العدد الثالث - خريف 2007م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

أول الكلام
 

«غيمان» وأسئلة الإبداع والتنظير (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 عبد العزيز المقالح

 

سعت «غيمان» منذ عددها الأول –شأن كل مطبوعة جادة- إلى أن تجمع بين الإبداع والتنظير، وفتحت صدر صفحاتها لأشكال من النصوص وأنواع من الرؤى النقدية. ولم تنسَ منذ عددها الأول أن تقدم أسئلتها النقدية، إحساساً منها بضرورة الحوار؛ فكان سؤال الشعر، ثم سؤال النقد. وفي هذا العدد يأتي سؤال الرواية، وإن جاء مقصوراً على الرواية في اليمن، هذا الوليد السردي الذي لم يعرف القارئ العربي عنه حتى الآن سوى القليل، من خلال الأعمال الرائدة التي استطاع بعضها أن يشق طريقه، ويخرج من سديم التعتيم الذي فرضته ظروف هذا البلد، الذي ظلمته الأبجدية حين وضعته في آخر حروفها، وظلمته الجغرافيا حين ألقت به في أقصى مكان من أطراف الوطن العربي الكبير.

ومن النافل القول إن الكتابات الروائية الجديدة تتجه الآن نحو التجريب وإعلان القطيعة مع النموذج الروائي التقليدي والسائد، وظهرت في هذا السياق نماذج روائية بديعة؛ لكنها بالمقابل خسرت ملايين القراء الذين اعتادوا على نمطٍ من الروايات يهتم برصد الواقع ورسم الشخصيات والوقائع بعيداً عن الإيغال في تقنيات الكتابة وتجديد أساليبها. وسيبقى معلوماً أن هذا النوع من القراء لن يتلقوا هذا الشكل الجديد من الإبداع الروائي بيسر وسهولة، كما هو الأمر مع الرواية التقليدية، أو ما بعد التقليدية. ولئن استطاع الناقد أن يدرس أشكالاً من شعر العمود والتفعيلة والنثر؛ فإنه يستطيع كذلك أن يدرس الرواية من خلال مكوناتها السردية المختلفة الأشكال والتقنية، وتوفرها على درجات من التحديث الأسلوبي.

وما من شك في أن الرواية الجديدة عمل فني وكتابة إبداعية لا تبتعد عن الواقع كثيراً، بل تستحضر صوره ووقائعه بطريقة تختلف عن الكتابة التقليدية المباشرة. والسؤال المهم هو: أين الرواية في بلادنا من هذه التطورات، من الجديد الروائي بمكوناته الجمالية، وتحليقه في آفاق رحبة من التجريب والتحديث؟ يبدو لي أن الوقت ما يزال مبكراً بالنسبة لنا للانخراط في المنجز الروائي الأحدث. ومع ذلك فهناك بواكير تبشر بها أعمال عدد لا بأس به من الروائيين اليمنيين، وفيها جميعاً ما يتلاءم مع أساليب الكتابة الروائية الحديثة. لقد كان الروائي القديم والتقليدي يهتم بإيصال الحدث، ويحرص على التعايش مع أبطاله، يتابع مسيرهم ونتائج أعمالهم. وكانت الرواية قريبة في دلالاتها الواقعية. في حين لم تعتمد الرواية الأحدث أو الأجد على الواقع وإشكالياته، بل انطلقت في فضاءات رمزية ولغوية أوسع وأشمل. وسيمضي وقت قبل أن يبدأ الروائي في بلادنا كتابة الرواية في ضوء هذا المنظور الجديد؛ تقديراً لمستوى المتلقي ولأسباب أخرى.

ولا أخفي أنني كنت سعيداً بل شغوفاً باكتشاف هذه الكوكبة الصغيرة من محاولي كتابة الرواية الجديدة في بلادنا، وأن رغبة تملكتني في متابعة نشاطها الإبداعي بصمت، حتى لا أفسد على نفسي متعة الاستمتاع بالقراءة من ناحية، ولا أفسد على هذه الكوكبة فرحتها بما تنجز في هدوء من ناحية ثانية. ولعلي أدركت خلال تلك المتابعة كم أن عملية التحديث في الكتابة الإبداعية مضنية، وأن استحضارها لا يتم عن طريق التقليد والمحاكاة، وإنما عن طريق التمثل الأصيل، واستشعار أهمية السياقات والسمات الموقعية التي تذكي الخيال، وتضيف من الصفات المحلية العجائبية والخارقة ما يشحن الأحداث بالأسطوري والرمزي، ويجعل للمكان عوالمه وتفرده، ويفتح النص الروائي على صور واقعية وتخيلية لا تبرح الذاكرة.

ومن هنا فالموضوعية تفرض علينا القول بأن الرواية الجديدة في بلادنا ما تزال أشبه بالطيف؛ ولكنها في الطريق إلى أن تتحقق، بفضل الكُتَّاب الشبان الذين انصرفوا عن كتابة الشعر، وبدأوا يقرعون أبواب فن السرد ومتابعة الأعمال الروائية الحديثة عربية وغير عربية. ومنذ أيام لفت انتباهي حديث أحد هؤلاء المبدعين الشبان من خلال علاقته الوثيقة بالرواية اليابانية، حين قدّم فكرة واعية عن تطورها وما وصلت إليه من تقنيات حديثة؛ مما يدل على إمكان ترسيخ التفاعل في التجارب السردية وتطويرها بين كتابها، وما يترجم إلى العربية بغزارة هذه الأيام من روايات العالم ومناخاتها الممثلة في أفريقيا والهند وأمريكا اللاتينية واليابان ومراكز جديدة في أوروبا.

وللمرة الثالثة نؤكد أن «غيمان» تحرص على إقامة الجسور بين المبدعين في الساحتين المحلية والعربية، مستهجنة ما يبدو أحياناً على سطح الحياة الأدبية من أحقاد قاتلة، وما يتعرض له بعض المبدعين هنا وهناك من تُهَم ومحاكمات استفزازية، تتسم بالعدوانية والجهل بمعاني الإبداع وما تتميز به بنيته اللغوية من استحضار مضنٍ للغة، ومن خصوصية في طريقة التناول والتعبير. وبهدى هذا النهج، وقناعتنا بضرورة التفاعل والحوار، كانت أسئلتنا وحوارتنا في «غيمان». وكلنا أمل أن يسهم الكتاب والقراء في إغناء ما يصلنا من نتاج وأفكار؛ لتكمل دائرة القراءة، وتعطي ثمارها التي نعمل بصدق على أن تكون كما نريد جميعاً.