العدد الثاني - ربيع 2007م

   
 

شهادات
 

مع نازك الملائكة قبل عشرين عاما (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

عبد الرضا علي
 ناقد وأكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا.

ً قبل أن أكتب أطروحتى عن نازك الملائكة، وخلال مرحلة جمع الجزازات لتثبيت ما لها وما عليها، كتبتُ لها رسالة، حيث كانت تقيم في الكويت سنة 1986، أشعرتها فيها برغبتي في الحصول على بعض الإجابات والمقالات، موضحاً هدفي في تأصيل القول في نظريتها النقدية برمته، سواء ما كان متعلقاً منها بحركة الشعر الحر، أم بغيرها، كشعر الشطرين، ومحاولاتها في ابتداع المصطلحات النقدية والأوزان الشعرية الجديدة، وما تعلق من نقدها بالرواية والمسرح، وغير ذلك. وطلبتُ منها تزويدي ببعض كتاباتها التي عزّ عليَّ الحصول عليها، لا سيما تلك التي نُشرت في مجلات تباعدت زماناً ومكاناً.

ولم يدم الانتظار طويلاً، فسرعان ما وصلني جوابها، وقد أرفقتْ بهِ سيرتها الذاتية التي وسمتها بـ"لمحات من سيرة حياتي وثقافتي"، ومعظم ما طلبتهُ من مقالاتها. ثم توالتْ رسائلي التي حملتْ بعض ما عنَّ لي من أسئلة خلال القراءة. لكنّ الذي كان يتولى الرد عليها كتابياً (بعد رسالتها الأولى) زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة، وكان رقيقاً دمثاً مجاملاً، كصديقٍ قديم، يشعرني، بعد المقدمات، أنّ ما يكتبهُ ليس سوى ردّ نازك. ومع ذلك كنتُ أظنُّ أنّ في بعض الردود توجيهاً يعود إليه، لا سيما ما كان منهُ مما تعلّق بتهمة الارتداد، والخروج على المنطلقات الأولى لحركة الشعر الحر.

وحسماً للشك، وإبعاداً لإثم الظنّ، وتحقيقاً لفرصة اللقاء بها وجهاً لوجه، قرّرتُ السفر إلى الكويت لمناقشتها في بعض ما رأيته حريّاً بالمناقشة. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفنُ؛ فلم تمنحني سفارة الكويت ببغداد تأشيرةً لدخول الكويت!

وحين التقيتُ الأستاذة الدكتورة خديجة الحديثي، وهي الصديقة الأثيرة الحميمة لنازك الملائكة، المطّلعة أكثر من غيرها على سيرتها وخصوصياتها الحيوية، وجدتُ عندها الكثير من الإجابات التي تعلقتْ بالسيرة الذاتية. أما ما تعلق منها بالفن والإبداع والنقد، فإن الدكتورة الحديثي تعهدتْ شخصياً بمساعدتي في تحقيق اللقاء بنازك إذا ما صعدت بغداد من الكويت.

وفي مساء 20/3/1986، زارني في بغداد الصديق ثابت الألوسي ليخبرني أنّ الدكتورة خديجة الحديثي تطلب مني مهاتفتها. وحين فعلتُ، أعلمتني أنّ نازك في بغداد لحضور مؤتمر الأدباء العرب الخامس عشر، وأنها تقيم في فندق "المنصور ميليا"، وأنها رتبتْ لي لقاءً بنازك صباح اليوم التالي 21/3/1986، في صالة الفندق، بشرط ألاّ أحمل آلة تصوير (كاميرا) وألاّ أسجل شيئاً أمامها، إنما أقوم بتسجيل وكتابة ما يدور في المقابلة بعد انتهاء اللقاء. فوافقتُ، وشكرتها، وهيّأتُ نفسي في تلك الليلة، وراجعتُ ما عنَّ لي من ملاحظة، وهيّأتُ أسئلتي، وتدرّبت على المحاورة شفهياً.

