العدد  الثاني - ربيع 2008م

   
 

سؤال العدد
 

النقد اليوم... منهجياته، اتجاهاته، فاعليته وصلته بالإبداع؟ (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

الأسئلة التي تخفي إجاباتها

كمال أبو ديب (بريطانيا)
يمنى العيد (لبنان)
 عبد الواسع الحميري (اليمن)
فخري صالح (الأردن)
عز الدين المناصرة (فلسطين)

  تقديم: حاتم الصكر

 لم أعد أتذكر القائل إن الأسئلة في العادة تخبئ إجاباتها في صياغاتها، وتوجه المخاطب باتجاهها. ولكنني متيقن من أن للأسئلة إيديولوجياتها بالمعنى المعرفي، حتى وهي تتوقع الرأي المخالف لتوقعاتها. إنها (أي الأسئلة) تتخفى، لا وراء الصياغات الماكرة فحسب، بل وراء التسميات والمصطلحات، كسؤال العارف، والاستفهام الإنكاري،

وفي التساؤل، الذي هو أقرب إلى حالنا عندما ناقشنا سؤال النقد ووجهناه إلى بضعة زملاء مسهمين في الكتابة النقدية، ويمثلون – إلى جانب سواهم – جزءاً من فاعلية النقد الأدبي القائم بتياراته ومناهجه المختلفة.

وإذا كانت الحاجة إلى النقد، وقبوله في النشاط الثقافي، وضرورة تقبله، هي علامة حضارية ومدنية تعكس الإيمان بالحرية كشرط إبداعي، وبالآخر كشريك اجتماعي وإنساني؛ فإن الأسئلة حول موقعه اليوم، ووتائر تحديثه منهجياً وأسلوبياً، لا تنفك عن الاعتقاد بأن وجود النقد يمثل الوجه الآخر للإبداع نفسه. لا لأن النقد ذاته إبداع أدبي بحكم موضوعه وطريقة عرضه ولغته، بل لأنه ملتقى النظرية والتطبيق، التقنين للشعريات المتكونة والمستقرة، ومراجعتها ورصد تبدلاتها، وقراءة انعكاساتها على الفن والكتابة الإبداعية نفسها.

بهذا قد يسبق النقد الإبداع أحياناً في المقترحات التحديثية. وقد يرصد تيارات واتجاهات ورؤى في الكتابة نفسها لا تتنبه إليها عقول مبدعيها (كالبحث عن المؤوَّل في صورة المرأة مثلاً لدى كاتب ما أو عمل ما، وكالغوص في الدلالات المنتجة في نص محدد، أو نصوص فترة زمنية أو جيل أو مكان أو جهة، وكالكشف عن التعالقات النصية والقرابات غير المقصودة أحيانا بين النصوص ذاتها). والتوجه إلى القارىء في خطة معرفية تنبذ تجاهله والتعالي عليه، وكذلك تلغي تسلطه خارجيا على النصوص والأشكال، أو تكتله باسم الجمهور أو الرأي الذوقي العام المتمترس خلف الثوابت والنهائيات المتوارثة المستقرة.

وقد يُوجّه للنقد الأدبي العربي اليوم كثيرٌ من التهم والمساءلات المتشككة التي نسمع منها -تكراراً- القول بتجاهل النقد للإبداع كنتاج، وعدم متابعته ورصده وعرضه ونقده، أو التشكيك في تأصيل النقد وأصالته، وأخذه من الغرب نظرياته الحديثة المستنبطة أصلا من واقع كتابي وإبداعي مختلف عن كتابتنا المنتجة وفق مكونات ومؤثرات ومؤهلات خاصة.

سنتجاوز ما يقال بالضرورة بدافع الإحباط أو الغرض الفردي من الكتّاب الذين يظنون أنهم لم يأخذوا ما يستحقون من مكانة، بسبب إهمال النقد لنتاجهم، أو مجاملة النقاد لسواهم لأسباب جماهيرية أو سياسية أو قطرية… فالرد على هذا الخطاب يسير ومعروف ومدعم بالشواهد، فالنقد لا يستطيع أن يحجب أحداً، ولا يمكنه أن يغيّب إبداعاً؛ بدليل ما ناله كتاب الهوامش، والأقاصي، والبعيدون عن الضوء والسلطة والشهرة، من عناية نقدية، وما حظيت به كتاباتهم من احتفاء نقدي ودراسات واهتمام من القراء.

قد ينغمس النقد –كمعرفة- بالتحمس لمنهج أو رؤية أو فكرة، كما ينجذب الكتّاب أنفسهم للأعمال والتجارب. ولكن النقد يعتدل ويتوازن؛ لأن مرجعيته الأخيرة هي النتاج الأدبي نفسه بأعرافه وقوانينه وخصائصه الفنية.

وهذا ما تؤكده ديناميكية النقد الأدبي العربي، الذي انفتح على نظريات الأدب، وقبلها على المدارس الكبرى والمذاهب الأدبية في جانبها النظري، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية، وتنويعاتها. كما عاد إلى الموروث الأدبي القديم برؤى ومقاربات جديدة، وأسهم في تقريبه للقارىء، وموضعته في عصرنا عبر المعالجات المنهجية لا المكتوبة بحماسة إنشائية، وأخيراً في التنبه لتنظيم الخطاب النقدي كي لا يكون "دردشةً" أو شرحاً. وذلك باقتراح مستويات للنصوص وعناصر ودلالات، كما يجري في النقد السردي ونقد الشعر وتحليل النصوص، مثلاً.

لقد سار النقد في مراجعة الخطاب والتثاقف مع الرؤى الجديدة، وتجاوز النقد التاريخي والحياتي والخارجي، واقترب من النصوص ذاتها، ومن الفاعلية الكتابية ومشغّلاتها وكيفيات انتظامها. وبذا أنجز النقاد برامجهم المعرفية، وتكتلوا في منهجيات مختلفة تثري حركة الأدب ذاته وتزيد من فاعليته أيضاً.

وهذا ما اتفق عليه المسهمون هنا من النقاد والذين كتبوا في هذا الموضوع ممن يصطفّون معهم في الرؤية ولم تتح فرصة سؤالهم.

ولا يعفينا ذلك من التنبه لفوضى المصطلحات وتكثيرها وتناقضها في خطابنا النقدي، واضطراب الإجراءات أحياناً، والانشغال بالفضاء النظري عن رصد حركة النصوص وتبدلاتها أو تحولاتها الشكلية. ولكن المحصول بالمقابل يجعلنا نعتقد ثانية بضرورة النقد وجدواه ودلالته على الحيوية المعرفية والإنسانية والتحضر.

