العدد  العاشر - ربيع 2010م

   
 

سؤال العدد
 

 أدب الطفل.. الجنس الأدبي الغائب! (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

تخصص «غيمان» سؤال هذا العدد لـ أدب الطفل في الثقافة العربية الراهنة، والأزمة التي تعتقد بوجودها في هذا المجال، وما تعانيه الكتابة للطفل من شحٍّ وتهميش. وقد وجّهت المجلة سؤالها إلى عدد من المهتمين بأدب الطفل والمتابعين للكتابة فيه.  

 

سطر... ورسم بحجم طابع البريد
عبدالتواب يوسف

 

-1-

تطفو قضية أدب الطفل العربي وثقافته على السطح بين حين وآخر، بمناسبة أو بدونها. وقد طرح هذا السؤال الدكتور عبدالعزيز المقالح. والسؤال في حد ذاته يشي بلون من العتاب أو اللوم. والرجل قلق على مستقبل أمته، وله رؤيته الخاصة في هذا الدرب، منذ شارك بورقة بحثية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كتبها لمؤتمر أقامه الاتحاد العام للكتَّاب العرب في الجزائر. وأيامها أزعجه كثيراً أن ينكر المشاركون فيه وجود هذا الأدب؛ لأن ما يكتب فيه ما هو إلا كتابات تعليمية وعظية لا ترقى إلى مستوى الأدب. وبعدها قدم كتاباً هاماً حول أدب الطفل يحمل عنوان «الوجه الغائب». والعنوان -كالسؤال- يريد أن يقول شيئاً ورأياً، وهذا هو أسلوبه الخاص في طرحه للقضايا التي يثيرها، هو هادئ، عف، لكنه حاد، وليس محايداً، وهو لا يجامل، بل يعلن رأيه في ثنايا كلماته.

تساءلت بدوري: هل من مقياس أو معيار لهذا التقدم أو التراجع؟

لديَّ رد سريع: الاتحاد العام للكتَّاب العرب يعقد ندوة مع كل اجتماع لجمعيته العمومية، قناعة منه وإيماناً بأهمية هذا الأدب؛ لكن طرح السؤال على هذه الصورة يحتاج أن نقف عند نقطة محددة، أو لحظة بذاتها نكون وصلنا إليها. حاولت البحث عن هذه النقطة أو تلك اللحظة، ووجدت صعوبة في العثور عليها. بالضبط، رأيت أن يكون السؤال: هل يتطور ويتقدم في الوقت الراهن أم هو يتراجع، في مقارنته بأدب الأطفال عالمياً، خاصة في البلاد المتقدمة؟!

هناك ما يشبه الاتفاق على أن هذا الأدب قد بدأ على يد أندرسون (1805-1875). وهناك إجماع على أنه بدأ عربياً على يد أمير الشعراء أحمد شوقي شعراً، مع الجزء الأول من «الشوقيات» الصادر عام 1897. ونقر أنه بدأ نثراً مع ظهور مكتبة الكيلاني عام 1927. وعلى ذلك نراه قد تأخر في ظهوره عندنا نحو قرن من الزمان. كما أن مسيرته شعراً تجاوزت قرناً. أما نثراً فهو لم يبلغ القرن بعد.

وربما أجد في حدث وقع في مطلع التسعينيات ما يمكن أن أقف عنده، بعد إنكار وجود هذا الأدب بعشرين عاماً فقط؛ ذلك أن ثلاثة من الكتّاب العرب فازوا بجائزة الملك فيصل العالمية، وهي جائزة قيِّمة ومحترمة، لا يسمح أصلاً بالتقدم إليها، بل يتم الترشيح لها من خلال الجامعات والمراكز الثقافية والهيئات الأدبية... الثلاثة: أحدهم يهتم كثيراً بالمعرفة والتعليم، والثاني يرى في نفسه كاتباً للأطفال وأديباً، وهما من مصر؛ أما الثالث فهو شاعر من المغرب.

سوف يعلو صوت يعترض: هل تصلح الجوائز معياراً، مهما بلغت أهميتها وجديتها؟ من جانبنا نقول: ما العمل وقد غاب النقد تماماً في مجال أدب الطفل العربي؟! ويكفي أن نشير إلى أنه في أول مؤتمر علمي يناقش قضايا هذا النقد، وقد عقد في صنعاء، في الثمانينيات، وفي جلسات الإعداد للبحوث والدراسات، استهان أساتذة النقد في جامعاتنا وأهم النقاد لدينا بموضوع نقد أدب الأطفال، وحاولوا تهميشه أو استبعاده تماماً، ولولا إصرار الدكتور المقالح على طرحه لوافق المجتمعون على رأي أكبر قمم النقد في المغرب على أنه موضوع لا علاقة للمؤتمر به، والمصادفة البحتة هي التي جعلته يرأس الجلسة التي نوقشت فيها ورقة نقد أدب الأطفال، لأول مرة في حياتنا الأدبية.

-2-

الناقد الكبير ظل على رأيه وهو يقدم الورقة وصاحبها. وأكد ذلك في قوله في تلك الجلسة الصباحية: «نصف ساعة لعرض البحث، ونصف ساعة للمناقشة، ثم نستأنف عملنا». وكانت تنتظره مفاجأة في ختام الجلسة اضطرته لأن يقول: «هذه أول مرة في مؤتمرنا العلمي يُصفق لبحث وباحث».

لا اهتمام بنقد أدب الأطفال، مع أن هذه الورقة نشرت في عشر مجلات عربية، إذ حملها أعضاء المؤتمر إلى بلدانهم وأفسحت لها المجلات الأدبية، بل والصحف، صدورها. ومرَّت ثلاثون عاماً، وما من نقد، مما جعلني أكتب مقالاً أتوسل فيه إلى النقاد: «اشتمونا من فضلكم، نتوسل إليكم!». ربما عوضتني الدراسات والأطروحات في الدراسات العليا عن تناول أعمالي بالنقد
(
أربع رسائل ماجستير وثلاث رسائل دكتوراه ونفس العدد تقريباً يجري جديد).

