ديوان غيمان
قصائد مختارة
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 شوقي شفيق من الأصوات الشعرية المميزة في جيل السبعينيات. جسّدت إصداراته العديدة حداثة القصيدة الجديدة في اليمن، في حيويتها، وأبهى تجلياتها، وتفاعلها المستمر مع تحولات الكتابة الشعرية المعاصرة، ومواكبة أسلوبياتها الأجد، المستفيدة من ثقافة عصرها ومستجداته، فضلاً عن صلتها بالمنتج الشعري ومناخاته المتجددة. يسعد «غيمان» أن يكون شوقي شفيق شاعر ديوان عددها هذا.


 

                                                      شوقي شفيق                                                     

                                                

 

 

تمارين في الهايكو

1. حتى بعد مواد التجميل

   ظل كما هو

                  الوجهُ.

 

2. العدسات اللاصقة

     بحرارة صغيرة

     أحرقت معها العينين.

 

3. الحرير الذي كنت تفركه بيديك

    الحرير الذي كان مبعثراً وكنت تجمعه

    هل كانت حرارته عالية لتوقف اشتعاله!؟

 

4. ماء، ثمة، كثير

    فعلام هذا الوجه

    يابس كحذاء!؟

 

5. يركضون منذ زمن بعيد،

    اللصوص، الجنود، الموظفين...

    لمن الغلبة في هذا كله!؟

 

6. نساء يأتزرن بقطع صغيرة

    ونساء في سواتر حالكة السواد

    أيكن -أيتها الشقائق- ترتدي الحرية!؟

 

7. صحا من نومه مذعوراً،

    فجأة

    نما له ضمير!

 

8. ركبة لمعت في الظلام

    سبب كافٍ لينتفض الطائر

    في مكمنه.

 

9. لم أتناول -أمس- شيئاً بعدك

    كي لا أفقد مذاقك في فمي.

 

10. أحسَّ بنعووومة

    حين جلس على المقعد الطويل

    لم ينتبه إلى أنه جلس على فخذ طازج.

 

11. في الغرفة ثلاثة يرسمون امرأة

    حين اكتملت المرأة

    شهقت الغرفة من فرط الأنثى.

 

12. في برميل النفايات قطط وبقايا أرغفة

    وبلاستيك

    في البرميل أيضاً وجبة لمخبر يرتدي زيَّ مجنون.

 

 

  إضراب

المصعد الكهربائي

الشهير بـ«السيد أسانسير»

قدم احتجاجاً إلى المعنيّ بأمره:

«إنهم لا يستخدمونني الاستخدام الذي

وُجدتُ لأجله؛

رجال الدوام الليلي، الذين يعودون إلى غرفهم

بعد انتهاء الراقصة من واجبها اليومي،

وبعد انتهاء فتيات الملهى من عملهن اليومي

وبعد انتهاء نساء الليل اليومي

هؤلاء الرجال يزعجونني بمقذوفات معداتهم

وفائض كحولهم،

نساء آخر الدوام الليلي بأحذية عالية وأجساد واطئة

البرابرة والرعاة حين يرمون بقاياهم وأعقاب

سجائرهم على أرضيتي، مع أنني ممنوع من التدخين.

مهمتي أن أوصل العملاء إلى غرفهم،

ولا ضير في أن يوقفني عاشقان في منتصف

الطريق ليمارسا انهماراً

خاصاً على عجل”.

 

الأسانسير الشهير بـ«السيد مصعد»

احتجاجاً على ذلك كله

توقف عن العمل نهائياً.

 

 

  متروكات

)إلى أبي(

 

                             -1-

الأب الذي كان يرتب وقته في فضاء الكتب، وفي الاعتناء

            الأقصى بالملابس؛ الأب الذي كتب قصائده في

            زمن خاص جداً، وباع كتبه لزمن خاص جداً؛

            الأب ذو الذاكرة المحتشدة بلغته ولغة شعوب أخرى،

            ترك ذاكرة معطلة كانت مليئة باللغة

                                                            والخرائب

                                                            واليقينية العليا.