وربما كان هذا بعض ما أخفته صياغات سؤالنا أو أضمرته جمله القصيرة.

 

اللحظة الراهنة للنقد، وتطلعــات مستقبليــة لي

 كمال أبوديب (بريطانيا):

يمر النقد العربي اليوم، كما أراه، في أكثر مراحله ازدهاراً وحيوية ونضجاً منذ زمن الجرجانيين: عبد العزيز وعبد القاهر (بما في ذلك زمن القرطاجني ومحمد مندور). وأنا أعلم أن جملتي هذه ستثير الدهشة، بل الاستنكار أيضاً، لدى/ من الكثيرين. لكنني أكتبها بثقة العارف بخطورة ما يقوله، ومتخلياً عن أمرين: فضيلة التواضع التي تروق للضعفاء كثيراً، وعقدة الدونيّة التي تعثكل في الذات العربية (إذا كان هناك شيء اسمه الذات العربية هكذا بإطلاق، وذلك غير قائم) وتحيل الكثير من كلام العرب عن أنفسهم إلى جلد للذات، خاصة بإزاء حضارة الغرب. وازدهار النقد اليوم كمّي وكيفي: كمّي لأن قدراً هائلاً من النقد يُكتب ويُنشر ويُذاع ويُقرأ ويُدرس ويُدرّس في جميع الأقطار العربية دون استثناء تقريباً. وقد مرت قرون قديماً ثم عقود حديثاً والنقد يمارَس بنشاط في بقعة هنا وبقعة هناك. فيما تعيش مناطق أخرى في عالم يرث الكتب الصفراء ولا يعي ما يحدث حوله. كانت القاهرة ودمشق -أحياناً- وبغداد وبيروت - حيناً- تُنتج، ويُنتج المغرب العربي قليلاً، ليستهلك الآخرون في بلدان كثيرة بعض ما يصلهم شتاتاً أحياناً، وبقدر من الانتظام والتنظيم أحياناً. أما في العقود الأربعة الأخيرة فقد أصبح ما كان هامشاً مستهلِكاً، مغذّياً مركزياً للنتاج النقدي، وللفكر النقدي أيضاً. وكان ثمة مشرق عربي، ومغرب عربي. أما اليوم فهناك فضاء نقدي عربي شاسع واحد. وللازدهار الكمّي وجه آخر؛ فقد كان النقد ضيق المجال، محدود الفضاء، من حيث المادة التي يعمل عليها، فارتبط بالشعر وبالقرآن، ونادراً ما مسّ مجالات أخرى. أما الآن فإن النقد العربي يتحرك في فضاءات متعددة ومتباينة، من نقد الرياضة، إلى نقد البرامج التلفازية (أقصد التليفزيونية!)، إلى نقد المسرح، وآخر تقليعات الطبخ. كذلك تعددت مصادر المعرفة النقدية. فقد كان النقد يعيش - لزمن طويل- على كتب التراث العربي. ثم أضحى يتعيَّش من قراءات محدودة لبعض نقاد فرنسا وقلة نادرة من نقاد بريطانيا. أما الآن، فإن إشارات النقاد العرب وإحالاتهم/إحالاتهن، في كتب لا تحصى، تتناوس بين فلوات جليد الأسكيمو وأقاصي سيبيريا، وتنحدر جنوباً إلى العالم اللاتيني في أميركا، بل حتى إلى أستراليا.

أما على المستوى الكيفي، فإن النقد اليوم أشد عمقاً، ومغامرة ومعرفة وإحاطة وشمولية وجذرية ومهارة، ونفاذاً وسفسطة وحذاقة، من أي مرحلة سابقة، بما في ذلك مرحلة الجرجانيين وتاليهما. إن الاكتناه النقدي العربي، الآن، يعرف أبعاداً للعملية الإبداعية، ويكتشف مكوّنات جمالاتية لها، بصورة وذكاء وبراعة لا مثيل لها في تاريخنا النقدي، من جهة، وتُضارع وتفوق في حالات عديدة الكثير من أفضل ما ينشر من نقد في بلدان أخرى. ولقد قال ذلك الفذّ، إدوارد سعيد، مثل هذا الكلام، في مقالة بالإنكليزية عام 1976، فما بالكم بما هو قائم الآن بعد واحد وثلاثين عاماً من التوقّد! بل إن لعدد كبير من النقاد العرب فضيلة ليست لكثيرين غيرهم، هي أنهم يتمثلون ويعرفون نتاجات أمم أخرى لا يعرف النقاد فيها شيئا عن نقدنا، أو نقد أمم أخرى. والبعد الكيفي الثاني لامتياز النقد الآن يتمثل في النضج المنهجي، ومتانة الكفاءة في إتقان أساليب البحث والكتابة، ورصانة اللهجة، وعلمية اللكنة. والبُعد الثالث يتمثل في خلق لغة نقدية جديدة مثيرة بحقّ، لا مثيل لدقتها وأناقتها وطراوة مفرداتها ومصطلحاتها وبُناها اللغوية، حتى في عمل ذلك العظيم، عبد القاهر الجرجاني، وتفوق في ثرائها ومزجها بين الصيغة شبه العلمية في التحليل، وبين الاكتناز الجمالاتي، أي كتابة نقدية سابقة. وهي بذلك لا تقل جودة عن معظم ما يكتب من نقد في أوروبا وأميركا، مثلا. لكن البُعد الكيفي الأكثر دلالة يتمثل في درجة التنوع والاستيعاب في السبل والأنهاج النقدية التي يمارس النقاد العرب من خلالها، وبها، دراساتهم للأدب والثقافة والمجتمع. وفي كل ذلك ينتجون أعمالاً غزيرة الغنى، باهرة العمق أحياناً، وشديدة الإتقان غالباً. ومع تعدد هذه الأنهاج، فقد استطاع النقد أن يتجاوز لغة الخطابة والتحلل العاطفي والتأثري الساذج، بقدر ما استطاع أن يتجاوز عقم النقد العقائدي (الأيديولوجي)، والتسيّب الصحفي، والتعليق الممكور المشحون بالمشاعر الشخصية نحو أصحاب النصوص التي يتم التعليق عليها. لقد حدثت نقلة نوعية رائعة من الشخص إلى النص، ومن صاحب المذهب إلى ما ينتجه في جسد لغوي، ومن المرأة الجميلة والبنت الدلعة إلى فردة كتبت كتلة من الكلام، ومن سلطان أو أمير أو فخيم يتشبطح بقصيدة أو مسرحية إلى ما هو على الورق أو خشبة المسرح من معطيات أنجزها سلطان أو أمير أو فخيم.