 

اللقــــــاء:

جرى اللقاء في صالة الفندق ببغداد، في الساعة التاسعة والدقيقة العشرين من صباح يوم 21/3/1986، بحضور زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة (واقتحام الدكتور محمد كاظم البكاء للجلسة). وبعد تقديمي الشكر على موافقتها لإجراء المقابلة، وترحيبي بها وبزوجها، بدأتُ الحديث (الذي أعددتُ لهُ نفسي) عن حركة الريادة، ومعارك المتضامنين، مُعرّجاً على أهم ما ردَّدهُ خصومها، وما أشاعوه عنها من ارتدادٍ. وبيَّنتُ لها أنني أهدفُ من وراء هذا اللقاء إلى الوصول إلى الحقيقة، وإذاعتها بين الناس وأن عليها أن تساعدني في ذلك لتكون دراستي موضوعية، وألا تبخل عليّ بما يفيدني، وأن يتسع صدرها لبعض أسئلتي التي قد تحسبها استفزازية أو مشاكسة. فابتسمتْ ثم التفتتْ إلى الدكتور محبوبة الذي كان يجلس جوارها من جهة اليمين، وكلمتْهُ بصوت خفيض، فحرك الدكتور رأسه ملتفتاً إليّ قائلاً: لك أن تسأل، وتسجل الإجابات كتابةً، فقد سمحتْ لك نازك بذلك. فأجبتهُ أنني التزمتُ بملاحظة الدكتورة خديجة الحديثي، فلم أُحضر معي أوراقاً. فنهض قائلاً: سآتيك بالأوراق من غرفتي... فكان أن سجلتُ:

 

 سيدتي.. ثمة اختلاف بين موقفيك في "شظايا ورماد" (1949) و"قضايا الشعر المعاصر" (1962) من قضية الشعر الحر؛ فبعد أن كنتِ تردّدين مقولة برناردشو: "اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية" في هجومكِ على القيود والقواعد، عُدتِ إلى الميل للتقنين، والضبط، والتعقيد، ممّا جعل بعض النقاد يرى في ما انتهيتِ إليه، ارتداداً عمّا دعوتِ إليه في بداية الحركة، فما تفسيرك لذلك؟

- هذا اتهامٌ لئيم روّجهُ بعض المغرضين الذين لم يكونوا راغبين في تشخيصي لعيوب شعرهم عندما بينتها في كتابي "قضايا الشعر المعاصر" تطبيقاً. أمّا ما يخصّ التنويع فأقول: إنّ لفتات الذوق في الإنسان المبدع ليستْ ثابتة، أي أنها تتبدل وفقاً لحالتهِ المزاجية (النفسية) دون إغفالٍ لأهمية الزمن، وهذا تنشيطُ لنفس المبدع وحياته، ويمكنك الرجوع إلى مقدمة ديواني الموسوم بـ"للصلاة والثورة" المنشور سنة 1978، فستجد فيهِ تفسيراً لهذا التنوع.

 

 في مقدمة ديوانكِ "شظايا ورماد" هاجمتِ القافية، وعددتها حجراً تلقمهُ الطريقة القديمة كلَّ بيت، وأطلقت عليها تسمية"الآلهة المغرورة"، ورأيتِ أنها أنزلتْ بالشعر العربي خسائر لا يُحصى عددها. لكنّكِ بعد ثلاثة عشر عاماً أسفتِ لعدم عنايتكِ بالقافية كما ينبغي. وخلصتِ إلى القول أن الشعر الحديث قد خسر خسارة كبيرة باطراحهِ لها، أفلا ترينَ في هذا ارتداداً عمّا بشّرت بهِ؟  

- نعم، إنني غيّرتُ رأيي في القافية. وقد كتبتُ أكثر من دراسة عن أهميتها في نفسية القارئ، ولكن أرجوك لا تسمّ ذلك ارتداداً، فأنا لستُ كذلك.

 ماذا أسميهِ إذاً؟ هل تفترضين تسميةً أخرى؟  

- (بعد لحظات) يمكنك أن تسميه خروجاً.. نعم، هو خروجٌ عن المنطلقات الأولى، وفقاً لتطورات العصر وملمحهِ الحضاري.

 

لِمَ كانت نازك الشاعرة غير ملتزمة بمنطلقات نازك الناقدة طوال أكثر من عشرين عاماً في بعض الرؤى؟

- هل لك أن تبيّنِ المقصود بـ"بعض الرؤى".

