العدد العاشر - ربيع 2010م

   
 

 متابعات
 

ثمـة أبـداً جـدار (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
     

لؤي حمزة عباس
جامعة البصرة - العراق
 

منذ أول أشكال الجدران، وقد اهتدت إليها مخاوف الإنسان ليحدّ من سعة العالم من حوله ويقلل من مجهوليته، والجدار يقترح نوعاً من العلاقة مع العالم يكون بمقدوره التعبير عن المتناقضات عبر ممارسة جدل لم تنقطع، وهو يمثل صورة أولى لإحلال التنظيم الإنساني، بحسب «هنري برغسون»، محل قوانين الطبيعة، قبل أن يغمض الإنسان عينيه ويفتحهما وقد قامت حوله ملايين الجدران، تُجرّد، في فعل متصل، قوانينَ الطبيعة، وتسعى لإقامة عالم الإنسان الآمن داخل صرامتها وقوة أفعالها. جدران لا تحدد نوعيتها غير حاجات الإنسان المتجددة في كل زمان، تعالج المكان وتُطوّعه لتؤاخيه وتحدّ من أهواله، فيقف الجدار حجاباً بين الذات والآخر، حيث تصنع الذات، في مربع جدرانها، عالمها المقترح، ويُنصت الفرد إلى طبائع فرديته وقت يعزلها عن العالم.

                          

سيبدو الصمت من أول جدران الإنسان وأكثرها قدماً، لحظة ينقطع عما حوله ليبني جداراً مادته توقف الكلام كي ينصت لصوته الخاص، صوته الذي يبطن عزلته ويملأ بانقطاعه العالم، يستمع ولا يقول، مثلما ستبدو الظلمة جداراً تقيمه كائنات الليل لتفصل العالم عن مياه النهار بأمواجها الغامرة. الجدار، في هذا الجانب من الصورة، غيب، غروب، غربة، فهل يكون، من جانبها الآخر، علناً لفكرة، وامتداداً لخطوة، واقتراح وطن؟

                          

ليس من المصادفة أن يكون للجدار وجهان: وجه للعالم، وآخر للفرد في صمته وعزلته وانقطاعه، كأنه لا ينفصل، إذ يُفصل عن مهمته الأساسية: إقصاء العام عن الخاص، وعزل الذات عن الموضوع. إنه يوثق هذه العلاقة، ويقف شاهداً عليها، فلا ينأى الفرد عن العالم من دون أن يجسد صلته معه ولو عبر جدار. من هنا كان للجدار وجهان: وجه نحياه ونمارس وجودنا على مساحته صوراً وخرائط وأرقاماً وذكريات، وآخر مرآة للعالم وحقل تحرثه خطواتنا عبر الفصول. للجدار وجهان: وجه لك، وآخر للغريب. في الوقت الذي تقرأ حياتك على الوجه الداخلي لجدار بيتك، يُشاع الوجه الخارجي، فتحتكُّ به أيدٍ غريبة عابرة، وتلوّثه رياح، وتأوي إليه حيوانات الليل والنهار؛ إنه يوحّد بين كائني الخوف: الإنسان، والحيوان، لحظة يفصل بينهما، وهو يمتدُّ، ويؤوي، ويكتم الوجه الداخلي، مقفلاً على أسراره، مانحاً إنسانه بانكتامه ما يستطيع من عزلة. تبني جداراً لتنام، تأوي إلى ذاتك، تتعرى، تُحس كيانك العضوي مثل سحلية في جحر.

                          

ستوحّد الجدران، بذلك، العالم وتحرس طبيعته، فلا تبدو الحرية، عندئذ، إلاّ إنشاء لعالم ينهض مواجهاً عالماً أشد سعة ومجهولية وأكثر مفاجأةً ووحشيةً، إنها مواجهة يصوغها فعل تنظيم قديم في حوار عوالم، ومواجهة رؤى. لا جدار بلا حرية تظلله، وتترصد وجوده؛ إلا جدار السجن، حيث تنأى الحرية، وتُزال النوافذ، وتُغيّب القيم الذاتية، حيث يصبح الإنسان مُستلَباً بلا جدار من حميمية يستند إليه.