والسؤال: هل نرى في هذا تقدماً؟ أعرف أن الكثيرين في صفي حين أقرر أن المسافة بيننا وبين أدب الأطفال العالمي مازالت طويل وواسعة، بل وشاسعة. وسأقدم شواهد تؤكد ذلك، وستكون المقارنة كماً وكيفاً. ولنبدأ بما أسميه نصيب الطفل من الكتب. أتيحت لي فرص بلا حصر للاطلاع على ما يجري في مجال نشر كتب الأطفال، وبالذات في مجال الأدب.. في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب عندما استضاف الكتاب العربي شاركت في كافة الندوات الخاصة بكتاب الطفل التي أُقيمت. وفي الندوة الأولى قالت لنا المسؤولة عن كتب الأطفال: «نصدر سنوياً أربعة آلاف كتاب للأطفال، والطبعة الأولى تصدر في 25 ألف نسخة، أي 200 مليون نسخة، لعدد من الأطفال القراء في حدود عشرة ملايين، نصيب الطفل عشرة كتب في العام. ماذا يحدث عندكم؟». طأطأت رأسي، ولم أرد؛ ذلك أنني سبق أن أعلنت أن نصيب الطفل العربي من الكتاب: سطر، ورسم في حدود طابع البريد.

وتواصل المتحدثة: «من المتوقع أن تتحسن أمورنا لنصل إلى مستوى أمريكا وانجلترا واليابان. ونحن في ترجمتنا لكتبكم إلى اللغة الألمانية لم نصدر إلا أربعة كتب، منها كتابان لمؤلف واحد»!

مثل هذه الأرقام تصيبنا بصدمة مروّعة. وتقول جوان إيكن، الكاتبة الإنجليزية للأطفال، إن طفلهم يقرأ 600 كتاب خلال مرحلة طفولته؛ كم يقرأ طفلنا؟!

-3-

نحن قد لا نكون في حاجة إلى كل هذه الأرقام لكي نؤكد مدى تراجعنا، وأقصى ما استطعنا إصداره ألف كتاب في أواخر التسعينيات، فيما لا يزيد على 5 ملايين نسخة، وتراجعنا كثيراً مع بداية القرن الحادي والعشرين. والمعروف أن التراكم الكمي ينتج عنه تراكم كيفي، لذلك أرجو أن نحاول الإجابة على الأسئلة التالية:

كم كتاباً للأطفال تصدره الدول الخليجية البترولية؟ وكم كتاباً تصدره اليمن؟ وماذا عن مصر؟

الطريف أن المناقشات تدور في مصر حول أن انصراف الأطفال العرب عن قراءة الكتب يرجع إلى إقبالهم على الكتب الإلكترونية والانترنت. ويكون تعليقي:

هل الطفل الأوروبي، والأمريكي، والياباني، أقل اهتماماً بالكمبيوتر من أطفالنا؟ لماذا لم تنخفض مطبوعات الكتب لديهم؟ إنها بنفس المعدل؛ لأن أطفالهم يقرؤون، وأمة إقرأ لا تقرأ!

ألم يؤثر الكمبيوتر في قراءات الأطفال عندهم؟ لا، بل زادها؛ لأنهم يرشِّدون استخدامهم له، ابنة بل جيتس نفسه لا يسمح لها بالجلوس إلى الكمبيوتر أكثر من 45 دقيقة في اليوم، إلا إذا احتاجت واجباتها المدرسية. نحن نفسد هذه الأجهزة وتفسدنا. أطفالنا يدمنونها كأنها «ربع جرام»!

يضحكون لأني أستعير عنوان رواية «ابني» الشهيرة. وقد لقيت من الدكتور المقالح اهتماماً كبيراً وكريماً، بينما أعاتبه على رسائله إليّ، إذ تستنسخ على الكمبيوتر، ولا يطيب لي ذلك. ويرد عليّ بأنه يكتب لي أن صنعاء تقدمت وتستخدم الكمبيوتر. أضحك وأقول: استخدامك لهذا الجهاز يحوله إلى «آلة كاتبة» وتتراجع به، وكتابتي بخط يدي فيه حميمية وخصوصية تفقدها إياها بنشرها، كأنك تجد فيها ما يستحق النشر. ما ذنب القراء؟ لقد وضع اسمي على غلاف العدد التاسع من «غيمان» بدون وجه حق، لكن الأصدقاء قرؤوا الرسالة، وقالوا: بل معه حق؛ تتراجع إصدارتنا في كتب الأطفال كماً وكيفاً، والمكتبات المدرسية تفتقر إلى كتب ليست مترجمة، كم هي نادرة كتب الأطفال في اليمن, ولدينا من الحكايات الشعبية رصيد لا ينفد! وعندما رويت لأطفال أمريكا حكاية «سندريلا» اليمنية انبهروا: كيف وليس باليمن حفلات رقص يختار الأمير منها زوجته؟! أقول: ذهبت البنت يتيمة الأم إلى البئر لتملأ الجرة بالماء كما طلبت أو أمرتها زوجة أبيها بذلك، وجاء الأمير ليسقي حصانه من البئر، جفلت الفتاة تاركة فردة حذائها... يا للروعة! بئر، وجرة، وحصان، وأمير... بيئة يمنية بحق!  

-4-

نحن لم نحرم العالم من «سندريلا» المصرية، حين قدمت لي أمينة مكتبة «باتون روج»، عاصمة لويزيانا، كتاباً بهذا العنوان. سألتها: من كتب «رادوبيس» هذه؟ قالت: «لا، لا. هذه سندريلا. وما من أحد اسمه رادوبيس». ناولتني الكتاب الذي كنت أراه للمرة الأولى. فتحته. كان أول سطوره: «رادوبيس»، أو «سندريلا» المصرية. وأشرت بإصبعي للكلمات. دهشتْ. رغبتُ في إزالة دهشتها التي اقترنت بما لا أستحق من مديح: «رادوبيس عنوان رواية صدرت قبل نصف قرن لأديبنا الكبير نجيب محفوظ الفائز بنوبل». زادت دهشتها: «هل فاز أديب مصري بجائزة نوبل؟». نعم، وهو عربي بقدر ما هو مصري. وعندما قدمت لها قصتي «الهمداني يقابل لافوازيين»، قالت: «نعرف لافوازيين الفرنسي مكتشف الأوكسجين، من (مستر الهمداني) هذا؟». يمني اكتشف الأوكسجين قبل لافوزيين بألف سنة...

