ديوان هذا العدد من "غيمان" نماذج مختارة من شعر الدكتور علي الحضرمي، تشكل حالة متفردة من الشعر العميق المفتوح على آفاق واسعة من المشهدية الشعرية الحديثة. ومنذ بدأ شاعرنا كتابة الشعر وهو يحرص على أن يكون هو نفسه، لا يشبه أحداً سواه، ويبدع قصيدته بتأنٍّ خلاّق ومسؤولية فنية عالية يراعي فيها البساطة والاقتصاد في التعبير. ولا نشك في أن قارئ "غيمان" سيكون سعيداً بهذه النصوص المختارة لشاعر كبير زاهد في النشر وغير حافل بالأضواء. وقد صدر له عام 1983 ديوان بعنوان "أبجدية الحب" ضم قصائد مرحلته المبكرة بحيويتها وعنفوانها.

 

 

 

ليس هذا السراج لنا (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

 

                                                      علي الحضرمي

 

حين يلتمع الوقت

سوف أصطادُ نقشَ النساءْ

كي أرد إلى كل ريحانةٍ ضوءَها

وإلى كل بيتٍ هواه

أو لأسمعَ ما سوف أسمعُه حين أنكرُ في كل يومٍ إله

ثم أصطادُ نقشَ النساءْ

كي أرى فضّةَ الصبحِ واقعةً في شِباكِ المساءْ.

 

                         * * *

سوف أختارُ من زركشاتِ البيوتْ

ما يهذّبُ ليلَ الغَجَر

حين يطفو على ريشِ أيامنا

ويضيءُ كلامَ الحجرْ

حين يهذي بأضغاث أحلامنا.

ثم أختارُ من زركشاتِ البيوتْ

ما يعلِّمُنا كيف نصغي إلى الروحِ في جسدٍ

مات من ألف عامٍ وفي قلبهِ شجنٌ لا يموتْ.

 

                         * * *

سوف أطلق تاجَ الغزالةِ من قيدِ صبوتهِ

كي تنام الغزالةُ آمنةً في مهبِّ الظنونْ

أو ترى نفسها في مرايا السحابةِ زاهيةً ومهيّئةً للجنونْ

ثم أطلقُ تاجَ الغزالة من قيد صبوتهِ

كي يرى حارسُ البحر أن الغزالةَ قد تدخلُ البحر من باب إخوتِهِ.

  

من مقام النرجس

 

يَغْتابُكَ الزَبَدْ

يا خاتمَ الأيامْ

يا سيّدَ الماءِ وسيّدَ الكلام

يغتابُكَ الزَبَدْ

يا نرجساً يخرجُ مثلَ الصبُحِ مِنْ قوقعةِ الجسدْ.

 

                         * * *

يا جَرَساً تفتحهُ أسئلةُ المجنونْ

وما أقلَّ ما يقول الريشُ والغبارْ

وما أقلَّ ما يقولُ الـ"نونْ"

عن طائرٍ خاتمهُ النهارْ

وليلُه زخرفةٌ

بين فضاءِ النارِ والأسرارْ

فؤادهُ المكنونْ

يضيءُ في الأشجارِ والأحجارِ والعيونْ.

 

                         * * *

يا شَجَراً يطلعُ في المسافةْ

بين بياض الحجرِ الأبيضِ والخرافةْ

لو يستطيعُ البحرُ أن يدورْ

على سِراجه المقهورْ

هَلْ يَشْرَبُ الساحرُ ماءَ سحرهِ

وتَسْقُطُ الخلافةْ؟

 

سلامٌ على شجر التوت

سلامٌ على شجر التوت يسألُني: كيف يحلو الكلامْ

عن حبيباتنا عندما لا نُحِبُّ؟ وكيف ينوح الغمامْ

حين يختصر البرق أحلامَهُ

ثم يحلم بامرأةٍ سوف يعشقها بعد عامْ؟

 

                         * * *

سلامٌ على شجر التوت يعرف أن الشجرْ

لا يغار على ظلهِ، ثم أن المطرْ

لا يخاف على أهله، ثم أن الحمامْ

لا يرى ما تراه الغزالةُ من أُفقٍ

تحت سقف الظلامْ.

 

                         * * *

سلامٌ على شجر التوت يسأل عن أمسهِ

كان باب المدينة يرتاب فيه، وليل المدينة من روحهِ

ونهارُ المدينةِ من شمسهِ...