                          

لا تكون الجدران، في تباينها وتعدد أشكالها، غير صور لأصحابها، تسترجع على مهل أصواتهم، وتستعيد خطف أجسادهم على ورق الزمان. إنها حيّة بمقدار ما تبدو تمثلا وتشكيلاً لحياتهم، وبمقدار ما تكون برهنة عليها، حيث يُصبح الشق لغزاً، والحرف كتاباً، والحزّ صرخة، والتقعر انحناءة كتف... إنها تتخطى العصور لتمنحنا أمثلة عن جدران تتلبس أرواح أصحابها وتواصل رحيلهم، بما أوتي لها من خلود، في دروب الزمان، فتسقط زهرة لوتس عن جدار فرعوني لحظة يمسسها الضوء، وتشعُّ شمس مطعّمة بالذهب على جدار بوذي لحظة تلمسها الرائحة، وتُغمض عين في جدار فارسي لحظة تتصاعد من حوله الصلوات، وتنسحب صلوات عن جدار آشوري لحظة يتصاعد من حوله أزيز الطائرات.

                          

تتماهى الزهرة والشمس والعين والصلاة مع الزمان، متحولة من عصر إلى عصر، من دون أن تغيب عنها ظلال أصحابها وقد انعكست لحظات فتنتهم وصلواتهم وأحزانهم وصبواتهم على السطوح المجهدة. إنها تتنفس متصاعدة من الأعماق السحيقة، داخلة إلى عصر جديد؛ الزهرة تنبت على جدار شاهق من جدران مكتبة الإسكندرية، وشمس الذهب تدور طويلا قبل أن تشرق من أحد جدران تاج محل، ومن بعيد تعاود العين انفتاحها، وترتسم الصلاة -غير مرئية- على جدار سجن عراقي؛ في إناء العاطفة ينبض الذهب، وترسل العين حكمتها، وتتفتح الزهرة منعكسة في مياه البحر، وترنُّ الصلاة رنين جرس خفيضاً. تتلبس الجدران حقائق أصحابها، وتندفع في وسامة هندسية لتقيم معابد، وتؤسس مدناً، وتنشئ أنفاقاً وسراديب، تخطو مع الإنسان، تدرج على مدارج حضارته، تقيمها وتقام بها، تحاكيها وتحكي عنها، تحدّها وتفتحها، تكتبها وترويها، متحدثة بالحكِّ، والخدش، والحرف، والحز، والنتوء... بالنقر، والزخرف، والرسم، والشطب، والتلوين، بأفعال الطبيعة وأفعال البدن، بأعين الصُلب المفتوحة وآذانه المتنصتة... فيملك الجدار، عندئذ، فتنة ما يُنشئ وما يُقيم، فيُقدَّس جدار المعبد، ويُحَنّ إلى جدار البيت، ويُهاب ويُخشَى جدار معتم في سجن... إنها جميعاً تنفتح، بما تؤسس وما تقيم، على ماضٍ ملتفٍّ، وحاضر صادم، وقادم لا يبين. في دفق الزمان يقول الجدار كلمته، ويتنصت أعماراً لأصدائها. ومثلما تغدو الآلة بعضاً من جسد الإنسان، يتشكل الجدار بعضاً منه، إذ يُجبَل على نحو آخر من صلصال الحنين، ومن طين الذكرى.

                          

سيغدو لكلمة «بول ايلوار»: «بين المدينة والإنسان لم يكن يوجد حتى سمك جدار» معنى آخر يتماهى فيه الجدار ويشفُّ ليقيم نظاماً من العلاقات، فلا مدينة بلا جدار، ولا جدار بين الإنسان ومدينته. يغيب الجدار في ظل الفكرة هذه لتنهض علاقة طرفها الأول وميدانها حياة الإنسان وتجاربه، وطرفها الثاني وميدانها حياة المدينة وهي تقترب شيئاً فشيئا من الإنسان، تتماهى معه لتغدو في الأخير إنساناً من أبواب ونوافذ وطيور وطرقات. تؤسس الجدران المدينة كما تبني حلماً من ضوء ثم تطلقها في فلاة العاطفة تركض مثل غزال، كلما ثقلت موازين جدرانها خفت خطواتها وتقافزت من أعلى جدار إلى أعلى جدار.