أتساءل دائماً: لماذا لم تستفد نجيبة حداد وعبدالرحمن مطهر من التراث اليمني في الكتابة لأطفال اليمن، والعرب، والعالم؟

حكاياتكم كنز يزري بما عثر عليه «علي بابا»... وفي ندوة حول «البنت» و«الولد»، حضرها حشد كبير من المهتمين بالمساواة بينهما، وبالتكامل بين المرأة والرجل، قرأت قصيدة الدكتور المقالح عن أسرة بكت لأن ابنتها ولدت طفلة، لكن الأسرة نفسها زغردت فرحاً لأن البقرة ولدت أنثى ستعطي لبناً وإناثاً ولحماً. واهتزت القاعة بالتصفيق، وجعلوني أعيد قراءتها. وقبل أن نغادر القاعة استنسخوها، ليكون مع كل منهم نسخة.. وهمست لي سيدة: «صديقك الشاعر عبقري، ما اسمه؟». ضحكت: «سيدتي! قبل 45 عاماً كان طلاب وطالبات الثانوية العامة في مصر يدرسون قصيدة له عن حرب أكتوبر، منهم ابنتي، وكانت شقيقته -أو ابنته لا أذكر- تدرس روايتي «خيال الحقل» في السادسة الابتدائية في مدرسة ابتدائية في القاهرة. سألت: «هل نتقدم أم نتراجع؟». كان صوتها مبطناً بالدموع: «نحن يا سيدي نتقهقر، في زمن يتأخر فيه من يقف في مكانه؛ لأن عالمنا ينطلق بسرعة الصاروخ. الفرق بين العرب والغرب نقطة على العين تجعلنا لا نحسن قراءة حاضرنا ومستقبلنا».

-5-

لماذا يتردد هذا السؤال في كل مجال وليس في أدب الأطفال وثقافتهم فحسب؟

في محاولة للإجابة هناك حوار بيني وبين أستاذة جامعية تتقاسم جامعتين وقتها: جامعة القاهرة، والجامعة الأمريكية في القاهرة؛ ثلاثة أيام لكل منهما. وكثيراً ما حدث أن يكون الحوار ساخناً وينقلب إلى «نقار»، ولكنه لا يصل قط إلى الشجار. هي تقول: «لديك مادة لما تكتب من أوراق ودراسات ومقالات، يمكنك صياغتها في صورة بحوث أكاديمية رفيعة المستوى، لماذا لا تفعل هذا؟». البحوث العلمية الأكاديمية من المواد التي تقوم هي بتدريسها في الجامعتين، بل وفي جامعة في واشنطن العاصمة، لذلك تركز عليها، وأجدني متهماً أدافع عن نفسي: أنا كاتب أطفال، يطيب لي أن أروي الحكايات، ومن مهامي الأساسية تحويل الأفكار العلمية والنظريات الأكاديمية إلى قصص، وليس العكس. ويبدأ الجدل، ويستمر... ولا أظنه ينتهي.

الدكتور المقالح أشار إلى شيء من هذا القبيل بعد دراسة لي عن شعر أحمد شوقي للأطفال جعلتها في مقدمة ديوانه الذي جمعت فيه كل قصائده للأطفال. وكنت أهدف من وراء ذلك إلى أن أعيد الأطفال إلى ساحة الشعر التي غادروها في القرن الرابع الهجري، ولم يعودوا إليها. وقد فعلت هذا مع الشاعرين: محمد الهراوي، وإبراهيم العرب. والأخير شاعر إسكندري أصدر ديواناً فيه 100 قصيدة قصصية للناشئين، قدمتُ شخصياً عرضاً نثرياً لها في سطور قليلة. وأيضاً قصائد كامل كيلاني، ولم يفتني الشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي استجاب لدعوة أحمد شوقي وكتب للأطفال ديواناً رائعاً، نفد منه وقتها ثلاثون ألف نسخة في بغداد- رد الله غربتها. وعندما قدمت الكتاب إلى الدكتور المقالح أبدى دهشته، وقال لي: «قرأت عن هذا الديوان، أو رأيت إشارات وشهادات وربما إعلانات، وسرني أن تطبعه بغداد. هل أنت وراء هذا العمل؟». نعم، وفي المقدمة ذكرتك بالخير؛ لأنك ممن شجعوني على محاولتي مع الأطفال ليحبوا الشعر في الحصص الدراسية، سواء كانت في الفيزياء والكيمياء، أم في التاريخ والجغرافيا، يتوقف المعلم ويقول: «حانت دقيقة للشعر»، ويلقي تلميذ أو تلميذة بيتاً أو بيتين من الشعر، ثم يواصل المعلم درسه... الحصيلة: ألف بيت من الشعر في العام!

-6-

 أستهل لقاءاتي ومحاضراتي وأحاديثي وندواتي للأطفال بتقديم نفسي على أنني «بائع حكايات»، وأسألهم: هل يمكن أن أكسب ما يجعلني أعلّم أولادي في الجامعة؟ وهل يمكن أن أشتري سيارة؟ وهل أستطيع السفر على حسابي إلى أمريكا مثلاً؟ لا يفكرون طويلاً، بل تتناثر ثلاث «لاءات» في سرعة خاطفة، وأتمنى لو تمهل البعض، وسأل: لمن تبيعها؟ من يشتريها منك؟ هل هي جديدة ليدفعوا فيها ثمناً معقولاً؟! أسعد لو أن طفلاً بادرني بشيء من هذا القبيل، ويندهشون حين أقول لهم إني حققت هذا، وأن أبنائي تعلموا في أرقى جامعات العالم، وأن ابنتي أستاذة جامعية (وهي التي تجادلني في كتابتي للأوراق والبحوث التي أشرت إليها من قبل)؛ وابني درس الفيزياء، ودرسها في جامعات مصر وأمريكا، ثم اعتزلها، وأصبح سفيراً بوزارة الخارجية المصرية؛ والأصغر صار مؤلفاً ناجحاً، بدلاً من أن يكون رجل أعمال؛ وهم، وأنا معهم، نسأل أنفسنا صباح مساء: هل نتقدم أم نتراجع؟ سؤال نوجهه لأنفسنا أولاً، ونتساءل به عن أمور العامة كمواطنين في بلدنا، أياً كان اسمه، فهو جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولا أقول: «العالم العربي»؛ ذلك أني أؤمن، لا بوحدة كل بلد فحسب، بل أؤمن بوحدته، مهما فعلوا بنا لتفريقنا وتمزيقنا وتقطيعنا إلى دولٍ وإمارات وقطاعات وأشلاء... سنلتحم، وكفانا ما قالوه عندما اكتشفوا بترولنا: «سنجعل من حول كل بئر دولة”! ما فعلوه بنا هو دافعنا إلى التساؤل عن التقدم أو التراجع، بشكل عام، والتساؤل بشكل خاص من جانب الدكتور المقالح، والإلحاح على أن أقول بضع كلمات حول أدب الأطفال عندنا، وعند الآخرين.

لقد تطور عندهم بسرعة الصاروخ، ومضى عندنا بطيئاً سلحفائياً، بل تراجع للوراء، إلى حدّ أن أحدهم نصَّب نفسه «رائداً لأدب الأطفال»، وهو أكذوبة، لأنه مجرد موظف تحول إلى مؤلف، ينقل ويسرق حكايات قديمة، وآخر يعيد حكايات «ألف ليلة وليلة»، وثالث يكتب مغامرات، ورابع يحكي نوادر جحا، وآخر يدعي أن النقاد أجرموا في حقه لأنهم لم يشيدوا بروعة أعماله، والحقيقة أنه الذي أجرم وارتكب من الكتابات ما كسب من ورائه الكثير، ولم يتوقف عنده أحد، وخسر نفسه، ولن يذكره أحد...

