نصوص سردية
حكاية «بيتاجورسك»
()
إلى
«راية»... الشاعرة البلطيقية التي عرفتها هناك.
عبد
الودود سيف
شاعر من اليمن
يحكى أن أحد القياصرة كان شديد الغيرة على نسائه، فما ينام إلا بعد أن يقوم
بجولةٍ تفتيشية على مقاصير نسائه، وإلا بعد أن يتأكد بنفسه تماماً، بأن أياً
منهن لم تنزلق من تحت غطائها، فتكشف –وهي نائمة- عن جزء من جسدها الذي أقسم ألا
يراه إلا هو، وإلا البدلة الداخلية المخصوصة لها.
ذات ليلة، كان يقوم بجولته التفتيشية المعتادة، فرأى ضوءاً في إحدى
المقصورات، وهرول نحوه، فسمع ما يشبه الهمهمة. اقترب على رؤوس أصابعه، حتى لامس
الباب، وأصغى فسمع ما يشبه الشعر.
دارت في رأسه الدوائر، وأخذت تتسع شيئاً فشيئاً حتى استقر في ذهنه بأن الذي
يسمعه ليس شعراً، ولكن شيئاً يشبه في ضجته أغاني «الأوبرا»، وأن الذي يغنيه ليس
صوت واحد، بل جوقة كاملة من المغنين والمغنيات.
وأخذ يصغي والدوائر تزداد في دوارها اتساعاً، حتى أيقن بما لا يدع مجالاً
للشك، بأن ثمة فرقة مسرحية قد انتقلت إلى قصره، وحولت مقصورة «الوصيفة» إلى
مكان لعرض أدائها، في تلك الليلة.
وبلمح الضوء تحول اليقين إلى حرب واسعة في أعصابه، وأخذ يفكر في طريقة ينفذ
بها إلى المقصورة من ثقب المفتاح، وفي طريقة يحشر بها، من بعد، كل أعضاء
الفرقة، والوصيفة معهم، في الثقب ذاته.
وفي آخر لحظة غيَّر رأيه، ورأى أن يقتحم الباب ويرمي بأعضاء الفرقة
والوصيفة من شباك النافذة.. ولكن من دون أن يعرض نفسه للفحة برد محتملة.
رسم شارة صليب في الهواء، وطلب –من دون لا يدري لماذا- من القديس «يوحنا»
أن يتدخل معه، ويلهمه بإضافة قوة عشرين حصاناً إلى قوته الخاصة التي لم يتسع له
في تلك اللحظة قياسها على وجه الدقة، حتى يقتحم الباب بأفضل وأفجع طريقة مذهلة
ممكنة.
وألهمه «يوحنا» -فعلاً- بضعفي القوة المطلوبة، وتحقق له ما أراد. غير أن
المفاجأة التي لم تكن متوقعة، هي أنه لم ير فرقة أي مسرح، من المسارح الكثيرة
التي راودت ذهنه، بل رأى أنثى بكامل رقتها، تسقط من يديها من هول المفاجأة،
كتاباً صغيراً يحمل اسم «لرمنتوف». كانت أكثرية الفرق العسكرية التي أدارت رحى
حربها في أعصابه، قد عادت إلى ثكناتها، وأوشكت نيران الحرب أن تسكت مدافعها
تماماً. لكن ما أن رأى على الكتاب الملقى على الأرض اسم «لرمنتوف» حتى أمده
«يوحنا» من جديد بطاقة ثمانين حصاناً آخر. وعادت الفكرة السابقة إلى ذهنه، كي
يحشر العاصية في ثقب مفتاح الباب.
ومن دون أن يدري متى ولا كيف، رأى الجسد الأنثوي الرقيق يسيل. كل ماء
عذوبته في صوت جميل متواضع، وانحناءه أكثر تواضعاً، ويأخذ في مخاطبته. لم يدر
ما قاله الصوت حقيقة، فقد كان يتابع في تلك اللحظة الفرقة العسكرية، وهي تعيد
أدراجها إلى «ثكناتها» ثانية، ويتابع «يوحنا» وهو يصرف الأحصنة والبغال التي
كان قد جلبها.