كان يبكي على كل شيءٍ

ولا يستطيع البكاءَ على نفسهِ

ثم هل يستطيع الرخامْ

أن يرى في مراياه ما كان يحفظُهُ

شجرُ التوتِ من زركشات البيوتِ ومن نرجسٍ

كان ينمو على حذرٍ فوق ريش النعامْ؟

 

                         * * *

سلامٌ على شجر التوت يعرف أن البدايةَ آخرها ليس إلاّ هناك

وأولها ليس إلاّ هنا

ثم أن البدايةَ أولها ليس إلاّ حبيبي

وآخرها ليس إلاّ أنا

ثم أن الختامْ

قمر عند باب المدينة يأوي إلى نومهِ

ثم لا يشتهي أن ينامْ.  

 

 ليس هذا السراجُ لنا

ليس هذا السراجُ لنا

والبريدُ الذي سوف يأتي على عجلٍ

كي نرى في مراياهُ ما ليس يُشبهُنا

ليس هذا البريدُ لنا

والطريقُ الذي سوف يأخذنا في اتجاه البلادِ البعيدةِ

كي تستريحَ النساءُ إلينا، وكي تستبدَّ النساءُ بنا

ليس هذا الطريقُ لنا

إننا لا نعاتبُ أحلامنا حين تخدعُنا، ثم إنّا نرى

عند باب المدينةِ مُرجانةً

قد تميلُ إلينا، ولكنّها

ليس تعرف كيف تُسمّي هواهَا وكيفَ تدلُّ علينا.

  

 من مقام الحضور

أنتَ وحَدكَ بابُ المدينةِ يسألُني عن هواكْ

وسراجُ المدينةِ يسألُني

كيف يأخذني كلَّ يومٍ إليكَ ولكنَّهُ لا يراكْ؟

أنت وحدكَ، يا سيدي،

كلُّ شيءٍ إذا التمعتْ روحُهْ

يستردُّكَ من كلَّ شيءٍ، ولكنَّهُ

لا يرى فيكَ إلاَّ سواكْ.

 

                         * * *

 بعد ما كانت الأرضُ من دونِها ألفُ بحرٍ

وألفُ سماءٍ جريحْ

هذه الأرضُ تأتي إليكْ

بعد ما كان ليلُكَ لا يستريحْ

هذه الأرضُ خَاتـمُها ساكنٌ في يديكْ

يا أليفَ البروقِ

ويا شمعدانَ اليباب الذي هانَهُ الَولَهُ

كلَّما شيَّدَ القلبُ هيكَلهُ

طارَ في القلبِ طيرُكَ يا سيدي

طارَ قبلَ الأوانِ وأنْزَلَهُ.

 

سراج الموت

اشرح وصيتكَ البهيةْ

واقرأ كِتابكَ يا سراجَ الموتِ للأرض التي

ظلّت تُزخرِفُها القوافلُ كلَّما عَبَرتْ إليكَ على خُطاكَ النرجَسيَّةْ

واقرأ كِتابكَ للغزالةِ كي ترى ميراثَها

مما سيتركهُ الغريبُ من الغوايةِ في مرايا أُمِّها، واقرأ كتابكَ

للربابةِ كي ترى كُلَّ الجهاتْ

تمضي إليكَ، وكي ترى صوتَ الهواءْ

يصطادُ فينا نَرْجَسَ الدُنيا ويُطلق في مرايانا نشيد الأنبياءْ.

 

                         * * *

 يا أنتَ يا ريحانَ هذا الليلِ حينَ تشقُّهُ أسرارُ صَبْوَتهِ

ويا ريحانَ عودَتِنا إلى أسطورةِ الميلادِ فينا

هل أنتَ أولُ من يحطُّ على حدائقِ روحنِا كي يصطفينا قبلَ أن نأتي

وآخرُ من نراه إذا رأينا؟

هل أنتَ أجملُ خاتمٍ تزهو به الدُنيا على أصحابها؟

أم أن في الدنيا مواعيداً تُشكِّلُ من خرائبها ضُحاها؟

هل أنت ياقوتُ البراءةِ نهتدي بِكَ حينَ تأخُذنا نوايانا إلى المعنى القريبِ

فلا نرى في الأرضِ غيرَ الأرضِ تحملُ ظَّلنا عنّا،

كأن الظِلَّ حدٌّ للمسافةِ بين مبتدأ الحياةِ ومنُتهاها؟

هل أنت وحدك يا سراجَ الموت من سيضيئُ ميعادَ السماءِ إذا دنا مِنّا؟

وهل بيني وبينكَ غيرُ ما نرتابُ فيه وغيرُ ما يرتابُ فينا

حين يسقطُ في كتابكَ ما يُسمى بالحضورِ وما يُسمى بالغيابْ؟

 

