مختارات
طاغور
()
رابندراناث طاغور (1857-1941) أكبر شعراء الهند المعاصرين. اشتهر بمواهبه
المتعددة. كتب الشعر والمسرح، وكان عازفاً بارعاً للموسيقى. هو من أوائل من
فازوا بجائزة نوبل في الآداب عام 1913، تقديراً لروائع شعره وسمو إنسانيته.
ويسر «غيمان» أن تقدم لقارئها هذه النماذج المختارة والمترجمة من شعره الإنساني
الذي يفتح نوافذ الكون على عوالم المحبة والحنان.
من شعر طاغور
ترجمة: يوسف البعيني
شاعر لبناني، عاش وتوفي مهاجراً في أمريكا الجنوبية.
المنشأ
سأل
الطفل أمه ذات مرة: أين كنتُ يا أماه؟ وفي أي مكان كنت تحتفظين بي؟
فارتعشت
عواطف الأم حنواً، وضمت طفلها إلى صدرها وأجابت: كنت يا حبيبي مستتراً في أعماق
فؤادي، بل كنتَ ماثلاً بين ألاعيب طفولتي... فعندما كنتُ أنهض في الصباح لأجبل
مثالاً من الطين لم أكن أجبل سواك. كنتُ يا بني في هيكل بيتنا المقدس سراً
أعبده فأعبدك فيه. وهكذا نشأتَ في حياتي وحياة أمي من قبلي. فبآمالي ورغائبي
كنت أغذيك، وبحرارة الروح الكامنة فيَّ كنتُ أهيئك للحياة!
وبينما
كنت لا أزال عذراء، كانت روحي تفتح كمائم زهرتك المزممة، لتلفك بعبير الشوق
والحنين. يوم ذاك كنتَ يا بني نوراً ضئيلاً يلمع في أحشائي، كسنا الشمس عندما
تنحسر عنه سجوف الظلام. فيا حبيب السماء ووليد الصباح المشرق في وهاد قلبي! إني
كلما تأملتك يغمرني فيض من العاطفة، فأحس أنك لي وحدي، وأننا متحدان دائماً
بالشعور والعاطفة. ولكن ليت شعري! أي القوى هي تلك التي جعلتني أحتفظ بك أيها
الكنز الثمين؟
وفيما
هو مصغٍ إليها، دبَّ الموت في فؤاد الطفل فقال متمتماً:
-
ها قد دنا الموت يا أماه ليذهب بي حيث يذهب الموتى أجمعون! ولكن عندما يأتي
المساء وتمدّين يدك لكي تطبعي على شفتي قُبلة ناعمة يمازجها العطف والحنان،
سيهتف بك هاتف من الظلام مغمغماً بأنك لا تجدينني ههنا!
ولكن
ثقي يا أماه أني سأتحول نسيماً يقبِّل ثغرك كل حين، أو نوراً يضيء مأواك في
الليالي الداجية المفعمة بعويل العواصف وأنين الرياح.
وفي
الليل، في ذكرياتك المحرقة عندما تناجين طفلك الحبيب، سأقول لك: نامي يا أماه،
ولا تذكريني! فإني عندما يمسي البدر هلالاً أسيل مع الشعاع لأنام في حضنك
الأمين!
وسأغدو
حلماً يدخل من فتحات عينيك لأنزع من قلبك حزنه القاتل الساحق. ولكن إذا أفقتِ
مذعورة، سترين حولك فراشة بيضاء تؤنسك بطنين أجنحتها الصغيرة. ومتى أقبل عيد «جايا»
وترنحتْ عذارى الهيكل مخففات بأنغامهن العذبة وحشة حياتك، سأهرق نفسي في تلك
الأنغام، حتى إذا لامستْ قلبك محتْ عنه كل الأحزان.
وإذا
جاءتك خالتي حاملة إليَّ هدية جميلة وسألتك: أين طفلك يا أختاه فإني أذوب شوقاً
إليه...؟ فأجيبي أختك يا أماه بأني توسدت عينيك، وامتهدت روحك التي لا يستطيع
أن يلحدها الموت.
