سؤال العدد
لماذا اخترتم الرواية
وسيلة للتعبير؟
()
وكيف ترون واقع الرواية اليمنية اليوم؟
شارك في الرد على سؤال هذا العدد من «غيمان» عدد
من المبدعين اليمنيين الذين يمارسون كتابة الرواية. وتكاد هذه الإجابات
تشكل امتداداً لإجابات سؤال العدد الثالث حول موضوع الرواية.
مزيج من الأمكنة
والأزمنة وتشكيل للوعي والذائقة
محمد مثنى (قاص وروائي)
في
البدء أشكر مجلة «غيمان» ورئيس تحريرها الشاب همدان زيد دماج. يصح القول إنني
انتقلت من القصة للرواية، ولكن دون أن أترك كتابة القصة القصيرة. فقد ظللت
أتواصل مع فن القصة القصيرة، باعتباره فناً قائماً بذاته ومجتدلاً للأحداث
الصغيرة العابرة، التي لا تستطيع الرواية الوقوف عندها أو الدوران حولها، من
ذلك. فللقصة القصيرة تعبيرها اللغوي المختزل، وقدرتها على التنقيب، واكتشاف
الأحداث الصغيرة، ومنحها الحياة والفاعلية والمعاني والدلالات المختلفة فيما
يشبه الومضات. وعندما كتبت الرواية كان ذلك لفهمي أن القصة القصيرة لا تستطيع
أن تحتوي أكثر من حدث وتعدد الشخصيات والأمكنة والأزمنة كالرواية، ومنح السرد
فسحة تستوعب أحداثاً متعددة وأبطالاً وشخصيات وعوالم لا تتعايش وتفترق أو تتحدد
إلا في الرواية. فالرواية حشد من الأحداث الصغيرة والكبيرة، وتتبع القضايا
والنوازع الفردية والمجتمعية، التي يعيشها الناس في ظل مجتمع إقليمي أو عربي أو
عالمي. وهي أيضاً مزيج من الأمكنة والأزمنة والتاريخ والماضي والحاضر والاقتصاد
والسياسة والفن والثقافة... كل هذه تجد متسعها أو بعضه في الرواية. ويمكن القول
هنا، إن أراد المرء الاطلاع على تقاليد وعادات وطرائف الحياة، وما يعتمل في
حاضر وماضي ومستقبل أمة من الأمم وكذا تراثها ومأثوراتها، فعليه الاطلاع على
آدابها وفنونها وبالذات الرواية. إذ يستطيع ذلك إعطاءه مؤشر الحياة عموماً في
أي مجتمع. ويجدر القول في هذه العجالة إن الرواية في عصرنا الحالي استأثرت بحشد
ضخم من القراء في العالم، ما لم يستأثر به فن آخر. وما هو أهم من كل ذلك أن
الرواية قادرة على تشكيل الوعي والذائقة وغرس القيم النبيلة وتعرية القبح
وتشذيب السلوك، والإسهام بشكل أكبر في خلق المجتمع المدني الحضاري... إذا ما
أحسن تشجيعها واحتضانها والدفع بها قُدُمَاً في ثقافة واهتمام أي مجتمع. لقد
وجدتُ كل ذلك في الرواية كقيمة ثقافية وفكرية وقيمية، فاتجهت لكتابتها إلى جانب
القصة القصيرة والمسرح. والأهم أن تمتلك قبل ذلك وأثناءه وبعده أدواتك اللغوية
وثقافة الرواية والصبر والذاكرة النابهة، وعمق الاختيار للقضايا والأحداث لتكتب
رواية.
