نصوص سردية
شمس
()
همدان زيد دماج
شاعر وقاص من اليمن.
الساعة الواحدة بعد الظهر... يتأهب الناس للغداء في مثل هذا الوقت، ومن ثم
لبدء المقيل اليومي. الشمس تتعامد على رؤوس المارة. كانت ساحة الجامع قد خلت من
حشود المصلين والباعة المتجولين الذين عادة ما تكتظ بهم بعد صلاة الظهر ولوقت
قصير قبل أن يتفرقوا تاركين الساحة مليئة بالأوساخ المختلفة. السكون يعود إلى
الحارة تدريجياً... كنتُ منتظراً ظلاً يرتسم كل يوم، في مثل هذا الوقت، على
رصيف منزلنا الذي يطل مباشرة على ساحة الجامع. أشاهد صاحبته من نافذة "ألومنيوم"
كثيراً ما ألعن عدم وضوح زجاجها المتسخ. أنتظرها بقلق، وأتوقع بين الحين والآخر
أن يناديني أخي الصغير زاعقاً:
- يا الله... غداااء!
كنت قد أدمنت هذه العادة منذ لاحظت وجودها لأول مره في حارتنا... أظل
منتظراً خلف الزجاج المتسخ لظلها الذي عادة ما يرتسم على الرصيف قبيل الغداء
بقليل. لا أعرف أين تسكن، لكنها تنعطف يميناً عند بداية الشارع المقابل. مازلت
أجهل حتى اليوم لماذا لم أجرؤ يوماً على اللحاق بظلها وهو يختفي لأعرف أين
تسكن!
* * *
هل شدني شعرها المنطلق، الذي يتدلى حتى منتصف ظهرها المستقيم...؟! لا
أدري..!! كانت تشق صدر الحارة بوثوق، وبدون حجاب..!! نعم، في حارتنا المظلمة
بشراشف نسائها السوداء..!! كنت أتأملها طويلاً، أمعن النظر بتقاسيم وجهها
الوضاء وجسمها الرشيق الممشوق، فتنطبع صورتها في مخيلتي طويلاً وأنا أحاول أن
أتلمس خطواتي بصعوبة في صفحات الكتب وملازم المراجعة تأهباً للامتحانات
المرعبة.
أنظر في ما تبقى من مرآة الدولاب... وأتأمل بفضول البثور التي بدأت تغطي
وجهي. كان أقراني في المدرسة يتبادلون أفضل الطرق للتخلص منها، لكنني لم أكن
آبه بها مطلقاً... ها أنا الآن أتفحصها، وأدرك حجم التشويه الذي تلحقه بوجهي.
أصبحت أُريده نظيفاً، جميلاً، لائقاً بأن يعجبها يوماً ما... شعري الجاف
والمكتظ بدأ أيضاً يعرف طعم كريمات الشعر التي كان يسمع بها فقط... أعرف أنها
تكبرني سناً وربما حجماً أيضاً، لكن كل ذلك كان عادياً في علاقات الأحلام
اللذيذة.
* * *
هاهي قد أتت! تلبس تنورة طويلة تعكس قوامها الرشيق، وقميصاً أبيض بكُمٍّ
قصير مفتوح الصدر باحتشام عجيب... تحتضن ملفات جامعية على صدرها وتسير بخط
مستقيم لا يستطيع حتى "الأستاذ عبد الهادي"، مدرس الرياضيات، أن يرسم مثله على
سبورة الفصل المشقوقة.
كنتُ أتعمد الخروج من المنزل في ذلك الوقت لشراء خبز الغداء من الفرن
الواقع أسفل الحارة... كم كنت أهوى مشاهدة الفرّان وهو يقوم بحركاته الآلية
بإدخال العجين المدوّر وإخراجه أقراصاً منتفخة بهواء ساخن! لكنني لم أعد أهتم
بذلك الآن. أفكر فيها وأنا ألتقط الأقراص بحذر وأدخلها الكيس البلاستيكي الذي
عادة ما يذوب من حرارة الخبز. يراودني أملٌ مخيف بعض الشيء، فقد ألتقيها مصادفة
ذات يوم! ماذا ينبغي عليّ فعله؟! لا أدري!! أفكر في ذلك أثناء ذهابي للفرن وفي
طريق العودة.
* * *
كنتُ في طريق عودتي إلى المنزل... لم أرها منذ فترة طويلة... أحمل كيساً
بلاستيكياً منتفخاً بحرارة أقراص الخبز الساخن... وفجأة لمحت شعرها من الخلف..
حاولت اللحاق بها لأتمعن عن قرب بتفاصيل جسدها الطويل وتقاسيم وجهها الساحر...
كان سكان الحارة ينظرون إليها بفضول متوقع، لكن خطواتها السريعة والواثقة كانت
كفيلة بردع أي فكرة قد تطرأ لأحدهم بمضايقتها... يكتفون فقط بالنظر إليها من
بعيد وهي تنعطف يميناً عند بداية الشارع المقابل... ربما كانوا قد ألفوا
وجودها!
حاولتُ الركض لألحق بها، فانفرط كيس الخبز من يدي وتدحرجت بعض أقراصه تحت
قدميها... التفتتْ إلى الوراء ورأتني... التقطتْ أقراص الخبز من الأرض وعادت
إليّ مبتسمة... وبرقَّة بالغة أدخلتْها الكيس... وربّتتْ على شعري كما تربّت
معلمة على رأس تلميذ مجتهد!! ثم، ويا لدهشتي! غمزَتْ لي شبه ضاحكة ومضت مواصلة
طريق عودتها.. يا له من خيال جميل، قطعه صوت أخي الصغير وهو يناديني زاعقاً:
- يا الله... غداااء!
لسنوات همتُ ولعاً بتلك الواقعة الخيالية، أقلّب أحداثها، وأخترع تفاصيلاً
جديدة ترسمها مخيلتي المراهقة ليلاً، قبيل النوم، لأعيش لحظات صارخة وحميمية،
لكنها مشروعة في علاقات الأحلام اللذيذة!!
* * *
لم تعد تأتي... ولم يعد ظلها يشق صدر حارتنا أو يذرع رصيف منزلنا...
انتظرته طويلاً لكن دون جدوى. بدأت أتردد على الشارع الذي اعتقدت أنها تسكن
فيه... سألتُ عنها بحذر... سألت عنها بجرأة... قيل لي إن اسمها "شمس"، وأنها
ليست شامية كما كنت أعتقد بل يمنية الأصل والفصل... وأنها لم تعد تسكن هناك،
"لقد غادروا الحارة منذ فترة...!". هكذا قيل لي... ومنذ ذلك اليوم لم تعد الشمس
تسطع على حارتنا التي فقدت بهجتها وهجم عليها الظلام... حتى الآن!!!
ظهيرة يوم أحد طويل،
لامبث – لندن 2005
|