نجوى
ألا
شرفني يا إلهي، وجرد حياتي من تلك المساوئ المعيبة التي تسود دائماً ابن الطين.
ضعها تحت رعايتك، وخبئها بين ظلال الموت والنور، أو في مكمن الليل بين نجومك.
ثم أطلقها في الصباح بين الزهور لتشدو كالبلابل بتسابيحك وترانيمك!!.
حنين
إيه
أيها القدر العاتي! لقد حجبها الغير عني فما اكتأبت. ولكن أبت إرادتك إلا أن
تبقى ساقية حبها سارية في أودية قلبي لا ينضب لها معين، ولا ينقطع لها خرير.
ولكن
الزمن قاسٍ جداً، فهو لا يحنو على النفوس المعذبة. وإنه ليهزأ من ألم القلوب
كلما لجَّ بها تذكار الماضي الدفين.
آه!!
إني أذكر... ولكن الحياة كلها نسيان. إنها سريعة الخطى نحو الموت... إنها تختفي
ولكنها تترك للخيال مرارة الذكرى وتباريح الشوق والحنين.
طاغور
(نصوص مختارة)
ترجمة: كامل محمود حبيب
باحث ومترجم مصري.
انتظم في نشيدي الأخير كل فنون الطرب؛ الطرب الذي يكسو وجهه بخضرة النبات
المتراكم؛ الطرب الذي يبعث التوأمين: الموت والحياة، في أنحاء الأرض يطوّفان
معاً؛ الطرب الذي يهبط جارفاً في ثنايا عاصفة فينفث في الحياة روح اللذة
والمرح؛ الطرب الذي يستقر في هدوئه وعبراته على زهرة اللوتس الحمراء وهي تتفتح؛
الطرب الذي ينثر كل ما يملك على الثرى، ثم هو لا يستطيع حديثاً.
* * *
نعم، أنا أوقن بأن هذا ليس شيئاً سوى حبك، يا حبيب القلب! هذا الشعاع
الذهبي المتألق على أوراق الشجر، هذه السحب المتكاثفة وهي تسبح في الفضاء، هذا
النسيم العليل وهو يهب نديّاً يداعب وجهي.
لقد ملأ نور الصباح عينيّ، وهو رسالتك إلى قلبي. إن وجهك يطل عليّ من علٍ،
وعينيك تحدقان فيَّ، وقلبي يلمس قدميك.
* * *
على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال. ومن فوقهم السماء تمتدّ في
سكون إلى اللانهاية. وإزائهم الأمواج المضطربة تزمجر. وعلى شاطئ بحر الكون
اللانهائي يتلاقى الأطفال في هياج ومرح، وهم يتخذون من الرمال قصوراً، ومن
الأصداف الفارغة لُعباً؛ ويشيدون من الأوراق الذابلة قوارب يدفعون بها على صفحة
الماء الغَمْر في لذة. إن الأطفال يجدون السلوة على شاطئ بحر الكون.
إنهم لا يستطيعون السباحة، ولا يعرفون كيف تُلقى الشباك. إن الغواص يندفع
يفتش عن اللآلئ، والتاجر ينطلق على الفلك يجمعها؛ ولكن الأطفال يجمعون الحصى
وينثرونه، لأنهم لا ينقبون عن الكنوز الخفية؛ فهم لا يعرفون كيف تُلقى الشباك.
البحر يموج كأنه يقهقه. ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة. والأمواج إلى
جانب الأطفال تردد أغاني لا معنى لها، كأنها صوت أم تهدهد طفلها وهو في مهده.
إن البحر يداعب الأطفال. ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة.
على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال، والعاصفة تزمجر في الفضاء،
والسفن تتحطم في مجاهل الأمواه. الموت هناك. وهنا الأطفال يلعبون. على شاطئ بحر
الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال لقاءهم العظيم.