  مثلاً: إن الناقدة كانت لا تجيز استخدام أكثر من خمس تفعيلات في الشطر الواحد، ورأتْ أن عدد التفعيلات يجب أن يُقنَّن كي يبقى الشطر مشدوداً دون ترهل. وحين أردنا معرفة مدى صلة تلك المنطلقات التنظيرية للناقدة بشعر الشاعرة تبيّن لنا أن الشاعرة نفسها خالفت الناقدة، واستخدمت تفعيلاتٍ أكثر مما سمحت به الناقدة في الشطر الواحد!

- هل جرى ذلك فعلاً؟! وهل لك أن تُسمي بعض تلك القصائد؟ وفي أيّ ديوان؟

 

 لا أذكر أسماء تلك القصائد الآن، وربما سأُهاتفك لأسمِّي بعضها إن شئتِ، علماً بأن ذلك الاستعمال ورد في أكثر من ديوان!

- (بعد لحظات) ربما! ولعلَّ هذا الخروج كان بسبب توهج الحالة الشعرية، فلم ألتفتْ إليه. هل هناك رؤى أخرى في المخالفة!؟

 

 نعم. قضية الأضرب؟

- ما لها؟

 

 لم تكن الناقدةُ موافقةً على انتقال الشعراء في القصيدة الواحدة من ضربٍ إلى ما سواه، وظلّتْ تدعو إلى وحدة الضرب، ورأتْ في هذه الوحدة قانوناً جارياً في القصيدة العربية. لكن الشاعرة لم تتقيد بذلك القانون العَروضي في قصائدها الحرَّة في معظم البحور التي نظمت عليها. والأمثلة بالعشرات. فضلاً عن أن الناقدة رأتْ في تنوع أضرب خليل حاوي خروجاً على مبادئ الشعر الحر!  

- كنتُ حريصة في بداءة الحركة على جعل ضرب القصيدة موحداً. ثم وجدتُ بمرور الزّمن أن أُذني تتقبل الانتقال من الضرب الواحد إلى ما سواه من الضروب الأخرى التي أجازها الخليل في البحر الشعري، فأبحت ذلك الانتقال في شعري وقصائد غيري.

 

 أين كانت تلك الإباحة؟ أقصد في أيةِ دراسةٍ سمحتْ ناقدتنا بتنوع الأضرب؟

 - في مقدمتي للطبعة الخامسة من كتابي "قضايا الشعر المعاصر".

 

 (ملاحظة: في هذه اللحظة وصل إلى الفندق عصام الملائكة، أخو نازك، فسلم وجلس مبتعداً بعض الشيء قبالتنا، وآنذاك أعلمتني نازك أنّ أخاها عصام يريدُ أن يريها قطعة أرض رشحها لها لتشيد عليها منزلاً عندما تقرر العودة إلى بغداد، وهي لا تدري إن كان موقعها مناسباً، لذلك ستراها اليوم. فخيَّل إليَّ أنها تُريدُ إنهاء اللقاء، فاعتذرتُ، وهممتُ بالمغادرة، لكنها قالت لي إن أخاها جاء قبل الموعد، وأن المقابلة ستستمر حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، فعدتُ إلى مواصلة طرح الأسئلة).

 

 علمت أن للناقدة كتاباً نقدياً جديداً في طريقهِ إلى الطبع، ولعلَّهُ سيرفد قضايا الشعر المعاصر، ويتواصل مع منطلقاتهِ النقدية، ويضيف إلى تلك المنطلقات رؤىً جديدة، فهل أنّ ظهورهُ سيكون قريباً؟

 - نعم، ثمة كتاب نقدي آخر أسميتهُ بـ"سيكولوجية الشعر"، نشرتُ منهُ فصلين، هما: "سيكولوجية القافية" و"الإبرة والقصيدة" في مجلة "الشعر" القاهرية، ولعلّهُ سيرى النور قريباً.

 

 نشرتِ أكثر من حوارية وقصة قصيرة، حرصتِ فيها على ذكر فضاءات الأمكنة حرصاً تاماً، وجعلت الأحداث والأزمنة ترتبط بها، بوصفها محاور الحبكة وأمكنتها المركزية، كما في قصصكِ "ياسمين" و"منحدر التل" و"قناديل لمندلي المقتولة". غير أن تسميتكِ للنهر الذي يروي مدينة "مندلي" بـ"السيبة" أوقعتكِ في الخطأ، لعدم وجود نهر بهذا الاسم في مندلي، فهل كان الخطأ مقصوداً؟

 - (تتذكر) نعم، أسميته بـ"السيبة"، وأقمتُ الأحداث حوله، فهل تأكدتَ أنَّ التسميةَ ليست صحيحة؟!

