الأستاذ أحمد قاسم دماج شخصية وطنية وثقافية بارزة، كرَّس حياته للنضال الوطني وحرية الوطن ووحدته. له اهتمامات وإسهامات ثقافية كبيرة، من أبرزها مساهمته في تأسيس اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين، ومشاركته الفاعلة في مجلتيْ "الحكمة" و"اليمن الجديد" وسواهما من المجلات والصحف. كما تولى رئاسة اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين لأكثر من دورة.

وللأستاذ أحمد قاسم دماج، إلى جانب كتاباته الفكرية والسياسية، تجارب رائدة في كتابة الشعر الحديث، يسر مجلة "غيمان" أن تقدم لقرائها مختارات منها في هذا العدد.

وميض الياقوت

 (قصائد مختارة)

                                                                                      أحمد قاسم دمّـــاج

الشاعر متوسطاً الدكتور عبد العزيز المقالح والرئيس عبدالله السلال

رحيق الوهم

                                    -1-

بعضي إنبلاجُ الصبحِ

والباقي تصادره القصيدةُ

لا أستريح إلى سكون الليل،

يعجبني اسطخابُ البحر، 

قصفُ الرعد،

بوحُ الزهر،

شدوُ الريح،

عاصفةُ النشيد...

والنبعُ وشوشةُ المنى في النفس

لكن السيولَ إليَّ أشهى.  

ما أجمل التوق المجنح

حين يحملني إلى نفسي...

ويحملها إلى الأفق البعيدْ

أنا عاشقٌ

والعشقُ أوله وجيب

وآخر الأشياء ما تهبُ العواصفُ للسهولْ

                                    -2-

أخَذَتْ بكفي الريحُ، وأنطلقتْ

فيا فرساً تطيرُ إلى المنى الخضراء

خذي الأهل-البلاد وخلفيني

أنا من؟

متى أنعتقت ملايينُ البلادِ

وحَلقتْ رايتها خفّاقةً فوق الذرى

أنا بعضُ خفق بنودها

فلتنتشر حمراءَ في كل الوهاد

أخذتْ بكفي...

أي عاصفةٍ تعانقني فأعشقها

وأي نضارة يعطي الندى للزهرِ

أي الذكريات تزّمُ

تعبرُ خاطري،

أي الملاعبِ ما تزال تراود الفتيان

وأين أنا

من الذكرى

ومن عشقي

ومن ولهِ القوافلْ؟!

                                    -3-

أدمنتُ ترحالي...

المسافةُ قيدُ حلمٍ خاطفٍ

والتوقُ يحملني

أطيرُ في أفقٍ من الياقوت

ينهمر الظلامُ

فاستنشق الضوء من توقي

أضمُّ براحتي جمري

ولا ألوي على ما خَلَفَ الإخفاقُ من وهنٍ

ترى “أيلول” يكذب أهله؟

لا!

سوف يأتي الانبثاقُ الثاني

حين نسيرُ من حلمٍ إلى حلمٍ

ومن ولهٍ إلى ولهٍ

وحين تداعبُ الأشواقُ وجه الأفقِ

أو تستل صبحاً عنوةً

وتذوبُ في قُبّل اللقاء فجراً

من الوردِ المضمخِ بالنجيعْ

< أغسطس 2008م

 

في حضرة البهاليل

                        إلى نبيل السروري

يبدأ البوحُ من نقطة الضوء

يذهب في زُرْقةٍ من تراتيل عصر تهاويتَ فيه

يتأمّل كيف تكون الصلاة انبثاقَ البهاليل من لُجَّةِ الصمت بوحاً

ومن نفق الإنحدار المعبأ بالليل أفقاً من الألق اللازوردي

ينشر فيكَ السماوات

يعطي المدى رونقاً... لا كما يبزغ الفجر

لكن كما تتدافع في المهرجان القصائد نشوى

ويرقص من وَلَهٍ موكبُ الذاهبين إلى سدرة الانتشاء.

                          

يبدأ الضوءُ من شاطئ البوح

من رهبة الموت تعبرنا خلسة

أو تداهم في وضح الصمت أحلامنا.

في الكوارث لا فرق

بين اجتياح العواصف، سيّان أيامنا

أو نشوب الحرائق في سندس الزنبق المتفصِّد من جبهات الحنين

ومن أوجه الركب يمعن نحو البهاء

وسيّان حين تداهمنا رهبة الموت

أن نتناجى كسرب العصافير

نبكيَ كالبوم في جنبات المساء.

                          

التراتيل مزهوة عند بدئك في قبضة الموت رفضاً

وعند حضورك حين تغيب المسافة في اللحد

إنك في سرحات التراتيل معنى التوحد باللانهاية

زهو القصائد عاشقة

والمغاني مجنحة

والدفوف انهمار الصبابة في مُهَج المدنفين

يصلُّون خلفك

هل في زوايا الجوامع غير المحبين؟

هل عند محرابك الأخضر المتماوج بالشهقات سوى رقة الوجد

أو خفقات التوسل

تجيد الصعود مع الريح نحو السماوات؟

إن التهجُّد يرقى بنا نحو وجه الألوهة

إن التراتيل تحملنا مثلما يحمل الطلُّ وقعَ الضيا في الصباحْ.

                          

للبهاليل في لحظة الارتقاء إلى ذروة الوجد أورادهم

ولنا خلف نعشك من رهبة اللوعة البكر ما للبهاليل.

يا صادحاً في انهمار الفواجع والليل!