-7-

كلمة في الختام:

لا تستطيع ملكة انجلترا أن تستدعي رئيس الوزراء لتسأله: كيف لم يظهر شكسبير آخر بعد رحيل شكسبير بما يزيد على 400 سنة؟ الموهبة والإبداع من عند الله، إذا منحهما الله لإنسان ولم يصقلها ولم يستثمرها ضاعا وتلاشيا، وإذا ما حافظ عليهما وصانهما حققا له التقدم بلا تراجع.

والسؤال قائم، وعلى الجميع أن يحاولوا المشاركة في إجابته، وكلاً في مجاله. وعلى المهتمين بأدب الأطفال أن يزيدوا معرفتهم بما يجري في هذا المجال، وأن يحيطوا أنفسهم علماً بما يحدث في بلدهم، وفي أقطار وطنهم العربي، وأن يعبروا الحدود إلى العالم الواسع والبلدان المتقدمة التي أحسنت استغلال تراثها، وأيضاً شجعت المبدعين ليكشفوا عن مواهبهم، وإعانتهم على نشر إبداعاتهم. لتكن هذه بداية، ونقرأ ما يجود به المهتمون.


من أجل حكاية جديدة
 
محمد عبدالوكيل جازم


يبدو لي مستقبل الطفولة في الوطن العربي وكأن ثمة شجرة تقف في ناصية الوادي، لكنها عارية لا تبزغ في سيقانها أوراق ولا تتدلى منها ثمار، فلا يستظل تحتها الناس، ولا يستفيد من ثمارها أحد؛ لأنها لا ثمار لها. ربما يكون المثل السابق قاصياً؛ ولكن ليلتمس لي القارئ العذر، فلا يجب أن نتهاون في مستقبل الأبناء، حتى لا تكون هذه الشجرة التي لا فائدة منها سوى شرب ماء الوادي أو حجز مكان جغرافي كان يمكن أن تجد إليه شجرة أخرى طريقها.

ينمو الطفل في الوطن العربي فإذا بدأ في تلمس الخطوات الحقيقية وجد نفسه أمام طرق عديدة، طرق لا أول لها ولا آخر. إنه صفحة منهوبة تتلقفها الأعاصير؛ لا يدري أي الطرق يعبر، وفي أي الأشجار يقف. وليت الطرق العديدة أمكنة للمعرفة والعلم والتلقي! ولكنها أمكنة للضياع؛ هناك مشروع تجهيلي، وهناك مشروع لتمييع القضايا الكبرى والتاريخية. لا يجد الطفل سبيلاً للتعليم الحق؛ لأنه لا أحد في هذه الدول العربية المترامية الأطراف فكَّر بمستقبل الأمة. ولا شك أن ذلك أحدث ارتجاجات قوية في التفكير الجمعي للأمة العربية منذ عصور الانحطاط التي ما زلنا نجتر خيباتها.

وتبقى مهمتنا الرئيسة هي: كيف نخرج من هذا المأزق؟

ولا بد لنا -من أجل حل هذه الأزمة- من النظر إلى ما حولنا، فالعالم اليوم أصبح متداخل العلاقات والثقافات والبنيان، ولا بد بالتالي من فهم أنفسنا في الإطار الجمعي، لا بد أن تتحالف الفئات الثقافية المتعددة، وذلك عبر الحوار الجاد، للخروج من مأزق الطفولة الذي سيشكل فيما بعد حكاية جديدة.

ولعل الذين قالوا إن «الجيل الجديد هو وسيلة الانقلاب» كان حديثهم حقيقياً، فقد أثبتت المشاريع العربية كلها فشلها، فلماذا لا تفكر هذه المشاريع بالطفولة، كمشروع بديل، بدلاً من السياسي والنخبوي والعقائدي...؟ لماذا لا تكون الطفولة هي هدفنا الرئيس وهي أملنا وهي محط تفكيرنا؟

إن الهوية الحقيقية لأمتنا أو لأي أمة من الأمم تكمن بمقدار ما تشكله التربية وما تنتجه المعرفة في حقل الطفولة.

وحتى لا يكون حديثي ملتبساً فإنني أرى ضرورة مراجعة أنفسنا في كتب التربية والتعليم، لا بد أن نعيد تشكيل مناهجنا بما يتوافق مع المتغيرات التكنولوجية والمعرفية، وعلينا أن نطور نظرتنا للمواد التربوية، كالتربية الفنية والجمالية والتربية الموسيقية والتربية البدنية، ومواد الأنشطة الأخرى، التي صارت أساسية وليست تابعة.


الظل أعوج
 
منير طلال

سؤال يلح عليَّ من حين إلى آخر: لماذا أمتنا متأخرة في كل شيء؟ ألا يعي الساسة أهمية أدب الطفل؟ لماذا مازال أدب الطفل، قصة وشعرا ونثرا ومسرحاً، في الهامش لدى صناع القرار السياسي والثقافي في الوطن العربي، وفي بلادنا الحبيبة على وجه الخصوص؟

البعض قد يعزو الأمر إلى عدم اهتمام الأدب العربي بثقافة الطفل والنشء أصلا، وهو أمر مردود عليه؛ فالأدب العربي منذ النشأة اهتم بأدب الطفل والنشء، ويمكن لنا استعراض بعض النماذج أمثال «كليلة ودمنة» و«ألف ليلة وليلة» و«سيرة عنترة بن شداد» و«الأميرة ذات الهمة» و«السيرة الهلالية» وقصص: قيس وليلى، والمياسة والمقداد، إضافة إلى قصص الأمثال والحكم التي تكاد لا يخلو منها مؤلف من المؤلفات العربية القديمة. ومن هذه النظرة أؤكد أن أدبنا العربي كان في جزء كبير منه موجهاً للأطفال والنشء، عكس ما هو موجود حالياً.

