العدد الرابع  - ربيع 2008م

   
 

متابعات
 

تجربة الأدب المعاصر في اليمن (من الريادة إلى أزمة الامتداد)  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                    نجيب الورافي
                                                    
ناقد من اليمن

 ما تتضمنه هذه المقالة لن يتسع لتغطية عنوانه المشكل باتساع. لهذا حسبي أن ألفت أنظار ذوي الاهتمامات البحثية في تاريخ تجربة الشعر المعاصر في اليمن، إلى ما يتصل بالنشأة، والريادة، والمجايلة، وتطور الإنتاج الإبداعي بين الامتداد من جهة، وبين أزمة الامتداد من جهة ثانية. وهو موضوع أحسبه جديراً ببحث مطول.

إن المتأمل في ظاهرة الأدب المعاصر في اليمن خلال النصف الثاني من القرن الماضي يستنتج أنه مثلما كان للظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بظاهرة الأدب في اليمن أدوار إعاقة عن ميلادها، المتأخر عما حولها من تجارب أقطار عربية أخرى، فإن تجربة النص الأدبي المعاصر في مراحل ما بعد النشأة في اليمن قد تعرضت لعوامل قسر لا تقل أهمية عن سابقاتها، مع فارق نسبي في طبيعة هذه العوامل والظروف العامة للإنتاج الإبداعي.

 ومع ذلك ينبغي التسليم بأولوية الظرف الحضاري للأدب، في توافر شروط تطور النص الأدبي أو العكس. ذلك أنه مثلما كان للتخلف السياسي في اليمن دورٌ في إعاقة التطور الثقافي بوجه عام، فقد كان الانفتاح بمظاهره المتعددة من بعثات علمية، ورحلات إلى خارج الوطن، وظهور وسائط للثقافة كالمطابع ودور النشر والصحافة... إلخ، هو رهان الحركة الأدبية المعاصرة في اليمن في كسر التحديات التي أحاطت بنشأتها، ومن ثم بتطورها بعد ذلك.

  أولاً: الرواية اليمنية

 ظهرت في الشعر اليمني المعاصر ريادة مجايلة (بكسر الياء) للريادة الشعرية العربية، نسبياً، وتأخرت كثيراً في القصة والرواية، إلا من بدايات قصصية سرعان ما انطفأت، ولم تسفر سوى عن عمل واحد، وربما تجاوزته قليلاً. فبإحصاء هذه المقدمات الروائية نجد أنه منذ صدور «سعيد» (1939) لـمحمد علي لقمان، وحتى «يموتون غرباء» (1971) لمحمد عبدالولي، تراوح الإنتاج القصصي للكاتب بين الندرة من جهة، وبين الارتهان لسياقات بناء أشارت إلى طفولة هذا الفن الأدبي ولم تبشر ببلوغه سن الرشد الفني، من جهة ثانية.

 أما من حيث الندرة، ففيما عدا رمزية الإرياني في «القات يقتلنا»، و»ضحية الجشع»، وكذلك علي محمد عبده في «حصان العربية» (1959)، و»مذكرات عامل» (1966)، لم يتكرر أي من لقمان في غير «سعيد»، ولا الطيب أرسلان في غير «يوميات مبرشت» (1948)، ولا الزبيري في سوى «مأساة واق الواق» (1960).

 وعلى الرغم مما أسداه مشروع الريادة المتأخر إلى السبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، من إسهام في تطور الرواية اليمنية، من خلال ما قدمه هذا المشروع من نماذج نجحت باستيفاء الشروط الفنية والموضوعية للرواية إلى حد كبير، كمثل «يموتون غرباء»، و»صنعاء مدينة مفتوحة» للقاص محمد عبدالولي، و»الرهينة» للقاص زيد مطيع دماج؛ إلا أن مشروع الريادة ذاته لم يمتد إلى تجارب أخرى لاحقة، وكان الانقطاع إخفاقاً معاداً إلى تجربة الرواية اليمنية، بسبب رحيل عبدالولي المباغت عن عالمنا وعالم الكتابة معاً، وعزوف دماج بعد «الرهينة» إلى التجريب -نهائياً- في القصة القصيرة.