                         * * *

 بيني وبينك يا سراجَ الموتِ أسماءُ الذين نُحبُّهُم

تأتي وتذهبُ كي ترانا مِثلما كُنّا نُصالِحُ ما مضى مِنّا ونمضي

في الحنينِ إلى سماءٍ ليس يعرِفُها سِواها

بيني وبينكَ ما سيبقى... ليس يجلوهُ النشيدُ.

وليس يُبليه الجديدُ

وليس يأتي في كتابْ.

بيني وبينكَ، يا سراجَ الموتِ، ما يمضي إلى الماضي

لكي يقتصَّ مِن أفعى الترابْ.

  

بــراءة

ونحن الذين على حجرين وعشرين عاماً من السُحبِ المُذْهَبَةْ

نؤجِّلُ أيلول حتى تمرَّ السفنْ

لتأخذَ سلّةَ أرزاقِنا وتعلِّمنا

كيف نبكي على ما سنحتاجهُ من فراغِ المدنْ

ويا أيُّهذا الصدى

أنت يا أيُّهذا الصدى

كيف لي أن أراك تشقُّ المدينةَ نصفين بينهما امرأةٌ

تستديرُ على قامةِ الزعفرانِ المذهَّبْ

وأخرى على فرسين تجرِّب ما لا يُجَرَّبْ؟

وقد ضاع منّا الذي ضاع منّا

وكم ضَيَّعَتْنا شواردُنا

بين ما يجعلُ البحرَ زخرفةً للنشيدِ

وما يجعلُ البحرَ سقفاً لعشرين كوكَبْ!

   

 أهل الطريق

أشعلوا نارَهمْ... ثم قالوا:

سوف نحمل عن هذه الأرض أسماءها

ثم نتركها كي ترى نفسها في مرايا سوانا.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهمْ ثم مالوا

إلى حيث لا تستطيع الغزالة أن تتقي أمها

حين تخدعها أمها، ثم قالوا:

لا نريد من الأرض غير الوظيفة كي نشتري أمنا

أو نبيع أبانا.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهم ثم قالوا:

سوف نمضي إلى حيث مالت خطانا

قد نرى ما يرى الناس في الناس لكننا

لا نرى في رؤانا

ما يرى الناس فينا، ولكننا

سوف نأخذ من زينة الحجر الفذ ما يجعل الأرض

حين تكون كما تشتهي أن تكون ترانا

كما تشتهي أن ترانا.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهم ثم قالوا:

سوف نترك أبناءنا في مهب الكلام

عن سراج البيوت الذي مات فينا وعن طائر

سوف نعشقه في الظلام

ثم نغتابه حين يغتابه أهلنا

وعن الغرباء الذين أتوا من مروءات آبائنا

كي يسيئوا إلى الله فينا

وكي يستبيحوا الطريق إلى مائنا.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهم

كي يهبّوا مع الريح شرقاً وغرباً وكي يعرفوا

كيف يحتفظون برغوتهم عندما يعبرون الرصيف

وكيف ينالون من شجر الصبح ما كان في وسعهم

أن ينالوه قبل سقوط الشجر

في الطريق إلى باب قيصر

أو في الطريق إلى صبوات الغجر

ثم كي يعرفوا

كيف تلتمع الطير زاهية في سماء الخريف.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهم ثم قالوا:

زينة الفقراء تتوِّج أبناءها

ثم ترفعهم فوق مرجانةٍ لا تميل

زينةُ الفقراء تتوِّج أبناءها

حين تحفظ لله ما ليس للغرباء، وزينتنا

تتشكَّل من حولنا زبداً قاتلاً وفضاءً قتيلا.