وثمة أبعاد أجهلها، وأبعاد أعرفها. لكن الحديث عنها يتطلب سياقاً متخصصا، لا استنطاقاً عابراً. بيد أن جملة أخيرة تستحق أن تقال: إن النقد اليوم هو أفضل ما ينتجه المبدعون العرب في أي قطر من أقطارهم.

لكن ثمة الكثير مما هو غث وفج وبائس. ونحن لا ننفرد بهذا، فهو في كل ثقافة موجود، وفي كل عصر مألوف. الرديء دائماً أوفر، والجمال أقلّ.

أما التطلع المستقبلي فإنه، بالنسبة لي شخصيا، إلى مزيد من الدقة والكفاءة والإتقان والعمق والبراعة والألمعية، في كل ما فعلناه ونفعله وننوي أن نفعله. وفوق ذلك، هناك شبق في الروح حقيقي لأن يتنامى النقد إلى أن يشكّل في الحياة العربية فكراً نقدياً، وفكراً نقدياً ضدياً بشكل خاص، شاسع الانتشار. أي أن يزداد توهج المسار الطبيعي الذي نما على مداره النقد في العقود الأربعة الأخيرة، فيستمر خط التحوّل نحو نقد الثقافة والحياة والمجتمع، من خلال نصوصها المكتوبة وغير المكتوبة، ومن حيث هي ماض وحاضر وبذرة لمستقبل؛ على أن يتمّ ذلك باستيعاب المنجزات التي تحققت في تحليل النصوص الإبداعية في الشعر، وفي الرواية إلى حد ما - مع أن نقد الرواية ما يزال أقلّ توهجاً مما أتمناه له- لا بالقفز فوق كل ما تمّ والسقوط في بئر النقد العقائدي، تحت اسم آخر، كما حدث في دراسات بعض النقاد المتميزين حديثاُ، وفي دراسات فجّة نسجت على منوالها. ولعل أفضل مثال لما أودّ له أن يكون، العمل الذي قام به خلدون الشمعة تحت إشرافي في جامعة لندن، ونال عليه درجة الدكتوراه قبل ثلاثة أسابيع فقط، متقصّيا ما أسماه “الحداثة وما بعد: من النقد الأدبي إلى التنقيد الثقافي”، ومتتبعاً ومبلوراً للمدار الذي سار فيه النقد العربي الحداثي من نقطة انطلاق تتمثل في النقد الأدبي literary criticism إلى فضاء يمثل التنقيد الثقافي. Cultural critique

وقد أنجز الشمعة هذا العمل الرائع بعد سنوات عديدة بدأت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، واستمر عملنا معاً عليه هذا الزمن كله. وأنا أستخدم مصطلح “التنقيد” تمييزاً له عن “النقد”، ترجمة للمفهوم المعبّر عنه بكلمة critique في الإنكليزية والفرنسية. كما كنت قد شرحته في بحث لي كتب عام 1977، وقُّدِّم لمؤتمر جامعة برنستن (عن الإبداع في العالم العربي) الذي عقد في غرناطة عام 1978، ونشر في كتاب صدر قبل عقد المؤتمر بأشهر. وقد تتبع الشمعة منابع النقد الحداثي والتنقيد الثقافي في النقد العربي منذ الستينيات والذرى التي بلغها في اللحظة الراهنة.

على صعيد آخر، يحسن أن يستمر النقد في محاولة تشكيل جماليات وشعريات نابعة من الإنتاج الإبداعي العربي الحداثي نفسه، مقارناً دائماً بما يحدث في العالم الأوسع، ومفيداً من العالم ومغذياً له في آن واحد. وقد يكون هذا الجانب من النقد العربي أقل جوانبه إنجازاً وتحقيقاً لواحد من أهداف النقد الأساسية في كل ثقافة. لكنني أريد هنا أن أذكر نموذجاً رائعاً لما يمكن أن ينجز في هذا الاتجاه، هو البحث الفريد الذي أنجزه محمد عبد المطلب وحاول فيه استقراء “الشعريات” (poetics) التي تنبجس من الشعر العربي، ومن خلالها موضَعَ قصيدة النثر وخصائصها في مفصل محدد من تحولات الشعر العربي. وأنا أظن (وبعض الظن إثم لكن كله ليس) أن هذا البحث لو كان قد كتبه باحث فرنسي أو أميركي أو بريطاني، لكان صاحبه، من جهة، صار علماً فرداً في ثقافته، ولتكالب، من جهة أخرى (وبفتح الهمزة وضمها) على نهله نقاد عرب من كل صوب وحدب، ونقلوه مدققين فاهمين، أو مشوهين “متسلبطين”، واعتبروا صاحبه ينبوع المعرفة الذي لا راوي إلاه. لكن من سوء حظ صاحبه أن اسمه محمد، ويليه عبد المطلب، وأنه مصري بلدي.

ومن جانب آخر مغاير لكنه بعيد الأهمية، أودّ أن أدعو وأحثّ وأحرّض، لا أن أرجو وآمل فقط، على أن يحدث انقلاب حقيقي (لكي أتجنب كلمة “ثورة” التي لم تعد على الموضة هذه الأيام بعد إفلاس عصر الثورات العربية) في المناهج التعليمية في العالم العربي، وأن تدخل في الدراسة منذ بدايات التعليم الأولي وعبر المدرسة كلها ثم الجامعة، دراسات نقدية حداثية ومعاصرة، من إنتاج عرب وغير عرب؛ لكي نربّي فكراً نقدياً لا يمكن لثقافة أن تحيا حرة ومبدعة من دونه، نقدر بعده وبه أن نحرّر فلسطين ونتخلّص من الطغيان العربي ونواجه جورج بوش وحلفاءه بوعي وقوة. ومؤكّد أن أول من سيهتز طرباً لهذه لفكرة هم الحكام العرب والمؤسسة الدينية والطائفية والعائلية والحزبية والعشائرية، الحاكمة في البلدان العربية. والطرب على أنواع، ومنه ما يطير بنوازع النفس رعباً. وإن ربك لأرعب وأعلم.

