّف واحد من أسرى الحرب الأمريكيين في فيتنام قاموسا إنكليزيافيتناميا خلال خمس سنوات من أسره. ويحاول «فائز» العثور على أقلام وأوراق لمعاودة الكتابة، في حين يرغب «فلاح» بالحصول على فرش وزيت لمزاولة الرسم. ورغم تكيّف الأستاذ «فاخر» مع الحياة الجديدة، خصوصا مع إحباطات حرمانه من هوايته المستديمة في مطالعة الكتب، فإن السؤال الذي مازال يؤرقه هو: كيف يمكن للإنسان أن يقسو على أخيه الإنسان المخالف له في الرأي؟ فيرد عليه «فائز» بأن التعصب الأعمى يفقد الإنسان صفته البشرية فينقلب حيوانا لا يختلف إلا في المظهر عن حيوان الغابة. وهو يشير إلى حقيقة تسم تاريخ بلاده وتتمثل في التعصب الفكري، التعصب الذي يقود إلى الموت والدمار. وفوق ذلك فإن الجلاد الرئيس يدخل على الضحايا الآن ليشرح لهم أبعاد المعاملة الطيبة و«العدالة» التي عوملوا بها، حدّ أن المعلبات بأنواعها معروضة على رفّ النافذة! والبطانيات تفيض عن حاجتهم. لا يبحث الجلاد عن «الشيء» وحسب، بل يريد أن يحوّل الإنسان بأكمله، وجوداً وإرادة وتطلعات، إلى مجرد «شيء». ولكنه، وفور أن يكمل خطبته، وضمن إطار العصاب التجريبي الموصل إلى التشوش والانهيار، يقتاد «أدمون»، الذي يعود بعد مدة محطما منهكا ليخبر رفاقه أن الجلادين الأوغاد السفلة قد اعتقلوا زوجته وعرضوها عليه عارية تماماً بعد أن اغتصبوها! ولكن الأدب مسؤول عن تعزيز إرادة الصمود والبقاء لدى الإنسان، وليس المساهمة في إهارته وتعجيزه أمام مدّ الطغيان. وشاكر خصباك يدرك ذلك، وهو لا يتبجح (وعفواً عن استخدام هذا الفعل) بهذه التجربة، لإحساسه الأصيل بأنه قدم ما قدم واجبا وليس منة، تكليفا وليس تشريفا. أتذكر شقيق روحي الراحل عبد الخالق المختار، الذي رحل ولا أحد يعلم أن عجز الكلى الذي أصيب به كان سببه إصابته بشظية في إحدى المعارك خلال الحرب، كان على قمة جبل، وظل ينزف أكثر من ست ساعات منتظرا الطائرة السمتية التي تخليه، إلى أن جفّت كليتاه وأصيب بعجز الكلى، وعاش بنصف قدم، ولم يذكر أو يتبجح في أي مقابلة أو حديث بما قدمه من تضحيات. واجب المبدع دائما هو أن يراهن على إرادة الإنسان العظيمة، وهو شعار شاكر خصباك عبر كل عقود حياته المديدة، أطال الله في عمره ذخراً وذخيرة للإبداع العراقي الأصيل. ولهذا نجده ووسط عتمة «الشيء» الكابية الخانقة، ينثر، بين موضع وآخر، لمسات الصمود والتحدي. فمع عودة
-
والأصح إعادة- «أدمون» محطماً ممزق الروح، بسبب ابتزاز إرادته من خلال اغتصاب زوجته الصامدة التي لم تفش سرّه، وصمودها دفعة تفاؤل هائلة من الأم العشتارية العظيمة، يصمّم الكاتب حالة فكّ عقدة حاسمة. ففي الفصل الأول كنا نتصوّر أن «عبوسي»، العامل البسيط، قد اعتقل غدرا، ثم إذا بالكاتب يجعله -وهذه هي المراهنة على إرادة الإنسان العراقي البسيط الجبّار، صانع الحضارات المهان- مرجعية التفاؤل المبشر بحتمية انتصار الثورة على الطغاة في المسرحية. ومع انهيار «أدمون» المذل يأتي الرئيس وجوقته لنقل «عبوسي»، واسمه الحركي «دعبلّة» (وانظر لصغر المقارنة المحكمة) تمهيدا لإعدامه لأنه قاوم بالسلاح وقتل العشرات!! يمر الزمان، ذهب الشتاء وولّى الربيع الجميل وجاء الصيف الحارق... وهاهم المعتقلون الضحايا، يتحركون في الزنزانة بملابسهم الداخلية في جو الغرفة الذي يشبه الفرن... ظهرت بوادر التحوّل من التكيّف الصحّي مع عذابات الاعتقال إلى الانحدار على هاوية اليأس. ترك «خليل» بشارة العصافير، بل لعنها، وبدأ يشعر حتى بعدم فائدة قراءة القرآن مع هؤلاء الكفرة. و«أدمون»، الذي ماتت زوجته تحت سياط التعذيب وتكفل ابن عمه بأطفاله الثلاثة، قد نفض يديه نهائيا من فكرة الحصول على الحرية. وصل الأمر ببعض الضحايا أن لم يعد يستولي على تفكيرهم غير الذهاب إلى المرحاض لقضاء حاجاتهم ولوقت كاف. لقد صاروا «شيئا». كانوا يُقادون إلى المرحاض جماعات، ولا يمنحون الوقت الكافي، ويهددون بأعقاب البنادق، وهذا أمر مقصود قد نتصوره بسيطا، لكنه مفتاح إهارة إرادة الإنسان المقاوم. الجلاد يدرك، وهو يُسقط هذا الإدراك من خلال شعوره بهشاشته الداخلية. (ولا تتصوروا أن الجلاد قوي) إن ما يتيح له التمادي في بطشه وغيّه، هو كما يقول نوري: «اسمحوا لي أن أصارحكم بأن تخاذلنا هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة. ولو أن جميع المعتقلين قد اتبعوا وسيلة من وسائل الاحتجاج لما تمادوا في هذه المعاملة اللا إنسانية التي تتنافى وأبسط أحكام القوانين المرعية». تتشارك الضحية في المسؤولية مع جلادها، وهذه حقيقة مثبتة وصادمة للأسف! ولكن تبقى اللعنة المدنسة كامنة في أسى وانكسار الروح، بفعل «شيء» مهدد ومخز وموجع يتحطم في أعماق الإنسان الموحشة المفجوعة، هذا الـ»شيء» الذي لم يبق ولم يذر، وإلى متى يا إلهي؟! إنها محنة مستعصية يعبّر عنها «نوري» بصيغة مقاربة، ولكنها أكثر مباشرة وبلاغة بقوله:

