العدد التاسع - شتاء 2009م

   
 

أول الكلام
 

 في البدء كان الحوار (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 عبد العزيز المقالح

لم يحدث إجماع بين اليسار واليمين في العالم على شيء كالإجماع على فظاعة ما أقدمت عليه الشمولية، سواء أكانت يسارية أم يمينية، تلك التي ألغت الاختلاف الطبيعي في الرأي وأرادت صهر الناس في بوتقة واحدة وتعاملت معهم كأنهم قطيع من الحيوانات أو ماركة صناعية متشابهة الأحجام والمقاسات، لا بوصفهم بشراً: يحبون ويكرهون ويقبلون ويرفضون. ولم يظهر سوى القليل من المفكرين الشجعان الذين كانوا يجرؤون على الحديث بوضوح عن القلق الذي يعاني منه الإنسان المحكوم بالشمولية، ويحاولون الإنصات إلى الصرخات المكتومة الصاعدة من ملايين القلوب التي أضناها الإصرار على تفريغ الحياة من معناها الحقيقي؛ القائم على إيقاع الرأي والرأي الآخر.

يبدو لي أحياناً أن ثقافتنا العربية القديمة التي تُنعتُ دائماً بالماضوية، نقداً لها وتقليلاً من أهميتها، ما تزال في بعض جوانبها المضيئة أنجح وأكثر قدرة في تحديد بعض ما يلزمنا في عصرنا الراهن من وسائل وأساليب التعامل مع أنفسنا ومع الآخر. ولهذا فنحن نتذكر باحترام مقولة الإمام الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة المشهود لهم بفهم الشريعة الإسلامية: "رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ." وفي هذا القول شديد الوضوح ما يؤكد نسبية الحقيقة، وانتفاء الادعاء بامتلاك الموضوعية المطلقة من قبل شخص أو أشخاص، مهما علت أقدارهم واستوت أفكارهم. ومن هنا يبدو حق الناس في الاختلاف معادلاً لحقهم في الاختيار.

وبما أن تعدد المعاني والمواقف جزءٌ من طبيعة الكون القائم على الاختلاف، ومن طبيعة الحياة التي تتعدد معها الآراء وتتنوع الاختيارات؛ فإن الحوار -بمعناه الإيجابي الشامل- هو الوسيلة المثلى للفهم وللتعايش بين المختلفين. ولن يستقر حال الأمم ولا حال الشعوب، الكبيرة والصغيرة، إلاَّ بالإيمان بقبول الآخر والحوار معه، للحفاظ على المجتمعات من التفكك، ولتجاوز الانقسامات وما يترتب عليها من تدمير للطاقات وإشعال الفتن واختلاق أشكال من الصراعات التي لا مبرر لها؛ لا لأنها تخالف مبدأ المواطنة القائمة على المساواة والتكافؤ في الحقوق والواجبات فحسب، وإنما لأنها تهدد الاستقرار وتلغي كل محاولة للتقدم.

وليس من المبالغة في شيء القول بأنه في البدء كان الحوار، فقد وضع الله سبحانه في كتابه العزيز أساس الاختلاف الإيجابي، كما وضع أساس الحوار أيضاً. يقول تعالى عن الأساس الأول: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ)، وعن الأساس الآخر: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ  قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مّدْحُوراً لّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ(.

ألا تكفي هذه الأسس الرفيعة والتوجيهات الأسمى لإقناع البشر بأهمية الحوار؟ وهل يجد البعض، من الحاكمين والمنظمات والأحزاب، غضاضة في تقبل الحوار، الذي هو مفتاح الاعتراف بالآخر والوسيلة الممكنة لترسيخ الحياة المستقرة واكتشاف المزيد من القواسم المشتركة بين المختلفين، والاستباق إلى إغلاق ملفات الأزمات قبل وقوعها أو حتى بعد وقوعها؟ لقد تزايدت الاختلافات، وباعدت الأفكار المختلفة بين الناس، وأضرمت المعارك الكلامية، التي كثيراً ما تكون مقدمة لمعارك ضارية بالمدافع والصواريخ. ولا يبدو على الأفق القريب والبعيد من حلٍّ للمنازعات المتلاحقة، سوى الحوار، بمعناه الصادق والإيجابي، المنطلق من قلوب وعقول مفتوحة، والصاعد من الإيمان بأن في كل وطن متسعاً لجميع أبنائه، مهما اختلفت رؤاهم وانتماءاتهم.