 

الاستسهال نزعة النقد العربي المعاصر

 يمنى العيد (لبنان):

إنَّ أهم المنهجيات التي عرفها نقدنا العربي منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم هي بإيجاز:

- الواقعية، التي اعتبرت الأدب انعكاساً للواقع، مرتكزة إلى الفلسفة المادية ومفاهيمها في التعامل مع النصوص الأدبية.

- البنيوية، التي ارتكزت إلى دراسة الكلمة –اللسان، واستنتجت أن النص الأدبي بنية تنهض بالعلاقة بين الدال والمدلول، وهو (النص) بذلك مستقل عن الواقع الخارجي. وقد ترتب على ذلك مناهج نقدية قوامها الأسلوب (وعُرِف بالأسلوبية) أو دراسة العلائق الداخلية (التناص).

- التأويل، وهو منهاج أكد استقلالية النص الأدبي على مستواه المتخيل، واعتبره مفارقاً للواقع. يصدر التأويل عن فلسفة تقول بالنسبية والاختلاف، وتقول بتعدد

 القراءة/ القراءات.

لكن القارئ الذي يبغي الفهم ويمارس التأويل، يدخل النص في علاقة، أو في علاقات غير مباشرة، مع مرجعيات عدة، وذلك عن طريق الإحالة على ما يعرف أو يتذكر. الأمر الذي بدا معه المنهاج التأويلي حلاً لما طرحته المناهج السابقة من مشاكل.

فهو (أي التأويل)، يتجاوز الانعكاس الذي قالت به الواقعية، والذي أدى إلى إسقاطات أيديولوجية على الأدب. كما يتجاوز البنيوية التي عزلت النص عن الواقع المرجعي، وأدّت إلى شكلانية بدت، على ما قدمته على مستوى التكنيك، خاوية.

لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المنهجيات تستند إلى نظريات ومفاهيم مصدرها الغرب. هكذا برز السؤال على مدى فاعلية هذه المناهج في تداولها لأدبنا الصادر -في تعبيراته- عن واقع عربي خاص نعيشه ونعاني منه في حياتنا.

لقد طرح موضوع فاعلية النقد وصلته بالإبداع العربي، مشكلة نظر إليها البعض كمشكلة للعلاقة بين التراث القديم وبين النظريات النقدية الغربية؛ ما أوقع بعض باحثينا في الخلط –مثلاً- بين مقولة "السرقات" التي عرفها النقد العربي القديم وبين مفهوم "التناص" الذي أنتجته الأبحاث الغربية، خلطاً لم يأخذ بعين الاعتبار منظومة المفاهيم المختلفة لكل منهما؛ ففي حين تندرج مقولة "السرقات" في منظور نقدي يحيل المعنى على مرجعية خارجية قائمة في الموروث المقدس، ويترتب عليها نقدٌ قيمي يحاكم النص على أساس المعنى؛ يتحدد مفهوم "التناص" على أساس نظري قائم على قطع العلاقة بين المتخيل والمرجعي، وهو ما يفضي إلى النقد/ التأويل، ومن ثم إلى النقد/ القراءة، بمعنى التعدد، والنسبية، وإهمال معيار القيمة وربما رفضه.

ثمة مسارات تاريخية لما تنتجه الثقافة، سواء أكان ذلك في مجال النقد، أم في مجال الأدب. وهي، بحكم تاريخيتها، متغيرات تستدعي الانفتاح على ما تنتجه الثقافات الأخرى وعلومها وآدابها، والإفادة من منجزاتها.

لكن منهاج التأويل الذي قدم حلاً لعلاقة المتخيل المرجعي عن طريق الإحالة، أدّى، عندنا، إلى فوضى في قراءة النصوص وتقويمها؛ وذلك بسبب تبسيط مفهوم التأويل، أو سطحية فهمه. فالاختلاف، الذي هو ثقافي – تاريخي، اعتبر حقاً لكل قارئ أن يفهم النص ويقومه وفق ما يرى، وليس وفقاً لشبكة العلاقات الثقافية- التاريخية. وعلى هذا الأساس أشير إلى ما يسود نقدنا العربي اليوم من نزوع إلى الاستسهال في قراءة الأدب وتقويمه، وذلك بحجة أن النقد قراءة وتأويل. وهي حجة تهمل مفهوم القراءة وضوابط التأويل.

أضف أن المقالة الصحفية (وأنا لست ضدها) تأخذ مكان البحوث النقدية الجادة المؤثرة، أو الفاعلة في حركة النتاج الإبداعي. ولعل ما يغلب على مثل هذه المقالات هو المجاملة أحياناً (كي لا نقول الترويج والتسويق)، وهو أحياناً أخرى مجرد كلام.

ولعل البث الإلكتروني: المواقع والبرامج الثقافية التي تقدمها الشاشة الصغيرة، تساعد، لا على تراجع النقد الجدي وحسب، بل على العزوف عنه، حتى يكاد أن ينحصر النقد بين من يكتب الأدب وبين من يكتب عنه. يضاف إلى ذلك أمية ثقافية سائدة في معظم بلداننا العربية.

قلة هم النقاد الذين يمتلكون أدوات ومفاهيم ونظريات... أي ما يخولهم التعامل مع النتاج الأدبي تعاملاً يطرح سؤاله النقدي على هذا النتاج، كما على ثقافتنا العربية باعتبارها الفضاء الذي يشمل الإبداع كما النقد، في حوارهما حول المعنى العميق لهذه الثقافة المعنية بزمننا وحياتنا ووجودنا... السؤال الذي يضمره كل إبداع، والذي يحاوره كل نقد ينفذ إلى عمق هذا الإبداع وحقيقته.

 

 الخطاب النقدي العربي بين أزمتين

 عبد الواسع الحميري (اليمن):

من يتتبع مسيرة الخطاب النقدي العربي القديم والحديث، يستطيع أن يرصد ملامح أزمتين. لازمت أولاهما حركة النقد العربي القديم منذ لحظة الولادة الأولى, لترافقه طوال مسيرة حياته حتى مطلع عصر النهضة. ولازمت ثانيتهما النقد العربي الحديث, منذ منتصف ستينيات القرن الماضي

-على الأقل- وظهور"تيارات الحداثة" وما بات يسمى بـ"ما بعد الحداثة" حتى يومنا هذا. وهما أزمتان أعتقد أنهما قد أسهمتا, بشكل فاعل, في تهميش دور النقد العربي, وتغييبه عن ساحة الفعل الثقافي الفاعل في الحياة الثقافية والإبداعية العربية.