* * *
أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين يهبط النوم الذي يداعب جفني الطفل؟ نعم؛ إن
الإشاعة تدوي أنه يتخذ له مسكناً في القرية الجميلة التي بين تفاريق الغابة
الظلماء لا ينيرها سوى الشعاع الضئيل المنبعث من الفراش المضيء. هناك تتدلى
زهرتان فيهما الحياء والفتنة، تنفثان ريح النوم فينطلق ليقبل عيني الطفل.
أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين تهبُّ البسمة الساحرة التي ترتسم على شفتي
الطفل وقد غمره النوم؟ نعم؛ إن الإشاعة تدوي أن شعاعاً رفيقاً نديّاً انبعث من
القمر وهو هلال، فلمس حافة سحابة من سحب الخريف وهي تكاد تتلاشى، فولدت –أول ما
ولدت- الابتسامة في أحلام الصباح الندي. هذه هي الابتسامة الساحرة التي ترتسم
على شفتي الطفل حين يغمره النوم.
أفيستطيع إنسان أن يعرف أين كان يتوارى النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في
أطراف الطفل؟ نعم؛ حين كانت الأم فتاة ألقت قلبها في هدوء بين خفايا الحب.
الحب؛ إنه هو النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل.
* * *
حين أحمل إليك –يا بنيّ!- اللُّعب الجميلة الملونة، أستطيع أن أعرف لماذا
ارتسمت هذه الألوان على السحب، على الماء؛ ولماذا صُبغت الأزهار اليانعة بألوان
جذّابة. حين أحمل إليك –يا بنيّ!- اللُّعب الجميلة الملونة، حين أغني أمامك
لترقص على نغم أغاني؛ أعرف حقاً لماذا تنبعث الموسيقى من حفيف أوراق الشجر،
ولماذا يرسل الموج ألحانه في قلب الأرض الصامتة... حين أغني أمامك لترقص على
نغم أغانيّ.
حين أقدّم لك الحلوى فتتقبلها في شغف، أعرف أنا لماذا أمتلأ كأس الزهرة
رحيقاً، ولماذا انضمت الفاكهة على عصير حلو... حين أقدّم لك الحلوى فتتقبلها في
شغف، حين أقبل جبينك –يا عزيزي!- لتبسم، أستطيع أن ألمس اللذة قي شعاع الصباح
المنير، وأن أحس النشوة التي تنفثها فيّ نسمات الصيف... حين أقبل جبينك لتبسم.
* * *
أنت عرّفت عليّ أصدقاء لا أعرفهم، وحبوتنى بمكان في كل دار وليس لي واحدة
منها. وأنت كشفت لي عن كل مبهم، ومننت عليّ برفيق في الغربة.
إن قلبي ليضطرب حين أهجر مأواي الذي سكنت إليه. لقد نسيت أن القديم يتحدّر
إلى الحديث فيعيش معه، وأنك أنت أيضاً بين صراع الحياة والموت، على هذه الأرض
أو على سواها، تقودني أنت أنّى شئت، وأنت رفيقي الأوحد في هذه الحياة الأبدية،
رفيقي الذي تجذب إليك قلبي بنفثات من الطرب المجهول.
إن الذي يعرفك لا يستشعر الغربة في هذا العالم، ولا تسد في وجهه الأبواب.
أوه! تقبل صلواتي كي لا أفقد لذة لمساتك –أيها الفرد- في سبيل المجموع.
عند منحدر النهر الموحش، وبين الحشائش النامية سألتها: «يا سيدتي! إلى
أين تذهبين وأنت تسترين سراجك بين طيات ملاءتك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني
ضوءك!». فأرسلتْ من عينيها السوداوين نظرات نفاذة اخترقت أستار الظلام، واستقرت
عليّ حيناً، ثم قالت: «لقد جئت إلى النهر لأضع مصباحي على صفحة الماء حين ينطفئ
مصباح النهار». فوقفتُ وحيداً بين الحشائش أرقب نور مصباحها الخافت وهو يتناثر
بدداً على صفحة الماء.
وفي صمت الظلام سألتها: «يا سيدتي! لقد همد مصباحك، فإلى أين تنطلقين ومعك
سراجك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!». فأرسلتْ من عينيها السوداوين
نظرات نفاذة استقرت عليّ حيناً، ثم قالت: «لقد جئت لأقدم مصباحي إلى السموات».