الرواية
اليمنية تسير اليوم على قدر من المثابرة، وقد شهدت التسعينيات من القرن الفائت
اتساع كتابتها وكتابها من الشبان والشابات اليمنيين، مضافين إلى الجيل الذي
سبقهم من الرواد والجيل الذي بعدهم. ويمكن القول اليوم إن لدينا رواية من خلال
الكم والكيف والتنوع والتعدد ما لم يكن ممكناً في الماضي؛ بفضل استيعاب بعض دور
الطباعة والنشر للأعمال الروائية وطباعتها ونشرها، وجهد اتحاد الأدباء والكتاب
اليمنيين ووزارة الثقافة إبان الاحتفاء بصنعاء عاصمة للثقافة العربية. وما
نتمناه هو تواصل الجهود على امتداد الزمن لاحتضان الأعمال الروائية ونشرها، لا
انتظار المناسبات فقط؛ وكذا صحوة التناولات النقدية للأعمال من غفوتها المزمنة،
حتى يتواصل الإبداع الروائي ويتألق في سماء البلد إن قُدِّر له.
الأعمال
الروائية العربية لا تزال ترفدنا بنتاجاتها الجديدة، وفيها الغث والثمين كما هو
الحال على امتداد الزمن.
فقط
ما هو مطلوب من العمل الروائي العربي العمق والأصالة، والنأي عن الهرولة بحثاً
عن شهادة الغرب والترجمة إلى لغات. فذلك يمكن أن يتأتّى فقط عندما يكون هناك
عمل مدهش وممتع وأصيل، بعيداً عن الإسفاف والابتذال والفهلوة في فرض الشهرة
اغتصاباً. وقد لوحظت أعمال روائية من هذا النوع، بالقدر الذي لوحظ أيضاً إبداع
روائي فذّ وأصيل يقدِّم نفسه للقارئ العربي والعالمية بجدارة. ولنا في عديد من
الأعمال الإبداعية الروائية اللاتينية خير دليل على العمق والأصالة في تقديم
نفسها لقارئها المحلي والعالم، ما أكسبها الإعجاب والعالمية.
الاجابة من عيون الآخرين
سمير عبد الفتاح (قاص وروائي)
بداية،
منذ زمن بعيد وأنا خارج نطاق الإجابات، لأنني ما زلت أبحث عن إجابة. وإلى الآن
لم أستطع تحديد لماذا أكتب، وما هو سر انجذابي للعالم الورقي. وأعتقد أنني
بحاجة إلى مزيد من الوقت والكتابة لأقترب قليلاً في معرفة الإجابة حتى على جزء
من السؤال؛ على الأقل جزء يطمئنني أنني لم أختر خياراً كارثياً على المدى
البعيد.
أما
عن الرواية، فيزداد حجم التعقيد. فالتخصص أو الارتباط بنمط كتابي معين يعني
الإدراك؛ الإدارك الواعي بالكتابة أولاً، وكذلك بالاتجاه الذي سيُسلك. وأنا لا
أمتلك إجابة على السؤال الأول، وبالتالي بعيد كل البعد عن الإقرار بأنني أتجه
بإدراك تام نحو كتابة الرواية، وأعرف ماذا أريد، وما الطريق الذي أسلكه.
وبالنسبة
لإشكالية «التعبير» فيتحول الأمر إلى متاهة حقيقية؛ إشكالية تبدأ من المفهوم
ولا تنتهي عند المتلقي؛ إشكالية تنتمي لحجم الفكر الذي نحمله، وحجم الحلم
والأمل فينا، وقدرة المتلقي على استلام الرسالة. لا يهم استلامها بطريقة جيدة
أو خاطئة، لكن الاستلام بحد ذاته يكفي ليكتمل الحد الأدنى من مفهوم التعبير.
لذا
أجد نفسي عاجزاً أمام السؤال الذي يحمل ثلاثية: «الكتابة - الرواية –
التعبير»؛ فأنا لم أُلمّ بمفهوم كل كلمة على حدة، فكيف بالمعنى المركب منها!؟
مع
هذا يبدو السؤال الأكثر شغباً: لماذا أصدرت رواية؟ لماذا تحملت كُلفة نعتي
بالروائي؟ لماذا وضعت نفسي على قارعة الطريق دون أن أكون مستعداً للإجابة؟
الأمر
هنا يتعلق ببحثي عن إجابة على السؤال. فأنا لن أعرف الإجابة إلا من عيون
الآخرين؛ لن أعرف إجابة على أسئلتي إلا إذا ارتدت من عيون الآخرين؛ لن أعرف
الحفر والمزالق إلا إذا رأيت آثار سقوطي في عيون الآخرين. فالبقاء في المنزل
ومحاولة حل أحاجي العالم داخل غرفتي الضيقة أمر غير ذكي، على الأقل بالنسبة لي.
