أول الكلام
الثقافة
وحرية التعبير
()
عبد العزيز المقالح
بعد أربع سنوات من صدور مجلة "الكرمل"، التي رأس تحريرها الشاعر العربي
الكبير الراحل محمود درويش، وقف درويش لتقييم ما صدر من أعدادها. وفي
تواضع شديد قال: "ليس في الكرمل ما يستحق المديح؛ غير أنها ضرورية".
وبعد خمسة أعداد من "غيمان"، وفي ظروف هي أسوأ بكثير من تلك التي رافقت
نشأة "الكرمل" ومسيرتها اللاحقة، نقف -نحن هيئة التحرير- لتقييم
التجربة المتواضعة، مستعيرين من كلمة محمود درويش لنقول: "ليس في غيمان
ما يستحق المديح؛ غير أنها ضرورية".
نعم ضرورية لنا نحن،
ولإقامة جسور حقيقية بين المبدعين في هذا البلد وأشقائهم، القريب منهم
والبعيد؛ حيث لم يبقَ من رابط وثيق وعميق يربط أبناء الوطن العربي
الواحد سوى الثقافة وفي شكلها الإبداعي القائم على الشعر والقصة
والرواية والمسرح، بعد أن تساقطت الروابط السياسية والاقتصادية أو كادت
تغيب وتتلاشى.
لقد لمس الشاعر
الكبير محمود درويش، وهو يتحدث بعد مضي أربع سنوات من عمر مجلته "الكرمل"، فكرة
لا ينبغي أن تغيب عنا جميعاً، تلك هي التي عبَّر عنها في قوله: "إن الثقافة غير
قابلة للمساومة، وهي تدافع عن إنسانيتنا ومبادئنا، وفي هذا المعنى نخوض معركة
ليست شاقة فحسب؛ ولكنها تستحق المجازفة، لأننا في المعركة الثقافية لن ننكسر
كما انكسرنا في المعارك السياسية". وذلك ما يجعلنا في "غيمان"، بعد صدور خمسة
أعداد منها، نشاركه رؤيته وما تفاءل به من أن الانكسار لن يقترب من ثقافة
الذاكرة ومن ساحتها، التي هي ساحة الروح، وما تستنـفرُهُ من طاقات كامنة وقادرة
على استرداد عزم الشعوب ومساعدتها على الصعود من عمق الهاوية.
ومن هذا المنطلق فقد
كنا -في هذه المجلة- وسنبقى مؤمنين، أشد ما يكون الإيمان، بقدرة الإبداع
الأدبي، بسلطته الأخلاقية أولاً ثم بسلطته الفنية واللغوية ثانياً، على أن يغير
وأن يؤلف بين وجهات النظر المختلفة في زمن احتدم فيه الصراع بين المتماثلين،
فضلاً على المتعارضين، وسادت حالات من التقاطع الغريب بين أبناء الرأي المشترك
والخطاب الإنساني الموحّد جرّاء الأوضاع المقلوبة وغياب المعايير الضابطة
لأساليب التعبير، والناظمة لمفهوم الوعي الاجتماعي المضطرب، والذي لم يعد
قادراً على أن يؤسس لما يجمع الناس أو يحوّل اختلافاتهم الثانوية والطبيعية إلى
منافسات بانية بدلاً من الخصومات المدمرة.
ونحن نؤمن بأنه لا
عيب في الاعتراف بأننا كنا في هذا البلد أشبه ما نكون بأهل كهف ناموا، أو
بالأصح نُوّموا على مدى نصف قرن ويزيد، وعندما بدؤوا يستيقظون من سباتهم
استقبلتهم الخلافات السياسية بكل ما حملته من تناقضات داخلية وخارجية، ومن
احتدام الصراع، الذي لم يتوقف، حول الفوز بالسلطة، بعيداً عن الوعي بأبجديات
التطور، التي تعد الثقافة واحداً من مفاتيحها المهمة. ولا أحد ينكر أن الواقع
الذي واكب عقود الاستيقاظ قد تلقى مجموعة كبيرة من الأسئلة والإشارات، متفاوتة
القيمة؛ لكنها وجدت إهمالاً منقطع النظير، دفع بعضها إلى الضمور ثم الغياب.
ويمكن للدارسين إرجاع
ذبول تلك الأسئلة والإشارات الجادة إلى المزايدات والخلط المتعمد بين الشأن
الثقافي والشأن السياسي. إلاَّ أن السبب الأساس يكمن وراء غياب الديمقراطية،
والتفريط بأهم قيمة تشجع على انتعاش الثقافة والإبداع، وهي: حرية التعبير.
|