 لكن بقيت نماذج الريادة الروائية لبِناتٍ أساساً في تاريخ الرواية اليمنية، وقامت عليها نماذج أخرى، فيما بعد، ذوات أصداء ممتدة وموسعة إلى حدٍ ما، كنماذج: محمد مثنى، أحمد قائد بركات، ويحيى علي الإرياني.

 أما تخلُّف الشكل الروائي عن الأسس الفنية وعناصر البناء، عمّا في الرواية العالمية، فقد تمثل في هيمنة مخلفات بعض الأشكال الموروثة في التراث العربي القارّ في البدايات الأولى للرواية اليمنية شكلاً فنياً روائياً تاماً أحياناً، لا تناصاً بنائياً يهدف إلى إقامة علاقة سياقية يتغيَّا من خلالها -عامداً- تخصيب النص الروائي الجديد بأشكال الموروث السابقة، سبيلاً إلى إثرائه فنياً، وارتقائه جمالياً.

 إن ثقافة الشكل الروائي، أو فلسفته الفنية هي من المقاصد الأولى التي يتجه إليها اهتمام المؤلف -لحظة الكتابة- في استباق اهتمام القارئ، وبدونها يتحول العمل إلى مدونة بيانات خطابية وعظية زاعقة... اتخذت أشكالاً تراثية مسبوقة.

 يغري بعض الباحثين في التناص التراثي أو في أثر التراث في الرواية اليمنية، تتبُّع البدايات الأولى لها، لأنها كانت مجرد اقتداءات حرفية، صارخة ومفضوحة، بأشكال تراثية مسبوقة. وكان الأجدر بمثل هؤلاء أن يترووا في الحكم على الظاهرة التراثية، إلى تلك الأعمال التي فصلت بين ثقافة الشكل الروائي وفلسفة تجنيسه، وبين ثقافة الأشكال التراثية المتناصّة معها، وهي تقنية أداء متطورة أخفقت في الأخذ بها نماذج البدايات الأولى للرواية في اليمن، ومثلت إخفاقاً أمام التطور السريع لمشروعها.

 ومن الأساس ذاته يجب أن ينطلق البحث في الإشكاليات المصاحبة لنشأة الرواية اليمنية وتطورها، بحيث لا يقتصر الأمر على مجرد ربط هذه الإشكاليات بأسباب خارجية تقف خارج الكتابة، كالطباعة والنشر والترجمة... إلخ. بل يجب أن يتجاوز البحث لدراسة العلاقة بين ثقافة الشكل الروائي وثقافة محيطه بأنماطه كافة.

 ثمة مظاهر عدة لأزمة غياب الامتداد في الرواية اليمنية. ولكل مظهر أسبابه الخاصة؛ كما يأتي:

 ثقافة الشكل الروائي

 كما لكل فن أدبي تقاليده، فإن للرواية تقاليد، يمكن أن تشوَّش لكنها لا تغيب. ففي الحالة الأولى يصبح التشويش رصيداً حداثوياً للرواية، وتصبح سياقاته عنصراً سردياً مضافاً لا يجني على تجنيس الفن الروائي. أما في الحالة الثانية المتمثلة بغياب وعي الكاتب بما تمَّ التواضع عليه من هذه التقاليد، فإنه يؤدي إلى مسخ الشكل الروائي، ويحول سياقاته الوظيفية، لينوب مناب أجناس أخرى، قد يصل إلى أحطها حظوةً من تقاليد الفن السردي.

 في التشويش: تقدم الأجناس الأخرى سياقاتها، ليس من كونها بدائل من عناصر الرواية، بل على هيئة بنى متداخلة مذابة في الخطاب الروائي، خاضعة لاشتراكات تجنيسه. وهو ما يطلق عليه: «التناص الأجناسي».

 في الحالة الثانية: تأتي الأجناس الأدبية حلاً خطابياً جاهزاً يقضي على عناصر الخطاب الروائي، ويقيم سياقاته المفهومية الخاصة –بحذافيرها- مقام هذه العناصر.

 تمثل مظاهر الحالة الثانية جزءاً مهماً من الظروف الموضوعية التي أحاطت بنشأة الرواية، وأفضت إلى انقطاع نماذجها الأولى عن الامتداد إلى تجارب لاحقة لمدة غير هينة.

