العدد  الثامن - صيف 2009م

   
 

  أما بعد
 

أثارت الحرب الأهلية وتداعياتها معاناة مريرة لدى المفكرين والكُتَّاب، وفاضت شكواهم من أوضاع وطنهم؛ فكتبوا حول ذلك أعمالاً إبداعية مميزة، كما عبَّروا عن تلك المعاناة برسائل لأصدقائهم وزملائهم. في هذا العدد تنشر «غيمان» رسالتين: الأولى كتبها الدكتور معن بشور، وهو مفكر وسياسي عربي من لبنان وناشط في القضايا العربية من خلال مؤلفاته ومواقفه. والرسالة الثانية كتبها الشاعر بول شاؤول، وهو شاعر لبناني كبير وناقد ومترجم مهم. وقد بعثا برسالتيهما هاتين أثناء الحرب الأهلية في لبنان وما تعرض له المبدعون من تشتت وآلام.

 

الحصار الأقسى (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

رسالة من معن بشور إلى الدكتور عبد العزيز المقالح

الأخ الحبيب/ د. عبد العزيز المقالح                               المحترم

  صباح الخير! وأقول: «صباح الخير» لأنني أكتب في صباح يوم جديد من أيام لا يعرف فيها الموت التعب، ولا القصف المجنون الراحة، ولا الحصار القاسي حتى التثاؤب... ولأن «صباح الخير» في بيروت كلمة باتت اليوم مثقلة بالمعاني والدلالات؛ فالصباح منشود بعد ليالي العبث بالحياة والمصير، والخير مفقود في زمن ينبت فيه للشر ألف مخلب ومخلب.

   ولقد عشت حصارات كثيرة، مع أطفالي ورفاقي وشعبي، لكن دون شك أنه الحصار الأقسى، والأدهى؛ لأنه محاط بألف التباس والتباس، لأنه مطوَّق بألف عجز وعجز عن سؤال يقول: من يقصف من؟! ومن يساعد من؟!

 لكي لا يضيع علينا الوضوح، أؤكد لك أننا أمام «إسرائيل» جديدة في لبنان، نعرف جذورها، ونعرف حدودها الحالية، ونعرف أيديولوجيتها؛ لكننا لا نعرف كيف يمكن أن تتسلل هذه «الاسرائيل» الصغرى لخدمة «إسرائيل» الأصلية وسط هذا الركام من تناحرات الأنظمة العربية وخلافاتها.

 هل نصدق ما ترى أعيننا؟! هل عشنا لنرى كياناً هجيناً آخر يقوم، ليس بسبب عجز العرب فحسب، ولا حتى بسبب تواطؤ بعض حكامهم فقط، بل يقوم بأيدينا نحن! نعم، بأيدي العرب أنفسهم، الذين يعتقدون أنهم يُصفُّون حساباتهم بعضهم مع بعض، فإذا بهم يصفون لبنان بلداً وشعباً ومصيراً...

 أعتذر عن إزعاجكم بهذه الكلمات التي كتبتها بعد ليلٍ تراجعت نجومه أمام القذائف المتكاثرة المتناثرة؛ ولكن أعرف أنك مع جميع الإخوة والأحبة في صنعاء تريدون أن تسمعوا شيئاً من بيروت، ولو كان من نوع الهذيان الذي أخطه الآن...

 عزيزي الدكتور:

 لقد كنا مندفعين في حركتنا الوحدوية اللبنانية والعربية، وكان نشاطنا يملأ ساحاتٍ عراضٍ في البلد الصغير، حتى فوجئنا بهذه الحرب التي تعددت أسبابها وأشكالها، لكن يجمعها دون شك شأن بارز: أن للحرب في لبنان مصالح ضالعة، وقوى مستفيدة، وأدوات بات مصيرها مرتبطاً بديمومة هذه الحرب دون شك، ولا أدري كيف سننتزع لبنان الجميل من براثن هؤلاء جميعاً...

 أرجو منكم أن تهتموا بما يجري في لبنان، وأن تطالبوا بالضغط، أولاً وأخيراً، على «عماد» اعتمد الجنون وسيلة للوصول، وأصر على أن يكون نيرون عصره الجديد... مستفيداً دون شك من أخطاء وتجاوزات وممارسات لنا جميعاً عليها ملاحظات... ولعل في تجربتكم اليمنية ما يجعلكم تفهموننا أكثر؛ فكل الأخطاء لم تكن لتبرر عودة الحكم البائد. وفي لبنان ما من شيء في الدنيا يجب أن يبرر حكم التواطؤ مع العدو الإسرائيلي والغرب الاستعماري، تحت شعار: الامتيازات...

 مع هذه الرسالة جملة مواقف وبيانات ونشاطات لنا أرجو أن تطَّلع عليها مع إخوتنا هناك، وأن تساعدنا في إيقاف هذه المجزرة الملعونة المستمرة.

                           أخوك: معن بشور

  

(2) المسافة ربما تنتصر (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

رسالة من بول شاؤول إلى الدكتور عبد العزيز المقالح

الصديق الغالي الدكتور عبد العزيز  

تحية من القلب!

ماذا يمكن أن أقول لك في رسالة كهذه سوى إني مشتاقٌ جداً لحضوركم الشفاف, وكذلك مكتوباتكم التي أحب!؟ ماعدا ذلك, المسافة ربما تنتصر، والأزمنة وما ينكسر فينا, وما نشعرهم أنه لا ينكسر.

 أتابع أخبارك بين الحين والحين, حسب ما يتوفر لي؛ ومع هذا لا أعرف ما هي آخر أعمالك, وما آخر ما كتبت, وما تكتب، وما ستكتب.

أعرف أنك منهمك كثيراً بين الجامعة والكتابة والشعر والنقد... والناس... وهذا يسرني جداً؛ لأن الزمن، وخاصة في هذا الزمن, ينبغي أن يُعبأ, أو يُحتلّ بشعر أو بأي إبداع.

 أما بالنسبة إليَّ, فقد أصيب بيتي في بيروت بصواريخ عدة في هذه الحرب التي لا تنتهي, وهو شبه مدمر، وأتلفَ لي نحو 2000 كتاب، عدا عن الخسائر الأخرى. لا بأس؛ وإنها لضريبة!

 وصدر لي ديواني الشعري السادس: «موت نرسيس» (بطباعة سيئة؛ لأني لم أكن موجوداً في بيروت حين صدوره), وكتاب عن المسموح: المسموح العربي الحديث, «مختارات من الشعر العالمي». وعندي نحو ثمانية مخطوطات أخرى بين نقد وشعر وترجمات نقد.

 والآن تجري تمارين على آخر مسرحية كتَبتُها, والتي ستمثلها نضال الأشقر. وقد تبدأ تمارين على مسرحية أخرى في القاهرة, أو في الكويت، أنجزتها منذ عدة أشهر... إذاً، نقاوم الموت والغربة بالكتابات! صديقي؛ لكن ربما حتى إشعار آخر!

 الصديق الأكرم عبد العزيز، أرجو أن ترسل لي مما نشرت في السنتين الأخيرتين؛ فعندي شوق لقراءتك.

 أبعث إليك بهذه الرسالة مع الصديق والزميل الشاعر الدكتور فاضل العزاوي، الذي يزور اليمن الحبيب ويود كثيراً أن يتشرف بك؛ لأنه يقدر أعمالك وكتاباتك...

 وأخيراً، وفي انتظار أن نلتقي، كم أنا مشتاق لنلتقي! تحياتي الحارة لك وكل الإخوان!

                           أخوك: بول شاؤول