 

                         * * *

أشعلوا نارَهم

قبل أن يعرفوا أن أفعى التراب

حين تفتح زينتها

لا ترى في المرايا سوى شمعدان الخراب.

 

مرجانة الصبح

أشعلت ناري في مرايا الساحرات وجئت

كي أتعلم النسيان من حجر البراري.

وتركت ميعادي على شرفات هذا العام

كي يتعلم الشعراء مني كيف تختصر

المسافة بين أسماء النساء على خواتمنا

وأسماء البلاد وكيف تختصر المسافة بين

أسوار المدائن والفصول وكيف تختصر

المسافة بين أسراري وناري.

أشعلت ناري كي أسمي نخلة الصقر

الغريبة باسمها، ولكي أقول لصاحبي:

يا صاحبي.

أشعلت ناري كي أرى أمي تزخرف

خاتمي وبياض أيامي بأسماء السماء، وكي

أرى أمي تراني مثلما كانت تراني ثم

تنساني قليلاً حين تؤنسها ابنتي.

يا أيها الماضون في ماضٍ دنا منا ومنكم

ثم مال بنا إلى ما ليس يشبهنا ومال بكم

إليكم!

لو يستطيع البحر أن يطفو على ريش

النعامة هل ستتخذون من ريش النعامة

هيكلاً تزهو به تفاحة البحر الأخيرة!؟

لو تستطيع الأرض أن تعلو على أسمائكم

هل تأخذون من السحابة خاتم الأسماء كي

تَصِلُوا إلى ما يجعل الأسماء تختصر

الجزيرة في ضفيرة!؟

هذا الطريق نهاره قلق وزينته تفتش عن

ضحاها.

هذا الطريق يمر خلف مدائح الريحان كي

يمضي بكم وبصولجان سمائكم نحو

النهاية علكم تجدون فيها ما يحط بكم على

حجر البداية.

وبداية الأشياء تأخذ شكلها مما سيتركه

حصاني

خلف المدائن من سراج يفتح الماضي عليَّ

ويستبد بصولجاني

لكنني، وبداية الأشياء تأخذني إلى ما لا

يرى الأغراب فيَّ،

يعود بي المطر الأليف إلى جروح الماء فيَّ

وفي زماني.

وأنا إذا انتبهت جروحي فيك يا مطر

ختموا جروحي

وأنا إذا انتبه الطريق يريبني السفر

وأنا كأنَّ الريح يقلقها وضوحي

تتجمع الطرقات في طرقي وتنسكب

البروق على غصوني كلما سميت أسمائي

وقبل مجيئه ينشق -قبل مجيئه- القمر

وأنا إذا سميت سميت التماع الطير يحفظ

ما تبقى من هواي وقد تورد مطلعي.

وإذا أردت أردت للأيام أن تمضي معي

وتفر مني حين ترتاب الأهلّة في

سفوحي

وأنا أسير شواردي وخليل روحي.   

 

 إيقاعات خريفية

يا خريف الأهلّةِ

ماذا تقول الأهلّةُ عن شجني؟

وأنا من أدرت الأهلة حين رفعت مداي

وأسكنتها سكني.

 

                         * * *

وأنا -يا خريف الأهلةِ- طال مداي، وفاض مداي،

ومال عليَّ

ومن فضةٍ كنعاس الغزالِ

ومن عسلٍ كهديل الرخامِ

ومن شجرٍ لا يحطُّ على شجرٍ

قد رسمتُ مداي

رسمت مداي، وشردني.

 

                         * * *

وأنا -حين أجمع زخرفة البرقِ- تخطفني

شرفات المدائنِ

تخطفني،

وترش القرى

في دمي والشجرْ

بالتماع الذُرى

ولهيب المطرْ

وأرى ما يرى البرق فيَّ وما لا يرى

وتميل خطاي على حجرٍ

حين يقصر عمّا أرى زمني.

 

                         * * *

للمسافات بحرٌ يميل ويسقطُ حين تحطُّ عليه،

وبحرٌ تهذبه السفنُ.

للقرنفل نافذةٌ

وفضاءٌ يشكِّلُه بيديه

ويطفو عليه

ويتركه حين يتركه

ويحِنُّ إليه إذا هزّه فَنَنُ.

للفضاء فضاءٌ يبعثره

ثم يجمعه طازجاً كحليب اليمامِ.