الأب الذي أنجب رجلين وثلاث نساء وكأس جنون

هذا الأب كله

            ترك على فراشه قُبَّاناً لقراءة الوقت،

            أحذية غير صالحة للسير،

            قميصاً لم يلبسه أحد

            صلاة غير مكتملة

            أجزاء يابسة من بدنٍ نحيل

            احتضاراً قصيراً

            وبعض رحيل.

الأب الذي لم يترك وصية بالمتروكات غافل نساء الغرفة

            ومضى بهدوء.

 

                             -2-

 الأب المتمدد على أريكة اليباس، تتدلى إصبعه في فضة

الخاتم المعتقة. ومن فرط بدنه يوغل في رجفة التحول

يقل تراكم الدم في آبار القلب، وتتناثر جرعات الهواء

في فضاء اللاوصول.

ثمة، إزاء انتفاخ القدمين، يرتبك النظر

وتتبعثر بصيرة الحذق عند عتبة الصمت، والألم

لا يقول رعدته.

 

                             -3-

كم كان الأب يروي النصوص ويكتب الحالات! لكنه لم

يقدر على ترتيل آلامه.

كم هجرة ستحصي أيها الولد المشتغل على سلالات

العبارة، أيها الولد المشغول باستنطاق اللوعة؟!

في الهجرة الأولى كان فراق العائلة.

في الهجرة الثانية نحو العائلة تتراكم الوحدة في أبد الانتظار.

في هجرات تالية تجف الأسرار ويعلو السباق لتشييع

الدار القديمة إلى المالك الجديد.

ولا يبقى غير ممر أخير يسلكه بدن ناصع الارتعاش،

            ذاكرة تخلو رويداً رويداً من التذكارات

            يد تتلمس خطواتها في المحو، وتشم

            عقاقير تؤخر صعود الدم، لكنها لا تفي

            بتأخير الصعود الأخير.

 

                             -4-

أب في غيم البرزخ ينتج ضوءه الشخصي، مكملاً سيرة

الرحيل العائلي المبدوءة بالجدة الأولى.

كنت تظن -أيها الولد المشغول بسلالة العبارة-

أن الجنائز ما عادت قابلة للخروج من بيت العائلة!

ها هو نعش آخر كي يسقط رهانك

وها جثة لم ترها تتجه نحو فخامة المقبرة

من دون أن تلقي عليك ترتيلة الوداع.

 

 

  منذ...

منذ كائن كونديري لا تحتمل خفته

منذ عمال نظافة ينهضون خارج السياق

منذ فتحي أبو النصر إذ تخونه الموسيقى

منذ عمرو الإرياني محاولاً الخروج من عقب سيجارة

في منفضته (هل نجحت محاولته؟)

منذ عبدالرحمن الغابري يصيد الغمام في الأعالي

منذ عبدالرحمن إبراهيم يرتبنا في بذخ أطروحته

منذ الصديقة التي تكشفت عن «محض كذيبة»

منذ قطط الدوام الليلي تتراكض في مواقعاتها

منذ «رجل كثير» أول حرف من اسمه محمد حسين هيثم

منذ سيد درويش يهوي في هواه وينتهي

منذ عبدالعزيز«نا» يرفو مثالبنا بأصابع محبته

منذ عدنَ عتيقة يلتفُّ عليها بداة أجلاف ورعاة

أيديولوجيا منتهية الصلاحية، وكمائن وسماسرة

منذ عدن معتقة تؤطر سريرتنا بصباح «الخمير الحالي»

والشاي «المليّن»

منذ عدن تمنحنا ظهيرة صاخبة وحارقة

ومساءات تتراكض في بهائها البحري

منذ خيول بائتة،

منذ فرسان عابرين كسنيوريتات ثرثارات

منذ سنيوريتات ثرثارات

منذ محمد اللوزي يبني قرصاناً

منذ محمد الشيباني يكيّف الخطأ

منذ جمال الرَّموش يمجد الخجل

منذ ابتسام المتوكل تلتمس صداقة العائلة

منذ عبدالرحمن الحجري ينضد موتاً باذخاً لنصف يديه.