كيف انطوى النغم المشرئب؟

وكيف توارى الشجى في أغاني الندامى؟

ومن أَلْجَم العود؟

من شلَّ ناي الصباحات بالصمت والليل.. من؟

أرى فيك ما لا يُرى

وأداري ازدحام المسافة بالحزن

ألمس رأس الأسى، كي يلين الأسى

وأذهب نحوك في فرحٍ كعيون الصغار على أَنْمُلِ الأمهات

أرى أنَّ لا شيء يعصمنا غير لحد نلوذ به

أو نشيد نخبئ أحلامنا فيه حين يكون التهجد خيل البهاليل

والشدو أسيافهم... والبقاء على الجمر معنى الوجود

وأحسب أني ارتجلت اعتصامك بالزهو

أحسب أني أخذتك من قبضة اللحد

أني رفضت التعاويذ في وجه هذا الذي يخطف الناس في عنفوان

التوهج

يفصد أيامهم في الأسى عنوة.

هل صار شدوي سدى؟!

هل انهدر السحر فيما استفاقت عليه القصيدة

وأقفر عبقر

ماتت شياطينه واستدار السكون؟!

هل نبذتنا المنابر من ضجر...

أم نبذنا الوقوف على عتبات الزمان المدنس بالزيف والدجل

والانحناء...؟!

لنا كل هذا الشقا يستبيح الثواني...

ولي كل ما يترك الفقد

والوحشة المنتقاة

لي العشق يعصمني من مقاربة الإنحناء

يضمد بالذكريات انهيار المعاني

يوزع في المتبقي من العمر زهو النخيل

جموح الرياح...

نفاذ الينابيع، طُهْر الإقامة في خاطر البرق

نأخذ فيك العزاء على ومضة منه...

أكسب حزني وألقاك في غمرات اليقين

لم أكن أوقد النار في حضرات المجاذيب... لا... لم تطب لي المراثي

ولا بهجة الانتخاب

كنت أقبض "زرياب" حيث أردت

وأمنع دمعاً

فأبصر وجهك يهتف بي

أنْ تسامَ بزرياب يشدو

وأنت تحب الغناء

وأنت أنا...

دَعْ لزرياب بوح الندى في الصباح

وعلِّمْهُ همس الجداول

علِّمه أسرار بوح القياثر في سطوة الصمت

كُنْه الأهازيج تطعن وجه الظلام

وتحظى بثغر البنفسج

خُذْ بيد الفرخ يصبح نسراً

ودَعْ بعد ذلك حزنك يذهب مثل السراب

ودمعك مثل السحاب

ففي الروضة البكر تتلو العصافير أسفارها ثم تتقن معنى النشيد

ونبدأ في هذيان الطفولة من وَلَهٍ

حين توقد نار المجاذيب

نبدأ رقص الهيام

وتأخذنا اللوعة المصطفاة إلى حيث تكمن فحوى الحبيب

وحيث يتم التوحد بالفجر

بالضوء

بالبحر

بالعشق

بركب الأحبة يتلون أَوْرادهم كالجداول في غبش النشوة البكر

لا شيء أجمل من نشوة الرقص

في حلقات الهروب من الدرن المستدير

على عنق العصر

لا شيء أرفع... من أن تموت لنحيا

ونحيا لكي لا نخاف العناد.

فهل ضاق صدرك بالهذيان الممل؟

وهل ضقت ذرعاً بذكراك ترزح في الشريان الثواني وفي الوقت

دفق الدم المستباح؟

لنا موعد آخر نتأسى به

لنا في الرياض الفساح

وفي حضرة الله والموت كل السراحْ!

انغماس في ذات البنفسج

            - 1 -

كانت بنفسجة تطارحني الهوى

والريح تحمل بيننا الكلمات، والأنداء تكتب ما نقولْ

كفاً على كفٍّ

عيون الماء نشوى تنشد الأشعار

والوديان تشرب نشوة الوله المدور في عيون الزهر

تروي عشقها للروح

لا سعف النخيل تماسكت رقصاً

ولا الغدران أخفت لوعة الغصنين... يعتنقان

يرتشفان في سكر فماً لفمٍ رحيق التوت في الغبش الجميلْ

يا موسم اللقيا!

أشمّك يا عبير الحب يحملني على كفين من ألق وشوق

 وأضم بعد الفجر زنبقتي، بنفسجتي

أعبُّ بلا ارتواء كل طل الثغر

أشرب عابق النفحات والآهات

أعصر خوخةً نهدت

قضيباً من يواقيت وصدراً من جمانْ

وأقول: لن يرتد هذا الاعتناق العارم المجنون

لن يطأ السكوت ضمير زوبعة

ستمضي

تخلط الأشياء ثم تصوغها أفقاً من الوله المقدس

تمضي على جنباته النجمات ثغر حبيبتي وعيونها

هذا الوجيب يهز صدرينا

وهذي الرعشة الجذلى

ودون الخصر تبدو وردة الشعراء

هالات اشتهاء

كانت بنفسجة تطارحني قبيل الفجر

كنت أعب حتى الارتواء.

                                    - 2 -

عربيدة تفاحة الإغواء

وزَّعت المفاتن كالصباح ولم تبالِ

يا غرة تمضي على الشطآن

كيف تنفس الشفق الموشَّى بالتمازج والتأوه؟

كيف استقام البرق في غصن تمايل كالربيع وذاب وجدان المغني؟

لو أن وجه الريح أطرق لارتمت عصفورة الأيام في شجني

وصار البحر بعضاً من حنيني

لكنه سر البنفسج مازج الوجدان

ألقى لونه في القلب

أمعن في الرحيل من الوجيب إلى التلاشي

هذا اعترافي

إن عاشقتي البنفسجة استقرت في شراييني

تبرج قلبها

ألقت مفاتنها

استباحت كل ثانية

فكنت تبرج الأشواق في قُبل الهوى فجراً

وكانت عنفوان الضوء ملتفًّا عليَّ

يضمني شغفاً

وأغرق فيه

أعطي كل نبض حقه في الغوص

أمنح للمسافة بهجة الإغماء والشهقات

أذهب في العناق ولا أعود

ولا أفيق

ولا أداري الصحوة الوسنى ولا خفر المكانْ.

