العدد العاشر - ربيع 2010م

   
 

 متابعات
 

هامش على كتاب حاتم الصكر:

«في غيبوبة الذكرى - دراسات في قصيدة الحداثة» (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
     

محمد رشيد السعيدي
كاتب من العراق
 

                                                    

لا أستطيع رؤية حاتم الصكر إلاَّ معلماً، ابتداء من على الصفحة الثقافية لجريدة «الجمهورية» البغدادية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وهو يقدم سلسلته النقدية «تخطيطات بقلم الرصاص»، حيث أمسكت -من خلالها- بأولى مفاتيح النقد الأدبي. ثم عرفت أنه كان قبل ذلك مدرسا في الكوت. وبعد أن مارس نوعا آخر من التعليم في رئاسة تحرير «الأقلام»، فإنه استقر في «جامعة صنعاء»، أستاذا للأدب العربي ونقده منذ العام 1995، عاكفا على دراسة ونقد «قصائد الحداثة» في مختلف دول الوطن العربي، التزاما بهوية خارج حدود الجدال.

 

 في كتابه الثالث عشر (الأخير) هذا، نقرأ رسالة مفتوحة على أفق لا محدود، من الهوى والشوق واللهفة والحزن. من الإهداء، وهو يخترق فضاء الموت. ويبدو «أننا -العراقيين- مدمنو موت منذ كلكامش» (ص231) إلى ولده عدي «في غيبوبة براءته»، وإلى (أحمد) حفيده الذي يكبر بعيداً عن أبيه، إلى محمود البريكان، حيث «وحده يموت في داخله الإنسان».(ص11)، إلى الدراسة الأخيرة من الكتاب، والتي جاءت بعنوان: «قصائد الغياب»، بما يبرز من تعلقها الشخصي بالمؤلف، بقدر تعلقها النقدي بأهمية الشعراء الثلاثة المتميزين بغيابهم الميتافيزيقي، وبقدر أهمية اثنين منهم -هما العراقيان- المتعلقة بنتاجهما، وعلاقتهما بالوطن، الإشكاليتين؛ حيث يضغط الذاتي على الموضوعي، عندما تتشابه الأسباب، بل تتوحد، حين لا يترك الموت لنا مندوحة من «حضور الذكرى»، توغلها في متن النقد، «تتعدد أسباب موتهم، لكنهم يرحلون؛ بطلقة محتل... أو خنجر أخ عاق، قريبا من الموت اليومي...»)(ص231).

 

 يتعامل الناقد حاتم الصكر مع النص -نقديا- بحميمية نادرة؛ فيبدو وكأنه يمتزج مع النص كالماء والخمر؛ حيث ستظهر المقاطع النقدية دروسا علمية منقوعة بالإحساس الشعري. وأعتقد أن هذا غاية صعبة الإدراك في التماهي الإنساني، انطلاق الروح المكنونة في الجسد إلى فضاء الشعر المطلق حين يتمخض عن ذلك فهم دقيق وتفسير على قدرة كبيرة من الإدراك؛ «فحضرت في الديوان روح الملاطفة والدعابة التي توصف مسرحيا بالسوداء، كناية عن إضمارها وراء التهكم مرارة قصوى تنكشف دون عناء عند القراءة:

 

كلنا عابر في القصيدة

 

لكننا لا نقيم بها،

 

ونقيم القيامات فيها

 

نشاور أحجارها أو نساير أشجارها

 

أو نحاورها

 

أو نسير حفاة على الجمر بين الكنايات

 

نهمس:

 

إن كمائن أعشابها قطرة من مجاز

 

وإن السياسة بيت القصيد».

 

 