منذ عادل البروي يسافر إلى سطح المبنى ليرتمي قصداً

في سلة الفراغ

منذ أصدقاء في الرحيل

منذ زوج نفد منه الكلام

منذ توفيق الزكري يعانق رمضاء القلب

منذ أحمد شاجع يهندس رقصة ذات مساء مع

عبدالناصر مجلي

منذ مبارك سالمين يسطع «الآن»

منذ فيروز ترتدي رحابنة فائزين

منذ جميل حتمل، الجميل حتماً، إذ يحلم بطفلة ذات قبعة زرقاء

منذ علي العامري إذ يحدس يده المبهمة

منذ أحمد قاسم يبني عشاقاً في ساحل أبين

منذ لطفي أمان يزود القصيدة بدم جديد

منذ محمود درويش يعلّمنا فلسطينه الشخصية

منذ سرجون بولص يصحو في سفينة نوح

منذ سعدي يوسف يقرأ علينا التفاصيل ويشاغلنا بالأخضر

منذ نبيل سبيع يرتدي هيلوكوبتر في الغرفة

منذ أسمهان تدعونا لشرب قهوتها أو لشرب كأس عينيها

منذ عيد الخميسي يزودنا بتضاريس مدينته

منذ حروب عمياء تحتفي بالقتلى

منذ حروب إضافية ستحتفي بأشلائنا في حفلة رأس السنة...

منذ هذا كله

منذ هؤلاء كلهم

يربّي كونديرا كائناً غير محتمل

و...

 يعيد عمال النظافة ترتيب سياقنا

و...

 يعلو أبو النصر على الخيانة وطعنة الموسيقى

و...

 يخرج عمرو من المنفضة

و...

 يمارس الغابري أعاليَه

و...

 يدرأ عنا عبدالرحمن إبراهيم بعض غيابنا وينثر

عطره في أرومتنا

و...

 تمعن الصديقة في «محضها»

و...

 تـ... مـ... و... ء القطط

و...

 يقيم الرجل الكثير في أبد احتمالاتنا

و...

 تزهو الـ... عدن في زوارق دمنا، في شاينا، في بحر

خلودها وفي خلود بحرها

و...

 يعلق الفرسان الذين كالثرثارات في ثرثراتهم

و...

 يعلن الأصدقاء الماكرون نبل رحيلهم

و...

 بعد زواج مؤبد، الزوج الذي نفد منه الكلام تحولت

زوجته إلى كلام كثير

و...

 يودع توفيق الزكري قلبه (مش بالعاني) في قسم طوارئ

مليء بالطارئين

و...

 يتماهى أحمد شاجع مع موت سافر

و...

 يزين مبارك سالمين المقبرة برؤوس فاخرة

وأجساد تلتاذ بغيابها الأقصى

و...

 ترفع فيروز منسوب إنسانيتنا، وتصرخ نيابةً عن

طلال حيدر في الراحلين: «يا رايحين وتلج ما عاد بدكن ترجعوا

                                     صرّخ عليهن في الشتي يا ديب بلكي بيسمعوا»

و...

 يحفظ جميل حتمل موته في غرفة باردة

و...

 يُخْلي علي العامري ظله في الكسوف الأبيض

و...

 يَذخّر أحمد قاسم خزين ولعنا ولوعتنا

و...

 يوشّي لطفي أمان أشواقنا بـ«ليالي» العشق

والغناء

و...

 يكشف محمود درويش بصيرتنا

و...

 يأخذنا سرجون بولص إلى لغة نصف العالم

و...

 يسير نبيل سبيع ببال مغمض

و...

 تجلس الحروب على كرسيّ التباساتنا.

 

إحالات غير ضرورية كأنها نوافل:

- ميلان كونديرا: الكائن الذي لا تحتمل خفته.

- فتحي أبو النصر في موسيقاه التي طعنته من الخلف.

- عمرو الإرياني ومحاولة الخروج من المنفضة.

- عبدالرحمن الغابري: شاعر الكاميرا الفوتوغرافية الشهير في اليمن.

- عبدالرحمن إبراهيم: شاعر إلزا ومزاج الهدهد أحد أشهر الذاهبين في الخلود، ربّان احتراقاتنا وعاهل هوائنا وهوانا.

- محمد حسين هيثم: المقيم بامتياز في لا نسياننا، الخالد في أبد حداثتنا، صائد الرؤى، الساحر العظيم والراحل الهائل في علو القصيدة.