 

النرجس

         في مهابة موكب محمد عبده نعمان

                        - 1 -

كم تضيقُ المسافاتُ

حين يكون الفتى بيرقاً

وتكون القوافل أجنحةً تتوغَّل في الحلم

أو حلماً يتوغَّل في الغيب

يبدع مسراه والدربَ

يعبر من حيث لا تعبر الريحُ

يذهب أبعد مما تنال البروقُ

ويقتحم الشفق الأرجواني المبشر بالفجر!

يا شفقاً شقَّ وجه الليالي العجافِ

ومزَّق خاصرة التيه والصمتِ

يا قبضةً ملكت شارداتِ الثواني وناصيةَ العمر

كم تضيقُ المسافاتُ!

كم تستريحُ المفازاتُ في خطوات الرجال!

ومن كان في أول الركب برقاً يرصُّ الدروبَ انهماراً وفي

آخر الدربِ شدواً يوزعُ إلهامَهُ في الجهاتِ

ويغمرُ بالنغماتِ الوجود

وكم تتلاشى المسافاتُ

حين تكون البلاد ضميرَ السُّرى

ويكون المـُُغَنّي ضميرَ البلاد!

                        - 2 -

تستريح على شاطئ الحزن ذاكرةٌ فقدتها السنون

وذاكرةٌ فقدت ذكرياتِ الصبا

وبوح الأناشيد في لحظة الانبثاق

وزهو الميادين مكتظةً بالرجالِ

تُقبّل من وَلَهٍ فوَّهاتِ البنادق

تطمسُ وزر الليالي

وتنسجُ من قطراتِ الندى مشرقاً مفعماً بالرجاءِ... وبالضوءِ

هذا فضاءٌ من الجلنارِ على راحةٍ من عقيقٍ

وذلك بوحُ الثواني

تُرِتّبُ عمراً من الانهمار

ودهراً من الانعتاق

تذوبُ المسافاتُ

لا أنت خلف الغيوم احتمالٌ

ولا غرَّة الأرض منخوبةٌ بالقيود ومطمورةٌ بالسكونِ الذليلِ

فكم وطناً مرَّ

والنعشُ فوق الأكف سؤالٌ كبيرٌ

ووجهك في غبشِ النعشِ يتلو التسابيح

ينسجُ ذاكرة العصر في لحظاتِ الشروق

وأيامك المبدعات

والركب ينسجُنا موكباً لا يغيب!؟

فكم وطناً مرَّ!؟

كم ذكرياتٍ تمرُّ!؟

وهذا انتقالك من دنس الانهيار فراراً إلى واحة الله

معتصماً بنقاء الينابيعِ

تروي لنا كيف تهفو الخوارقُ

كيف لا يصبحُ الطلُّ وَحْلاً

ولا الجبهات نعالا

وكيف يكون الهروبُ من الانحناءِ انتقالاً إلى سندسِ الانتماءِ

فكم وطناً مرَّ فوق الأكفّ!؟

وهل يرسم النعشُ خارطة للبلادِ

وللناسِ؟!

هل يحتوي وطناً

أم يواري المواجعَ في زمنِ الانكسار؟

والفتى...!

هل يموتُ الفتى؟

أم يظلُّ على جبهات الندى مهرجانا؟

والأناشيدُ...؟

هل يسكنُ الصمتُ وجهَ الأناشيدِ؟

هل ذهبتْ في الجهات صدى؟

كلما لجَّ في زبرقانِ الرحيلِ السؤال

أثمرت بالإجابات أغصانُ عمرٍ تصرَّمَ فيضاً

وعبَّ المسارُ الندى من عيون البنفسجِ

ترسلُ دهشتهَا سُحُباً في الجهات

وتمنحُ أيام بوحِكِ

سِرَّ اختراقِ السكينة... معنى امتلاكِ الذي سوف يأتي

انتصابَ النخيلِ

وزهوَ الينابيع في اللحظةِ البكرِ من عنفوان الربيعِ

فهل أستريحُ على شرفةِ الحزن؟

هل تستبيح المراثي العقيمةُ غابَ البنفسج؟

أم أنَّ هذا الذي يتنقلُ فوق الأكفِّ احتفاءً ببدءِ انبثاقِكَ

من زرقة الأبجدية حرفاً

ومن عتمة الاندثارِ نفيراً

يُبشّرُ وديانَ مأربَ بالاندثار؟

المرايا تُفتشُ عن وجه أيامها بالفراغ

وأنا حين أسألُ أهفو لردِّ الحجر

أتنفسُ في رئةٍ فقدتها الضلوعُ

أسمِّي الجراحَ عيوناً

وأدعو التوابيتَ أفقاً

وهذا الغياب حضوراً يرصُّ العصورَ على راحتيَّ ويستقدمُ

الأزمنة...

لم تعد تتقنُ الحلمَ نفسي

فدعْني أُسَجِّي الفجيعةَ في نَفَقِ الوهمِ

في حفرة الانشطار!

ودعني اُسَمِّي الرِّفاقَ رماداً

وأدعو النخيلَ ركوعاً

وكلَّ الجداولِ رملاً

وأنَّ التلاشي استباحَ الجبالَ،

الحياةَ،

النفوسَ

التوهُّجَ في دفقات القصائد

وأنَّ النشيدَ هراءٌ!

تَذَكَّرتُ

والنعشُ فوق الأكف يمرُّ

انسرابَ العصافير نحوك في لحظةِ الانتشاء

وكيف استقامت على مُقلِ الطلقاتِ الزهورُ!

وكيف تكلَّلَ بالصبواتِ الوجودُ!

تذكَّرت يا صاحبي

هبواتٍ تمرُّ

وفجراً يرشُّ الضياءَ على جنباتِ الوجودِ

يُرِتّبُ طهرَ الجراح على وجه رابيةٍ

ثم يغسل أخرى بماء الجباه النقي

أتذْكُر؟! أم أنَّ هذا التواري يُفتّتُ في الوقت

ذاكرةَ الارتحال؟!

