العدد العاشر - ربيع 2010م

   
 

نصوص سردية
 

 الأطفال يسيرون إلى الأمام (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

                                                     محمد عبدالوكيل الجازم
                                                     قاص وكاتب مسرحي من اليمن

 

الجهات تنغرز في فراغات بعيدة، ولا شيء يتدلى من أنفاس الإضاءات سوى الغيوم، الغيوم المنفلتة من صداءات عائمة متعثرة عن جذورها. رذاذات تمجها المداءات المفتوحة كأفواه دواخلها ظلمات متوالدة. ماذا أقول الآن لأصابع العويل المتدلية في شعاب الروح؟ هل أقول:

صباح الشفق الداوي

            صباح الندى المكلل بأصباغ كابية

صباح الاشتهاء الذي لا يجيء؟

 

الأمكنة مليئة بنتانة الخوف. والوساوس المؤلمة لا يحرسها سوى العدم.

الغصون تضيء وتنطفئ دون اتزان. والأشجار الأسمنتية العالية لا يتساقط منها سوى قشور الطلاءات الورقية اليابسة. حضور يحاصره الموت؛ لا أقمار معشبة، ولا نجوم مشعة، ولا معاني لأحلام شيطانية... لا جنون، ولا وعي... ليس هنا سوى الجن، الذين لا يعرفون الحلال من الحرام

لا شيء في هذه الصباحات سوى جثامين الأناشيد المتكررة. هل أعرج إليهم؟ إلى من..؟ إلى الأطفال!! الأطفال الذين يحرضونني على الابتهاج. هل أذهب إليهم في المدارس التي أعمل فيها؟

الأطفال يشغلون

العالم بالأغاني

لكن الكبار يشغلونهم

بالأحقاد.

 

ها هم يعبرون الآن في الأرصفة المقابلة. إنهم يتقصدون الإيقاع بقلبي. يتقصدون الإيقاع بصورة الطفل الذي كنت، حين كنت أحلم بالتحليق عالياً.

لو كان العالم سجناً لكان الأطفال شبابيكه التي تسرب النور الشفاف. إنني من أولئك الذين يؤمنون بأن الأطفال أكثر قدرة على ابتكار المقاومة. إنهم الأعشاب الواقفة في وجه الريح ووجه البرد ووجه الظلام... يسقطون من الإعياء لكنهم سرعان ما ينهضون، ينهضون من أجل الذهاب إلى المدرسة. إنهم يشفقون على آبائهم، «فيبكرون» مع الشمس لمقارعة القبح. إنهم الجمال بهيئته الحقيقية، بشكله المكتمل. إنهم -على حد تعبير «ميلان كونديرا»، الروائي الشهير- «الجمال من غير قصد».

لم يحدث أن تسرب طفل إلى مصحة عقلية. لم يحدث أن ذهب طفل إلى السجن. الكبار هم الذين يحرضون الأطفال على الجنون، وهم الذين يدلقونهم إلى السجون، وهم الذين يصنعون عاهاتهم، وهم الذين يخمشون أفراحهم، وهم الذين يحطمون أيامهم...

الأطفال وحدهم يستطيعون ترتيب العالم، ووحدهم يدركون الحقوق؛ يقولون: هذا الشيء يعود لفلان من الناس، وهذا الشيء يعود لفلان... لا يميلون مطلقاً إلى المغالطات. كان أبي -طـيَّب الله- ثراه يقول لي: «الأطفال أحباب الله»، ويقول: «إذا فرّحت طفلاً دخلت الجنة»، ويقول لي دائماً: «الأطفال أمانة في أعناقنا».

لا أستطيع أن أنسى ابتساماته المنشقة من سماء لازوردية حين يرى طفلاً، فيحدق فيه ويقبِّل يديه وجبينه، ثم يستعيذ من شياطين الإنس، من العيون الخبيثة الناهشة، من سموم النساء السامة... وكان أبي يغالي في ذلك، فينصح الأمهات بأخذ الحيطة والحذر، فيقول لامرأة ما: «اعملي لصغيرك رُقْـيَة، ويقول لأخرى: «اعملي لصغير تعويذة من عيون البشر!».

وعندما كبرت أنا عرفت أن «أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض»، وعرفت أن الزبيري شاعر الأحرار قال فيهم: «إن اللصوص وإن كانوا جبابرة، لهم قلوب من الأطفال تنهزم»... والواقع اليوم أن اللصوص لم يعد لديهم قلوب، فكيف يمكن للأطفال أن يهزمونهم؟! كيف يمكن يا صديقي «لحرامي» في هذا الزحام أن ينظر إلى حائط تقف عليه عصفورتان.