 وقد تمثلت الأزمة الأولى التي لازمت حركة النقد العربي القديم، في أن هذا النقد قد ظل يمثل, في جملته, طوال مراحل تطوره وازدهاره, ضرورة الفرد العربي، أكان الفرد الشاعر, أم الفرد الحاكم أو صاحب السلطة والجاه في المجتمع. ولم يكن هذا النقد, في أي يوم من الأيام, ضرورة المجموع أو المجتمع العربي, إلا في ما ندر, ووفق شروط خاصة, لا تكاد تتحقق. ما يعنى أن الخطاب النقدي العربي(القديم) قد بقي, في جملته, مكرسا طوال تاريخه في خدمة فكرتين, أو بالأحرى في ترسيخ ذائقتين, لا ثالثة لهما: ذائقة "فرْدَنَة/وحْشَنَة" الفرد العربي, وذائقة "قطْعَنة" المجموع العربي.

 على أنه لا فرق, في المحصلة النهائية, بين الخطاب النقدي الذي يُفَرْدِن الفرد أو يُسلْطِنه على المجموع, والخطاب الذي يُقَطْعِن باقي أفراد الجماعة التي ينتمي إليها الفرد؛ أكان الفرد المفرد (رمز السلطة السياسية والاجتماعية) أم الفرد المتفرد (الشاعر بوصفه رمز السلطة البيانية)؛ فكلاهما يعد خطاب سلطة, في الأساس, وكلاهما يؤدي الدور نفسه, ويفضي, إلى النتيجة عينها, وإن بطرائق مختلفة, من حيث إن كليهما يمارس قمع المجموع, ويصادر حق باقي أفراد المجتمع في أن يفكروا بحرية, وأن يعبروا بحرية, وإن تميز الاتجاه الأول عن الثاني, على الأقل, من حيث شكل السلطة التي يمارسها على جمهور المتلقي العربي, في أنه يسلك طريقا إلى قطْعَنَة الجمهور العربي, هي-بالضرورة-طريق فرْدَنَة الفرد وتسليطه عليه؛ فهو إذن يسلك طريق الفرْدنة, بوصفها إحدى وسائل القَطْعَنة, أو إحدى أهم الطرق المفضية إليها.

على أن ما نعنيه باتجاه الفردنة/الوحشنة, ذلك الاتجاه النقدي الذي ما انفك يسهم في صياغة وعي الفرد (المفرد) بذاته, وصقل ذائقة الفرْدَنة في الفرد المبدع, وينمي فيه حس الانتماء إلى ذاته الإبداعية المبدعة, بدل أن ينمي فيه حس الانتماء إلى الآخرين الذين يتكامل معهم, ويمثلون في جملتهم "أناه" الأخرى الجمعية أو التاريخية المعممة. إنه ذلك الاتجاه الذي ما انفك يغلق الفرد المفرد على ذاته, ويمنعه من الانفتاح على الآخرين. فهو يصوغ وعي التوحّش والانغلاق الذي أخذ يترسخ يوما بعد يوم, وبخاصة بعد ظهور حركة التحديث الشعري العربي, أي منذ منتصف الأربعينيات, حيث ظهر تيار شعري/نقدي ما انفك يعلي من شأن الفرد, وبخاصة الفرد المبدع الشاعر, ويؤسس لفكر الفردانية, ساعياً في الوقت ذاته إلى ترسيخ وعي الفرد بذاته الفردية المفردة, جاعلا منه هذا الكائن الأناني المتوحش النافر المستنفر (النافر عنا أو المستنفر ضدنا, أو ضد وضعه السسيوانطولوجي في إطارنا) ما أدى, في النهاية, إلى عزل هذا الفرد المبدع شاعرا كان أم ناقدا عن المجموع, وانفصاله بالتالي عن سياق الفعل الإبداعي الحقيقي الذي يجب أن ينفتح (فيه) على الجميع, وأن يترسخ في وعي الجميع وسلوكهم, لا أن يترسخ في وعي الفرد المفرد وسلوكه فقط, الأمر الذي أدى إلى تهميش دور الفرد المبدع, وتقزيم العملية الإبداعية, في الوعي البياني العربي عموماً, وحصرها في نطاق ضيق من هذا الوعي, فبدت هذه العملية كما لو كانت شأناً يخص فقط حياة الأفراد المفردين, ولا علاقة لها قط بحياة الجماهير, أو اهتماماتهم.

وهذا يقتضي أن الاتجاه النقدي الأول قد حاول فرض سلطة الاختلاف (اختلاف الفرد المختلف أصلاً عنا, بوصفه الفرد البطل) وإشاعة ثقافة الاستبداد ونفي الآخر باسم الفرد الفريد تارة (أي المختلف عنا هوية وثقافة) وباسم الفرد المفرد تارة أخرى (أي الذي يقتضي موقعه في السلم الاجتماعي للكيان الذي ننتمي إليه جميعاً أن يكون فرداً مفرداً, أي أن يكون منّا, في موقع الرأس من باقي أعضاء الجسد) ما يؤدي غالبا إلى شيوع ثقافة الادعاء, وسيادة الشعور الزائف بالتميّز والعبقرية بين أفراد المجتمع كافة, بحيث يغدو هذا الوعي أو الشعور شعوراً معمماً أو متجذراً في وعي كل منّا, كلّنا يشعر أنه مختلف ومتميز عن الآخرين, وما من اختلاف أو تميز في الحقيقة, الكلّ يدعي أنه مختلف, وأنه عبقري, وما من اختلاف ولا عبقرية, الكل يعيش وهم الاختلاف, وما من اختلاف أو تميز, الكلّ مثل الكلّ, والكلّ يردد كلام الكلّ, وما من أحد يتكلم كلامه الخاص الدال على اختلافه وتفرده بالفعل.