- عبدالعزيز المقالح: أبونا العالي والسامق، راعينا وGod Father نا.

- محمد اللوزي: الشاعر المشاكس الذي هزَّ الشباك ليبتهج العنكبوت.

- محمد الشيباني: الذي ضيّق شارعاً ووسع الجينز، وعند تكييف الخطأ أثخن المرقص بالليل.

- جمال الرَّموش: الشاعر الشهير الذي يعالج حموضتنا بمضادات قصيدته وذخيرة عدنه المائزة.

- «فلأكن صديقة العائلةتهتف ابتسام المتوكل إذ تنشر دفء قصيدتها في شتاء مدينة مغلقة.

- عبدالرحمن الحجري وعادل البروي: شاعران أنهيا حياتهما الشخصية، الأول برصاصة، والثاني بقفزة من مبنى عالٍ وتفردا برحيلهما كما في شعرهما.

- توفيق الزكري: الشاعر الذي خذله قلبه ذات رمضان في قسم طوارئ صائم عن الإنقاذ.

- أحمد شاجع: شاعر أكله فيروس كبد نذل.

- مبارك سالمين: الشاعر والأكاديمي والباحث، الغامرنا بالمحبة وإمبراطور جنوننا البهي.

- فيروز: سيدة الصباحات والظهيرات والمساءات، سيدة الأوقات كلها، التي علمتنا النهوض الحر والقيام السويّ.

- جميل حتمل: القاص السوري، والمراسل الصحفي، القاسم المشترك في معظم الملتقيات الثقافية العربية والعالمية، صاحب مجموعة «الطفلة ذات القبعة الزرقاء»؛ كان إذا ذكرت دمشق -أو الشام، كما يقول إخوتنا السوريون- ينهال حرقة وبكاء. وُجد ميتاً في شقته في باريس.

- على العامري: الشاعر والفنان التشكيلي الأردني، صاحب «هذي حدوسي هذي يدي المبهمة» و«كسوف أبيض».

- أحمد بن أحمد قاسم: الموسيقار الشهير الذي ما انفك يصعد من أنساغ ذاكرتنا، ويغمرنا بانسكابات بوحه العالي عند بحر صيرة، وبأمنيته بريح «عدينية» تجلب له أخبار الأحبة.

- الملك لطفي الأول جعفر أمان: صائد الفتنة، صانع الجمال، الطالع من سلالة الشعر والذاهب في سلالة الموسيقى والتشكيل والأحلام.

- محمود درويش: الشهير بأحمد الزعتر، الشاسع في ضيق وطنه، الساحر الوثيق الذي حاصر الحصار وأدمى العابرين.

- سرجون بولص: الشاعر الذي «وصل إلى مدينة أين»، حاملاً نصوصاً من الشعر في اليمن إلى اللغة الإنجليزية.

- سعدي يوسف: الشاعر الفخم الذي لا يعرَّف، ولا يحتاجني لأعرِّفه.

- نبيل سبيع: صاحب مجموعتي «هيلوكوبتر في غرفة» و«السير ببال مغمض»، الذي لم يُرجع الهيلوكوبتر إلى أصحابها ووفرها لديه.

- عيد الخميسي: الشاعر الجميل من السعودية.

- أسمهان: الشهيرة بالأميرة أمل ذات العينين اللتين لا تشبهان أحداً، والذاهبة في غموض رحيلها.

 

  نهاية 2009- مطلع 2010

 

 

 

 

  انشطار المغني

 