                        - 3 -

لم أعد أدري كم وطناً مرَّ

والنعشُ فوق الأكفّ يعدُّ التواريخَ

يحصي البداياتِ في رحلة البحث عن وطنٍ سابحٍ في الضياءِ

وعن وطنٍ يُطعمُ الناس حريةً

وعن وطنٍ يأخذُ العشقُ منه التفاصيلَ في رحلةِ الكبرياءِ

وطنٍ يتنفسُ ملءَ الشروقِ انعتاقاً ويخزنُ معنى السراحِ!

لم أعد أدري كم وطناً مرَّ!

كم موكباً مرَّ!

كم نفحاتٍ من الانتماءِ الجليلِ على النفسِ مرَّتْ!

وكم حِقباً يحتوي النعشُ!

كم زفرة من حنين الملايين للبوحِ ضمَّ

وهل رفعته الأكفُّ ابتهالاً إلى الله في صونِ أحلامها!

أم تراه اصطفاءً لدربٍ

وعهداً على السير حتى امتلاك الرجاء!!

لو أماطت مفاتنَها روعةُ الموت لانكشف السِّرُّ

لانجاب هذا الغموضُ السماويُّ عن شُرْفةِ النعشِ

حتى نرى كيف تغدو الثواني جلالاً

وكيف يفاجئُ مكنونُها وحشةَ الانهيار!!

فينهضُ "عيبانُ"

تهتزُّ في روعةِ الانتقالِ الجليلِ الجنانُ

تحوِّلُ أيَامَها المحرقاتِ عيوناً

وتَخرج عذراءَ

تخرجُ صنعاءُ عذراءَ

تمشي وراءك في موكبٍ لا يُجيدُ الركوعَ ولا يعرفُ الانحناءْ

كم وطناً!؟

كم من رفيقٍ تنكَّبَ دربَ الضياءِ

وحفّته دنيا النقابات

كم... ثم كم... ثم كم...!؟

ووحدك تَهدي السراةَ

تؤمُّ المسارَ إلى جبهةِ الشمسِ

تُلهمُه الانبثاقْ!

مرثاة لنخلة الشمس

                       

                        - 1 -

مغارةً قد صارت المدينةْ

ونفقاً أصبح وجهُ الأفق

مذ غادرتْني بهجةُ السكينةْ

وغربتْ شمسي

أجلُّ ما أحرزتُه في العمر

أسطعُ ضوء في ليالي القهر

أنضر فرحةٍ عند اعتكار الحزن

ملهمتي الألحان والقصائد الجذلى والنشيد

ملهمتي المكابَرة

أجمل من حدائق الورود... ومن تلألؤ البحار والأنهار

أنقى من الندى ومن ضمائر الثوار

من كبرياء الشهداء، من مطامع الأحرار

شمسي التي باغتها الأفول

شمسي التي بدأتُ منها بسمةً لا تعرف الذبول

وها أنا على مهابة الوداع غصةٌ تذهب في الذهول

فجيعة بحجم زلزالٍ يشقُّ قلبَ الأرضِ...

حسرة أطول ما في الطول.

مغارةً أصبحت المدينة

ونفقٌ هو الوجودُ المعتمُ المهبول.

                        - 2 -

أَعَلى عيون الزهر يمشي الموت؟

أم أن الجريمة

أخذت مكان الماء في وطني وألوان البنفسج؟

هذا اندثارٌ طالما أبقته أيدي الاندثار

يجتاحني الكابوس... صار الأفق من أسرى الغبار

وأنا أفتش عن ملاذٍ في ضميرِ النخل

عن مأوى بأحداقِ البنفسج

عن رويٍّ ذاهب في الريح يلحق بالقوافي هائمات كالفراش

بالمعاني وهي تمطر بالفجيعة حين ران الصمت

هل هذا الذي يبقيه معنى الموت؟

أم أن البداية في انتشار البوح في شفق البكاء؟

لا أدري أي الخافقين بقي!

أقلب فوق جمر الدمع... أم قلبٌ بغيم الغيب دثره التراب؟

لا أدري!

 أهي التي غابت؟

أم أني أنا المسكوب في شفق الغياب؟!

فقدتْ توهجها القصائدُ في غروب الشمس؛ شمسي

وانسلختُ عن الوجود

وفقدتُ حنجرتي

أنا المسكون بالشهقات أخرسني الغياب.

                        - 3 -

قال الرفيق:

اسكبْ دموعك في عيون الزهر!

قلت: الجلنار غفا

وأحداق الزنابق ممعنات في الغموض

من أين لي وردٌ أصبُّ دمي عليه لأستجير من الفجيعة!؟

أنا عاشقٌ يا صاحبي

والعشقُ أوله فناءٌ

والعشق آخره فناء.

قال: استعدْ زهو الذهاب إلى المشانق!

قلت: المشانق كانت الصبوات إذ شمسي تعلمني الصعود.

قال: انتبه!

علّمتَ أغصان الحدائق كيف تشرق في الربيع.

قلتُ: الربيع يكون شمساً لا يباغتها الأفول

والشدو بعض روائح الليمون في غبش الربيع

والانتشاء حبيبتي تحنو عليَّ كالربيع

وقصائدي من بسمة منحتني معنى أن أكون

أو غضبة فصلتني عن معنى السقوط.

لا وقت إلا للبكاء

فخذ انسكاب القلب ياقوتاً تباغتك القصيدة

ودع الأنين لغير يوم القفر تأخذك المهابة.

لو كان عمراً من تفاهات لما أشعلتُ حزني

لكنه عمرٌ تمازج بازدهاء الياسمين

كل الثواني فيه أشواق مجنحة وزهو لا يكلُّ ولا يمل

نطوي سِنيَّ الجدب

نبني دولة الفقراء

نغسل كل قبحٍ عالقٍ في خاطر الأشياء

ثم نعيد تكوين الثواني ناصعات كالندى في أعين الأزهار بعد الفجر

بوح العندليب نشيدنا الأبديّ، والأحلام جنّتنا

ترى ماذا يقول البرق حين يشقُّ وجه الليل؟

هل يروي حكايتنا؟

وهل في الزنبق البلدي منا نفحة؟

أُعطي المسافة ما يلائم وجهها الوردي، علِّي لا أفارق بهجة الإصرار

لا ألوي على شيء... سوى شفق تدوَّرَ في شراييني

لأحمي الجلنار وأحرس الغدران

أمنحها البلابل والتوهج والغناء.