ولي بدنُ

كلَّما قلت: هذا نشيدي سأخلعه كوضوح الشمال على فرسين وأصعدُ

أصعد قبل الصعود الأخير على أثرٍ ليس من أثري،

هزّني بدني.

 

                         * * *

كلَّما ناح بين يديَّ الطريقْ

والتقطت خطاي، أشكِّلها فرساً للنشيد الذي كان يجلو هواي كتفاحةٍ من ذهبْ

ناح بين يديَّ الرفيقْ

ناح يسألني طُرقي وخُطاي، وأسلمني تعبي للتعبْ.

كل أرضٍ لها -حين تنسكب الأرضُ في الأرضِ- خاتمها

يتدفق في خصرها،

ويعلمها كيف تجلو كلام الحرير إذا لـمَّ زينته وارتحلْ.

كل أرضٍ لها -حين تنسكب الأرضُ في زعفرانٍ القُبَلْ-

قامةٌ تستدير بها،

وتعلِّمها كيف تصعد من قامة الزعفرانْ.

كل أرضٍ لها -حين تُختَصرُ الأرضُ فيك- شواردها

قد تنام لديك

وتصحو لديك

وتشرب قهوتها من يديك

ولكنّها لا تدلُّ عليك، وظلُّك تشربه قامتان

يا غريب الزمان

يا هديل العيون إذا رقَّ ميعادها وانسكبْ.

كلَّما اتضح الفرق بين غياب الصدى

حين يلتمع الناي فينا، وبين التماع المدى

حين نشرب قهوتنا في عَجَلْ

ناح ميعادك المستدير على قمرين ودارت به ومضةُ الوسنِ.

كلَّما طار طيرٌ على وهج امرأةٍ واشتعلْ

ناح نهر العسلْ

ناح فيَّ، وأحرقني.

 

                         * * *

وأنا -يا خريف الأهلّةِ-

بيني وبين هواي بلادٌ تشكِّلُني

ثم تتركني

لا هواي هواي، ولا شجني شجني.

 

  من قصيدة "الملكة"

للقامة السمراء وردتها وللولد القيامُ

هذا هو الجسد الأحدْ

لقصيدةٍ عشرون داراً والطريق إلى حَمَام الدار يخطفه الحمامُ

وقصيدةٌ أخرى يحاصرها الزبدْ

هل كان يتكئُ الخريف على رموش الطير؟ أم كان الغمامُ

يأتي ولا أحدٌ يدلُّ على أحدْ؟

هذا طريق الروح حين تفرُّ من جسدٍ إلى جسدٍ ويرفعها الكلامُ

هذا طريق الروح حين تحطُّ في حجرٍ وتختصر الأبدْ

وعليَّ أن أمضي إلى ما ليس يشبهنا ويكسره انتصاف سؤالنا فينا

وأن أقتصَّ ميعادي على جسدٍ ينوح بلا جسدْ

وعليَّ أن أمضي بلا سببٍ سوى ما يجعل الأسماء أسباباً تعيد إلى السماءِ سماءَها

وإلى خطاي أنا خطايْ

هذا وقوف دمي على رمشين بينهما أنا وأنا

وقبلهما سواي ولا سوايْ

وعليَّ أن أمضي إلى ما لا يراه الحبُّ فيَّ وأن أرى

في ما أُحِبُّ ثراي يصعدُ من ثرايْ.

 

                         * * *

يا أيها الحجرُ الذي فجرته عنباً كميعاد النبوءة واستدرت عليه ظلا

ما زال ثغرك يستردُّ ملامحي صدفاً ونخلا

ما زلتُ فيك أعودُ من يومٍ إلى يومٍ

ومن دارٍ إلى دارٍ

وما زال القيامُ بلا قيامْ

عينانأولُ ما تكون غمامتينِ

وحين تغتسلُ الأهلّة في أواني الكحلِ يرتعدُ الغمامْ-

نذرتنيَ الأيامُ بينهما نديماً للفصولِ

فكم تشكَّل موعدي عنباً ورملا!