 

 نعم أيتها الأستاذة، لأنني راجعتُ أكثر من مصدرٍ جغرافيّ ومرجع، فتأكدَ لي أن اسم النهر هو "كنكير" و ليس "السيبة"!

 - أرجو أن توثّقِ الإسم، وتكتب لي بهذا التوثيق، لأنّ مجموعتي القصصية الموسومة بـ "الشمس التي وراء القمة" في طريقها إلى المطبعة.

 

 سأفعل يا سيدتي. لكِ خالص العرفان، فقد منحتني إجاباتكِ ما كنتُ أصبو إليه من حقيقة، وأبعدتِ الظنَّ عني، وقرّبتِ إليّ اليقين.

  

ملاحظات خارج المتن:

 

 كانت نازك عند اللقاء تعاني قليلاً من ألم أو قصور في حركة يدها اليسرى، كما ارتسمت على الجهة اليسرى من فمها بقايا نقاهة من مرض ألمّ بها، وترك فيها تلك الآثار.

 

 أشرتُ إشاراتٍ طفيفة إلى هذهِ المقابلة في بعض هوامش كتابيَّ الموسومين بـ"نازك الملائكة دراسة ومختارات 1987" و"نازك الملائكة الناقدة 1995".

 

 لم يُنشر كتاب نازك "سيكولوجية الشعر" إلا سنة 1993. كما لم تظهر مجموعتها القصصية "الشمس التي وراء القمة" إلاّ سنة 2000 في القاهرة.

 

 عند لقائي بالدكتور محبوبة (زوج نازك) وابنهما البرّاق في القاهرة صيف 2000، علمتُ أنهم لم يطلعوا على كتابي "نازك الملائكة الناقدة"، وبعد اللقاء صحباني إلى حيّ الحسين ومزارهِ بسيارتهما التي يقودها البرّاق، وطمأناني على حالة نازك المرضية، لكنهما ذكرا أنها قعيدة المنزل في حي "القبّة" بالقاهرة، وهي لا تغادرهُ إلاَّ لماماً حين يصطحبانها أحياناً في جولاتٍ سياحية تقتصر على مشاهدة القاهرة وضواحيها من خلال شبابيك السيارة ليس غير. وذكرا كذلك أنهما قبل مغادرتهما للمنزل أطعماها، وناولاها الدواء، وتركاها تأخذ قسطاً من الراحة.

 

 بعد عودتي إلى صنعاء من القاهرة بقينا نتبادل الرسائل، لكنه لم يجبني على رسالتي الأخيرة. وبعد مغادرتي لليمن نهاية سنة 2001، علمتُ من الصديق الشاعر عبد الرزاق الربيعي بوفاتهِ رحمهُ الله، لكنّ ما جاء في آخر رسالة منه حريّ بالذكر فيما يتعلق بآثار نازك غير المعروفة. إذ كتب لنا في 15/2/2001، يقول: "لنازك أعمال خطية بقلمها لم تُنشر حتى الآن، ذات أهمية بالنسبة للدارسين، من أهمها: يومياتها في 63 دفتراً بالقطع المتوسط، وشعر في دفترين لم تنشرهُ بدعوى أنهُ من شعر الصبا والمناسبات. ثم لقاءات إذاعية وصحفية في الكويت ودمشق ومصر وبيروت وبغداد، ومجالس أدبية مع مشاهير الأدباء الذين التقت بهم في القاهرة وبرنستن. ثم ترجمة حكاية بيتر بان مع وندي، تأليف ج. م. باري بالإنجليزية بناءً على طلب البرّاق في صغرهِ. ولها أيضاً رواية بعنوان "ظلُّ على القمر" في أربعة فصول، وفي 243 صفحة، أتمنى أن يساعد الزمن على نشرها لإطلاع القراء والباحثين عليها".  

 

فوجئنا والمجلة ماثلة للطبع بنبأ وفاة الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة في القاهرة عن عمر قارب الرابعة والثمانين. عزاؤنا الكبير لقرائها ومحبي الشعر في الوطن العربي والعالم.