لستَ تملك من عدة البحر إلا بقايا مُلوحته، والخفايا التي تركتها النساء على شاطئ يابس هجرته النوارس واصطخبت بين أركانه الرافعات وحمى الوقيعة؛ ليس سوى الأصدقاء الذين مضوا والذين يخونون  ها هو ذا البحر يرحل عنك وقد كنت عاشقه وسليل خطاه. وها أنت لست سوى ملحق باهت في سداه  أما كنت تغزل بعض نسائك عند تخوم وقائعه وتربي جنونك عند مصباته؟ كنت تحشد ساحله في يديك وترمي على النائمين تحايا المساء  أما كنت تأكل جبن النهود على رمله وتؤثث مائدة الحب فوق طراوته؟ كنت تقترض الأصدقاء على بُعْد مقهى من البحر، تشتجرون على قيمة الشاي أو تطلقون كلاماً على الإخوة المخبرين وعهد السياسة... ماذا تبقى من البحر غير يديك تروزان مجد الهباء؟ وأنت على عجل تتقمص بعض خلود المغني  ولكن بحرك يمضي ويتركه طائر الفلامنجو؛ لأنه المغني باءت ذخيرته بالضمور  ولست سوى خطرة مرة في سدى البحر  كف إذاً عن رهانك! فالبحر لا بحر فيه، وأنت «تجر قوارب عمياء» في رغوة المد  لا بحر إلاّ السكوت المريب أو الثرثرات الحصيفة؛ لا بحر إلا المغني على صوته يتناثر خبز العويل.

 

مستريباً على بعد عينين من جمرة البحث يرفو المغني الضرير مساحات شهقته وينضد أسماك خيباته  ليس إلاَّ الحجارة في مشهد البحر  كيف إذاً ستخب على الماء، والماء ما عاد يذكر سيرته، الماء ينسى سلالته، والمغني يناور أشلاءه. لست تملك إلاَّ يدين معرّقتين ومحض غموض تجسُّ به سفناً حرة ومناطق آيلة للنحول  لستَ تملك إلاَّ فماً فائضاً للعواء، وأعضاء جاهزة للفطام، وليس سواك يدل على محض نورسة علقت في الموانئ من فرط نكبتها  لستَ تملك إلاّ قناديل مطفأة، نوافذ مغلقة  منذ أنْ شاحنات الجنازة شيَّعت البحر ذات بلاد، وأنت على صيف مرثية تبتني ندماً وقوارب مفعمة بانشطار المغني.

 

  أوقفني... قال

 

1. أوقفني عند عتبته؛ قال:

    لك أن تختار بين الدخول إليَّ

    أو الحلول في نسيج الأرض!

    قلت: الأرض خياري.

 

2. أوقفني في الأرض،

    الأرض إرث محبة أو إرث جنون

    والأرض تدفق للكلام وحشد للأنساب

    فبأي حذاقة ستؤطر زهو الخلود؟

    أوقفني في الأرض؛ قال:

    ليكن في يديك بعض قوتي

    ليكن في عينيك بعض رؤاي

    وفي قلبك صفحة لأسمائي

    وليزهر ضوء معناي في بهو أيامك!

 

3. أوقفني في الأيام؛ قال:

    سنقسمها بيننا

    اليوم الأول لي وحدي

    والثاني لنا

    والبقية نراكمها ذخيرة لأسرارنا. فلا تدعْ

    سؤراً منها للغرباء،

    هم الخديعة ترتدي حلة الإغراء والرغبات.

    لا تساويَ في أيامنا

    يومي معرفة واكتمال

    فبأيما أعمال ستؤثث أيامك!؟

 

4. أوقفني في الأعمال؛ قال:

    أعمالك كلها لي،

    مسراتك وأحزانك، غبطتك وأتراحك،

    وما يلي من أعمالك الأخرى...

    قال:

    لا تذهب في الخوف مني

    وافتح يديك لمجدي

    فأنا عدتك وعتادك!

 

5. أوقفني في العدد؛ قال:

    واحد أنا لا يحصيني سواي

    ولا يجمعني عدد

    أنا متكثّر ومتجمّع في أحديتي

    وليس سواي يمنحك الكلام عليّ.

   

6. أوقفني في الكلام؛ قال:

    أزليٌّ خطابي

    وفي البدء كان كلمتي

    لا ترسمُ حرفاً إلاّ أنا فيه

    ولا ترسلُ فصاحة بغير حضوري.

    حضوري أبد

    وبلاغتي بحرُك الذي يجري في الأبدان

    ويقود خيلي نحوك.

    أوقفني في الكلام؛ قال:

    سدىً كلُّ بيانٍ إذ يبعد عن منحنيات بياني

    وهباءٌ كل قول لا تنفذ فيه مشيئتي.