قلَّبَ أوراق الكتاب، وهو يتهدد الضحية المفجوعة، ويتمتم بسرعة فائقة
مكرورة: «ها.. لرمنتوف» وظل يكررها، حتى أشيع أن «لرمنتوف» تضايق في تلك اللحظة
من الطنين المدوي في أذنه اليسرى.
راح الجسد الشاعري ينتفض مستغفراً، وصاحبته تتساءل أسئلة منتفضة لا تدري
كنهها، حتى قررت أخيراً أن تستجمع كل قواها وتسأل سؤالاً واحداً معيناً. ولكن
من أين لها أن تجمع طاقتها المبعثرة ومن يعينها؟ قررت في آخر لحظة أن تستعين
بقديس آخر، لم تتذكر اسمه تماماً، ولكنها قررت –من دون لا تدري- ألا يكون
القديس «يوحنا». واستجمعت طاقتها وسألت: أية خدمة تستطيع خادمتكم أن تؤديها لكم
في هذه اللحظة؟
وببلاهة وجد نفسه، وقد عاد لسابق طبيعته قبل عصور الطوفان، يسأل: ما هذا؟
- لقد كنت أقرأ يا سيدي، فأعجبتني قصائد الديوان، ورحتُ من دون لا أدري،
أترنم بها.
- (وقد عادت له بعض الأحصنة الشاردة) ولكن لماذا لرمنتوف؟ وواصل: لقد أفسد
هذا الذبابة نصف شعبي، قد يهم الآن أن يغوي إحدى نسائي أيضاً؟ كيف تجرأ أن
يقتحم الأسوار والمنازل والأبواب وينسل في مثل هذه اللحظة القطبية، من صقيع «بطرسبورج»،
من بين عيون الجنود والحراس، ويصل إلى قصري؟
- ولكن سيدي، يوجد في رفوف كل المكاتب، بما في ذلك مكاتب القصر، وحتى
مكتبتكم الخاصة، ما لا أعرف عددها من نسخ هذا الديوان.
- مهما يكن لا يجوز لمثلك أن تتشبث بتلابيب فتى أحمق كـ«لرمنتوف». بل ويجب
-مهدداً- أن يوجه هذا التشبث إلى عنقي أنا. أنا الذي يحرص عليكن مثلما يحرص على
عُدة الرجولة في فخذية!
- (بابتسامة وبنعومة ألقته من على ظهر حصانه الأوحد الذي ظل مشتبكاً في
عضلات جسمه) ولكنكم أنتم بكاملكم في داخلي، وتفيضون إلى خارجه في عقصات جدائلي،
وفي مراياي وكحلي وكامل أدوات زينتي.
- (متنهداً) إذن لماذا لا تقرئي شعري بدلاً من أشعار هذا اللرمنتوف؟
- لتخسف بي الأرض أو تقتلع الريح إحدى حلماتي إذا كنتُ أعرف أنكم تكتبون
شعراً، ولا أجري في سلالم القصر أو أنبش بين ما تساقط من أوراق الشجر الجاف،
باحثة عنه. فأعبه، وليس فقط أقرؤه، كما أعب أطيب كؤوس النبيذ المعتق، أو كما
أردد أحلى التراتيل المقدسة!
- (مبتسماً وكأنه مازحاً) أو ليس القرارات التي أصدرها والأوراق التي
أمهرها بختمي شعرا؟
- (ضاحكة) فهمت! ولكن ذلك شعر لا يشبه الشعر الذي نسميه شعراً.
- (منتفضاً) تعنين بوشكين ولرمنتوف وأمثالهما؟
- تماماً يا سيدي.
- (مقلباً عينيه نصف المغمضتين في الجو) هؤلاء من نسميهم -مشمئزاً-
بالشعراء يتخيلون الأحلام، ويسجلونها على الورق على أنها شعر. أما نحن الملوك
فإننا نكتب خيالاتنا بشكل قرارات ينتفع منها الشعب. قرار أصنعه يغير مجرى أحداث
الإمبراطورية بكاملها. أما دواوين الشعراء مجتمعة فلا تؤكل حتى وإن حشيناها
بالملح والبهار والزعتر. أليس ذلك حقيقة؟
- (ممتعضة ولكن بأدب جم) ربما!
