العدد الرابع  - ربيع 2008م

   
 

متابعات
 

على فوهة  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
إلى روح الصديق الشاعر الراحل محمد حسين هيثم

                                                                    عاطف عواد
                                                                                            
 قاص من مصر، مقيم في اليمن

 كنا معاً. مال على ذاكرتي. فأسلمته إيّاها. إذ لا بد أن صاحبي أراد أن يستدعي منها لنا شيئاً، فنذكره ونتذكره. الشاعر محمد حسين هيثم

 واصلت الهمس في نفسي: هو شيء كان لنا معاً، عركناه ذات يومٍ بعيدٍ، وقد أحب صديقي هيثم أن يسقطه حيث نحن الآن، وبتلك الليلة، وأن شيئاً مما يحيط بنا في تلك الظلمات الطاغية قد دعا رفيقي لينبش عن مثيله. كنا، هيثم وأنا، وحدنا فقط، نقعد في مقهى فوهة وطن البراكين.

كان نادل المقهى قد أطفأ الأنوار، حين فرغ المقهى من روّاده، وأغلق علينا الباب الشبكي الحديدي، وانصرف. لم يرنا، أو تجاهلنا ربما! أو أن الخوف يسكنه مع بدء هطول الليل وفراغ المقهى والشوارع من الروّاد والمارة. وكما هي العادة بمدينتنا، العاصمة، وكل عواصمنا، يلفح الخوف الناس عامة، ويطيح الروع بوعيهم. وعلى هذا كان نادل المقهى قد طاش صوابه، وطاش نظره، فأغلق علينا الباب ذا الفتحات الشبكية الواسعة، ومضى ليتلاشى في ظُلمة الشوارع وسكونها الرهيب! ولربما كان شيئاً من ذلك المشهد برُمَّته هو ما أراد لنا صاحبي، الشاعر محمد هيثم، استحضار ما يشابهه أو يماثله من ذاكرتي، أو نحوه، وقد مررنا به معاً من سنين بعيدة، وانزلق في دوّامة الذاكرة، وانطمر!

 كنا قد تعارفنا منذ سنين طويلة. وقبل أن أتم عامي الأول من مجيئي إلى اليمن، طواعيةً، وبصنعاء عملت مدرساً، وسكنتها، وأطفالي وزوجتي. كنت أسعى، مولعاً بعدّ محافل بهاء الكلمة، إلى مجامع الإبداع والمبدعين، وبمواطنه في صنعاء واليمن. وكان في أكثر المنتديات يقول شعراً غير مألوف، وليس كشباب الشعراء من جيله. كان صوتاً يتفرد عمّا عرفته ببلدي، مصر، وهنا في اليمن، أو في ديوان الوطن، الحديث والموروث. وإن مشى متقارباً مع جيله الشباب، هنا وهناك، إلاَّ أنّ هذا الشاعر، وقد تبعته إذ هو على أبواب فضاء الانتشار والشهرة، كان يقول شيئاً مما كان له بالقلب هوى ومقعد.

 وكان كذلك يشعُّ بما قرّبني منه. تعارفنا، تصاحبنا وصرنا صديقين، حين تمازجت وتآلفت كيميائيتانا ونفسانا. كان الصديق هيثم يقطر إنسانيةً ونبلاً. وعلى غير الكثيرين من أهل الكلمة والإبداع، عرفت بصاحبي اليمني صدقاً ونقاءً. كدنا لا نفترق تقريباً. تعددت ملتقياتنا، تخطّت محافل الإبداع، وتنوعت، مع الصحاب والأصدقاء. ووحدنا نجترّ أحزاناً في كلينا، ونتكلم كذلك عن الأهل والأحبة، وعن الأمنيات، والطفولة، وقبضة الأيام التي عتت بي وبأبنائي فحرمتنا من العودة وزيارة الأهل والموطن. كان هيثم رقيقاً ودوداً، ورفيقاً إنساناً، فيمسح عنّي ومنّي قهر الغربة، ورهق الحبس وطول البعد والغياب، وتقطُّع السبل بأهلي هنا، وبي أولاً. وكان هو كذلك يتبدّى ألماً وحزناً، ويقصُّ لي أيضاً عن أيامه في عدن، قبل رحيله إلى صنعاء، وعن أهله وطفولته بموطنه في الجنوب، أبين.

 كان الليل في المقهى، بفوهة إعصار الذكريات، قد تمادى في حلكته، وفي سراديب أزمنة تزحف كجسدٍ خرافيًّ، تسحق الشيخ والشاب والطفلة والأم، وبرائحة البارود ولون الخيانة وصفير الموت. والصدى يأتينا في المقهى أمواجاً، واستجارة، ذليلاً حزيناً، ومن كل جانب وناحية! سألني صاحبي هيثم: «أمن أرض جبل الزيتون، أم من بين النهرين، والشام، والسودان، وبلاد الزيت المشؤوم، هذا الصدى الموجع، يا صاحب مصر، وصديقي؟!». قلت مجيباً: وهل برئت دار، يا صاحبي، في الأرض والوطن مما يأتي ليلنا بصداه؟!

 جرى الصمت بيننا، في مقهانا المروع، والليل في حلكته لم يزل، ولم يكفّ عن إمطارنا بصدى الاستغاثة والاستجارة، وبمذاق الإهانة والمهانة، ومن كل دار وبلد بأرض اللسان والديوان وآبار الزيت. ومسجوناً كان كلانا بمقهانا هذا، يا صاحبي الشاعر! وقلت أيضاً أخاطبه: وإن لنبشك في الذاكرة، يا صديقي، ألماً وأحزاناً وانتقاماً، غير أنني حبيس الاغتراب، والغربة. فكفى نبشاً! وكفّ عمّا أراك تنتويه، وأراك تريد القيام به الآن! تجلّد يا صاحبي! التجلّد يا صاحبي الإنسان البديع!

 همس حينذاك، وكان قد تخفف من ضخامة بدنه ونهض واقفاً كطائر رشيق، وقال بهمسة: «وداعاً يا رفيقتي الزوجة، والأم. وداعاً يا أبنائي: هند، هيثم، والصغير أحمد! وداعاً يا أهلي الضعاف!».

 وإلى بهاء الإبداع في كتاب ابن الإنسان، كنت أتابع صديقي الحميم، وأصغي كذلك لابنه وهو يقصُّ عليَّ لحظات أبيه الأخيرة، وما كان منه ليلة البارحة، ووداعه الحياة!

 وكنت وصاحبي، حينئذ، ما زلنا في مقهى فوهة بركان الذاكرة، والليل يشتد عواءً وأحزاناً. وصديقي الشاعر هيثم، لم يزل ينبش ويغوص في أوجاع الذاكرة!