يا أيها الحجرُ النبيلُ، فعمَّ تسأل؟

عن هروب دمي إليكْ؟

ما زال ثغرك يستردُّ ملامحييا سيدي-

مذْ عُدْتُ طفلا

يهتزُّ بي الوترُ

فيوحِّدُ الشعراءُ هيئتَهم على قدمي

ويشقُّني القمرُ

فيطارد الشعراءُ برقاً بارداً

ويغادر الشعراء برق دمي

مَنْ مرَّ قبلي بين أغنيتي وبيني

كان يعرفُ أنَّ صنعاء التي يغتالها المطرُ

ستعيدُ رسم حمامةٍ بيضاء تعرفني

وتعيدُ رسم حمامةٍ بيضاء تعرفُ طَلْعَة الياقوتِ والزمنِ.

 

                         * * *

يتوزَّع الحراسُ بين فمي وأجراسِ المدينةِ

كلَّما جاء المساءْ

ووصيةُ الأحباب ألاَّ تنكسرْ

قبل استدارتك الأخيرةْ

وصَبيَّةٌ في كفِّكَ اليُسرى تجوعُ وتنتظرْ

ميلاد صوتٍ أو ضفيرةْ

باب المدينةِ لا يعلِّمني سوى رسم النساءْ

وفمُ المدينةِ لا يغارُ عليَّ إلاَّ من فمي

فعلام يغلقني ويتسع الفضاءْ؟

هل يصدق الغَيْلُ المطرَّزُ في جبيني؟

هل أنت يا قدح الخوارقِ مستديرٌ كالسماءْ؟

كلُّ الغيولِ تفرَّقت بيني وبيني

منِّي تُعيدُ إلى الحصى أيامَها وتعودُ منِّي

شجني أنا ياقوتُ عرش اللهْ

يا غيْلَ الخوارقِ شُدَّني وتراً لتسمعني

لعلَّ هواكَ يبلغ منتهاهْ!

 

                         * * *

سَنَةٌ تخبئُ في جبينكَ ما تخبئه البحارُ ولا تعيدكَ من هواكْ

سنةٌ تضمُّكَ بارداً كيديكَ أو كالموتِ أو تبكي عليكَ وأنت أوسعُ من مداكْ

سنةٌ تعضُّ جبينَها

وتعذِّب الشعراءَ كي تنساكَ، هل تنساك؟ أم أن القصيدةَ والمدينةَ ليس بينهما سواكْ؟

سنةٌ تعلِّمكَ الضُحى

والصيفُ قَبْلَكَ لا يدلُّ عليكَ لا تدخل إليها من ضُحاكْ

قد تستبيحُ دروبُنا ما كان يبكينا ويرفعنا

وتسقطُ أنت وحدكْ

قد لا أحبكَ قبل أن أنساكَ! فليمتدُّ ميلادي

وتخرج أنت من شفقٍ تملَّكَ فيكَ رشدكْ

ماذا تخبئُ في شفاهك غير ما تمضي به امرأتانِ:

ياقوتاً جريئاً كالصلاة وسيف آدمْ؟

والبيت أوّلُ ما يكون كنانةً والجرح خاتمْ

فإذا تمثَّلَ في خُطاكَ البدرُ قافلةً فإن البدرَ آهلْ

رفَّ الجميلُ وخانه العبقُ

ما للعيون السود تغزل في السما عبقاً وتحترقُ!؟

للريح أسبابٌ إذا زان الحصى شَبَقُ.

 

                         * * *

يا أيها المجنون علَّمَني جنونُك ما أباحَ النهرَ بَعْدَكْ

إنّ الأصابع لا تشقُّ يداً وتستترُ

إن التوسّط بين ظلِّك وانتظاركَ ليس يشبهُ ما يحطُّ سلامنَا ويحطُّه الغَجَرُ

يا ليت من سمّاكَ في رسمٍ ولفَّكْ

سمّى هواكَ وأنت ما أقسى هواكَ وما أخفَّكْ!