لا وقت إلا للذهاب مع المياه إلى النهاية

أجتر أحلامي،

نعم، أجترها.

                        - 4 -

هل لي -وهذا الليل يحدق بي- سوى الأحلام!؟

لا تعتب!

شرودُ العندليب ملاذه المحروس

أمنعُ من حصون الأهل في صرواح...

لكن في بهاء الجلنار

قد أمعنتْ شمسي

فهل أستفّ حزني ثم أذهب في المتاه؟!

لو أنه يُفضي لوجه الشمس كنتُ أخذتُهُ وذهبت

لكن الأسى ليلٌ

أخاف الليل

يفزعني السكون

وأهرب من تهاويل الظلام؛

شنيعةً تبدو

ويبدو الأفق بحراً من رماد

وأَحَبُّ ما في البحر زرقته مع وهج الشروق.

ما كان أودعها!

تجر يدي ونمضي فوق وجه الماء، نمضي كالنوارس

والكف أصبح واحداً

من يأخذ الكفَّ الوحيد!؟

هل تصبح الذكرى مكان الشمس!؟

من أي الجهات يكون بزوغها الآتي؟

                        - 5 -

كأني لا أرى في الأفق إلا الأصدقاء يضمّدون الجرح،

والطلَّ يغسل مهجةً كالماء.

يا شهباً يشعُّ الأُنس من جبهاتها!

لا تقفلوا البسمات!

هذي وحشة تحتل من حولي الجهات... وحدكم معنى الأمان

ووحدكم في حالكِ اللحظات أقمار بلا ليل

وأقمار بلا أفق

وأقمار يغيب غيابها وتظل ماثلةً

يغيب البحر، يودع لونه

فيكون في شفق الصداقة

غابة الليمون تنشر عطرها فجراً

مع الأنداء في غبش الربيع

النخلة ارتحلت وشمسي... ثم هذا البحر ينكر أننا جئناه يوماً والنوارسُ

حين تاق القلب للأمواج أجفلت النوارس

فوحدكم ظَلّوا!

وسوف أظل وحدي.

- 6 -

ختام

لي في المفازة ما يبث التوق... لي في الارتحال

ما للهيام من الغواية حين أدلج في الغموض

فأبتدي من حيث لا أدري

أسير على غلالات، سراباً من حنين أو توهم

أنا في فضاءٍ لازورديٍّ أطير

وفوق بحر من عقيق أدلجتْ سفني

أنا المأخوذ بالذكرى وبالألم النبيل

أهبُ الخواء دلالة التكوين... أنشئ في الغياب وفي التلاشي

كل المعاني المضمرات هناك في بدء الوجود وخلف أسرار البداية

ما للغياب ولِي!

فضاء عينيك ملتف على قلبي وهذا القلب طار

نحو الذي لا يمـَّحي

في الروح... أطياف مقيمات بأعماقي

وأطياف تحلق في الحنايا

من يطمس الأطياف إذ تستوطن الأعماق... من؟

يا فاطر الأشياء!

ألوذ بطيفها فامنحْه معنى الإنبثاق

واسبغْ على الباقي من اللحظات كل سكينة الإيمان

أو فألحقنيَ بالركب المهيب.

< 20 مايو 2001

أي كائن هو آخر القتلة؟!

                 - 1 -

الليل يهبطُ

كل ثانية زماناً من رحيل في العذاب.

الصمتُ سجنٌ ناهض الأسوار ملتف على وجه المدينة.

والرعب يقتحم الشوارع وهي تبكي بالغبار.

وعلى النفوس، على انهيار الكون في الغسق الذي لا ينتهي...

وجلاء تضطرب النفوس.

                          

هذا ارتدادٌ مفزعٌ للَّيل يا قلب المغني

لُذْ بالشجا

فشناعةُ الطوفان تجتاحُ الجميع

والحزن يهبط أخرسا.

ردِّدْ تراتيل انغماسك في الأسى

وزفير روح مدينة تهوي إلى الأعماق مثخنةً، وناسٍ في القرارة يرزحون

الجوع جلاد يعلقهم على سقف السكينة والسواد.

                          

خُذْ من نياط القلب أوتاراً

مدينتنا معبأة بذعر لا يُحَدُّ

والخلقُ مقسوم إلى قسمين:

جلادون يلتهمون في شرهٍ ثمار الجنتين،

ومكبلون بفاقةٍ تفضي لمسغبةٍ

نعاج في فلاة من ذئاب.

                          

غنِّ

 لعلّك تبعث الموتى!

لعل الأفقَ يشرب فيض هذا الليل

أو ينخطُّ نبعٌ من شفق!

أنا مثخن يا صاحبي

أنا في انهيار الكون خيط من أرقْ

وأنا وأنت وهُمْ على الجنبات أسمال مزقْ.

                          

أقسى من الليل الذي ولَّى

هو الليل الذي يأتي

وأرحم من تضورنا الغرقْ.

            - 2 -

الأرض سيَّجها الأنين

ونحن نسغ في الشفقْ.

                          

هلاَّ أحلتَ وجيبَ هذا القلب ألحاناً

وحشرجةَ النفوس قصائداً لا تستقرُّ! وهل...؟

هلاَّ ابتكرت لنا ابتداءً لا يغال

ولا يفاجئه الغسق!

                        - 3 -

كانت ينابيعاً مدينتنا... وكانْ

وجهُ الصباح على بساط سندسيٍّ يطبع الركعات...