لذا لا أجد مانعاً عن إطلاع الآخرين بين الحين والآخر على أوراقي. ولا أجد
مانعاً أيضاً عن ممارسة فعل الإنصات لأتكلم مجدداً في وقت آخر.
أنا
أجرب في القصة وكذلك في المسرح والرواية؛ أجرب فيها في الوقت والمكان نفسيهما
ثلاثة أشكال متداخلة تماماً في أعماقي. حتى أنا -حتى الآن- لا أعرف لماذا أشعر
أن فكرةً ما صالحة لتكون رواية أو قصة أو مسرحية. أبدأ فقط بالكتابة، والشكل
يتحدد مع الكلمات الأولى. وأيضاً لا أمنع نفسي -أحياناً- من تجريب إعادة كتابة
الفكرة -بعد إنهائي كتابتها- في نسق آخر. يحدث هذا فقط في حالة سيطرتي شبه
الكاملة على الفكرة، وشعوري أن هناك مساحات فارغة لم تُستغل. وأيضاً عندما أشعر
أن هناك صورة بانورامية تلوح في داخل الفكرة.
أما
بالنسبة لواقع الكتابة الروائية، فالأمر أقرب إلى المعجزة، أن تظهر الرواية في
اليمن.
أعتقد
أن الرواية في اليمن خارجة على القانون. ومن يحاول كتابتها يمكن اعتباره خارجاً
على القانون. لذا يحسب لكل من يكتب على غلاف كتابه كلمة «رواية»، حتى ولو لم
تنتمي لما اصطلح على تسميته بـ»الرواية»، يحسب لهم شرف المشاركة في رهان صعب مع
الزمن والواقع. ربما تترسخ ظاهرة الرواية، ويصدر بها قانون يعممها ويدخلها خانة
الأدب اليمني. لكن حالياً على الجميع النظر الى الروائيين اليوم بوصفهم ينحتون
في صخر صلب. ويتم تقدير هذا عند دراسة ونقد أعمالهم الروائية.
وعذراً
لأني لم أجب على السؤال!
مستثنون
من البهجة وملاحقون بما يقولون
محمد عبد الوكيل جازم (قاص ومسرحي وروائي)
إنه
لعمري من التساؤلات التي أعجز عن الرد عليها، خاصة وأن الشاعر أو الكاتب في
أوطاننا العربية تعوزه الحيل القادرة على إقناع الأيديولوجيين، وغير
الأيديولوجيين، بأهميته كإنسان أولاً، وبضرورته كأحد قرون الاستشعار ثانياً.
هذا التوصيف يصح كثيراً وينطبق على أي شاعر أو أديب كبير؛ فما ظننا عندما يكون
الكاتب مغموراً أو مبتدئاً مثلي!؟ إن الشعراء والأدباء الذين اختاروا اللغة
السحرية للتعبير عنهم مستثنون من البهجة وملاحقون بما يقولون ويكتبون. والحقيقة
أنني مع الذين يقولون بأن الإبداع هو الذي اختارهم وليسوا هم من فعل ذلك. إن
المبدع -في تصوري- مسكون بخيال عظيم؛ خيال مكسو بالبهاء والجنون والحقيقة. وهذا
الخيال لا يستطيع الموهوب أن يجاريه فيأخذه إلى عوالمه وفضاءاته وتهاويله...