تمضي فيتسعُ الرحيل على ذراعكَ، لو عرفتكَ هل سيعرفُ ظلَّه الشجَرُ

ولدٌ لمن سيشبُّ عندكَ... أنتَ

أو جسدٌ لمن سيشقُّ زندكَ... أنتَ

أو نايٌ

لآخر ساعةٍ في الدار تطفئُنا ونفتحها بلدْ

وكما تحطُّ الطير شاردةً على شجرِ البحار نحطُّ فيكَ نَحُطُّ

أو ننسى البدايةَ حين يسألنا الزبدْ

ماذا تخبئُ نجمةٌ للروح قبلَ نُعَاسها؟

ماذا يخبئُه النشيدُ لآخر الطرقات قبل قياسها؟

ماذا سيخبركَ النذيرُ؟

شقَّ الضياء وعاد أو شقَّ الأبدْ

هذا هو الجسدُ الأميرُ

ماذا يريد النايُ من لهبٍ تآكل أو شَرَدْ؟

هم يسألونكَ عن جنوب البحر: هل يطفو على سمعِ النساء إذا ترفَّق عاشقٌ بفتاتهِ

وأحالَ خاتم خصرهاكي يشتهيها- وردةً وأحال نهديها سحابا؟

هم يسألونك عن غصون الروح: هل تُرْخِي على قلقِ المدائنِ شَجْوَها

وتلمها غبشاً إذا حنَّ الغريبُ إلى شواردها وتفتحها غيابا؟

هم يسألونك حين يبتدئ المدى

من ساعديكَ

وحين يشتعل الندى

في جبهة الزمن العليلِ، وحين تُخْتَصَرُ البراريْ

في ومضةِ الحجر الذي يبكي على حجرٍ تصاعد من خُطاكَ وغاب في شَبَقِ المدارِ.

 

                         * * *

 أتقول لي مهلاً؟ ووعدك يا حبيبي جارحٌ

مهلاً إذا اتجهت صوارينا إلينا دونما سببٍ، وكم قال المغني للعيون السود: مهلا!

مطرٌ سيخدعنا إذا اتجه الجنوب إلى الجنوب ولم تجد

بحراً تُبَدِّدُ بحرَنا فيه السفوحُ

دعني أشكُّ بما تشكُّ الأرضُ فيه ولا تدعْ

في الأرض فضتَها تنوحُ

دعني أشكُّ بآخرِ الأعراب من ولاَّك منهم أو تولَّى

دعني أشكُّ بشمعدانِ البحرِ! كم من نجمةٍ

شقَّت غبار البحر تجرحني، وتبلى!

دعني لمنتصفِ النهايةْ

دعني لمنتصفِ البدايةْ

دعني، فهذا الليلُ من حجرٍ، وروحكَ يا رفيق الدرب روحُ.

عن أي شاردةٍ ستتضح اللغةْ

وبدايةُ الأشياء تبدأ من تَفَرِّدِ خاتمي؟

عن أي شاردةٍ ستتضحُ الموانيْ

والبحرُ يثقبه الصدى؟

للطيرِ شقشقة الثوانيْ

والطيرُ آخرَ من يمرُّ عليَّ، تجرحني ويخطفها المدَى

هذا حنينكَ يا مداي إلى غصون الروح يصْعدُ من دمي

عن أي شاردةٍ ستتضحُ الجباة المفرغةْ؟

 

                         * * *

 يا أيها الحرف البعيد وأنت أقرب من نشيد الزعفرانْ

ماذا يقول الزعفران إذا اشتعلْ؟

وقصيدتي أنثاي تشعلني، وتخدعني

وتدخل فيَّ مما ليس يشبهني، ويشبهني ليتبعني

وتأخذ من خطاي مداي، تأخذني،

وتأخذ من مواعيدِ الحَمَامِ البِيْضِ ميعادَ العسلْ

ماذا يقول الزعفران وليس لي إلاَّ أنا؟

وقصيدتي أُفقي البعيدُ وقد تجمَّع في يدَيَّ،

وغاب فيَّ، وفي مراياي البليدةِ غاب غيبي، ولكنِّي هنا

قد لا أريدُ من النساء ومن قناديل الشوارع ما أريدُ، وفي خلايا البرقِ تنثرني مواعيدي

وتخلعني على الأشجار ياقوتاً، ووحدَك أنتَ

وحدَك أنتَ تجمعني.

 

                         * * *

 

يا أيها الحرف البعيد وأنت أقرب من نشيد الزعفرانْ

 وأنا وأنتَ، الأرض أضيقُ من خواتمنا قليلاً كلَّما اتضح الأمانْ

 وأنا أُحبُّك غير أني لستُ من ناري وجاري

 وأنا وأنتَ على فراشةْ

 وأنا وأنت على حصانْ

 خيطُ النجوم إذا تدلَّى منكَ أو منِّي

 تَبَدَّدَ فيَّ أو فيكَ الزمانْ.