كانْ

في كل شبر من شوارعها تُزفُّ بشارةٌ ويقوم قصر للأمانْ

وملاعب الفتيان مترعة أناشيداً ومفعمةً أغانْ

والشمس تعمر فوق هامتها سديماً لا يحول

وكل شبر مهرجانْ.

تفاحة مقسومة كانت

فجمّعها انهمار الورد في الياقوت منتشياً وزهو الأقحوانْ

واخضلَّ يابسُ كل ثانية من التاريخ بالعرق الجمانْ.

زهراً على جبهاتنا ارتسم الرصاصُ

وضاق بالعبق المكانْ.

فكيف يرتد المسا خسفاً

وتزدحم المسافة بالهوانْ!؟

مَنْ صادر الإعصار!؟

من أَسَرَ الصواعق في الزنود، من استباح الإفتتانْ!؟

يا وجه هذا الصمت

من أعطى لهذا الغزو خاصرة الزمانْ!؟

                          

                                    - 3 -

حزن الخراب

يلتف كالإعصار حول القلب.

ألسنة الحريق

تشوي شغاف النفس.

من أين الطريق إلى القصيدة،

والعصر يرسم فوق بحر من رماد صورة النزف الذي لا ينتهي

والليل يلتهم التهاويم التي توحي لنا بالأبجدية!؟

من أين نخلص حين نغرق؟

إن هذا موسم الإدلاج في التيه الجديد.

نعتاد أن تنسدَّ في السفر المسالك

ويكحِّل الرمدُ المباغتُ كلَّ أحداق الهداة

نعتاد أن يجتاحنا الطوفانُ أسود

نعتاد فيه العوم أسيافاً من الألق المقدس

درجت معاولنا على الأسوار

والأسوار نعرفها وتعرفنا

فمن يأت لأعواد المشانق كي يسافر فوق ظهر الريح نحو الابتكار،

يستف قبل تجشم الإبحار من ودق المواجع

ثم يذهبْ في الشفقْ.

نعتادها، تعتادنا

ونُكرُّ فيها عنوةً

وتكرّ فينا غيلةً

ونخاتل الأيام حين تصير أغلالا

نحاصر في مجاعتها المجاعة باعتماد بطوننا حزما

وبعضاً من تراب مترع شربا

ونأكل من أمانينا لتتخَم في مآدبها المسافة...

لكن...

 لم يسبق لليل أن تفصّدَ عن جباه الصحب

أو القضبان من أسياف ركب ممعن الخطوات في درب موشّى بالنجيع.

ندري بأسرار المذابح حين تنطلق الذئاب وحين تعتكر البواسق

لكن...

أن يغتال عصفورٌ صباحاً كاملاً

ويصير حادي العيس سفاحاً

ومن أبقت قوافلنا جلاوزةً،

تغدو الظواهر فوق ما نعتاد

تلبسنا الفجيعة وهي أسمالاً، ونلبسها انهماراً في اكتشاف هُويّة الأشياء

نخرج من مقابرنا نشوراً مفزعاً

نأتي إلى عتبات هذا الإنهيار الفخم، نسأل حكمة الكهان من سبأ عن النبأ اليقين،

وكيف أن السد يأكله الخراب ولا يرى الكُهّان كُنْهَ الفأر!

كيف تفارق الجنّاتُ خضرتها وروعتها!

يباغتنا الغبار

فلا نرى إلا الغبار

وشناعةً تحتلُّ وجه الأفق

تُلحقه بعصر قاتل

            وبموكب في الأصل قاتلْ.

< صنعاء - 24/2/1992

بين يدي "حورة"...

الفجرُ

كان مضرَّجَ الكفين مربدَّ السريرة

والأفق كان يموج بالشهقات...

والأفلاك ساهمةً... وأحداق البنفسج غيرَ مطرقةٍ

تحدِّق في الخوارق.

ها قد تفتّح في الشتاء ربيعنا

وتنفست عبقاً مواكبنا

ومال الزنبق الوردي...

سالفةً تعانق صارماً...

ومسدساً يهفو لتقبيل الزنابق

وتزف "حورة"

أي عرس خارج الأشياء ثَمَّ؟!

على عيون الزهر موكبه يسير

وزغرداتٌ من فحيح الليل تتبعه،

وينكسر الضياء

والفجر يهرب خارج الأشياء... داخلها...

يفر،

والأفلاك لا تدري بلهفتها... ولا ندري!

أفي قلب الزمان

نحيا؟

أم الأفلاك تسكننا ويشرب دمعنا ضوء القمر...؟

البحر مذهولٌ

وإن ذهولنا

بحر زوارقنا به رُمّاننا المقطوف.

"حورة"... خافق ثُقبت جوانبه

وماء البحر فوق جراحنا... يرسو

ويصطخب الذهول

الأفق شكلٌ قرمزيٌ

والمدى...

ما بين حد السيف والياقوت

ينحصر المدى

ومسدسٌ

غسقٌ

وإطراقٌ

وشيءٌ من تفاهاتٍ... وأحقادٍ

تتوِّج رأس ثعبانٍ يطاردنا

فيأتي البحر... يهجر موجه

فيكون حامينا الأخير

ويكون ملجأنا الأخير

ويظل مُزْن الورد والرمان منهمراً

وهذا البحر يشهد أن "حورة" لم تكن تروى

ولكن الكهوف

غيلانها عطشى

وما انهمرت مواجعنا

ولكنا انهمرنا في الرحيل

لنسمّر الرمان في أغصانه

ونقول: طوبى!

إن قابلةً تُعِدُّ لترفع البحر الوليد.