يذهب المبدع إلى منطقة غير معلنة، وهذا هو شأنه: الاحتجاب جزئياً والغياب
والانفلات والذهاب إلى الأمكنة القصوى في الذهن. إن السرد هو الفضاء الذي يتسع
لجنون المبدع؛ لذلك يستطيع الكاتب أن يخط آلاف الأوراق ليعبر عن حادثة معينة أو
موقف محدد. وعلى الرغم من شروطه الفنية المعقدة، إلا أن الموهوب يستطيع أن يجد
فيه لذته وعنفوانه.
وإذا
كان المؤلفون والمبدعون قد قالوا الكثير والكثير، في فنونهم الشعرية والتاريخية
والرصينة والنقدية، فإن السرد، والرواية تحديداً هي الثمرة الناضجة التي يحتفي
بها العالم اليوم. ولعلنا نلمس ذلك من خفوت نجم الشعراء والمسرحيين وعلو نجم
الروائيين. إننا مثلاً لم نعد نسمع في الغرب بشعراء مثل رامبو، وبابلو نيرودا،
وأراغون، ولوركا. في الوقت الذي يتربع فيه كُتّاب السرد على عروش متينة. ويتجلى
ذلك من حضور غابرييل غارسيا ماركيز، ويوسا، وساراماغو، وأورهان باموق.
إن
كل هذا الزخم الجميل لحضور السرد لم يُغْرِني حقيقة بالتشبث بالسرد، بالقدر
الذي يغريني بمراجعة تجربتي القصيرة في الكتابة السردية.
ولعلّي
اليوم أؤمن بروعة السرد وقدرته على احتمالي. إلا أن الواقع الاجتماعي والثقافي،
والضجيج القبيح المترصد، يعمل على تشويش الرؤية، وضبضبة الأفق؛ فلا أسمع شيئاً
سوى الارتداد المزعج؛ الارتداد الحزين، المتحسر على الإمكانيات الكثيرة
المهدورة. وأمام كل هذه الكوارث السياسية والاجتماعية المعيقة نشهد بالمعجزة
لمن يستمر ويتابع.
وفيما
يخص تقييمي للرواية اليمنية فإنني أعتقد بأنها تحتاج إلى الكثير من الجهد لكي
تكسر حاجز الجمود الذي يعتريها على المستوى المحلي، والكثير من الجهد حتى تكسر
أسوار العزلة المطبقة لتتمكن من الوجود عربياً.
والواقع
أن الرواية اليمنية لم تستطع مواكبة الأحداث والتقلبات والتحولات التي حدثت؛
وذلك بسبب غياب الدور المؤسسي الراعي لما يمهد لوجود رواية راصدة وفاعلة
وناقدة. ربما يقول قائل: إن الإبداع لا يحتاج إلى مؤسسة ترعاه، وإلا لما كان
إبداعاً، لأن الموهبة الخارقة لا تريد من يوضح لها معالم الطريق!!
إن
مرارة الواقع وإحباطاته تتعدى جنوح المواهب وقوة اندفاعها. وليس لدينا خيار آخر
إلا تنمية القدرات، بإتاحة الفرص للكتاب في الاستفادة من تجارب الغير. إضافة
إلى ذلك تسهيل العملية الكتابية، عبر استضافة الكتَّاب المتدربين، لإقامة ورش
إبداعية تتحدث حول تقنيات السرد وكيفية توظيفه في الحياة والتراث، وغير ذلك من
الوظائف المهمة التي يجب تبنيها. اقتراح مشاريع تفرُّغ للقادرين على إنجاز
أعمال روائية. ويجدر بي أن أشير هنا إلى وجود الكثير من الطاقات التي لا ينقصها
شيء سوى الاقتراب من العالم أكثر فأكثر.
الحفر عميقاً
للبحث عن الجذور
وجدي الأهدل (قاص وروائي)
لقد
جرّبتُ كتابة القصة القصيرة والنص المسرحي والسيناريو الأدبي، ولاحظت أن كتابة
الرواية تساعدني على أن أقدم أفضل ما عندي.