 أما الاتجاه الثاني في حركة النقد العربي فقد حاول فرض شروط نسق التفكير الكياني على كل كائن(فرد) مفكّر (من داخل الكيان الاجتماعي, أو من خارجه). وما نعنيه بنسق التفكير الكياني في هذا السياق, ذلك النسق من التفكير القائم على أساس أن" الأنا أفكر" مجرد جزء من كلّ اجتماعي, هو من نحيل عليه, بطريقة واعية أو لا واعية, بضمير المتكلم الجمعي (نحن), وهو مجرد جزء تابع لذلك الكل الاجتماعي, وليس جزءاً مكملاً له, أو متكاملاً معه, لأن من سمات الكل الاجتماعي, في هذا الوعي, أنه يأخذ صيغة الحضور الكلي أو المطلق؛ فهو كليّ المعرفة, كليّ القدرة؛ كليّ الحضور والفاعلية؛ وبما أن "الأنا أفكر" هذا مجرد جزء من كل؛ كليِّ المعرفة؛ كليِّ القدرة؛ كليِّ الحضور والفاعلية, فهذا يقتضي أن الأنا الفردية تغدو مجرد أداة وظيفية عضوية؛ وجودها أداتي (بمعنى وجود لغيره), وظيفي (أي لما يحقق مصلحة الكل), وليس وجوداً لذاته, وهنا تصبح ماهية الأنا الفردية جزءاً من ماهية أخرى كلية مطلقة متعالية هي ما نسميه بالأنا الجماعية؛ أنا العشيرة أو أنا القبيلة, أو أنا الأمة أو الفئة أو الطائفة, أو الحزب, أو التنظيم الذي ينتمي إليه الفرد, وهذا ما اقتضى التفكير في المصير الفردي من زاوية المصير الجمعي, أو من زاوية أنه لا وجود للأنا الفردية إلا في إطار الكل (النحن), أي من زاوية ما ينطوي عليه الكل من إمكانات الاختيار نيابة عن الفرد/الجزء (فكما أن الفرد لا يختار مصيره في إطار الجماعة أو المجموعة؛ أن يكون منها أو لا يكون, وان يكون منها في هذا الموقع أو ذاك (في موقع الرأس أو في موقع القدم أو اليدين...أو ... الخ), كذلك على الفرد ألا يكون في موضع من يختار مصير الجماعة التي هو أحد أفرادها, عليه ألا يتدخل في الشأن العام, وأن يترك الرأي لأهل الرأي أو" لأهل الحل والعقد" مَن لهم الحق في حل ما هو منعقد من أمر الجماعة, وعقد ما هو منحل من أمرها, أي أن عليه أن يسلِّم مصيره لمجموعة الأوصياء, من لهم حق الوصاية عليه و على باقي أفراد القطيع, كي يقرروا ما يرونه مناسباً في حقه وفي حق الجماعة التي هو أحد أفرادها, عليه أن يستشعر نقصه دائما, عجزه دائما, حاجته لغيره دائما, عليه أن يلزم حدود اللياقة والأدب, فلا يتدخل فيما لا يعنيه, ولا يدلي برأيه حول أمر لا يخصه, أو لا يتعلق بحدود وظيفته, عليه أن يعطل كل طاقاته في التفكير وفي التعبير, وفي الفعل والتأثير, كل ما حباه الله من وسائل الإدراك والفهم؛ أو من وسائل كسب المعرفة وتصريفها, فلا يستخدم من تلك الوسائل والطاقات, إلا فقط في حدود ما يساعده في أداء دوره المحدد له سلفا, في إطار الكل الكياني الذي ينتمي إليه, ويمثل أحد أجزائه/أفراده, أو على تحقيق وظيفته المنوط به القيام بها في إطار الكل.

 

راهن النقد العربي

 فخري صالح (الأردن):

لا شك في أن الكتابة النقدية العربية قد اغتنت خلال العقود الأخيرة من حيث المنظور وأشكال المقاربة. وعلى عكس ما يشيع في الأوساط الثقافية العربية فإن حال النقد العربي في الوقت الراهن أفضل إذا ما قورن بحاله في النصف الأول من القرن العشرين. لقد تفتح النقد على مدارس وتيارات ورؤى نظرية جعلت من العملية النقدية أكثر انفتاحا على العلوم الإنسانية المختلفة والكشوفات النظرية التي وضعت النقد ضمن المعارف الإنسانية الكبرى.

صحيح أن ثمة الكثير من الاقتباس والنقل عن الآخرين، والانشغال بقشور النقد والنظرية، والرغبة في استعراض المعرفة بالإكثار من ذكر أعلام النقد في العالم؛ لكن الوعي النقدي، في كتابة عدد من النقاد العرب المعاصرين، يبدو مساويا لما يكتبه كبار النقاد في العالم.

المشكلة التي تواجه هذا النقد تتمثل في القناة اللغوية، وقلة ما يترجم عن العربية إلى لغات العالم من إبداع، فما بالك بالنقد الذي لا يترجم منه إلا النزر اليسير، وفي مناسبات خاصة، وعلى صفحات مجلات أكاديمية ضيقة الانتشار! ولو أتيح لهذا النقد أن يترجم فسوف تثبت المقارنة أنه لا يقل جودة عما يكتبه كبار النقاد في العالم؛ فليس الفكر النقدي العربي أقل تميزاً من النقد الذي ينشره نقاد من أمثال تزفيتان تودوروف، وهومي بابا، وغاياتري سبيفاك، وجيريمي هوثورن، وتيري إيجلتون... وثمة نقاد عرب يكتبون بالإنجليزية والفرنسية، مثل: إدوارد سعيد، وإيهاب حسن، وعبد الكبير الخطيبي، وهم يعدون من بين الأسماء اللامعة في النقد والنظرية في العالم. فالعبرة في الانتشار والوصول، وليس في النقاد أنفسهم، الذين إذا أتيحت لهم فرصة النشر برزوا وأصبحت كتاباتهم تقتبس وتترجم إلى اللغات الأساسية في العالم.

 لكن ما ينبغي الالتفات إليه، في سياق الكتابة النقدية العربية الآن، هو أن النقد يتجه في السنوات الأخيرة، وبتأثير من اقتحام الميديا لكل جزء من حياتنا اليومية، وتفوق حضور الصورة على الكلام، إلى تحقيق نوع من الكتابة النقدية التي تصل بين النص وبين العالم، بين الكتابة وبين المشكلات الراهنة التي تعترض تقدم البشر وتعوق تطور الإنسانية. وهو، بهذا المعنى، يحاول جاهداً التخلص، ما أمكنه ذلك، من الكتابة المعقدة ذات اللغة الاصطلاحية التقنية التي شاعت خلال العقود الأربعة الماضية بعد الثورة البنيوية في ستينيات القرن الماضي، والتي جعلت اللغة ومفهوم النظام، مركز الاشتغال النقدي وغاية النظرية الأدبية.