 ومن ثم ينبغي أن تصنف هذه المظاهر ضمن سياق خاص بالإشكاليات التي واجهت الرواية اليمنية ليس أكثر. كأن نصنف مثلاً الشكل الملحمي لـ«رسالة الغفران»، أو قصة المعراج في «مأساة واق الواق»، ارتداداً عكسياً لحركة تطور الشكل الفني للرواية، لا مظهراً فنياً متقدماً له؛ إذ إن عملية تخصيب الشكل التراثي قد تمت خارج رحم الرواية، ولم يذب في أحشاء بنائها السردي الناجح.

  ثقافة القارئ

 يرتبط تقييم موقف القارئ لأي خطاب أدبي باحتمالات نجاح هذا الخطاب في إقناعه، واحتمالات إخفاقه، على حدٍ سواء؛ إذ لم تعد علاقة النص- القارئ قائمة على التلقين، الذي يتحول بموجبه الطرف الثاني (القارئ) إلى بنك لأرصدة الأول (النص)، بل صارت هذه العلاقة إنتاجية تحتم مشاركة القارئ في إنتاج النص منذ اللحظة الأولى لكتابته.

 في بداية القرن الماضي كان الشعر في اليمن ديوان اليمنيين، مثلما هو كذلك في أقطار أخرى، غير أنه في اليمن ما زال يحظى بنصيب الأسد من الثقافة المعاصرة حتى الآن. ومن ثم فلا غرو في أن يكون الشعر هو الفن الأدبي الأجدر -قبل الرواية- بغزو وعي القارئ والمبدع معاً، وهو ما غضَّ من أهمية القص، وقلّم امتداداته في هذا الوعي.

 يعد الفن الروائي العربي أكثر الأجناس الفنية إلحاحاً على وجود أشكال عالمية سابقة له، تمتلك شروطاً ناجحة لتجنيسه مستقلاً عن غيره؛ كون الرواية جنساً طارئاً في أدب العرب، لا يمتلك من ثقافة الماضي سوى بعض ظواهر القص التراثية المعروفة. وهنا تأتي إلى ترجمة نماذج روائية ترتسم أصولها في ذاكرة القارئ، لترد بعد ذلك في نماذج لاحقة على هيئة ارتجاعات مخزونة، وحينئذٍ يصبح القارئ مؤهلاً بامتلاك ردة فعل تتسم باللذة والوضوح حيال الإبداع الجديد.

 ونظراً لغياب الترجمة -البتة- في اليمن قديماً، بسبب عزلته، وندرة تواصله الثقافي مع محيطه؛ فإن القارئ اليمني قد أخفق في امتلاك الوعي الناجح بفن الرواية، بسبب افتقار مخزونه لأصوله. وفي ذلك تفسير لتأخر نضج المشروع الروائي والقصصي في اليمن، وإن سبق محمد عبدالولي قبل غيره ليس إلا من قبيل تجاوزه للسبب السابق، بالانفتاح على النموذج العالمي للقصة خلال دراسته في موسكو.

 الثقافة المجتمعية

 يرتبط بهذا المحور مظهران، هما:

 - المجتمع، محيطاً قرائياً؛ كون المجتمع قارئاً داهمت الرواية اللامألوف من توقعه، وأصابته بخيبة تلقي؛ إذ كانت جنساً لا مألوفاً في ثقافته المعاصرة، مما حجَّم من قيمة أن تكون نشاطاً إبداعياً موسعاً ذا أصداء على مستوى الكتابة (الإبداع) أو النشر، أو التداول.

 وبما أن الرواية عموماً خطاب مكتوب/ مقروء، لا خطاب مهرجانات أو منتديات يعتمد الشفاهية أحياناً، كما هو الشعر، فإن ضحالة النشر قد أثرت في كلا المستويين: الكتابة، والتداول.