 يحاول الدكتور حاتم الصكر، في «تقديم» هذا الكتاب، أن يختصر مسيرة الحداثة الشعرية العربية بثلاث مراحل، هي: مرحلة القصيدة الحرة «بما يحمله المصطلح من بلبلة» (ص18)، وقصيدة النثر، ولحظة الحداثة القائمة، حيث «الكتابة الجديدة القائمة على النص» (ص15). وانطلاقا من هذه المقدمة، نطالع الدراسات الـ(13) المؤلفة للكتاب. وباستذكار المؤلفات الأخرى للدكتور الصكر، المدرجة في نهاية هذا الكتاب، يتأكد لدينا كون الناقد حاتم الصكر أحد أخطر نقاد الشعر العرب؛ حيث استطاع تأكيد هذه الخطورة من خلال إدراكه العميق لأهمية الشعر العربي، ومتابعة تطوره عبر عصوره المتلاحقة، وخصوصا القرن الأخير ومظاهر الحداثة الشعرية المذكورة سابقا، ليصل إلى أن «شعرنا ذو فاعلية حياتية، لا يضيق بالوجدان وتجليات الذات، كما يتمدد ليستوعب الخارج، ويتمثل مفردات الواقع والتاريخ، يضم الحادثة والوقائع اليومية، كما يتلمس ذبذبات الروح وهواجسها من الرجز حتى المعلقة، ومن الموشح حتى البند، ومن القصيدة الحرة حتى قصيدة النثر، بتلوينات وتنوعات يؤطرها الشعر كروح وإيحاء، ولا يحدها بثوابت» (ص17). وبخبرته وتجربته ودأبه على استكشاف كل خبايا الشعر يدرك «الجدال والحجاج في موضوع قصيدة النثر، ووجدنا أن ثمة أخطاء وتصورات مغلوطة كانت وراء سوء فهم الجمهور لهذا النوع الحديث من الكتابة الشعرية، وبعض الأخطاء ارتكبه روادها أنفسهم بسبب حماستهم التبشيرية والأوهام التي أسرت نظرتهم إلى قصيدة النثر، وصلتها بالشعرية العربية، والأشكال الغربية، بينما كان جزء من سوء الفهم متأتياً من غياب منظور القراءة المناسبة لهذا النوع...» (ص21). ولأنه أحد الأبناء البررة للحظة الحداثة القائمة، كشاعر وكمنظر، كما كانت شاعرتنا الكبيرة نازك الملائكة في لحظة الحداثة الأولى: القصيدة الحرة؛ فإن حاتم الصكر سيتبنى توصيل بنية قصيدة النثر إلى القارئ العربي بكونها «قصيدة رؤيا في المقام الأول، لكنها بتفجير طاقات النثر والاستعانات السردية، تباين النموذج الجبراني الشائع في الشعر العربي المنثور الذي كتبه جبران والريحاني أو الشعر الحر، حسب اجتهاد جبرا وأطروحته المعروفة داخل تجمع (شعر)» (ص23). وفي المبحث الخاص بـ«قصيدة النثر وحجاب التلقي»، يؤكد الدكتور الصكر حتمية ولادة قصيدة النثر من خلال: «عالم متغير../ شاعر متغير../ شعر متغير../ قصيدة نثر» (ص94). بالرغم من المشكلة التي عززها المصطلح، وأن «مصطلح القصيدة النثرية المترجم عربيا (قصيدة النثر) قد اشتمل على خطأ جسيم؛ لكنه شاع واستقر، رغم أنه مقلق وغير دقيق... لأنها لا تؤاخي أو تجمع الشعر والنثر، بل تستثمر ما في النثر من استرسال وطلاقة وسعة لتجد فيه ما هو شعري، فيكون المجيء إلى النثر من منطقة الشعر والجذب إليها لا خارجها» (ص96)، ويفسر ظهور «قصيدة النثر» في فترة زمنية شهدت حضور «خطاب ليبرالي سائد في زمن صعود المد اليساري» (ص98)، حيث مثلت بانفلاتها على قوانين الشعر، انعكاسا أو الضد من الانسحاق تحت قوانين المجتمع وعدم القدرة على التخلص منه.

 

 في الدراسة الأولى للكتاب: «قصيدة الحدث بين الموضوع والفن» يستطيع الناقد حاتم الصكر أن يجد له موقعا في استشهاده من «تيري ايغلتون حول مهمة محلل النص التي شبهها بمهمة المروّض الذي يدرك أن الوحش أقوى منه لكنه يتصرف عكس ذلك، فيحتويه ويروضه، وإذا ما أحس الوحش بأنه أقوى من مروضه ستنتهي اللعبة كلها» ص(47). فيحدد مجموعة من النقاط الهامة يمكن ايجازها بالآتي:

 

نصل إلى قضايا عصرنا متأخرين دائماًص (29).

 

الحَدَثي والحداثي يتقابلان بضدية واضحة (30).

 

الغموض هو أبرز مزايا النصوص الحديثة، بمبررات الضرورة الفنية.ص (30).

 

الغموض -ذاته- هو أبرز العيوب ص(30).

 

اختفاء الموضوع هو الثيمة الأساسية ص (30).

 

إقصاء المعنى لصالح تعدد الدلالات، الأشمل من وحدة المعنى أو المغزى ص(31).

 

استعصاء توافق الحدثي والحداثي ص(46).