    أو ما علمت أن كلامي بدء ومنتهى!؟

    قال: أنجز بلاغتك،

    لا تنجزها إلاّ بي

    فأنا الحقيقة، وما سواي محض غبار.

 

7. أوقفني في الحقيقة:

    لا ترقى إليها -قال- إلاّ أن تنقِّيَ

    سريرتك

    وتفحص أحوالك كلها.

    الحقيقة واحدة لا رديف لها

    وكلُّ ترادفٍ محوٌ ساطع وهباء.

   

8. أوقفني في المجاز

    قلت: هذا رصيف أدّخره لحين تفصح

    العبارة عن جوهرها ومعناها

    أو ما قلت لي إن البدء كان في كلامك

    هو ذا أنا متصل من غير انقطاع عن مجاز

    اجْتَبَيْتَني فيه.

    هو ذا واقف أنا في مجازك

    متعيِّناً من دون علامة، أنتظر

    وأسأل: لِمَ أوقفتني في المجاز

    وتركتني

    لم تقل لي.

    أوقفني في المجاز

    حتى إذا اشتد اصطلامي مدّ لي رداء التجلي

    ولم يقل لي

    وقفت في المجاز

    أحمل خرابي

    وأخفي خيبتي

    وما قال لي.

  الباب حين كان نائماً

(قصائد)

 

تجفيف

البجعات التي

راقصةً كنتَ تراها في الماء،

البجعات التي فقدتْ صيغتها الراقصة

ها هي أصبحت مجففة في نافورة مصمتة

البجعات المجففة، رؤوسها واطئة في النافورة

و...

من دون عيون.

 

دخان

البعوض -قيل- يبعده الدخان

ترى أي دخان

سيبعد عنا المخبرين!

 

احتجاج

المسدس الذي كان مضغوطاً عليه

تحت خاصرة القميص،

أطلق رصاصة على الخاصرة التي ضغطت عليه

مدفوعاً بالحقد على يدٍ لا تجيد استعمال

المسدس

لكنها -مع ذلك- منعته من الرؤية.

 

مشنقة

المشنقة المعلقة منذ عصور سحيقة

شاغرةً من عنق أو جثة ما

جمعت كل الأجهزة الحديثة و... شنقتها.

 

باب

سيدي الباب!

هل تعلم أنني مللت منك؛

مللت من فتحك وإغلاقك كل يوم

هكذا من دون أن تعبر فيك الأنثى؟

أخي الباب

لن أغلقك بعد الآن

لأنني لن أفتحك أصلاً.

 

كان نائماً

كان نائماً

حين نشبت في تمارينه نبوة الخمسين.

كان نائماً.

هل كان يتذكر أولئك الأصدقاء الذين

مضوا قبل أن يكملوا أعمارهم.

كم صديقاً غادر... وصديقاً قضى... وصديقاً بالخيانة

تمرغ أو بالخوف؟!

هي ذي الخمسون تفاجئه بخطاها، لكنه نائماً ظل في

محض أنثى،

غير عابئ بالذي فر من سنيِّ عمره.

نائماً، رغماً عن الأصدقاء السميكين والثرثرات.

من سيوقظ حشمته وبلاغة نيرانه؟

يطلق إبرته كان في البهاء، ويشعل أجراسه،

لم ينتبه إلى الخمسين وهي تخطو صوب

فضائه

وما كان يعبأ بالأيام التي جرت من أيامه؛

كان نائماً.

 

 لون

رنت عيناها تسألان عينيه

عن لونهما

لم تجب عيناه؛ لسبب بسيط:

أن لونهما كان بلا لون.

 

رصيف الكائنات

نضَّدت رصيف يديَّ لأصف  عليه كائنات شتى:

أطفالاً يتراشقون بالحجارة ويكسرون مرايا

سيارات واقفة على الرصيف،

زجاجاً مهشماً يتناثر ببذخ،

مرايا مغبّرة من فرط وجوه كانت تمر عليها،

ونساء تساقطت وجوههن في مرايا نسيت وظيفتها...

نضَّدت رصيف يديّ لأرتب الكائنات؛

لكن بعضاً منها هرب من نصف يديّ

لم تبق سوى مرايا مغبرة من فرط أشلاء كانت

تسمى وجهاً يوماً ما.

