العدد الثامن - صيف 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

أول الكلام
 

 عن معنى الاختلاف (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 عبد العزيز المقالح

لم يحدث إجماع بين اليسار واليمين في العالم على شيء كالإجماع على فظاعة ما أقدمت عليه الشمولية، سواء أكانت يسارية أم يمينية، تلك التي ألغت الاختلاف الطبيعي في الرأي وأرادت صهر الناس في بوتقة واحدة وتعاملت معهم كأنهم قطيع من الحيوانات أو ماركة صناعية متشابهة الأحجام والمقاسات، لا بوصفهم بشراً: يحبون ويكرهون ويقبلون ويرفضون. ولم يظهر سوى القليل من المفكرين الشجعان الذين كانوا يجرؤون على الحديث بوضوح عن القلق الذي يعاني منه الإنسان المحكوم بالشمولية، ويحاولون الإنصات إلى الصرخات المكتومة الصاعدة من ملايين القلوب التي أضناها الإصرار على تفريغ الحياة من معناها الحقيقي؛ القائم على إيقاع الرأي والرأي الآخر.

وفي هذه الفترة من حياتنا ليس هناك ما نعتزُّ به ونحاول المحافظة عليه، كهذه الانفراجة التي تعددت معها الآراء والأصوات، وتكاثرت فيها وجهات النظر، واختفت أو كادت الدعوات المطالبة باعتناق الفكر السياسي الواحد، والتي تسعى إلى أن تكون مخلوقات الله الآدمية ذاتاً واحدة فيما تقرأ، وفيما تكتب، وفيما تفكر، وفيما تحلم. في حين أن ذلك لو تم -وقد تم في أزمنة قريبة- سيجعل الحياة ثقيلة، مملة، مرعبة، وفاقدة للتنوّع الجميل والتعدد الخلاّق. وأي حياة تلك التي يفضل أهلها اللون الواحد في الفكر، والشعر، والرسم، والغناء!؟ فما من تماثل في مقدوره أن يجلب الفرح والبهجة في النفوس. وستكون مضجرة بكل المعايير تلك الحياة التي تخلو من التعددية في الألوان ومن انفتاح على جميع الآفاق والجهات.

إن الآثار المدمرة للرأي الواحد لا تحصى، وأدلتها واضحة وضوح الشمس. وفي بلدان العالم الثالث ظلت المجتمعات مقيدة وتابعة لتوجهات الرأي الواحد، ولا تعكس سوى تصورات خاصة، قد تكون رائعة وفريدة في صفائها ونبل غايتها، لكنها تفقد كل هذا الصفاء والنبل حين تصادر غيرها من التصورات، وتفتقد الصوت الآخر الذي يعطيها شرعية البقاء. وحين لا يدخل الرأي في تناغم مع غيره ويضيع المعنى العميق للاختلاف، تفسد الرؤية. ويلاحظ أننا، رغم القطيعة الزمنية بيننا وبين ماضينا العريق، ما نزال ندرك أن أصالة التعامل والفكر في التاريخ العربي لم تتبلور إلاَّ عندما احتدم الخلاف بين أصحاب الرؤى المتعارضة. وبرزت من خلال السجال الهادف مصادر واتجاهات أسهمت في تطوير الجهود الفكرية والثقافية ودفعها نحو تجاوز المكرر والمحدود.

الاختلاف، إذاً، هو الأساس. ومن خلال فهم الفروق البسيطة والكبيرة في المواقف، تتحدد نوعية الرؤى المطروحة والأهم منها. وما ينبغي تأكيده هو أن الاختلاف بمعناه الإيجابي هو مناخ إيجابي، وليس مجرد أصوات متمردة تبدأ هنا، وتتوقف هناك. وما لم يستكمل الناموس الإنساني (ناموس الاختلاف) مناخه؛ فإن كل محاولة للتقدم لن تلبث أن تفشل ومآلها إلى الزوال.

لذلك لا بد أن نحترم مبدأ الاختلاف في الرأي؛ باعتبار الاختلاف فضيلة تستدعي الحوار للوصول إلى الصواب، الذي ما كان ليظهر لولا الاختلاف. وهذا المبدأ: مبدأ الاحتكام إلى الحوار والاختلاف، ليس جديداً بالنسبة لنا نحن العرب، وهو جزء من موروثنا الثقافي والفقهي. والكلمة التي أطلقها أحد أئمة الفقه الإسلامي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، ما تزال تشكل القاعدة المهمة للاختلاف البنّاء.