                          

إنها مؤن العذوبة تُشاغل حياتنا، وتخفف عن كياناتنا الطينية ما يركد من عناء السنين. سننصت لـ«أنطوان سانت اكزوبري» وهو يهمس في أرض البشر: «إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا، هوناً ما، من مؤن العذوبة»... تغيب المدينة، في آخر الحلم، ويغيب الجدار، وتظل الذكرى وحدها بئراً للتفاصيل الدقيقة، وهي تطرّز، على مهل، أعمارنا.

                          

نتوجه للحديث عن الجدار فإذا بنا نستمع إلى أصواتنا وقد تشبّعت بنبرة رثاء قديم، ربما لما يجمع الجدار من رباط بأنفسنا، وهو الرباط الذي يختلف على نحو كلي مع ما نجده من شعور تلتقطه قصيدة «كافافي» وتعبر عنه. إن قدراً من الحزن يراودنا إلى زمن بعد انتهاء القصيدة ووقوعها في البياض. ثمة جدران عالية تحيط بنا كأنما يُنتبَه إليها فجأة؛ إنها القدر الذي يزرعنا هنا ويبعدنا عن الـ»هناك»، عزلة قاطعة يُنجزها بناؤون غير مرئيين، فلا يظل لدينا غير أن نفكر فيما تبقى من أعمارنا وقد كبلتها الجدران.

«ومادامت لديَّ أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج  فلمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران؟».

ذلك الشعور الذي يتكثف ليضعنا بمواجهة أنفسنا، وقد ارتفعت من حولنا جدران شاهقة مثل مرايا تتكشف على مياه فضتها دواخلنا، نحن المعزولين بجدران ذواتنا، من هنا نلتقط معنى تضيفه القصيدة لفكرة الجدار: لا يتشكل الوجه الخارجي للجدار وحده مرآة للعالم، الوجه الداخلي أيضا يشكّل مرآته لمكاشفة المرء وكشف دخيلته.

                          

هل يكون الجدار، بذلك، مرآة صامتة تتردد في وحشتها أشباح أعمارنا الآفلة؟ «للمكان روحه الصامتة»، ذلك ما سيقوله «محمود البريكان»، حارس الفنار ذو العين الثاقبة، لحظة يتساقط الزمن غباراً، وينمُّ الجدار عن خفايا الحياة، يكشف شيئاً من مغامرتها، إنها الروح التي تتنفس بعد أن ينطوي مهرجان الحياة وتنسحب الأضواء عن الشاشة الخالية

                          

هل يعلن الجدار وحشة مرآته، غربتها في مرايا الزمان، ترقبها؟ وهل يخطو من فكرة المكاشفة، وهو يؤدي دوره في وظائف حبس أبدية، إلى فكرة المتاهة؟ فلا متاهة من دون جدار، حتى لو لم يكن جدار، فثمة -أبداً- جدار في قلب الفكرة وهي تنقلنا من هوة إلى هوة، ومن قبو إلى قبو، ومن طريق موحش إلى طريق. المتاهة واحدة في بحر أو صحراء أو داخل قلعة أو بين دفتي كتاب. إنها تقيم، على نحو متشابه، رعبها الغامض الذي يفجّر فتنةً غريبةً في أعماقنا أكثر مما يعزلنا عما حولنا. وهي تُعيد ترتيب صلتنا بالعالم ليُبدد كلُّ ما هو مألوف أخلاقياً في العمارة ويُسنُّ سلوكٌ من صمت مطبق. حيث تغيب النافذة يحضر الصمت، يقوم جدار كونكريتي ذو طبقات، يعزل ما يحدث خلفه عن حياة الناس ولمس أنظارهم، قبل أن يلتفَّ التفافته العظيمة ليفصل العامة عن العالم، ليدور الناس دورتهم الأبدية، بإرادة جدار صامت، في فلك السلطة ومقدساتها.