فوقفتُ أرقب الضوء الخافت وهو يضطرب –دون جدوى- في الفضاء.
وفي أعماق الليلة الظلماء سألتها: «يا سيدتي! لماذا تضمين مصباحك إليك؟ إن
داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!». فتلبثتْ قليلاً تفكر، ثم نظرت إليّ وقالت:
«لقد جئت بمصباحي لأنضم إلى الحفل». فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يغوص وسط
المصابيح.
* * *
إنني أبرأ من الاستسلام وأنا أستشعر الحرية تحوطني في لذة وطرب. وأنت
-دائماً- تفرغ في كأسي من رحيقك العطِر ذي الألوان رشفةً سائغة، فتفعم هذا
الإناء الأرضي.
إن دنياي ستشعل من نورك مصابيحها العديدة، وتضعها أمام محراب معبدك. لا، لن
أغلق أبواب حواسي، فإن لذات البصر والسمع واللمس تحمل في ثناياها نشوة منك.
نعم، إن أوهامي ستتحرّق في شعلة من مرح، وإن رغباتي ستتفتح عن ثمرة من حب.
* * *
لقد خبا ضوء النهار وانتشرت عتمة الغسق على الأرض، وآن لي أن أنطلق إلى
الغدير لأملأ جرّتي. ونسمات الليل تشجيها موسيقى الموج الحزينة. آه! إنها
تناديني لأندفع في أضعاف الظلماء، وما في الطريق الموحش من عابر سبيل، والريح
تزف زفيفاً، وصوت خرير الموج يتصاعد هائجاً من جوف النهر.
لست أدري إذا كنت سأعود إلى الدار. ولست أدري من عساي أن ألقى على الطريق.
إن هناك في القارب الذي يرسو في الناحية الضحلة من النهر، رجلاً مجهولاً يعزف
على قيثارة.
* * *
إن آلاءك تفيض علينا فتسد مآربنا، ثم ترتد إليك وما نقصت شيئاً . فالنهر
يجد كل يوم عملاً، وهو يندفع إلى الغاية بين الحقول والقرى، ولكن مجراه المستمر
يهفو نحو قدميك ليغسلهما. والزهر يتأرّج فيملأ الهواء عطراً شذيّاً، غير أنه
يقدم نفسه إليك. إن الاندفاع في عبادتك لن يجدب العالم، ومن نفثات الشعراء خذ
ما يحلو لهم، ولكنك ما تزال غرضهم الأسمى الذي إليه يشيرون.
* * *
وعلى مر الأيام، أفتسمح لي –يا إله الحياة!- أن أقف بإزائك وجهاً لوجه؟ وفي
خضوعي وذلتي، أفأقف بإزائك –يا إله الكون!- وجهاً لوجه؟
وتحت سمائك العظيمة، في وحدتي وسكوني وذِلة قلبي، أفأقف بإزائك وجهاً لوجه؟
وفي دنياك الصاخبة وهي تضطرب بالكد والتناحر، وبين الزمر المتدافعة، أفأقف
بإزائك وجهاً لوجه؟
وحين ينتهي عملي في هذه الدنيا أفأقف –يا ملك الملوك!- وحيداً صامتاً
بإزائك وجهاً لوجه؟
* * *
لقد عرفتك إلهاً لي، ثم تنحيت جانباً؛ فأنا لم أعرفك أخاً فأندفع إليك، ولا
أباً فأنحني أمام قدميك، ولا صديقاً فأشد على يديك.
ولم أقف حيث أراك تهبط فتَهدي نفسك إليّ، فأضمك إلى صدري وأتخذك رفيقاً.
إنك أخ بين إخوتي؛ غير أني لا أعيرهم انتباهاً، فأنا لا أقسّم بينكم حبي،
ولكني أخصك بجميع قلبي.