يبدو النقد، والقراءة الثقافية عامة، على مفترق طرق إذاً، خصوصاً أن أسئلة علاقة النص بالعالم، والإمبريالية الثقافية، وعلاقة الكتابة بالإمبراطورية، تعود بقوة لتحتل نصوص الكتاب والنقاد والفاعلين الثقافيين. وكان الراحل إدوارد سعيد قد نبَّه منذ أكثر من ربع قرن إلى العلاقة الوطيدة التي تقوم بين النص والعالم، وطالب بما سماه "الوعي النقدي" الذي يوفر للناقد مظلة ينطلق منها لفحص كيفية إنتاج النصوص ودورها في مقارعة السلطة، أياً كان شكل هذه السلطة. ومن الواضح أن نقاداً آخرين، في هذا العالم، يلتقطون الرسالة ويدركون أن التيارات الجديدة في النقد، ومن ضمنها ألوان النقد الثقافي المختلفة ونقد ما بعد الاستعمار وتيارات النقد النسوي، تعيد طرح الأسئلة العتيقة المتصلة بالدور السياسي والعام للناقد، ومن قبله الكاتب؛ فالناقد، الذي هو قارئ ومؤول للنصوص، ومن ضمن ذلك نص الحياة نفسها، ليس راهباً في صومعة النقد، بل مؤول لعلاقة النص بالحياة والسياقات السياسية والاجتماعية التي تحيط به.

 

خُطاطاتٌ شكلية، لعبٌ صحافي، ومونتاجات نظرية

 عز الدين المناصرة (فلسطين):

هناك فجوة ضخمة بين عبد القاهر الجرجاني، وبين حازم القرطاجنّي، وبين مطلع القرن العشرين. هذه الفجوة، جعلت النقد العربي يتجه غرباً، باحثاً عن نماذجه العليا في النقد الأوروبي، منذ “تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب” (1904) لروحي الخالدي، و”مقدمة ترجمة الإلياذة” للبستاني، مروراً بـ “في الشعر الجاهلي” لطه حسين، و”الغربال” لميخائيل نعيمة، وغيرها. وهكذا تسرّب “منهج المقارنة”، و”المنهج اللانسوني”، و”النقد الانطباعي”، لاحقاًَ في كتابات: محمد مندور، محمد غنيمي هلال، إحسان عباس، شوقي ضيف، شكري عيّاد، وغيرهم. ومع صعود الماركسية في الخمسينيات، بدأنا نقرأ نقداً يُبرز “المنهج الاجتماعي”، في كتابات: لويس عوض، غالي شكري، حسين مروّة، ومحمود أمين العالم، أطلق عليه لقب: “المنهج الواقعي”. وظلّ هذا المنهج صاعداً حتى نهاية الستينيات. وكان النقد قد بدأ منذ مطلع الستينيات، يميل إلى التفاعل مع النصوص، باستخدام مناهج متعددة: أسطورية، نفسية، وتحليلية تفسيرية تعليقية، كما في كتابات: خالدة سعيد، نازك الملائكة، محمد النويهي، وعز الدين إسماعيل. ومنذ نهاية السبعينيات، بدأ التعرف إلى “المنهج البنيوي”، وأفضل مثال له، هو: كتابات كمال أبو ديب. ومنذ ربع قرن تقريباً، بدأ تأثير “علم اللسانيات”، مرافقاً للشعريات البنيوية، يغزو النقد العربي الحديث، بتأثير فرنسي واضح. ثمَّ انفجر “النقد السيميائي” على مساحة واسعة، خصوصاً في الأقطار المغاربية. لقد كان للشكلانيين الروس فضلٌ كبير على النقد الحديث في العالم كله، من خلال استخراج عدد من التقنيات الشعرية، ومن خلال المقولة الرئيسة (ليتراتورنوست: أدبيـة الأدب). فقد وجّهت هذه المقولة، النقد في العالم كله، نحو ماهية النصّ، حتى وصل النقد البنيوي الفرنسي، بهذه المقولة، إلى القول: “لا شيء خارج النصّ إطلاقاً”.

وهكذا، يمكن أن أقول: منذ مطلع القرن العشرين، وحتى الآن، ظلّ النقد العربي أوروبياً، وما يزال أوروبياً. لماذا؟ نحن نلتقط صنماً من تمر في المساء، نعبده، ونمجّده، ثمّ نأكله في الصباح، بانتظار شحنة جديدة قادمة من باريس. والأصحّ أننا، لا نهضم جيداً. نأخذ نصوصاً بدوية،

ونُلبسُها -مع قليل من الاجتهاد الفلوكلوري– أزياءً باريسية. ومعنى ذلك، أنّ النقد العربي الحديث يحرق المراحل النقدية الأوروبية، بسرعة البرق، دون أن يمتصّها جيّداً. بعد سبعين سنة من صدور كتاب إمبسون "سبعة أنماط من الغموض"، تمّت ترجمته إلى العربية. وبعد حوالي 35 سنة، تمت ترجمة كتاب سوزان برنار "قصيدة النثر". وحتى الآن، لم تترجم الكتب الأساسية في النقد العالمي. إنّها "سياسة الترقيع". عندما قمت بمراجعة نقدية لمعظم ما ترجم في مجال "النقد المقارن" في كتابي "النقد الثقافي المقارن"، وعندما قمت بمراجعة نقدية لمعظم ما ترجم في كتابي "علم الشعريات" عن نظريات الشعر، كان "المسكوت عنه"، هو القول: هذا ما قاله الأوروبيون، فماذا أضاف النقاد العرب؟! لقد لجأتُ إلى الترجمة، على وجه التحديد، لأنني أعتقد جازماً، أنها المؤثر الأول في القرّاء والنقاد العرب، وليس الأصل الأجنبي، رغم تباين الترجمات: قوّةً، وضعفاً. ودعني أزعم أن "التناصّ، والتلاصّ" في النقد العربي الحديث، موجود بكثرة، سواءٌ في التطبيقات، أم في التنظير. هناك مثلا فجوة كبرى بين مفهوم "التناصّ"، ومفهوم "التلاصّ" في الموروث النقدي، وبين اللهاث وراء المفاهيم الأوروبية التي قلّدناها. ولو قمنا بردم الفجوة، بتطوير هذه المفاهيم، انطلاقاً من الموروث النقدي، لوَصَلنا إلى هذه المفاهيم الحديثة، قبل أوروبا. بصراحة: النقد العربي الحديث، يفتقر إلى الهويّة والخصوصيّة. هذا لا يعني إنكار الجهود النقدية الحالية، ولا يعني عدم الانفتاح على المستجدات في النقد الأورو-أمريكي. وبصراحة أكثر: لقد بقينا ندور في فلك هذه المركزية، رغم شعارات التعددية. عندما تأثر النقد العربي الحديث بالماركسية، أخذ منها قشور الشعارات، ولم يأخذ، أو يطبق الجدلية. وعندما هجمت البنيوية والسيميائية، أخذنا منها خُطاطات شكلية غير مفهومة حتى داخل أسوار الجامعة؛ فنحن لا نجيد قراءة النصوص النقدية الأورو-أمريكية، بل نكتفي بالاستشهاد والتعليق، ووضع العناوين الحداثية، دون فهم للحداثة نفسها.