- مادام وافقتيني فقد عفوت عنك. على ألا ترجعي إلى تكرار ما فعلت، مرة
ثانية. أما هذا «اللرمنتوف» فلي شأن آخر معه!
* * *
مهموماً ظل القيصر طوال ليلته... يفكر في توقيع أنكى عقوبة ممكنة، ينزلها
بالشاعر «لرمنتوف». وقرر من دون أن يتدخل «يوحنا» هذه المرة في إعانته بأن
ينفيه. ولكن كيف؟ وإلى أين؟ إن «سيبريا»، في هذه الحالة المخصوصة، قد تكون
مكاناً للنزهة! وهو يريد ما هو أفظع من «سيبريا».
ولأيام وليالٍ عديدة مضت، والقيصر ما يزال مهموماً في العقوبة الدامية
الممكنة التي عليه أن ينزلها بالشاعر «لرمنتوف»، وفي لحظة مباغتة هداه الوحي
إلى اتخاذ قراره. وأخذ يحدث نفسه بصوت مسموع: لأقلقن أيام سنواته القادمات
بأصوات غربان «القوقاز»، ولأجعلنها تتخطف عليه أفكاره، وتقعي بأصواتها المنكرة
في موسيقى قصائده الحالمات. وإمعاناً –يحدث نفسه- في تأليبه على الثورة ضد
نفسه، سأحرمه من طعم عذوبة الماء، وأجعله يتحمم في مستنقعات «الكبريت»، ويبلل
صوته بلسعة حرقة الكبريت، وأجعل لمذاق الفودكا في لسانه وفي جشأة أمعائه طعم
الكبريت. وقرر أن ينفيه إلى «بيتاجورسك».. المدينة الجبلية الواقعة على سفح
بركان كبريت، والمعروفة بينابيعها المعدنية... ذات الطعم الكبريتي المتميز.
* * *
قال الراوي: لا أدري متى ولا كيف قرأت هذه القصة. ولكنني أقسم بآخر ما تبقى
من رماد القيصر، الآنف الذكر، إن كان ثمة بقية رماد يذكر في تاريخه، بأنني قد
بُليت –بعد قراءة هذه القصة- بأضعاف ما بلي به «القيصر» نفسه، وأصبحت لا أرى في
حياتي «حُق» كبريت، إلا وتذكرت مأساة لرمنتوف. وما اشتعل عود ثقاب مرة، إلا
وتمنيتُ أن يطفأ في ما تبقى من رماد هذا القيصر الغيور. حتى لقد أطلعت بمحض
الصدفة، ذات مرة، على كتيب من إصدار الأحرار اليمنيين بعنوان «هكذا يذبح
الأحرار في اليمن»، فانتصب شعر رأسي، في بادئ الأمر، ثم لما تذكرت «بيتاجورسك»
وأصوات الغربان وطعم الكبريت، عاد شعر رأسي إلى مكانه ثانية. وما أذكر أنني
سمعتُ، في أية مرة اسم مليك أو إمبراطور، أو سلطان، إلا وتذكرت محنة الشعراء.
وقد اتسع الزمان بين قرأتي لهذه القصة، وبيني، ونسيتها تماماً، أو كدت. فقد
عرفت في أصناف حياتي من الموجعات ما يشابه أو يقارب هذا الوجع المخلوط بالغيرة
وبينابيع حقول الكبريت.
* * *
فجأة، ومن دون سابق ميعاد، وجدت نفسي في مطار «موسكو». كان ضابط الجوازات
يحدق في وجهي للتأكد من أن صورتي في جواز سفري، مطابقة لوجهي الحقيقي، وأنا
أحدق في وجهه، وأحاول أن أقرأ في ملامحه، ما إذا كان من الملائم لي بأن أسأله
عن «بيتاجورسك». وقررت في آخر لحظة الانصراف عن سؤاله، هذا السؤال.
وكم كان لطيفاً ذلك العامل الذي ساعدني على نقل حقائبي في المطار، وتجرأت
على سؤاله: الآن أنتم تنعمون بحكم مجالس «السوفيات»، لكن أخبرني، من فضلك، ماذا
عملتم بمنفى بيتاجورسك؟ ألم تزحزحوها من خارطة «الوطن السوفيتي» إلى خارجه
قليلاً؟ وابتسم العامل الطيب، دلالة على عدم فهمه للسؤال، وتأكد لي من خلال
ابتسامته الطيبة، بأن «بيتاجورسك» قد محيت من الخارطة تماماً.