في حالَيْْ نعيمي وبؤسي لا أسكن إلى رجل، بل أعتمد عليك أنت. إنني لأنزوي
وفي نفسي أن أنزع عني ثوب الحياة لأنني لا أريد أن أغتمر في خضمها .
* * *
ليست غاية جهدي أن ألقاك على الأرض، فإذا أريد أن أستشعر -دائماً- فقد
النظر إليك... ولكن لا تمحُ ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن
لفقدك في غفلتي وفي يقظتي!
وحين أقضي أيامي بين الحشد في سوق الحياة فتمتلئ يداي بالكسب، استلبني من
نشوة الربح، ولا تمحُ ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك
في غفلتي وفي يقظتي!
وحين أجلس على جانب الطريق أستجم من أثر الأين والانبهار، فأنشر فراشي على
الثرى، أَلقِ في روعي أن رحلتي ما تزال طويلة، ولا تمحُ من قلبي ذكراك لحظة
واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي!
وحين تتزيّن حجراتي وتتصاعد أنغام القيثار وترتفع رنات الضحك، دعني أشعر
كأني لم أدعُك إلى داري... ولا تمحُ ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل
آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي!
* * *
أنا كأنني نُثار سحابة خريف تضطرب عبثاً في أرجاء السماء. آه! شمسي دائماً
تتألق! إن لمساتك لم تحولني إلى بخار فأكون شعاعاً منك يحصي عدد الشهور والسنين
التي تنفصل عنك.
وإذا كانت تلك إرادتك، وهذه هي غايتك، فاجذب إليك حطامي المنقض، واصبغه
بالألوان وزينة الذهب، ثم أرسله بين هوج الرياح ليبدو في فنون أخَّاذة.
وإذا كانت مشيئتك أن تنتهي من عملك والليل ساجٍ، فسأذوب وأتلاشى بين أضعاف
الظلام، أو في بسمة الصباح اللامع... في الصفاء والنقاوة.
* * *
في أوقات الفراغ آسى أنا على أيامي الضائعة؛ ولكنها –يا إلهي!- لم تضع،
فأنت قد بسطت يديك على كل ساعة منها.
إنك تستقر في أعماق كل شيء؛ فأنت تنفث في الحبة فتصبح نبتة، وتنفخ في الكم
فينفتح عن زهرة، وتنضج الزهرة فتحور ثمرة.
لقد كنت أستشعر الجهد والضنى، فاستلقيتُ على فراشي، وفي خيالي أن كل عمل في
العالم قد وقف. وعند الصباح انطلقت إلى حديقتي فألفيتها تموج بالزهر الغض.
* * *
إن الزمان لا نهائي بين يديك يا سيدي! وليس هنا من يستطيع أن يحصي عدد
اللحظات.
الليل والنهار يتعاقبان، والدهر يتفتح ويذوي كأنه زهرة؛ وأنت وحدك تعرف كيف
تبقى، والقرون يتلو بعضها بعضاً، تدفع زهرة برِّية صغيرة إلى الكمال.
لم يبق من وقتٍ نضيعه، فلنتدافع نحو الفرصة السانحة، فنحن فقراء يؤذينا
الكسل.
وهكذا تصرم الزمن وأنا أحبو منه كل شاكٍ يعتفي، فأقفر محرابك من القرابين.
وعند الغروب انطلقت أشتد نحو بابك خيفة أن يغلق دوني، غير أني وجدت أنه ما
يزال في الوقت بقية.
* * *
سأزينك بالرايات والأكاليل علامة غلبتك علي، فما كان في قوتي أن أدفع عن
نفسي الهزيمة.
لا ريب، فكبريائي قد عُصف بها، وحياتي تصدعت عن آلام مبرحة، وقلبي الخاوي
تفجر عن لحن موسيقي كأنه اليراع المثقب، وهذه الأحجار الصماء ستحور عبرات.
لا ريب في أن أوراق زهرة اللوتس لن تظل متماسكة أبد الدهر، وأن رحيقها
المكنون سيبدو في وقت ما.
ومن خلال السماء الزرقاء ستحدق عين فيّ ثم تناديني في صمت، فأنفض عني كل
شيء، كل ما أملك، ثم أتقبل القضاء المحتوم عند قدميك.