طبعاً يمارس النقد حالياً نقاد محترفون، وأكاديميون، وصحافيون، وشعراء نقاد: أدونيس، محمد بنّيس، علوي الهاشمي، عبد العزيز المقالح، وكاتب هذه السطور، وغيرهم. والخمسة، أكاديميون. نقد الشعراء له نكهة خاصّة؛ فهو يمزج بين المعرفة النقدية، والمعرفة الشخصية بأسرار النصّ. لكنّ أيّ شاعر يمارس النقد، ينطلق من فهمه الخاصّ، وقد يحاول تبرير شاعريته، بجعلها نموذجا، دون أن يصرّح بذلك. هناك أيضا، نقاد سرديون، يحضرني الآن منهم: نبيل سليمان (سورية)، محمد برّادة (المغرب). وهم لا يختلفون عن الشعراء، المهمّ أن لا يكون (الناقد الشاعر) من ذلك النوع، الذي لم يترسّخ كشاعر، أو أصدر مجموعة شعرية في بداياته، ثمّ توقف؛ فهذا النوع، خطرٌ على الشعر والنقد معاً. وهناك نقّاد مترجمون، يترجمون بشكل جيد، ويكتبون نقداً متوسط الحال. وهناك نقاد محترفون، وهم نوعان: تنظيري، وتطبيقي. وفي الغالب، يتطلع المبدعون إلى هؤلاء النقاد، بصفتهم نماذج تُحتذى؛ لكن واقع هؤلاء النقاد، يشير إلى ارتباك واضطراب.

1- التنظيريّون: تحضرني هنا مجادلة جابر عصفور وعبد العزيز حمّودة. لقد انطلقت المجادلة من موقفين متضادين حول مفهوم الحداثة، اتخذا شكل التعليق التنظيري: أحدهما يُؤسطر الحداثة، والآخر ينطلق من موقف نقد الحداثة. وكلاهما يبدو على حقّ؛ لكنّ ما قدّمه الناقدان، رغم أهميته، هو عبارة عن "مونتاجات نظرية أوروبية". وهناك تنظير يهدف إلى الإثارة لكنّه يقدّم أمثلة خاطئة، برغم النظريات الصحيحة. وتحضرني هنا مجادلتي مع بعض كتّاب قصيدة النثر، إثر صدور كتابي "إشكالات قصيدة النثر" (1998)، حيث لم أجد إلاّ التطرّف (مع الكتاب، ضدّ الكتاب): مديحاً وهجاءً! رغم أن الكتاب، اشتمل على: التاريخ، التطبيق، والتنظير.

2- التطبيقيّون: هناك نجاح واضح في التطبيق النقدي في مجال السرد، لكنّ التطبيق في مجال الشعر، ما زال شخصانياً، رغم استفادته من علم الشعريات. خذ –مثلاً- مفهوم التناصّ، فهو يمارس بشكل ثأري، حيث لا يفترضُ الناقدُ أن شاعراً مشهوراً، مثلاً، قد يقع تحت تأثير شعراء أقل شهرة؛ لأنّ مفهوم “التأثر” في اللاوعي النقدي العربي، مرتبط بمفهوم “التلاصّ”! أمّا قراءة “التلاصّ” نفسه، فهو منطقة محرّمة على النقاد، من وجهة نظر بعض المبدعين.

3- النقد الصحافي: إشكالية النقد الصحافي، أنه مثل، الأطعمة السريعة، وهو أيضا يفتقد أحياناً إلى الأمانة العلمية. وهو، غالباً، انطباعي. وقد ساهم في ذلك “سياسة تعبئة الفراغ” في الصحف، والمجلات والفضائيات.

لقد برز مؤخراً “النقد الثقافي”، ساهم فيه عبد الله الغذامي، وكاتب هذه السطور، وآخرون، بتأثير مدرسة الدراسات الثقافية الأورو-أمريكية، وبتأثير ترجمات كتب إدوارد سعيد. يرى الغذامي أن النصوص القابلة للدراسة، هي النصوص الجمالية المشهورة فقط، لاكتشاف النسق وراء البلاغي. وأنا أقول، عكس ذلك: يصلح النقد الثقافي لقراءة النصوص الجمالية والنصوص الثقافية؛ إذْ كيف يمكن أن نستخدم مصطلح “النقد الثقافي”، دون أن نقرأ “النصّ الثقافي” نفسه!؟ ثمَّ: لماذا نحصر النقد الثقافي بالنصوص المشهورة، دون الإشارة إلى أسباب شهرتها، والقوى الثقافية المسيطرة، التي أشهرت النصّ!؟ ثمّ: هل يكفي اكتشاف النسق، لنقول إن تحليل النصّ قد اكتمل، بمجرد اكتشاف النسق وحده!؟... إلخ.

ثمَّ برز ما يمكن تسميته “المنهج العنكبوتي التفاعلي”، وهو خاصٌّ بالنص الإلكتروني، وقد قدمتُ خصائصه الشعرية في بحث لي، في كتابي”علم التناصّ المقارن” (2006). وقبل ذلك، هناك محاولة هامة لسعيد يقطين (المغرب).

طبعاً، إن تصنيف النقاد، حسب المناهج، يحتاج إلى بحث طويل، وقد أحصيتُ 140 ناقداً في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن، ولكنهم خاضعون للحذف والإضافة. وحين صنّفني أحد الأكاديميين، وصفني بأنني”جدلي تفكيكي تفاعلي”، ولم أعترض.

يبقى أن أقول: هناك نقاد أصيلون مجتهدون، يمتلكون معرفة واسعة؛ لكنّ بعضهم يفتقد إلى الجرأة. وهناك نقاد يعيشون على “نفايات المعرفة”. والمهمّ هو الخروج من أسر التبعية، للنقد الأورو-أمريكي، ومن أسر التبعية للموروث. بالنسبة لي، الأهم هو: تفكيك “المسكوت عنه” في النصوص، بالدقّة العلمية الممكنة، وإيصال هذه المعرفة النقدية إلى الشارع، بخروجها من سجن الجامعة إلى الفضاء الواسع.