 

 تمرين في مغالبة الوحشة

(إلى صديقي الشاعر العراقي نصيِّف الناصري)

                        افرك خاتم القلب، افركه جيداً

                        كي تمحو غبار الكآبة

                        وافركه مرة أخرى بعناية كي يلمع

جدار النسيان.

أو

ارسم دائرة، ضع داخلها حمامة (أو حمامتين)

وراقب حركة الأجنحة (إن كان ثمة أجنحة)

ستسأل: وماذا لو انهارت الدائرة

أو طارت الحمامة

أو ضايقني ضجيج الأجنحة؟!

سأقول لك: امسح الدائرة كي تزول الآثار كلها؛

أو

عوضاً عن الحمام

ضع امرأة طازجة

كي تنتقم من يباس شقة تأكل فمك.

 

  مزاعم

1. شاعرة مزعومة

الشاعرة التي كانت تصفف جدائلها وتمشط

مجموع جسدها بالعطور وبالماكياج الثقيل

محاولةً تحلية قصيدتها؛

حين صعدت لتلقي ما زعمت أنه قصيدتها

سقطت منها القصيدة، وبقيت جدائلها وماكياجها

وأحمر شفاهها الذي لم يكن أحمر بفعل فاعل؛

الشاعرة المزعومة بقيت شاعرة مزعومة.

 

2.  شاعر مزعوم

الشاعر الذي انفرد بجثته في غرفة مليئة بجثته

وحقيبة ملابس ناصعة الارتباك،

وساعات يد كثيرة، وبعض قَنانٍ فارغة من مخلفات

ليالٍ قديمة وحروب مزعومة؛

الشاعر الذي وصف اعتقال أحد زملائه بأنه

حادثة عادية وأمر يحدث في أحسن العائلات؛

ذلك الشاعر لم يترك فوهة القنينة التي علقت في فمه

ولم يعلّم الشاعرة المزعومة كتابة الشعر؛

علّمها جثة فارغة تملأ الغرفة.

 

  الوعل

 

-أ-

الغزالة النافرة، الغزالة الراكضة في البرية،

الغزالة التي كانت تتأبّى على الاقتناص، جيء بها

في شرك أنيق، وأُدخلت محشوة بمواد التحنيط

والحفظ إلى متحف كان يسمى متحف التاريخ، وسماه

الوعل متحف الخراب.

 

-ب-

الوعل الذي كان يستوعب -بالكاد- نتوء القرنين

في مقدمة رأسه،

الوعل الذي خرج من كتاب الغابة، معاتباً

انبهاراته من نيونات المعارض وهدير الرافعات

وارتكاز الأبلاكاش والأحجار وأتربة الردم،

الوعل الذي بكى حين رأى غزالته تمد عنقها

داخل الشرك

الوعل الذي...

...

لم يكن لديه وقت للندم.

 

-ج-

أفق الاقتناص متسع أكثر

والوعل يبصر انهيارات أخرى.

 

 

  الهزائم قابلة للخياطة

 

ليس يذكر أسماءه؛

سقطت كلها في انجراف حماقاته فاحتمى بالظنون وسنَّ

شكيمته كي يرادف صحراءه بالغبار. الدليل يؤرخ

للتيه. قال: سنمشي كثيراً ونأكل خبز فراستنا ونميل

على أي جنب نريد. الذئاب مرقطة، والمكائد تنهض

في جثة العيد. كم ذا يكون القتيل؟! وكم ريبة في التماع

المصائر؟! كان القتيل يؤرخ لامرأة نشبت في السراب.

 

ليس يذكر أسماءه.

دحرج الذكريات وأسرج ميناء نشوته. كانت

القاطرات تمر سراعاً على وجهه وتصوغ بلاغته

حينما كان يعزف إسراءه:

                        «أيها ذا الفتى الشيخ! ها إننا نتحول في عربات

 الرؤى، ونراقب نسياننا في براري الغياب».

             

ليس يذكر أسماءه.

عندما في فضاءاته تعشب الفاجعات يهيئ ذاكرة للنفير

وينسى القتيل الذي فيه. ها هي ذي القاطرات تقود

عماه إلى محفل الطعن؛ لكنه ليس يذكر أسماءه. حين

قال الدليل: سنمشي طويلاً، رمى خلفه صورة ليديه

وألصق في وجهه جثة ومراثي بائتة وهزائم قابلة للخياطة.