فن
الرواية يسمح للكاتب بأن يسرد بصورة رأسية؛ يحفر عميقاً للبحث عن الجذور.
الذين
يكتبون الرواية بصورة مسطحة هم الذين يحسبون أن الفارق بين القصة القصيرة
والرواية يكمن في عدد الصفحات: التمدد الأفقي على الورق!
وبشأن
الشق الثاني من السؤال، فإنني ألاحظ أن الحصاد الروائي عندنا محدود كمّاً
وكيفاً. والسبب المباشر في ذلك هو ضعف إمكانيات الطباعة والتوزيع، وعدم وجود
سوق محلية تستهلك وترفع أرقام مبيعات ما ينتج من روايات.
ورغم
هذا الواقع المحبط، فإنني ألمس لدى المئات من المشتغلين بالثقافة في بلادنا
مشاريع روائية تختمر ببطء. وما تحتاج إليه الرواية اليمنية اليوم هو مشروع
لإصدار سلسلة روائية تطبع من كل إصدار خمسة آلاف نسخة، وتوزع وتباع بأسعار
مخفضة، أدنى من سعر كلفة طباعتها.
وإذا
تحقق هذا المشروع على أرض الواقع، فلا ريب أن اليمن ستشهد انفجاراً روائياً غير
مسبوق، وسوف يمكن الحديث آنذاك عن وجود جمهور من القراء الشغوفين، ممن يتابعون
الروايات اليمنية فور صدورها.
رسالة اهتمام واحترام إلى
القارئ
ياسر محمد الإرياني (قاص وروائي)
إن
الرواية، بما تمثله من مزج بين المتخيل والمشاهد, كانت بالنسبة إليّ, كمواطن
ملتزم بقضايا العدالة والمساواة والتنمية، المتنفس الواسع للتعبير عن رؤيتي/
شهادتي للواقع، بأبعاده الزمنية الثلاثة (الماضي، الحاضر، والمستقبل).
هذا
المزيج يلهم القدرة على النظر إلى الغد, ويبعث رسالة اهتمام واحترام إلى أخي
القارىء، بأن حياتنا واحدة، وهمومنا واحدة، وأحلامنا لهذا الوطن واحدة؛ بصورةٍ
أجتهد أن تكون علمية, بسيطة, وممتعة, مع دعوة القارئ للمشاركة في نقاش صادق
وممتع, ومليء بالنية الصادقة. ثم تأتي وظيفة التوثيق الاجتماعي والسياسي
والاقتصادي للرواية في المرحلة اللاحقة؛ لأن هذه الوظيفة تتداخل مع البحوث
العلمية. غير أن جو الحكاية والمتعة هو الذي يزيل عنها الشكل الأكاديمي الصارم.
إذاً
فالرواية بالنسبة لي تمثل تعبيراً عن التزام قيمي في صورة إبداعية.
أما
عن المحور الثاني، فبعيداً عن الجدل المحتدم حول صيرورة الرواية «ديوان العرب
منذ القرن العشرين»، فواقع الرواية اليمنية ما زال متعثراً في المحاولات
الأولى, بالرغم من الأعمال الجادة التي تحمل قدراً كبيراً من التجريب, وهي
قليلة جداً؛ إلا أنني أرى أن أغلب هذه الأعمال الروائية أقرب إلى السيرة
الذاتية شكلاً ومضموناً, ولا تظهر فيها البراعة الروائية, ناهيك عن السحرية
الذي تعبق بها الروايات العالمية. وبعضنا, مع تقديري لجهدهم وموهبتهم الواضحة,
يحاول كتابة الرواية حتى يقال إنه أصدر رواية, من دون أن يتأنىّ أو يُظهر طاقته
الحقيقية, أو يضيف إليها من المعارف الغنية التي تزخر بها سموات العالم. وذلك
لأسبابٍ كثيرة, أهمها برأيي انعدام «منح التفرغ»؛ فالكاتب تكون لديه أعباء في
العمل, وأعباء في المنزل, وسلسلة من الأعباء التي يجر بعضها بعضاً؛ فمتى سيهتم
بتجويد منتجه الإبداعي!؟ ناهيك عن متابعة ما تصدره المطابع من كتب مهمة. لذا
فإنني أدعو وزارة الثقافة إلى تبني مشروع «منح التفرغ»، الذي سيشكل فارقاً في
العملية الإبداعية.