                          

إن جدراناً متشابهة لا تنشئ وطناً، إنها لا تنشئ غرفة حتى. في شعرية العمارة يكتب الدكتور «أسعد الأسدي»: «إن الغرفة تنشأ بجدران متمايزة عن بعضها، ففي أحدها نافذة وفي الآخر باب، وثالث يظلل الفناء، وآخر يشكل أرضية الغرفة. كذلك البيت ينشأ بغرف غير متشابهة تختلف عن بعضها بسبب تداخلاتها المعمارية والإنشائية. وهذه التداخلات انعكاس لضرورات خفية غير ظاهرة». فهل تعي أنظمة من جدران مسلحة معنى الضرورات الخفية للاختلاف؟ وهل تفكر بالاختلافات والتمايزات وهي تصنع بائتلافها وطناً؟ وهل تُنصت، في أعماق هوسها بسلطان العمارة، لقوة حقائقها؟

                          

كلما ارتفع جدار وتضخم تكشّف ما وراءه من سر، وأُبيح ما يُغيّب من ألغاز. للجدار، وحده، أن يمنحنا فكرة عما خلفه، يفضح في الوقت الذي يُشيَّد بحرص ليخفي ويخبئ مواصلاً لعبة تناقضاته. يقتضي ذلك وجود أنواع من الجدران تكفي لمتوالية ألغاز السلطة ودوائر أسرارها، وتقيم، بصرامة كونكريتية، متاهاتها. جدران تحيط بعالم الخوف وتسوّر ممالكه. ستسهم نقاط الحراسة المحصّنة وقد رُفعت فوق كل ركن بأن تمنح الجدران، بقصدية عمرانية مسرفة، شكل القلاع الأسطورية والحصون لعلها تفلح في مطابقة نسختي الواقع والخيال، حيث يُخلي الواقع الساحات الفسيحة بجانب الجدران كما يُخلي دواخلها لصالح الخيال. ربما كان ذلك واحداً من أهدافٍ تحققها السلطة وهي تُنجز هيمنتها بما تبني وتخبئ خلف أسوارها، وإن بقيت بناياتها، بعد زوالها خالية يصفّر فيها الهواء. ثمة -أبداً- سلطة تُحصّنها جدران حصينة، وتحرسها سرايا مسلحة
لا دور لها غير أن تملأ المشاهد الشاغرة لسلطتها. ستُسجَن الجدران، بهذا المعنى، في غيب بطولةٍ قامعة، وتتهاوى على الرغم من صلابتها وسرايا حراساتها، في لحظة، مثل عوالم من ورق.

                          

عن الفكرة وهي تعبر من جدار إلى جدار...

عن المساحات الفسيحة التي أرعبت الإنسان لحظة وضع قدمه على الأرض فقام في ذهنه أول الجدران...

عن جدران دواخلنا...

عن جدار يقيم بيتاً، وينشئ مدينة، ويقترح متاهة...

عن أناس يقيمون خلف جدار، وآخرين يمرون من أمامه بلا ظل ولا ذكرى...

مَنْ يفكر بجدران الحوادث والحروب، حيث تُهزّ جدران فتتخلى عن مواثيق ألفتها فيقتل جدار الصف طلابه، وجدار المنزل عائلته، ويُبقي، كأنما بانتقاء عاقل، واحداً من طلاب الصف، واحداً من أفراد الأسرة، ليتذكر نقض المواثيق من دون أن يحكي أو يُشير؟

                          

سيلتقط «مارسيل ايميه» آخر الخيط فيحدثنا في قصته «عابر الجدران» عن رجل يملك بفعل حبّة نادرة أن يعبر الجدران ماراً دون حاجز من مكان إلى مكان، تشهد المدينة بعبوره حوادث غريبة حتى يُشك بأمره ويُلقَى القبض عليه، لكن الحوادث تستمر والسرقات تتوالى على الرغم من وجوده في السجن، يُحيّر الأمر المدينة ويبلبل مسؤولي الأمن فيها، حتى تنقطع الحوادث فجأة وتكفُّ السرقات، فقد خاض صاحبنا آخر مغامرات عبوره ناسياً أن يبتلع حبته. نعلم ذلك، نحن القراء، قبل أن يكتشفه هو متحسساً ضمور قواه وصعوبة حركته بعد أن يدخل أحد الجدران. سيظل بطل «مارسيل ايميه» في غيب جدار ما، خلفي أو خلفك، يتنصت في عمق حسرته إلى ما يتسلل للدواخل المعتمة من أصوات...