أما عن السبب المفاجئ الذي حدا بالأدب العربي إلى حالة القطيعة مع أدب الطفل والنشء فذلك يعود إلى عصور الانحطاط والعزلة، وهو أمر يمكن ملاحظته في بلادنا، حيث يندر أن تجد قصيدة كتبها أحد الشعراء موجهة للنشء؛ إلا أن منتصف القرن العشرين شهد موجة من كسر حالة الجمود والعزلة في مجال أدب الطفل في اليمن، وذلك بفضل توافد المجلات المترجمة المتخصصة في أدب الطفل، ولاسيما القصص المصورة، التي أصبح لها جمهور كبير من الشباب والأطفال، وكان على رأسها «سوبرمان» و«الوطواط» و«البرق» و«بساط الريح» و«طرزان» و«عائلة الفضاء» و«مغامرات طارق» و«ما وراء الكون»، و«سندباد» و«تان تان»، و«الرجل الأخضر»، و«ميكي»، و«بطوط»... وغيرها من سلاسل القصص المصورة. وقد شهد العقد الخامس صدور العديد من الأعمال العربية الموجهة للأطفال. أما في بلادنا فإن عقد السبعينيات كان هو بداية ظهور أدباء ورسامين لأدب الطفل. إلا أن ظهور أدب الطفل في اليمن ظل خجولاً، من ناحية الكم والنوع؛ لعدم الاهتمام الحقيقي به من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية، حيث لم يستطع صاحب القرار الثقافي استيعاب أهمية أدب الطفل والنشء، وظل ينظر إليه على أنه مكلف ويخاطب شريحة غير هامة من وجهة نظره؛ فهو يريد أشخاصاً ناضجين ليخاطبهم ويكسب ودهم وأصواتهم الانتخابية، بينما جمهورنا الذي نتحدث عنه مجرد أطفال ليس لهم وزن في العمل السياسي، وإن ادعى صاحب القرار الثقافي عكس هذا الأمر.

تأتي بلادنا في اهتمامها بأدب الطفل والنشء بشكل عام، قصة وشعراً ومسرحاً، ضمن البلدان المغيبة تماما لهذا المجال؛ وهو أمر يعود إلى عدم وجود استراتيجية وطنية في مجال الثقافة والإعلام، وانعدام الرؤية الثاقبة لأهمية أدب الطفل والنشء. والذي يزايد بأن هناك اهتماماً بأدب الطفل في بلادنا نسأله:

أين مجلات الأطفال والنشء المتخصصة؟

كم عدد الكتاب والرسامين العاملين في هذا المجال؟

ما هي الإمكانيات المادية والفنية التي وضعت لتنشيط هذا المجال؟

كم عدد الإصدارات في أدب الطفل والنشء خلال خمسين عاماً؟

هل الأشخاص المعنيون بأدب الطفل يديرون المؤسسات المعنية بهذا المجال (الصحف أو الملاحق أو الإدارة المتخصصة)، أم أنه يتم تعيين أشخاص لا علاقة لهم بهذا الأمر؟

والأسئلة كثيرة جداً، وكلها تكشف مقدار إهمالنا لأدب الطفل. أما في البلدان العربية فالواقع أفضل بكثير؛ فقد شهد العديد من الأقطار العربية صدور مجلات متخصصة بأدب الطفل برز فيها الجانب الأدبي والفني الراقي، ولعل من أشهرها مجلات: «سمير»، «ماجد»، «أحمد»، «سنان»، «باسم»، «العربي الصغير», «سامر», «الفاتح»...

وقد تتوج الأمر عربيا ببث قنوات متخصصة موجهة للأطفال تحيي الكثير من المواد الثقافية والترفيهية، من أمثال: «سبيستون»، «MBC، «الجزيرة أطفال»، «أجيال»...

وحالياً تعاني بلادنا من إشكاليات ثقافية لعل أبرزها أزمة الهوية الوطنية لصالح الانتماء المناطقي أو الطائفي أو السلالي... وهي أمور كان ومازال يمكن معالجتها من خلال أدب الطفل الذي ينمي في النشء حب الوطن والانتماء إليه، قال الشاعر: «لا يصلح الظل إذا العود أعوج»، ناهيكم عن دور أبي الطفل والنشء في تنمية الشعور بالمسؤولية، وهي أمور جربها قبلنا سائر الأمم والشعوب.

أما عن الكيفية التي يمكن لنا بها تنشيط أدب الطفل فهي تتلخص في:

- إصدار مجلات للأطفال والشباب ضمن رؤية ثقافية شاملة.

- تنظيم مهرجانات للقراءة.

- عمل مكتبات عامة متخصصة.

- تنشيط مسرح الطفل بما لا يقل عن عشر مسرحيات سنوياً.

- تفعيل حركة الإصدارات المتخصصة للأطفال.


من باب الفضول!
رشاد السامعي 

أعتقد أن من الأسباب المهمة التي أثرت بالسلب في قلة الكتابات وندرة الكتاب المتخصصين في أدب الطفل، ضعف قناعات كثير ممن لهم ارتباط وعلاقة في هذا المجال, سواء كانوا جهات حكومية أم مدنية أم غيرها من المنظمات والهيئات؛ فكثير منها يقلل من أهمية هذه التناولات، ويعتبرها أشياء تكميلية، باعتبار أن هناك مواضيع أكثر أهمية تتعلق بالطفل. وينعكس ذلك على ما نشاهده من ندرة هذه الكتابات والمطبوعات الموجهة لأبنائنا وأطفالنا.

وقلة هذه المطبوعات المتخصصة تؤثر بالتالي في اكتشاف الكثير من الأقلام التي يمكن أن تثري هذا الجانب وترفده بكثير من الإبداعات.

نقطة أخرى، وتتعلق بحقوق الكاتب المادية، فكثير منهم يعزف عن الكتابة والعمل في هذا الجانب (الكتابة للطفل) لقلة المردود المادي، والبعض الآخر يلتزم أدبياً ويستمر رغم استيائه من المقابل الذي يتقاضاه من القائمين على تلك المطبوعات.

 أيضاً هناك نقطة مهمة، وتتعلق ببعض الكُتَّاب الذين يمتلكون المهارة والملكة للكتابة بطلاقة وإبداع للطفل، إذ يخجلون من الكتابة «للصغار»، ويعتبرون أن هذا العمل ربما قد يؤثر في مكانتهم ككُتاب لهم صولة وجولة في مجالات كالسياسة والأدب وما إلى ذلك.

لا ننسى أن نتطرق لقلة وعي المجتمع، فهذا بالتأكيد له علاقة أيضاً بحديثنا؛ فثقافة أولياء الأمور تستثني أشياء كثيرة، كمجلات وكتب، وبالتالي يقومون بشراء هذه المطبوعات ويعتبرون هذه الخطوة تبذيراً وتبديداً للمال؛ وبالتالي لا يوجد رواج لمثل تلك المطبوعات.