 - المجتمع، محاطاً بالـ«تابو». لا أقصد بالـ«تابو» كل ما هو ديني فحسب؛ بل جملة التقاليد الاجتماعية ذات الحدية الصارمة، بحيث تصبح جميعها خصائص مرسومة لنظام الجماعة التي تمثلها، وهي خصائص تتخذ صبغة الأحكام العرفية التي يحرم تخطيها أو تجاوزها في كل المجتمعات الأشد تقليدية. المجتمع التقليدي –في العادة- هو أكثر المجتمعات صلابة وصرامة في منع أية مجسات خارجية من التوغل في بواطنه لكشف أسراره المخبوءة؛ لأنه مجتمع مُدَّعٍ الكمال، ولا يعترف بالنقص البشري، ومن ثم يكون لافظاً لأية عوامل من شأنها تخصيب النص الروائي واستنباته وتعهد نموه.

 المجتمع التقليدي يكتفي فقط بكشف ظاهره/ بنيته السطحية، ويحرم استعماق ما سوى ذلك. وهي بنية لا تلد فناً روائياً؛ لأنها تمثل الخطوط المستقيمة للحياة البشرية، وحقيقة الإنسان. بينما البنية العميقة لأي مجتمع تمثل الخطوط المتعرجة لحقيقة الوجود، ومتاهة المشكلة الإنسانية عليه. إنها أخطبوط الـ«هو» الاجتماعي، الذي يتحرك ويُحرك غرائز لا متناهية من جسد الواقع.

 مهمة الفن الروائي تركز على رصد حركة هذا الأخطبوط، ومعاشرة ذبذبات: اللذة، الرغبة، الألم، العدوان... إلخ، مما في حركته الدائبة.

 الروائي في اليمن أدرك سلفاً حُرمة الاقتراب من ذبذبات المستور المتواري من واقعه. وهو (أي الروائي) محاط بمحاكم تفتيش الـ«تابو» المتعدد. ومع ذلك، فإنه أمام هذا لم يعلن هزيمته، بل لإثبات بقائه لجأ هذا الروائي إلى ما يشبه الحيل الدفاعية، من خلال استيلاد نصوص لا تمثل ذاتها ولا زمانها بقدر ما تتحدث عن مشكلات ميتة تالفة لعصور سياسية سالفة. وهو نكوصٌ قلل من أهمية الرواية، وحدَّ من اتساعها وامتدادها في الثقافة الإبداعية المعاصرة في اليمن.

  

ثانياً: الشعر الحديث

 تنطبق المظاهر السابقة على الشعر الحديث في اليمن فيما يتعلق بالظروف التاريخية، وثقافة تشكيله الحديث، مع بعض مفارق بين الفنين: الشعري والروائي، أهمها: تزامن ريادة الشعر اليمني نسبياً مع الريادة الشعرية العربية، واتساع نطاق الإبداع الشعري عن الإبداع في مجال الرواية. وما عدا ذلك، فكلا الفنين يتشابهان في الظروف العامة إلى حدٍ كبير.

 في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وأوائل الستينيات، بدأ الشكل الجديد للنص الشعري في اليمن في نماذج رموز شعرية أمثال: محمد أنعم غالب، د. عبدالعزيز المقالح، وعبده عثمان، الذين ربما مثلوا جيل الريادة والبداية معاً. ثم انتقل الدور إلى تجارب آخرين، مثل: أحمد قاسم دماج، عبدالرحمن فخري، عبدالودود سيف، الشرفي محمد، القرشي عبدالرحيم سلام، وذويزن... إلخ.

 وفي الثمانينيات برز جيل شعري جديد، أمثال: عبدالله القاضي، إسماعيل الوريث، عبدالرحمن إبراهيم، شوقي شفيق، حسن عبدالوارث، عبدالكريم الرازحي، محمد عبدالسلام منصور، محمد حسين هيثم، محمد ناصر شراء، العواضي، عبداللطيف الربيع، وتوفيق الزكري.

 حتى جاء عقد التسعينيات، وما يليه، بعدد لا يحصى من الشعراء، جمعوا في تجاربهم بين التشابه والمغايرة، فضلاً عن بروز ظواهر خاصة أهمها ظاهرة الشعر النسوي، واتساع خارطة قصيدة النثر في تجارب هذه المرحلة.