* * *
حين ألقي بالدفة عن يميني ألقي بها لأنه يكون قد آن لك أن تديرها أنت،
وسيتم كل ما تريد في لحظات، وعبثاً هذا الجهاد.
إذن ألقِ السَّلم –يا قلبي!- واصبر في صمت على ما مُنيت به من إخفاق، وثق
أن من حسن حظك أن تستقر هادئاً في مكانك؛ مكانك الذي حللت. إن مصابيحي تنطفئ
عند كل هبة نسيم، وإني لأنسى ذلك حين أنطلق أضيئها.
غير أني سأكون –في هذه المرة- حازماً، فأظل في غسق الظلماء، أنشر فراشي على
الأرض. وإذا طاب لك هذا –يا سيدي!- فتعال إليّ في صمت، واتخذ لك مجلساً إزائي.
* * *
لقد اندفعت إلى أعماق بحر الأشباح علِّي أجد الدرة الكاملة التي لا شكل
لها.
لن أبحر -بعد- على قاربي المحطم من مرفأ إلى مرفأ؛ فما أطول الأيام حين
أقضيها بين أمواج تتقاذفني!
والآن، فأنا أستشعر في نفسي الشوق إلى أن أغتمر في الخلود. سأندفع إلى مجلس
السمر، حيث اللجنة ما لها من قرار، وحيث الموسيقى تتصاعد مختلطة في غير نغم.
سأندفع إلى هناك وبين يديّ قيثار حياتي.
سأوقع عليها ألحان الأبدية، وحين آتي على آخر لحن ألقي بها عند قدمي
السكون.
لقد أفنيت عمري أفتش عنك بأغانيّ. إنها هي التي قذفت بي من باب إلى باب،
ومن خلال نبراتها لمست كل ما حولي، فانكشف أمام عينيّ العالم، فأحسست به.
إنها أغانيّ، هي التي علّمتني كل دروس الحياة، وهي التي كشفت لي مسالك
غامضة، وحسرت لي كواكب تتألق في أفق قلبي.
وهي قادتني إلى مفاوز في عالم من السرور والألم معاً. وأخيراً، ماذا عسى أن
يكون باب هذا القصر الذي دفعتني هي إليه والليل ناشرٌ أستاره، فوقفت إزائه وقد
تمت رحلتي؟
* * *
إنني أباهي صحابتي بمعرفتك، وهم يلمسون شعاعك في كل ما أعمل، فيندفعون إليّ
يسألون: "من عسى أن يكون؟"، فما أدري بماذا أُجيب، ثم أقول: "حقاً، إنني لا
أستطيع قولاً!"، فيتكلمون عليّ بكلماتٍ لذّاعة ثم ينصرفون عني في ازدراء، وأنت
جالس هناك تبسم.
وصغتُ أحاديثي عنك في أناشيد يتدفق في ثناياها السر الدقيق في قلبي،
فاندفعوا إليّ يسألون: "خبّرنا عن معاني حديثك!"، فما استطعت حديثاً، ثم قلت:
"من عساه أن يعزف؟!"، فابتسموا في تهكم ثم انصرفوا عني في ازدراء جامح، وأنت
جالس هناك تبسم.
* * *
في تحية واحدة إليك –يا إلهي!- دع كل حواسي تنطلق فتلمس هذا الكون عند
قدميك.
وكما تتعلق سحائب يوليو وقد أثقلتها القطرات المكفوفة، دع قلبي ينحنِ عند
بابك في تحية واحدة إليك.
واجعل أغانيّ تنتظم كل الألحان المتضاربة في تيار واحد، ثم تتدفق إلى خضم
السكون لتكون تحية واحدة إليك.
وكما ينطلق سرب من الكراكي وقد أهمته الغربة، كما ينطلق في دأب ونشاط –صباح
مساء- ليبلغ أعشاشه على قنن الجبال؛ دع حياتي تتخذ طريقها إلى مستقرها الأبدي
لتكون تحية واحدة إليك!
|