محاولة لاستكشاف الحواف
الأقصى للوجود
هند هيثم (روائية)
اختيار
الرواية وسيلة للتعبير -إن صح أنه اختيار- لم يكن اختياراً واعياً. في البداية
وُلدت الرواية من الحاجة إلى الحكاية. وعبر مسالكها غير المتوقعة انبنى الكون
الروائي بكل خصائصه.
قد
يكون هناك اعتقاد شائع أن الرواية أسهل أشكال الكتابة الأدبية، لذا تزدهر في
هذا الوقت ويقبل عليها الوافدون الجدد إلى الكون الأدبي. لكن التجربة تناقض هذا
الاعتقاد وتنفيه. الرواية في جوهرها محاولة لاستكشاف الحواف الأقصى للوجود،
والإمساك بدقائقه. رحلة للإنسان في نفسه وفي خارجه. والوصول بالرواية إلى
قيمتها المطلقة صعبٌ للغاية، سواء أكان تقنياً أم سردياً.
من
نافل القول أن الكتابة الروائية تشهد طفرة هائلة في العالم كله؛ واليمن جزء من
العالم. بدأت الكتابة الروائية الآن تظهر في واجهة المشهد الثقافي اليمني بشكل
أفضل بكثير من العقود السابقة. والقادم مزيد من انتشار الرواية.
الرواية أشد وقعاً
عبد الله عباس الإرياني (قاص وروائي)
في
يناير من عام 2005. كنت في مقيل يطل على جزء من صنعاء. وربما أنها المرة الأولى
التي تضعني الصدفة في مقيل مثله. فأخذت أتأمل ما أمامي، وكأن ما أتأمله لم
أشاهده من قبل، وأنا فيه كل يوم، فشعرت بشيء ما يحل في نفسي وكأنه الكآبة. ومع
مرور دقائق المقيل كان ما أشعر به يزيد. حتى كانت اللحظة التي لم أستطع أن
أقاوم؛ فانسحبت إلى بيتي وكتبت قصة قصيرة لم تنشر، عنوانها «صنعاء ذات مقيل»،
فكانت البداية التي أعادتني إلى هواية كنت قد تركتها قبل عشرين سنة ونيف: قراءه
القصص القصيرة، والرواية، والمسرح، ومحاولات ضاعت. وكم كنت حينذاك شغوفاً
ومعجباً بيوسف إدريس! حينذاك؛ سنوات المدرسة وسنتين فقط من سنوات الجامعة. وكتب
ضاع معظمها. فلم أفكر بأني سأعود إلى الأدب. حتى أعادني إليه ذلك المقيل. وبعد
ذلك عدت إلى هوايتي، فانهمكت في كتابة القصة القصيرة. ونشرت لأول مرة بصحيفة
«الثورة» في شهر ابريل من عام 2005 قصتي القصيرة «هو وهي والقمر». ثم نشرت قصصي
القصيرة في صفحة أستاذ الجيل الدكتور عبد العزيز المقالح -حفظه الله- بصحيفة
«26 سبتمبر». وفي إحدى المرات من عام 2005، وقع تحت يدي كتاب «حصار صنعاء..