العصفورة الصغيرة تقول

لشقيقتها وهي تبكي

والليل يسوق ظلامه

من كل الجهات:

- أين يمكن الآن أن نجد شجرة؟!

 

الآن وأنا أنظر إلى أرديتهم المدرسية الكاكية، وإلى حقائبهم المعمّدة بصورة «فُلّة» العربية أحياناً، والممهورة بصورة «سارة» الإيرانية أحياناً، والملحقة بصورة «باربي» الإنجليزية أحياناً... أحس بأنهم إنسانيون إلى أبعد حد. وأنا بينهم أتذكر كل الحقائب التي استخدمتها في طفولتي من القطعة القماشية التي خاطتها أمي إلى الحقيبة التي حصلت عليها في مؤتمر اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين التاسع. أتذكر الآن كم عدد المساطر التي استخدمتها، وكم ممحاة، مثلما أتذكر أقلام الرصاص، وعدد الدفاتر التي كانت تتقدمها صور «عبدالناصر». أتذكر الكراسي، والطربيزات، المدرّسين، المدراء، الوكلاء، والمشرفين... وأتذكر نفسي التي تتناسخ الآن في أطفالي وفي الملايين من الأطفال.

 

تركض الجبال من الرعب

فيرتعش الأطفال من الحمى الليلية

لمجرد أنهم يتذكرون

صياداً شبيهاً بذئب

صياداً يلقي برصاصاته المتشظية

في وجوه العصافير.

 

أحسهم ينظرون إليّ، يتعمدون أن تتلاصق أعيننا كأنهم يريدون استدراجي إلى الحكاية، حكايتي مع الغربة المملوءة بالأكفان، حكايتي مع الحرائق المطاردة لملاءاتي وألحفتي وأسرّتي، حكايتي مع الإيدز الخفي، المنتظر دائماً عند سلالم العمارة المظلمة، «حكايتي مع سارس» النهارات، مع الأعداء الذين أظنهم دائماً وهميين وهم أقرب من حبل الوريد، وعن هزائمي المتلاحقة التي ترد صداءاتها زغاريد الكهوف الخلفية... لكنني لست تافهاً إلى هذه الدرجة بحيث أوزع عليهم لغة الاستلاب، ولست تافهاً حتى أحدثهم عن التقهقر والضياع. لأكن متماسكاً، فأحدثهم عن الواقع بلغة الرفض والمقاومة. لن أزيف شيئاً، ولن أجمل شيئاً. عندما يلحون في النظر أقول لنفسي إنهم ينظرون إلى الحقيبة التي أعلقها فوق كتفي مثلما يفعلون. لكن الأمر تغير الآن، لذا سأحكي لهم عن الحمامة المغامرة، تلك التي خرجت من الغابة باحثة عن شجن جديد وحياة مدنية فوجدت ذلك بين مساجد تعز الرسولية.

 

سوف أحكي لهم عن «ديك القرية ودجاجة المزرعة»، الديك الذي فرّ من القرية وذهب إلى المدينة، وهناك أحب واحدة من دجاجات المزارع، تزوجها ومعه رحلت إلى القرية، لأنها آمنت بقضيته، وهناك عاشت معه حتى ماتت.

 

سأحكي أكثر من ذلك، لأنني أحسهم يدورون حولي وأمامي وخلفي وعلى جانبي... إنهم يقيسون حجم نقاوتي وحجم حلمي وحجم حزني... لا يذهبون مطلقاً إلى حجم خبثي وحجم كراهيتي؛ لأنهم مفطورون منذ البداية على رؤية البوصلة في اتجاه الجمال. أمرُّ بينهم، كأني تنمنمت. أغتسل بضحكاتهم. أتنشف بخطواتهم. أخطو على موسيقى أجفانهم. وبواسطة أعينهم أطير إلى السماوات العالية. بأسنانهم اللبنية أتلمس أعطاب دواخلي، فأجردها من الحزن. بأفراحهم الحقيقية أرمم الروح من تشققات الهواء. أحسهم يطيرون مثل النوارس البحرية، يحفرون في الماء حتى يعثرون على المبتغى. أراهم يسقطون على صدري من الأروقة مثل حبات المطر، ويهمون على طرقات مثل أوراق العطر. أتدثر بلحاف ابتساماتهم هروباً من المدن الهمجية ومن وحشة الشتاءات المسيّجة بالأرواح الشريرة.

 

الأطفال يسيرون إلى الأمام، والكبار يسيرون إلى الخلف.