ونجفل

غير أن الروض، غابات الجباه

نسيت مخاوفها

وطمياً من بقايا السد ثبتها

وللإعصار سطوته

وغنَّاء الزنابق

رسمت بأعينها الجريمة

والشموخ يخر

نصغي

ثم نسمع هاتفاً يروي الحكاية:

لم ترتطم هاماتهم بالأرض إذ سقطت

            ولكن التراب

أرغى وأزبد

ثم قام فقابل القطف الثمين

ما بين حد السيف قابلهم

وحيث انثال وابلُهُ المقنى، كان كفاً من عقيق

صدّت عن الألق السقوط

وأودعت كبد السحاب

هذا النمير الأقحواني

                        الندى الوردي

هذا الابتداء

هذا المدى الممتد ما بين الزنابق والسماء

هذي البداية حين نقبلها

وهذا الانتهاء

أي انتهاء!؟

نهدت بصدر الصخر رماناتنا

فعرفنا معنى الجلنار

وعلمنا أن الفجر يسبقه الشفق

والليل لا يأتي إذا لا يستدير بنا الأفق

وعرفنا مختلف الطرق

ها إننا نأتيك من بحر تكونه ينابيع الحنق.

ماذا بأيدينا

إذا ما الفأس داعب دوحنا

والخسف عانق روضنا

ورُمينا بالقدر النزِق!؟

ماذا بأيدينا

لباقات الزهور نعدها

ولشعر طفلٍ عابثٍ

ولحلمةٍ

ولماء ينبوع

وللزيتون تهفو؟!

لكنهم دسوا المسدس عنوة

وأبت أناملنا الرهان

وتوزعت ما بين وجه الأرض

والأفق الملفع

بين سالفة وسيف!

بين الزنازن والحدائق

بين أعيننا ومعتكر اليباب

بين النشو وبين غابات المقابر...

شوقاً

توزعت الأنامل

لتعيد ترتيب الدقائق والثواني والزمان

وتعيد يا صنعاء نسجك من جمان

من سرائرنا تنمقه

ومن رغباتنا، شهواتنا...!

            هلاَّ حنوت!

            إننا رهن الرهان

            وإننا رهن الرهان.

                          

أدري

بأنكِ مثل وجه الريح غامضة

وقلبِ الليل موحية

وأجواز الفضاء.

وأقرُّ يا صنعاء أن قراءة العينين ساهمتين صعب

وأن سركِ طلسم

وهواكِ، عشقكِ، مثل أعماق المحيط

وإنني لا أعرف السر الكمين

لكن...

هل نسيتْ خطاي الدرب حين أكون متجهاً إليك

وحين يحملني الحنين إلى التهجد والصلاة

هناك في محرابك القدسي

حيث تفيض أنفسنا ابتهالات بلون الطيف

ينسجنا بها الشوق المجنح؟

                          

مدهوشةٌ خطواتنا، والركب مدهوشٌ

وحادي العيس، والنغم الشجي

ولدتْ به والدرب دهشتنا

وها إنّا إلى المحراب في ومض البروق

أورادنا عقد من النجمات لامعة

وهذا النهر يتلوها خشوعاً

والمدى.

أي المسافات التي تثني البروق عن التجاوز والسفر؟

عين تحاول أن تغادر من ملامح وجهك الفضي

والأيام ذاكرة وشيء من تبتل

حقل البنفسج ضارع

والريح تعبره وأيدينا

وها إن السماء تطل من عينيك

صاعقة تصورنا على شكل ابتهال أو مدار

لكِ وحدك الغيمات مثقلة

وذاكرة الزمان

وإليكِ هذا الضوء مرتحل

ولك الأناشيد السنية والبهاء

ونادرة الشموس

ولك الرجاء

والفجر مهرتنا إليك

            لكِ الرجاء

            لكِ الرجاء.

< 7/5/1982

وميض

يمضي مع اللحظات برقٌ ساهرٌ

والليل لا يمضي

يسدُّ الأفق معتكراً بوحشته

التي تغتال ومض الروح

تختزل القصائد في أنينٍ خافتٍ وبلاهةٍ

تنضو عن الأشياء مدلول

البقاء

ودهشة الميلاد.

والشفقُ الذي لا ينتهي بتراكم

الأحزان في صدر من البلور

يمعن في فيافي العشق

يعبر وحشةَ اللحظات

غاباتِ الظلام

ويستريح على صبابته التي

لا تنثني

بحواجز الظُّلَم العجاف

ولا بسور الرعب والقتل

المخيِّم كالأفاعي في الجهات

السبع

وجه الروح محروس بأصداف

البنفسج

لا انهمار الليل يبلغه

ولا العَطَب الجحود يشل زند

العشق

تبقى حكمةُ الأيام

والوهج المجنح بالحنين

وبالثواني

ترسم الياقوت في شرر ارتطام

الصخر

صخرَ الموت في سور البقاء

على الهوى

وعلى اقتناص شوارد

اللحظات

تنجو من شراك قوافل البغضاء

والليل المخيِّم بالغناء

وباندحار توهج الأشعار

عاشقةً

وموت العندليب.

                          

يمضي مع اللحظات برق متعب

ويعود مكدوداً بريقاً من رماد الاندثار

وأستريح، ألمُّ أشلائي

أفتش فيها عن أسرار رحلتنا التي

لم أدرِ أوَّلها

ولا يبدو بأن لها انتهاء

والبرق ماضٍ

بيد أن دماً يُراق

وآخر...

 لا ينقل الخطوات

مشلول المفاصل والملامح

والجهات.

يمضي مع الحسرات برق ساهر

وأنا أفتش فيه عن معنى المتاهات

التي ابتلعتْ خطاي وعن غموض الاندثار.

مَن يأتي

مِن حيث البدايات انتهت؟

وهل يكون لراحل معنى إذا انهمر

الضياع وسدَّ وجه الأفق جيش الاغتراب؟!