وفي مكتب استقبال الفندق الذي نزلت فيه، لم ترق لي تماماً معاملة الموظفة
الحسناء في مكتب الاستقبال، فقلت في سري: لعلها اكتسبت تلك الخشونة من مقام
نفيها، قبل الثورة، في «بيتاجورسك».
وكانت ليلة فرحة، تلك الليلة التي سهرت فيها في مطعم الفندق، الذي نزلت به،
حيث رأيت الفرحة تكسو كل الوجوه، المنتشية والراقصة في المطعم وأُعتقدت جازماً
بأن تلك الليلة البهيجة، ربما كانت ابتهاجاً بزوال ذكريات بيتاجورسك.
حاولت في الأيام الأولى من إقامتي في موسكو، أن أسأل السؤال إياه: «وماذا
عن بيتاجورسك؟» فاكتشفت أن معلوماتي «الجغرافية» أوسع بما لا يقاس من كل أولئك
الذين قابلتهم، وسألتهم عن «بيتاجورسك».
هذا يوم عليّ أن أجعله بديلاً لذكرى يوم «مولدي»، الذي ظللت أجهله قبل ذلك،
تماماً حتى قررت أن أعوضه بذكرى هذا اليوم الخالد.
أنا الآن في الطريق إلى اجتياز عتبة إحدى العيادات الطبية الشهيرة في
موسكو. رأسي منتفخ مثل قربة مطاط. وأمعائي إما أنها قد سالت تماماً، في بعض
موجات القيء التي انتابتني قبل الوصول إلى العيادة، أو أنها قد طليت بسائل
مسحوق الكبريت.
من رأى منكم قصيدة بناهدين؟ أو من رأى منكم أنثى قد طُليتْ من العنق إلى
الساق برغوة موج البحر؟ لا أظن أحدكم رأى مثل ذلك. وأغلب الظن إذا رأى شيئاً
شبيهاً بالأنثى التي رأيتها، فقد تكون صورة لتلك النساء الأسطوريات التي تسمى
-عادة- بحوريات البحر.
أما أنا الإنسان الكامل المشفي من كل أوجاعه وأوهامه معاً، فقد وجدت نفسي،
لأول مرة في حياتي، ممشوقاً كحرف «ألف»، أتطلع في صورة تلك «الحورية» القصيدة،
التي أخبرني مرافقي، بأنها «الدكتورة» التي ستتولى الكشف عليّ. قالت لي: من
ماذا تشكو؟ قلت: أشكو من حرب ثالثة اشتعلتُ بها فجأة، وأنا أدخل عتبة هذه
العيادة. قالت: سنريحك منها بالذهاب في رحلة استجمام إلى «بيتاجورسك». أيتها
الشياطين التي تهبط مقنعة بالتعاويذ، ويا موجات القيء ويا أمعائي المنخولة، ويا
ألمي الذي استندت عليه، واستند عليّ طوال حفلات الغبار الدموية في حياتي،
أرجعنََّ إليَّ جميعكن في هذه اللحظة، وهيئنَّ لي مقعداً في الدنيا الآخرة، قبل
أن أسمع هذه الكلمة الشيطانية تمزق طبلة أذني، ثانية.
أوشكت أن أهتف «بالقيصر» الغيور، أن يسوي حسابه مع هذه «الأنثى»، التي لا
أشك مطلقاً، بأن كحلها النفاذ. ليس سوى من خضاب عيون إحدى الحيات القارسة.
قلت لمرافقي: دع المرأة تنعم بميراث جدتها «حواء»، ودعها تعاني من بوارها
المؤكد معي. لا أدري ماذا أخبرها المرافق. ولا ماذا أخبرته، فقد كنت أفكر في
تلك اللحظة بعدد عيدان الثقاب التي وخزتُ بها جثة ذلك القيصر المسكين الميت.