شهادات للتاريخ» الصادر في عام 1992 عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، فانهمكت
في قراءته، فوجدت طلبي وأمنية ربما كانت كامنة، وهي أن أكتب عن ملحمة السبعين
والوحدة، فكتبت رواية «بدون ملل»، والتي صدرت في عام 2006. وفي عام 2007 صدرت
رواية «الصعود إلى نافع». وفي هذا العام، وفي نهاية شهر فبراير صدرت رواية
«الغُرم». وأكتب الآن رواية جديدة (أرجو أن تنتهي بسلام) في واقع أقل ما يقال
عنه أنه يحتاج إلى إرادة قوية من الكاتب لكي يستمر، وفسحة من أمل تعينه على
الاحتفاظ بتلك الإرادة؛ فهو واقع لا يجهله أحد: لا قراء، والذين من أجلهم نكتب
وننشر. ويساعد على ذلك عدم وجود موزعين. وإذا وجدت مكتبة توافق على عرض كتابك
فإنها تضعه في مكان لا تشاهده العين المجربة، فكيف وهي عين مجردة؟! لا نقد؛
وبالنقد الموضوعي البناء يتطور العمل الإبداعي. وغياب واضح لوزارة الثقافة،
والجامعات، واتحاد الأدباء، والقطاع الخاص، وهم القادرون -إذا أرادوا- على
الدفع بالنقد، فلماذا لا يريدون؟ وغياب مسرح الدولة. وبدلاً من أن يبحث
المعنيون عن الكاتب، يبحث الكاتب عنهم. وإذا وجدهم فتلك قصة أخرى. والغياب
موصول لوزارة الإعلام ممثلة بمن يعنيهم الأمر. وبدلاً من أن يبحثوا عن الكاتب،
يبحث الكاتب عنهم، وإذا وجدهم فتلك قصة أخرى. والأمل في القيادة الجديدة
للوزارة. والأهم من ذلك غياب القطاع الخاص -القادر والمقتدر- عن المسرح،
والتلفزيون، فلم ينهض ويتطور المسرح، والتلفزيون؛ والسينما في الدول الأخرى إلا
بالقطاع الخاص، فأين هو؟ ومبنى لمؤسسة أو هيئة السينما تابع لوزارة الثقافة مع
وقف التنفيذ، وبدون مبنى للسينما، وما كان موجوداً حولته التعرية إلى مخازن
بائسة... واقع مرير. وزد على ذلك ارتفاع المعيشة المتصاعد الذي يعيشه الواقع،
لتزيد الأعباء على كُتَّاب هم في الأصل واقعون في أعباء يواجهها دخل شحيح. ذلك
هو الواقع الذي نكتب فيه. ولولا دعم الدولة ممثلة ببعض الشركات، والمؤسسات،
والوزارات، ربما -بل بالتأكيد- كنا سنعيش واقعاً أمرّ، وهو دعم تشكر عليه
الدولة، ولكنه دعم قد يريق ماء وجه الكاتب، ولا يحقق طموحه المادي المشروع، فهو
فقط من أجل طباعة كتاب جديد، ولا يحقق كذلك طموحه المعنوي. وأما عن المستوى، أو
الواقع الفني للرواية، فإني أكتفي بما قالته الأستاذة وهبية صبرة في العدد
الثالث من «غيمان» (خريف 2007): «الإجابة ليست سهلة، فلا بد من دراسة جادة
لمجمل الأعمال الروائية التي ظهرت خلال هذه المرحلة ليكون تعميمنا علمياً
ودقيقاً... إلخ». وأنا لم أدرس الأدب، لأني درست الهندسة، ولكن حرفة الأدب
أدركتني، ولا أدري هل أدعو لمن ساقني إلى ذلك المقيل، أم أدعو عليه؟
وأنتهي
بالقول، إني قد كتبت القصة القصيرة والمسرحية، ووجدت الرواية أشدها وقعاً، لما
تحتاجه من جهد ومعاناة يومية قد تستمر لأشهر طويلة. والنتيجة كما هي سلفاً، وهي
نتيجة قد تجر معها سؤالاً: لماذا تكتب في واقع مثل هذا؟ ربما تجدون الإجابة على
هذا السؤال بين سطور الإجابة على السؤال، مع الأخذ في الاعتبار لذة ومتعة
الكتابة.
|