يا برق! في أي المغارات الْتضتْ

عيناك من حنقٍ؟

ومن أي التواريخ الجميلة تنثني زهواً

لتغسل في العيون قذى النكوص

ومن الليالي وحشةَ الصمت المخيم

كالعناكب حول أطراف المدينة؟

لا أنت يضنيك الرحيل

ويرقد الحاوي على أشواك خيبته

ولا ترتاح عينك للسواد

وللسكون ينيخ كابوساً على الدنيا

يسمِّر في الفضاء شناعة

الظُّلَم العجاف

ويعود يشنق في المدينة زرقة

الشفق المخبأ في جوانحنا

عن الفجر الذي اغتالته أيدي

الاندثار

والحادي بين سكينة الإذعان،

مقسوماً، وبين تتابع الومضات

تأخذه السكينة نحو وحل مقفر الأعماق

والومضات نحو تدفق

النبع الذي لا يستكين... وينجب

الأشياء مزهوَّاً بتقبيل الحصى

طهر، ويعتنق الضفاف.

الحادي مقسوم...

وبرق مجهد يبدو وراء الغيب

ملتئم السمات

منسَّق القسمات

لا يلوي على ما دون وبه الأفق طلقا

والجهات منافذَ

ينداح منها موكب الألق الذي

لا يعرف الإغفاء حين تجلل الأحداث

أرجاء الوجود وحين ينتصر الظلام.

هل أنت بدء بداية لا تنتهي؟

هل أودعت أسرارها الرحلات فيك؟

وهل ضمير الفجر يحرس فيك

ندرة مولدٍ آتٍ وتحرس فيه

معنى الانبثاق؟

والحادي...

هل تنهض به النغمات

تفرج عنه من سحق التواريخ

تنزع عنه أغلال السكينة

يرتدي أثواب صبوته ويركب

مهرة الإنشاد ثم يلوذ بالركب المقدس؟

يمضي السؤال كما يسير البرق

لا يلوي على أحد

وأركب مهرة الإلحاح

أمضي من شراك الردة البلهاء

ليأسرني التياع لا يطاق

والليل لا يمضي

ولكن التوهجَ في سديمٍ لا يُنال.

يمضي الذي يمضي

غبار الاندثار يصير

على قلب المدينة.

يمضي الذي يمضي

ويأخذ من حدائقنا الجداول والزهور

يشبع سلطان الرمال

يلغي المسافة بين ما تُبقي الكهوف

وبين ما تهب السيول

بين اختفاق بيارق الشهداء

وعجرفة اللصوص

ويقايض الأيام عن ألق البداية

بالحرائق والرماد

يُلقي شناعته على كل الجهات ويصطفي

كنف الفواجع

وسواكن الأيام والصمت المخيم والمقابر

يمضي ويأخذ من سرائرنا المباهج

وروائع الغزوات والرايات

فرسان انبثاق الفجر في أيلول

مرتجلي الولائم والرحيل

ويشك في سفر الثواني

روعة الإمعان

يلغي بعض ما تهب الثواني

لكن ما يأتي به البرق المجنح لا يصادره انكسار

والبحر في الأعماق يخزن موجه الألقي

حين تعربد الظُّلَم العجاف

وحين ينهمر السكون على المقابر

البحر لا تغتاله الرشقات

لا تلقي الضفاف عليه أغلالا

ولا يلقي بزرقته

انبجاس السرمدية في اصطخاب

لا تكبله الرمال ولا تصادر فيه

أسرار التدفق والخلود

البحر يبقى دائماً بحراً

ويبقى الطحلب الهمجي

بأصناف الزواحف بؤرة للإنحلال.

البحر برق ساهر

والبرق بحر هادر

وأُرتِّب الأحزان باقاتٍ على صدر التجمُّل والحنين

أُعطي المسافة

ما يلائمها وأرقب كيف ترتص الخوارق في سحاب من أنين

وكيف تنفتق المواجع عن غموضٍ رائعٍ

يُومي إلى ما لم نشاهد بعد

للأفلاك ترْقُبُ رحلة الإخفاق

أو للأرض ترتقب النشور.

يأتي مع الزفرات برق ساهر

ينخطُّ في صدر من البلور

يبعث جذوة العشق المقدس

يستريح على شغافٍ من عقيق

يستعيد طلاوة اللحظات

عمق الانتماء

لأوابد القصافات

للفجر الذي ارتسمت به الرايات

للشعراء في غبش البداية

ينشدون كوامن الأشياء

يرتجلون في عطش التواريخ

الجداول

ينشئون جنانهم فوق الخرائب

واعتكار الرمل والظلماء

يستوحون من خفق النجيع على الروابي شدْوَهم

ويرتّبون شوارد اللحظات

في زمن من الأضواء تنسجه

المواكب نشوةً لا تستكين

وعالماً تعطيه باكرة البنفسج

كل أسرار التوغل في الجمال

وفي الرحيل إلى انعتاق الخلق

من رعب الخراب

ومن تداعي الآدامية في متاهات

من الظلم العجاف

وسطوة الصحراء

تنشر جدبها عسسا

يوارون الخناجر في عيون الفجر

من أيلول

ينتهكون زهو الانبثاق الفذ

والفرح المسيبح بالزنابق

وانهمار الأقحوان

يأتي مع الومضات برق راعف

والبحر يبدو راكد

وعلى الضفاف يعسكر الغزو المؤذن

بالفواجع والسكون

وأرى القصائد تفر من شفق يحاول

أن يدق الباب

من نجم يحاول أن يشق الأسر

من شدو يحاول أن يكون جذوة

ينشق عنها السور

أشهد

أن وجه الانهيار يكبل الأقطار

ينصب للعصافير الشراك

ويستبيح كوامن الأشواق في المهج الضماء

وأنه يغتال سانحة الرجاء

وزورقة الأمواج في البحر

المسيبح بالفواجع

وأظل أشهد

ثم

أشهد

ثم أشهد

أنني ألقيت في الدرب العصا

فزعاً

وأن المهر منهوك القوى

والأرض لا تقوى على خطوي

وأنّي لا أشاهد في فيافي الحلم

غير ملامح الأحباب ترسم

فوق خارطة الأسى هجساً تردده

الجهات.

 حورة": ساحة في مدينة حجة، كان يتم فيها إعدام الأحرار في عهد الإمامة.