 أهم ملاحظة يمكن أن يسجلها دارس التجريب الشعري في اليمن خلال النصف الثاني من القرن الماضي تتمثل بغياب امتداد التجييل في هذه المرحلة، ابتداءً من جيل الريادة وحتى الآن. فما إن يبدأ جيل من الشعراء بالظهور حتى يختفي سريعاً، بغياب تجارب معظم شعرائه، ومن ثم يصبح الجيل الشعري منكفئاً على ذاته في بضع سنين، أو عقد من الزمن ليس أكثر.

 فإذا أخذنا من جيل الريادة مثالاً، أو الجيل الذي يليه، نجد أن معظم شعراء هذا الجيل قد اختفى في وقت مبكر، وغاب إنتاجه، إلا من تجارب محدودة جداً ما تزال تؤتي أكلها، كتجربة المقالح مثلاً.

 هذا الانقطاع -حتماً- يواجه دارس الظواهر الفنية والموضوعية للشعر المعاصر بعدة إشكاليات، أهمها: غياب النسق العلمي  في منهج البحث عن التناسب، بسبب غياب التوازن في النص التطبيقي عن تمثيل نسق ممتد ولو نسبياً لجيل شعري على طول المرحلة. وينجم عن ذلك طغيان تجربة شعرية واحدة -وربما فردية- عما سواها؛ فضلاً عن إعاقة النص الشعري المعاصر في اليمن عن بعض الظواهر الحداثية المهمة جداً، ووأدها سريعاً، كما حدث مع تجربة القصيدة النثرية عند الشاعر عبدالرحمن فخري في السبعينيات، التي اختفى التجريب فيها إلا نادراً، حتى التسعينيات.

 سوى العوامل الخارجية، من طباعة، ونشر... إلخ، تقف عوامل مهمة داخلية، وفي صميم التجريب الإبداعي، وراء المظاهر السابقة في تاريخ تجربة النص الشعري المعاصر في اليمن:

 

  ثقافة الشكل الجديد للنص الشعري

 أسهمت ظواهر حداثية، كهدم النظام الإيقاعي (نظام العروض الخليلي) وتفكيكه، وإعادة تشكيل النص وفق بناء إيقاعي حر للنص الجديد، وعزوفه إلى الهدوء عن الإتيان بخطاب حماسي، بسبب اتجاه النص إلى أسطرة بنائه، وتقنيعه... إلخ؛ أسهمت في تشويش القارئ عن إبداء رد فعل بنَّاء حيال خطاب كهذا يخالف انتظاره المألوف.

 الشعر في اليمن ارتبط بالنضال والثورة، منذ بداية تاريخه المعاصر، سواء من خلال تجارب الشعراء الأحرار في 1948، وما بعد ذلك، إلى مرحلة ليست قليلة من عمر ثورة سبتمبر 1962. هذا الالتصاق، للشعري بالثوري، راهن على الشرط الحماسي أساساً لأي خطاب شعري لإيجاد قارئ متجمهر.

 إن الشعر الثوري هو خطاب تحريضي، يخاطب الجمهور لا النخبة، ومن ثمَّ فإن أي تقليم لبعده هذا سيجني على الاهتمام به، ويحدّ من تداوله. وبما أن الجمهور في اليمن لم يألف طبيعة الخطاب الشعري الجديد، فقد أدى ذلك إلى تضييق مساحة هذا الخطاب وإخفات صوته؛ وهو ما يبرر انسياق التجارب الأولى للشعر الحر في اليمن إلى مسايرة المألوف في ذاكرة القارئ، كنموذج المقالح وعثمان في «مأرب يتكلم».

 جناية الظروف العامة للشاعر المعاصر

 ابتلي التجريب الشعري في اليمن خلال تاريخه السابق بالرحيل المفاجئ لمعظم رموزه، وانقطاع إنتاجهم على مطبوعات محدودة. ويتخذ رحيل الشعراء مظاهر عدة تمثل أزمة الامتداد للتاريخ الشعري الحديث.

 فالراحلون انشغالاً، إما بالمهمة الرسمية، كـأمثال: عبده عثمان، عبدالرحمن فخري، اللوزي، ومحمد أنعم غالب؛ وإما بالكتابة الصحفية، كـالرازحي، وحسن عبدالوارث... إلخ.

 والراحلون موتاً مباغتاً، كـالربيع، الزكري، السروري، والضبيري.