 ونشير إلى امتلاء كثير من الأكشاك والمكتبات بكثير من المجلات الوافدة، غثها وثمينها، دون رقابة عليها، مع وجود فجوة واضحة تتمثل في ندرة الناتج المحلي من المطبوع المتخصص. وهنا يتأثر الطفل بتلك القراطيس القادمة من الخارج، وتبهره ألوانها, تصاميمها، ورسومها، وبالتالي يتأثر بمحتواها أياً كان. وهنا نجد أن الطفل يبحث عن البديل الذي يأتي من الخارج. وتكمن في هذه النقطة خطورة انقياده وتأثره بثقافة غير ثقافته، وتطير به إلى عوالم وبيئة غير التي يعيش فيها.

من خلال كتابات الطفل نستطيع تعميق روح الولاء للوطن، وزرع كثير من القيم والمثل، وتنمية مهاراته وتوسيع مداركه. وعكس هذا كله يحصل عندما تخلو الساحة من الكتابات المحلية المتخصصة.

مثال:
في عدن ولحج، وغيرهما من المناطق التي تشهد أحداثا غير مبررة انتهت بحكمة، نجد كثيراً من الأطفال يشاركون في عديد المسيرات ويرفعون شعارات ويرددون هتافات لا يعرفون معناها أبداً أو لم يحاولوا قراءتها، على الأقل ولو من باب الفضول.

مقترحات:
-
على الجهات المعنية بالطفل أن تعمل بجد على توجيه جُلِّ اهتمامها إلى أدب الطفل، وأن تتبنى كافة المواهب والأقلام التي تكتب من أجله، وبما يصب في صالحه وصالح مجتمعه ووطنه، وتقوم بطباعة كافة الأعمال الرائدة في هذا الجانب، مع حفظ كافة الحقوق الفكرية والمادية لصاحبها.

- إن وجود صحف ومجلات منافسة يُفسح المجال أكثر للكُتّاب والمبدعين والأقلام الشابة واكتشاف الجديد والقادم، بحثاً عن ذاته في هذا التخصص، وبما يخدم تلك الشريحة العظيمة في مجتمعنا.

- توجيه ثقافة المجتمع وبالأخص أولياء الأمور ولفت نظرهم إلى أهمية هذا الأدب وضرورة تقديمه للطفل. وهناك وسائل عدة لذلك، سواء عبر المدرسة أم طرق أخرى، مطبوعة كانت أم مرئية أم مسموعة، الأهم هو إيصال رسالة للآباء والأمهات بذلك.


أدب الطفل ...والمأزق المعرفي
 
أحمد عبد الرحمن الشرعبي

حتى اللحظة لم تتحول الطفولة هنا إلى همٍّ تتعاطى معه الجهات المسؤولة عن الطفولة أو المؤسسات الثقافية والصحفية، ولو بحده الأدنى. الأمر يبدو انعكاساً طبيعياً لمأزق الدولة الثقافي والمعرفي، هذا المأزق الذي بدأ بالتشكل على إثر خلع اللباس المدني الذي كان قد تلبسه التعليم في لحظة ما، ليتم وأد التجربة الحديثة في التعليم العصري بإلغاء ما كان يعرف بـ«حصة التربية الفنية» التي ظلت حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، لينقلب إلى تعليم ديني كرس محتواه المنهجي لإلغاء الآخر والانتقاص منه، وتحريم الحياة برمتها، فخلا التعليم من أي ملمح مدني معرفي. وكان من الطبيعي أن ينتج هذا التحول تبعات ما يعرف بـ«التعليم الموجه»، الذي مارسته المدارس وما كان يعرف بـ«المعاهد العلمية» حينها، وهي تعاملت مع الطفل كوعاء يجب تعبئته جيداً وسلبه القدرة على التفكير أو النقاش.

لقد نجحت طريقة التعليم البدائية في قتل روح الطفل، وهي روح متوثبة وجامحة، باحثة ومتسائلة كما يقول كثير من دراسات الأطفال، لينتج هذا الفعل أناساً ذوي مقدرات عالية على الحفظ. تلك ميزة ليست مبعث سعادة؛ إنها مؤشر خطير؛ فالطفل الذي أمامنا ليس أكثر من آلة حفظ تنثر أي معلومة حال استدعائها، دون تمحيص أو تدقيق.

هذا المدخل -بالنسبة لي- ضروري للتعرف على منشأ المشكلة، وهي المشكلة المتجذرة في الوعي الطفولي منذ سن مبكرة، بدءا من الأسرة التي تلعب دوراً سلبياً في تعاطيها مع الطفل والسلبية إزاء كثير من عوامل تشكله، ومن ثم المدرسة التي -كما أسلفت- تعاملت مع الطفل كوعاء يجب أن يحفظ ما يضخ فيه، إضافة إلى ما يحتويه الكتاب المدرسي ذو النظرة الأحادية. من هنا أصبحت القراءة المعرفية فائضاً عن الحاجة في حياة الطفل منذ تفتق وعيه القرائي. لقد وجد نفسه محاصراً بأدوات تعليمية أكثر بدائية وتخلفاً، ومن يتجاوزون ذلك قليلون ونادرون؛ إنهم يفعلونها في حالات نادرة واستثنائية، رغم ما يواجههم من عوائق ومثبطات. وكثيراً كثيرا ماً ينجحون في رسم ملامح مستقبلهم بعيداً عن قيود الأسرة والمدرسة والمجتمع. «إننا لا نعرف الطفولة» يقول جان جاك روسو. هذا مفروغ منه؛ لكن السؤال الذي يقفز الآن: متى سنتعرف عليها؟

أدب الطفل

لقد أصبح أدب الطفل مشكلة معقدة، وبلا ملامح. والحديث عنه في حالته الراهنة مهمة شاقة وملحة في آن؛ فالتكوين الطبيعي لأدب الطفل لا يقتصر على نوع معين من الإبداع، بل يلم بين جنباته: القصة، الشعر، المسرح، الرسم، الأغنية... إلخ، وجميعها مفردات متلاشية في واقع طفولي مؤلم وحزين.