«إنهم ما فتئوا يرددون على سمعنا من اليوم الأول، بلا كلل أو ملل، أن من عنده شيء ينال عقابه، والبريء يطلق سراحه. ومع أننا أبرياء جميعا فما نزال منذ أكثر من خمسة أشهر ننتظر أن يظهر هذا الشيء. وهذا شأن عشرات الألوف غيرنا من المعتقلين الأبرياء الذين ينتظرون أن يكشف عن الشيء لديهم». ومازال المواطن العراقي -وهنا تتجلى عبقرية خصباك- يحاول حتى يومنا هذا أن يكشف سرّ هذا الـ«شيء» الذي دمر وجوده وحياته ووطنه.

ورغم أن الكاتب يختم مسرحيته العظيمة هذه بمشهد نهائي رائع هو في غاية الإدهاش، ومصنوع بحرفيّة الملم باشتراطات عمل المخرج السينمائي، حيث يصمّم حتى حركة الستارة وإيقاع الموسيقى المطلوبة، وهذه بناءات الفضاء المسرحي أيضاً؛ ولكنه يصوّر حركية المشهد الأخير بعين سينمائية مرهفة؛ المشهد الذي ينتهي بصف المعتقلين تمهيدا لإعدامهم، مع تحوّل الموسيقى الكئيبة إلى موسيقى هائجة تصرخ ألما وحزنا، ممتزجة مع النشيد المدوّي:

 

     الشعب ما مات يوماً     وإنــــه لـــــن يموتـــــا

     إن فاته اليوم نصـــر      ففي غد لن يفوتا

                 

 

نضالنا أنت أدرى                صخر وشوك كثير

والموت عن جانبيه          كننــــــــــــا سنسيـــــر

 

«وتنسجم الموسيقى مع النشيد ويندمجان حتى يدويّاً في ضجة كبرى، وتستمر الضجة بضع دقائق بعد هبوط الستار إلى أن ينتهي النشيد وتنقطع الموسيقى».

لهذا تحذّر الآلهة دائما من المبدعين؛ فهم يتلاعبون بإدراكنا، يسدلون الستارة ويخمدون الضجة... ليتركوا النشيد ضاجاً صادحاً، بل -مثل شاكر خصباك الكبير- مدويّاً في أعماق أرواحنا، موجعاً وموغلا في الألم؛ الألم المقدّس الذي يشعل بخور الروح؛ روح الإنسان العراقي العظيم، الذي يشبه المسك، والذي لن تحصل على رائحته إلاّ إذا طحنته... وهذا ما أثبته شاكر خصباك بجدارة. المبدع الكبير شاكر خصباك! تحية! نشهد أنك بلّغت.

الهوامش:

(1) المؤلفات الإبداعية لشاكر خصباك - ثمانية مجلدات، المجلد الرابعالمسرحيات، مسرحية «الشيء»، ص 63 - 185.     

(2) إريك فروم: تشريح التدميرية البشرية، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، منشورات وزارة الثقافةدمشق، 2006، الجزء الثاني.