وبينما المرافق والمتحدثة مشغولان في حوارهما الخاص، كنت أتلمس بقية جسدي،
فأرى أن مأذنة حرف «الألف» قد دكت من قعرها، وأصبحت كومة مخلوطة مثل حرف
«الهاء». غير أنني رأيت الأنثى تخرج من حطامها بغتة، وتنتصب أمامي شيئاً
فشيئاً. خرجت -أولاً- من حلزون حرف «الهاء»، الذي سرى إليها أو إليّ بالعدوى،
وجاوزت -ثانياً– باعتدالها حرف «الألف»، ثم طالت وطالت كمسلة فرعونية عاتية.
كيف أقنعتني؟ لا أدري! لكنني –وقد أكون مخطئاً- رأيتها تدخل يديها في الشق
الأيسر لصدرها، ثم تخرج من المكان المعتاد للقلب، شيئاً كروياً بحجم قبضة الكف.
أحمراً كان، أخضراً كان، أزرقاً كلون البحر، قوساً كاملاً من خطوط قوس قزح كان.
فجأة قدمتْ تلك الكرة القزحية إليَّ، وحدقتُ بها. فقلت: لعلها زهرة أرجوان.
اتركيني لشواردي وفيض نتؤاتي أيتها القصيدة الملعونة. قالت: إنها هديتك
بمناسبة استعادتك ذكرى يوم ميلادك! أوشكت أن أهتف: أنها التفاحة. التفاحة
ذاتها. تفاحة أبي آدم الملاحق باللعنة. حسبتها تقول: الطريق الآن صعوداً، بعد
أن كان هبوطاً. تلك تفاحة الخروج. وهذه تفاحة العودة للفردوس ثانية. قلت في
نفسي: وماذا يضرك أيها الفتى؟ إن عدد من يموتون بالسعال في الشرق، أضعاف من
يموتون بتصلب الشرايين في الغرب. فلماذا لا تظن نفسك القديس «فان جوخ» في أفضل
الأحوال، أو «دون كيخوته» في أسوئها. إقبلْ بأن تعاد فكرة «الأضحية»
-الإبراهيمية- إلى العصر الحديث من جديد، وإما أن تعاد لك «روحك» أو تذهب
طواعية مع روح الفدية. وقبلتُ نعم والله قبلت بأن أجي أطلال «بيتاجورسك» لمرة
أخرى في حياتها.
«بيتاجورسك» مشروع خيالي لإبتناء مدينة بشكل عش، شبيه بأعشاش العصافير، لكن
بدلاً من أن يبتني بأعواد القش اليابسة، فالأصل –في الفكرة الجديدة- أن يبتني
بنسيج الأغصان الخضراء.
تدخل –أول ما تدخل- إلى «بيتاجورسك» فترى سلسلة من الهضاب الواسعة،
المنصوبة على صدر القاع بشكل أثداء. وتحدق فيها فتتذكر على التو أي سلسلة جبال
متراصة، في بلد جبلي آخر. فقط الجبال التي قد تراها، في أي مكان آخر، هي في
صخور الجرانيت والبازلت. أما جبال «بيتاجورسك» فهي من المرمر والعاج الأخضر.
وأكثر ما يحيرك ويدهشك أن أشعة الشمس المنسكبة في تلك البقاع. لا علاقة لها
بأشعة الشمس الصفراء والحمراء والبيضاء التي عرفتها، وتعرفها في أي مكان آخر.
بل هي شمس خضراء زرقاء، كاملة الشبه بزرقة أو خضرة البحر. والمعنى الحرفي لـ «بيتاجورسك»
هي «الخمسة الجبال» كل جبل منها يصلح إذا أعيد بريه أن يكون مخدة للنوم.
إذن سأزهو، وأنا أحصي أمجادي القليلة بأنني أكثر أهمية –بما لا يقاس- من «كولمبوس».
لكن ذلك الأسباني- البرتغالي اكتشف أمريكا. أما أنا فقد اكتشفت «الفردوس
المفقود».
معذرة سيدتي. معذرة سيدي القيصر، أنني جدَّفت بحقكما أكثر من المعتاد! أما
أنت أيها «اللرمنتوف» فقد عشت منفاك بأضعاف ما يعيش شعراء هذا اليوم نعمهم
البالغة الإحباط.
تحية لك... أيها الكبريت الذي شاغلتَ لأحقاب طائلة أحلام «برمثيوس» وأخطأ
طريقه في الوصول إليك.
|