سنَّ شكيمته للعراك الضليل.

 

ترى... أي صحراء تلك التي سيخبُّ عليها؟! وأي الطرائد سوف

تلين له؟! هو ذا في تكثره ليس يذكر أسماءه. هو ذا

في خرائبه لا يدل على وجهه ويديه ولا ينتمي لشكيمته.

هو ذا يتبع الأرض في نعشها، ويوازي حذاقاته،

بيد أن الطرائد ليس تلين له. يتبع الريح في

طلقات الجنون ويرسي النعاس، ولكنه ضيق وقليل.

تتقاذفه الريح في عتمة السر، ليس سوى النوم

متسع لخرائبه. والذئاب مرقطة تتوثب للهتك.

كم ذا يكون القتيل إذاً والهزائم وافرة والذئاب الدليل؟!

كم يكون القتيل؟!

كم يكون القتيل؟!

  كوكب البهاء

   (مقاطع)

 

في كوكبي المهجور أرمي بعض أشيائي: رنين كآبتي،

ومدى انطفائي وانسحاباتي، وأهمي مثل أول نقطة من

مائي الفضفاض في مدن الخراب.

وجع أنا. وأنا المرارة في سدى المعنى وفي مرثية الآتي

الرخيم. رميت أمواجي من الشرفات فانكسرت على وجعي

وأقفلت المياه عليّ. في وجعي اقترفت أرومة وفضضت

أنساباً أنا الفينيق. في موتي خطى الأنساب. في لغتي

بقايا من تراب.

جسد ضئيل،

وقبائل تلتف -في شره- على أحلامنا، في غفلة منّا

فينسانا الدليل.

 

في الساعة المنفى وخمس نقائض مالت عليّ هويتي

فخلعت أغبرتي وفصّلت العلاقة بين فاكهة التوجس والركام.

آخيت فقري وارتقبت خصوبة الأيام. أيتها الشظايا الـ

تقتفي عربات روحي هل مفر من ضجيج موحش يحتزني؟

أيتها الحيادات التي تكتظ في طفح يشرد بعض رائحتي، سلام!

من شرق أنقاضي إلى غرب يفوق حماستي أمشي فيذروني

القصاء، وأنتِ تنفلتين مني في بهاء النوم، في شرق

يكثف صوته وصراخه فينا وينثرنا حطام.

 

  شرك شاهق

   (مقاطع)

شرك شاهق، والمكان هواء بغير قميص، وعيناك

ترتقبان سقوطي، سأمهلني كي أزين قبري، فهاتي

يديك إلى جسدي وامسحي بين عينيّ كيما أرى مهرجان

الفجيعة. عند مرايا اكتئابي يمر الهواء بغير هواء،

ويسقط في أول العصف. هاتي يديك إلى جسدي

كي أرى جثتي أو أزين خاتمتي بفضاء التعاريف.

لي موعد باهظ سأعِدُّ له ما استطعت من الخوف

والنوم والحزن والجسد الهش. لي لغة لا تجيد افتراسي،

لهذا أدخن حريتي وأصيح بأعلى انكساري: طوبى

لهذي الخرائب! طوبى لصوتي الذي يختفي بين حنجرتي

وانفصامي! طوبى لماء النعاس الذي في النصوص! وطوبى

لهذا القميص الذي الآن يخفي ارتعادي ويوجز رعبي!

طوبى لبيت يسيح على عربات فمي!

يا حروب النشادر في غابة الليل! كم ذا نحرك أسئلة

في سطور التذكر ثم نغنّي وننسى؟! وكم كائناً من خطانا

مررنا على عريه دونما فطنة فتناسل نوماً ثقيلاً

كشاي الظهيرة؟! كم ذا نغنّي؟! وكم ذا تضيع الأغاني؟!

يرشقني النادل الملكي ببعض العظاءات والشعراء

الغلاظ والساسة الفاشلين ويذهب في فائض

النوم. والأرض تقتات من وحشتي.

شرك شاهق يعتريني.