لا أقول ذلك من وحي تصور بعيد عن الواقع، بل ذلك ما تشير إليه دراسة للكاتب عبدالرحمن عبدالخالق، فبحسبها لم يصدر سوى أربعة كتب قصصية للأطفال وقصة سيناريو على شكل ملصق: «العازف الصغير» للقاصة اعتدال ديريه، ومجموعة قصصية مترجمة عن اللغة الروسية من حكايات الشعوب ترجمة وإعداد فاطمة الشريف، ومجموعة قصصية مترجمة عن اللغة البلغارية: «نصيحة حمار» للكاتب عبدالرحمن أحمد عبده منذ عام 1990 حتى لحظة صدور آخر إصدارين بحسب الدراسة، وكانا في أبريل 2002: سيناريو «ذئاب من حديد»، وقصة سيناريو- على شكل ملصق: «ماذا أصاب لينا؟» للقاص عبدالرحمن عبدالخالق. بعد ذلك لم يصدر سوى بضع قصص لقاصين معينين عن وزارة الثقافة، وحدث ذلك في عام عاصمة الثقافة العربية، لتتوقف أغلب الإصدارات الثقافية بانتهاء العام الثقافي ذاك، مع التنبه لكون ما صدر لا يتناسب في حالات كثيرة مع نزعات الأطفال، ولم يكن يتوافق ومراحلهم العمرية المختلفة؛ ومرد ذلك -كما يقول أحد النقاد- قصور معرفي وإدراكي لدى من يكتبون للطفل، وهو قصور يكون في أحد جوانبه نتاج فقر معرفي بحالات الطفل النفسية والعقلية؛ «إذ لا بد لأدب الأطفال من أن يتوافق مع قدرات الأطفال ومرحلة نموهم العقلي والنفسي والاجتماعي، ولا بد من أن يسكب مضمونه في أسلوب خاص» (هادي نعمان الهيتي: ثقافة الأطفال، «عالم المعرفة»، العدد (123)، مارس 1988، ص186). هذا الواقع تنحسر فيه الإصدارات المعنية بالطفل، وحين تحضر تكون فقيرة معرفياً لا شك. أنه واقع حزين؛ لأنه غير معني بأهم مكون للمستقبل، وهو: الطفل.

يعيش الطفل في اليمن حالات تهميش مضاعفة ومكثفة، وهي حالات تنتج -على المدى البعيد- أشخاصاً مسلوبي الإرادة والقدرة على التفكير أو التساؤل، فيمتلئ الواقع بأناس سلبيين تجاه كثير من الجزئيات الحياتية، سواء اليومية أم المرتبطة بالمستقبل. وحين يتم ربط أسباب المشكلة بقصور في مؤسسات الدولة، لا يعد ذلك إهمالا للمؤسسات المدنية، الشريك الفعلي في بلورة وعي ثقافي حقيقي، ويأتي على رأس هذه المؤسسات «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين»، الذي أعدّه ميتاً سريرياً؛ ليس في هذه القضية فحسب، بل في شتى مناحي الحياة الثقافية، ويبدو مفضوحاً حين يتعرض الواحد منا لدوره في قضية ثقافية ما؛ فحتى اللحظة لم أجد إصدارا يعنى بالطفل من إصدارات الاتحاد. إنه فضيحة كبرى وليس اتحاداً للأدباء. أقول ذلك متأسفاً على ما يمكن أن يصنعه هذا الكيان النقابي المعطل حين يتم النظر إليه وفق التصور الطبيعي في عده أكبر وأهم مؤسسة ثقافية في البلد، الأمر الذي يضعنا إزاء مشكلة، إضافة إلى تعقيدها، لم تحصل حتى اللحظة على الاهتمام والالتفات الحقيقي لها.

وإضافة إلى دور اتحاد الأدباء كمؤسسة مدنية، يحضر دور المؤسسات الثقافية الأخرى، وهي المؤسسات ذات الحضور، كــ«مؤسسة العفيف الثقافية» التي نظمت قبل أيام ما أطلقت عليه في برنامجها الثقافي للعام 2010 «أيام الطفل من أجل المستقبل»، مقدمةً: معرض رسوم للأطفال، أمسية شعرية لأطفال مبدعين، ندوة حول «أدب وصحافة الطفل»، وعرض مسرح الدمى. وهي أيام تشكر هذه المؤسسة عليها، رغم ما رافقها من قصور تنظيمي واضح انعكس على مدى الحضور الجماهيري الضئيل لفعالياتها؛ لكنه مجهود يؤسس لأيام إن لم يكن لأسابيع قادمة حول «الطفل» كما قالت المؤسسة. وبالنظر إلى دور هذه المؤسسة الثقافي سنجده دوراً مهماً في مسار الحركة الثقافية اليمنية، وهو الدور الذي لم يهمل أي قضية ثقافية، بما في ذلك «ثقافة وأدب الطفل»؛ فقد حضرت هذه القضية في برامج المؤسسة، حدث ذلك في مرات نادرة واستثنائية كما يبدو لي. والأمر الآخر وهو مقلق للغاية يتمثل بشح الكتب المعنية بالطفل في مكتبتها الثقافية، إلى جانب غياب إصدارات للمؤسسة تعنى بهذا الجانب، خصوصاً والمؤسسة تبنت ما يزيد على 80 إصداراً ثقافياً على مدى سنواتها العشرين. ويأتي بعد ذلك دور مؤسسة السعيد الثقافية، وهي مؤسسة ذات إمكانات كبيرة تتجاوز إمكانات المؤسسات الثقافية الأخرى؛ لكن هذه الإمكانات لم تتحول بعد إلى فعل ثقافي مكثف، وتحديداً فيما يتعلق بـ«أدب الأطفال»، وأعني من حيث الإصدارات الكتابية، باستثناء حضوره كمشكلة في برامج المؤسسة على مدى السنوات الماضية. وما يمكن احتسابه لـ«السعيد» في هذا الجانب هو تبنيها لمهرجان «مرسم الأطفال»، وقد كانت خطوة متقدمة، لكنها لم تتحول إلى مهرجان سنوي كما أعرف. وسيكون من الإجحاف عدم الإشارة إلى إنشاء السعيد لإدارة خاصة فيها تعنى بثقافة الطفل، وهو ما يجعلها تتصدر المؤسسات الثقافية في هذا الجانب. أما بالنسبة للمؤسسات الأخرى فهي اجترار لبعضها، وتتفق في تهميش وإقصاء الطفل وأدبه من أجنداتها الثقافية، هذا إذا ما كان بحوزتها أجندة ثقافية.

إن تزييف وعي الطفل سيخلف تبعات خطيرة على مستقبل البلاد والأجيال القادمة؛ فمسألة إنشاء جيل مهتز معرفياً مكلفة، وكلفتها أكثر إرهاقا من عملية توفير أجواء صحية لتنشئته معرفياً، في بناء يعده لمستقبل مختلف لا يلتفت لغير المكتملين عقلياً.

