أول الكلام
محمود درويش... الحضور المشع
()
عبد العزيز المقالح
بينما كان هذا العدد من "غيمان" ماثلاً للطبع، فوجئنا برحيل الشاعر العربي
الكبير محمود درويش. ودائماً كان محمود صاحب المفاجآت الكبيرة؛ لكنها -في
حياته- كانت مفاجآت سعيدة ومثيرة للإعجاب به وبقصائده وأعماله الشعرية
المتلاحقة. يفاجئك بتجدده وعدم توقفه عند حد من التصاعد الإبداعي، فهو ينتقل من
معراج شعري إلى معراج أعلى، ومن إنجاز كبير إلى إنجاز أكبر، كأنه يصعد سلم
الإبداع دونما توقف أو تراجع. المفاجأة المؤلمة والموجعة هي مفاجأته لنا
بالرحيل، الذي نراه مبكراً، وفي وقت كان قد وصل فيه إلى ذروة الكتابة الشعرية،
وصار يكتب قصيدته بصفاء وجمال، وصار شعره يتدفق كشلال من الضوء الآسر.
كان
هناك، في افتتاحية العدد الماثل للطبع، حديث عن محمود، الذي يعيش معنا طوال
الوقت. وكان الحديث فيها عن رئاسته لتحرير مجلة "الكرمل"، وتواضعه الجميل في
الحديث عن نفسه، والدور الذي قامت به المجلة، التي تعد واحدة من أهم المطبوعات
الأدبية التي ظهرت في العصر الحديث، فقد حملت في أعدادها المتوالية، وإلى أن
أصابها التوقف، أعمالاً أدبية وفكرية ستبقى مرجعاً للدارسين ومصدراً للمتعة
الروحية والفنية، واستطاعت منذ صدورها إلى حين توقفها أن تحافظ على مستواها
الرفيع في كل ما نشرته من شعر ونقد ومحاورات أدبية وفكرية.
لم
يكن الشاعر الكبير محمود درويش -كما عرفته عن قرب- شاعراً فحسب؛ بل كان إنساناً
بكل ما تعنيه كلمة الإنسانية من شفافية وصدق وحضور مشع. وميزة محمود درويش
-شاعراً- أنه استطاع التوفيق -ببراعة مدهشة- بين وظيفة الشعر وجمالية أدائه،
وأنه من خلال إمساكه بتلك القاعدة الذهبية، تمكن من أن يكسب إلى صف الشعر
العربي الحديث ملايين القراء الذين كانوا في شك من أمر هذا الجديد، كما كسب إلى
قضية وطنه وحريته الكثير من أحرار العالم ومثقفيه. فكأنه بذلك توصل في قصيدته
إلى معرفة القيمة التي تجعل من القصيدة فناً وموقفاً.
لقد
رفض محمود القصيدة الفوتوغرافية، إذا جاز التعبير، وأعني بها قصيدة نقل الواقع
كما هو. وفي الوقت ذاته رفض القصيدة السوريالية، تلك التي تتعالى على الواقع
وتهرب من تفاصيله. وكم كان موجعاً ومؤلماً أن يفقد الشعر العربي الحديث شاعراً
له تلك الرؤى الفنية والمواقف التي استطاع بها أن يجعل من قضيته ذات بعد إنساني
واسع ومؤثر. وأثق تماماً في أن قرَّاءه سيكثرون بعد رحيله، وأنهم سيكتشفون مدى
ما يكتنـزه نصُّه الشعري من ثراءٍ فني وتنوع في المعاني والدلالات. والعزاء، كل
العزاء، لفلسطين، التي تعاني من أعدائها ومن بعض أبنائها! ثم للشعر، الذي افتقد
بغياب محمود أهم فرسانه الشجعان الأوفياء!
|