 

 وفي الدراسة الثانية: «قصيدة المنفى أو المهجرية الجديدة» يشخص الناقد الصكر موطن الخلل وعلاجه، في صراع الداخل والخارج، الذي يأخذ من الميزات الفنية للنتاج العراقي مأخذا ما، بغير وجه حق، كما أرى. حيث يقول الدكتور حاتم: «إن مهاجرة الأمس الأوائل لم يعدوا هجرتهم امتيازا لهم على شعراء الداخل المهجور، فيما نلحظ تكرارا مملا للقول بأن الداخل كفّ عن أن يكون صالحا لسياق ثقافي أو إبداعي مناسب، وكثيرا ما رفعت قرارات الرفض وسياط الجلد في وجوه مبدعي الداخل وجلودهم ونصوصهم لمجرد أنهم مازالوا هناك: أحياء يكتبون!» (61)؛ حيث اعتقد أن جماليات النص وقدراته الإبداعية بمختلف تجلياتها، هي ما يوحد الإبداع العراقي في أي مكان. ولا يجب أن يكون التمايز بين أي إبداعين على أساس مكاني: الداخل والخارج، إلا لتشخيص فروق وميزات مؤثرات الداخل والخارج على النص، وليس من أجل صراع لا جدوى منه.

 

 نعم، لقد ضم الكتاب دراسات متعددة، ولكنها مجتمعة في المنظور، أو حتى في المنهج؛ حيث نرى وحدة الموضوع: «قصيدة الحداثة»، وحيث توجد الدراسات النظرية والتفسيرية لمفاهيم ومصطلحات ونظريات أدبية. كذلك نجد الدراسات التطبيقية الممتدة من السياب ومحمود درويش والبريكان إلى أدونيس والمقالح والشابي وعقيل علي، على مسافة زمنية تجمع أغلب أو أهم التوجهات الحداثية، وعلى بقعة جغرافية نابضة بالشعر منذ ألوف السنين اسمها «الوطن العربي».

 

 

 

مكان الحلم

 

 منذ غيابه القسري، ظل الناقد حاتم الصكر متواصلا مع وطنه، شعراء وقراء وأصدقاء، من خلال كتبه ودراساته المستمرة. ولكن هذه الدراسة، على ما فيها من تميز مشهود للناقد الصكر، ودفاع متجلٍّ بوضوح عن آخر مظاهر الحداثة: قصيدة النثر، إلى الحد الذي يمكن -من خلال هذا الكتاب- أن يغير كثير ممن لا يرغبون في قصيدة النثر رأيهم. أقول: رغم هذه التمظهرات المهمة، فقد لمحتُ إشراقة كإشراقة شمس الصباح، وسمعت طرقات قوية على باب الوطن، وبخاصة في الدراسة التي كان موضوعها عقيل علي: «إنه فزعٌ، وأنا» (245)؛ حيث يمكن لهذا الفزع ألاَّ يقتصر على شعراء ونقاد يلتحفون برودة منافيهم: محسن الموسوي وعلي جعفر العلاق ومحمد الجزائري وفاضل العزاوي وسعدي يوسف، وآخرين أعتذر لعدم ذكر أسمائهم؛ بل يمتد ليشمل ملايين العراقيين/ الشعراء في وطن يضيق أحيانا جراء الاحتلال أو سذاجة الإخوة، حيث لا يمكن لأطنان من ملصقات الدعاية الانتخابية أن «تحجب عن القارئ الخوف الذي يستشعره خطاب القصيدة كله» (ص245). فيما يحاول الأمل، بقايا الأمل المطمورة تحت رماد الغياب، أن يعلن المهمة الجسيمة: الاستدعاء أو الاستقدام، في عنوان ديوان عقيل علي (تعال نحتف بطائر آخر يتوارى) المتمثلة بـ«تعال»؛ لأن «حافظة الأفكار قد اغبرت من وعثاء السفر» (ص245)، وكي لا نتحدث بمرارة عن «طائر آخر يتوارى».

 

هل تعمد حاتم الصكر التناص بينه وبين تعبيرات عقيل علي؟

 

هل كانت دراسته عن عقيل علي نتيجة لهذا الفهم؟

 

هل ما وصلنا من إشارات كان متعمداً أيضاً أم كان من وحي قراءتنا؟

 

ليس من جواب، رغم أهمية تلك الأسئلة، إلا بـ«بغيبوبة الغياب». إلا بالحضور البهيج لحاتم والآخرين إلى محتضنهم الخصب الدافئ في عراق اللذة والألم.