الأمر بحاجة لإستراتيجية ثقافية معنية بالطفل برأيي، تبدأ من توفير إصدارات صحفية تعنى بالطفل في مراحله العمرية المختلفة، وتوفيرها بأسعار مناسبة، وقبلاً تعيين أشخاص يعون تماماً مسألة إعداد جيل مختلف في بنائه المعرفي، وإشراكه في رسم ملامح ما سيضخ فيه، حتى لا يكون متلقياً سلبياً، بل مشاركاً أساساً في إعداد مادته. ويبدو لي من المخجل بل من المعيب في حقنا أن تظل أربع مؤسسات صحفية، بإمكاناتها غير العادية، خالية من إصدار يعنى بالطفل؛ إنها قمة اللامبالة، وأعني إصداراً تتكامل فيه محفزات القراءة، بدءاً من نوعية الورق مروراً بالمحتوى وانتهاءً بالتقنية الفنية المتمثلة بالإخراج، وهي ثلاثة عوامل مهمة في تقديم عمل يعلق في ذاكرة الأطفال لسنوات وعقود قادمة.


أزمة الكتابة للطفل...  المتاح والمأمول
 
سماء علي الصباحي

 

تفتقر بلداننا العربية إلى وجود متخصصين في مجال الكتابة للطفل. ومسألة التهميش وغياب الوعي ليست لهذا النوع من الكتابة، بقدر ما هي استهانة بالجمهور (الأطفال) المقدمة إليه.

فهناك إحصائية تقول إن متوسط قراءة الطفل في العالم العربي لا يتجاوز 6 دقائق في السنة. وهو رقم لا يصدقه العقل، حتى من باب التندر!!!

يقول الدكتور عبد الله حسن منصور، في كتابه «مفهوم أدب الطفل قد تغير في عصرنا الحاضر»: «إن مفهوم أدب الطفل قد تغير من التركيز على حفظ التراث ونقله إلى الصغار، إلى تعويدهم على أسلوب التفكير بما يتناسب مع استعداداتهم العمرية والنفسية».

فالكاتب يغفل عن أن أول ما يجب أن يهتم به هو الطفل الموجهة إليه رسالته، وعن معرفته بمرحلة الطفل العمرية؛ لأن هذا هو ما سيساعده على اختيار الموضوع ونوع الشخصيات وكمية المعلومات وكيفية تقديمها؛ باعتبار الأطفال شرائح عمرية (أربع شرائح كما ذكرها أغلب الكتب المهتمة بالطفل)، لكل شريحة خصائصها ومفرداتها واحتياجاتها.

فالطفل له كيانه وعالمه الخاص، وعلى الكاتب عند كتابته لهذا النوع من الكتابة أن يفصل إدراكه الحالي، وألاَّ يتعامل مع الطفل باعتباره «رجلاً صغيراً»، ومهمته (أي: الكاتب) تبسيط المفاهيم الحياتية له؛ وإنما عليه أن ينقل للطفل ما يناسب قدراته ويلبي حاجاته.

وأدب الطفل بأنواعه المذكورة (قصة، شعر، مسرحية..) يسهم في تحديد ملامح الطفل وتنمية مهاراته المعرفية والثقافية، كما يسهم أيضاً في صقل موهبته؛ لذا يجب الانتباه للنصوص الموجهة إليه، بحيث لا تهتم بالمعرفة فقط، وإنما بالخيال والمتعة والتشويق؛ حتى لا يقارنها الطفل بالأسلوب المدرسي الإجباري؛ ليقبل عليها طواعية ويبحث عنها أينما كانت.

وقد يعود السبب الرئيسي في نقص الوعي بأهمية الكتابة للطفل إلى غياب المنهج الأكاديمي لهذا النوع من الكتابة ووضعها مادة أساسية تدرس في المعاهد والأكاديميات الأدبية والفنية والثقافية، واعتباره فناً له أسسه ومعاييره الخاصة؛ لترسيخ بنية من الكُتَّاب المتخصصين في هذا المجال.

فقد يتبادر إلى أذهان البعض أن الكتابة للطفل أمر سهل مقدور عليه، وأن باستطاعة أي كاتب أن يكتب له؛ بينما هو من أصعب الكتابات، كونه يخاطب طفلا في مراحل نموه المختلفة، فيمزج بين التوجيه والإمتاع والخيال والإقناع والحساسية في انتقاء الكلمات.

وهناك من يقول: «لماذا لا نكتفي بالقدر الموجود من أدب الطفل، مادام الطفل هو الطفل؛ مواضيعه وحكاياته لا تتغير؟!!»، ناسين أن طفل اليوم أصبح على معرفة واسعة بالتعامل مع التكنولوجيا بكفاءة قد تفوق الكبار أحياناً.

وهذا ما هو إلا تأكيد على الاستهانة بقدرة الطفل الاستيعابية واستغفال ذكائه.

ما يجب أن نبحث عنه هو كيفية تعديل الصيغة الثقافية الموجهة للطفل، وتقديم النصوص بصورة فنية وجمالية لتنمية الذوق الطفولي، بدءاً من الكلمات والألوان والصور ونوع الحرف (بالنسبة للقصة والشعر) والموسيقى والأزياء والتوزيع المنطقي داخل المسرح.

وأعتقد أن عقد دورات وندوات لمعرفة رأي الأطفال فيما يقدم، وإشراكهم في تقديم الأفكار، سيساعد حتما في معرفة ما يحتاجه الطفل ويرغب في معرفته ورؤيته. فالاحتكاك معهم وتسجيل تصرفاتهم العفوية يسهل على الكاتب الوقوف على اهتماماتهم ومعرفة ميولهم.. وكما تقول الباحثة التربوية نعيمة كراغل: «إن أنجح من كتبوا للطفل هم أولئك الذين قضوا أوقاتاً طويلة مع عالم الطفولة».

إضافة إلى مسايرة التطور التكنولوجي، في خدمة موضوع الخيال بالذات، وترجمة الكتب التي تتحدث عن فن الكتابة للطفل.

كما أن الجرأة في تقديم المواضيع مطلوبة، وعدم التحرج من الطفل، الذي أصبح في متناوله وسائل عديدة لإرضاء فضوله واستقصاء تساؤلاته، وكيفية توظيف اللغة الحوارية عوضا عن لغة الإرشاد والوعظ.

ومن أهم الاقتراحات لتنشيط هذا النوع من الكتابة في رأيي:

- تشجيع الكُـتَّاب الموهوبين في مجال الكتابة للطفل على الاستمرار وتكريمهم المستمر من قبل المؤسسات الأكاديمية والثقافية.

- إقامة ورش عمل لتعليم وتأهيل الراغبين والموهوبين في فنون الكتابة والرسم للأطفال.

- الاقتباس من القصص الغربية والاستفادة من المخيلة العربية في جعلها ملائمة لواقع مجتمعاتنا، مع استمرار تقديم أساطيرنا العربية وحكاياتنا الموروثة لهم.

- دعم دور النشر المهتمة بأدب الأطفال من خلال الوزارات والمؤسسات الثقافية.

- تجديد شكل الكتابة؛ كون الطفل معرضا للتحديث الرقمي والحداثي المستمرين.