دراسات
الكتابة على ورق المودّة الأبيض
رسائل السيّاب إلى أدونيس ()
د. علي
حداد
ناقد وأكاديمي من العراق تقـــديـــــــم
تخرج الرسائل المتبادلة بين الأدباء عن أن تكون ذات طبيعة شخصية محض
كالتي للمراسلات بين سواهم من الناس. فرسائل المبدعين – ولاسيما الكبار
منهم – لا يشغلها الحيز الذاتي إلا بحدود موجزة، لتخرج بعده إلى مجالات
ذات طبيعة معرفية وإبداعية، وتفصح عن مناقشات مهمة في المجال الأدبي الذي
يشغل المرسل والمرسل إليه معاً.
وإذ لا تكون تلك الرسائل بأدنى من
المستوى التعبيري والوعي الثقافي المتحققين لكل مبدع منهم، وبما يشكل سمات
شخصيته وأسلوبه الكتابي واهتماماته الذاتية والعامة، فإن السمة اللافتة فيها
أنها تقدم صاحبها من دون أية ادعاءات غير تلك التي هي أس شخصيته وتفوهاتها
المباشرة، وسجيتها الحقيقية التي ربما غلفت – حين يكتب ذلك المبدع سواها من
كتاباته – بشيء من التزويق والتخيّر اللفظي والفذلكة التعبيرية. ومرد تلك
البساطة والتناول القريب أن أياً منهم – وهو يكتب تلك الرسائل – لم يدر بخلده
أن سيأتي اليوم الذي ستصبح فيه رسائله مشاعة، يقرأها الكثيرون، وهو الذي كتبها
مؤتمناً إياها شجونه وشؤونه التي يبثها لشخص واحد من أصحابه الأدباء.
(1)
كان الأستاذ (ماجد السامرائي) قد
جمع ما وقع تحت يديه من تلك الرسائل التي تبادلها الشاعر العربي الرائد بدر
شاكر السياب مع عدد كبير من الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين.وقد نشرها
السامرائي في كتاب أسماه «رسائل السياب» بعد أن قدم لها بقراءة مستفيضة، ووثقها
– تواريخ وأسماء ومضامين – بهوامش وملاحظات مهمة(1).
وتستوقفنا – في هذه القراءة – من
بين تلك الرسائل ما كان السياب قد بعثه إلى الشاعر العربي الكبير (أدونيس).
فبين العامين (1959 – 1964م) كان السياب قد تبادل مع أدونيس رسائل كثيرة، أورد
السامرائي -فيما جمعه- اثنتي عشرة رسالة منها كان اللافت للانتباه أن تكون
أخراهن مرسلة من السياب قبل ثلاثة أشهر من يوم وفاته في 24/ 12/ 1964م. ولعلها
آخر رسالة بعثها السياب في حياته(2).
ربما لن نكون بعيدين كثيراً عن
تلك الرسائل حين نقوم – وقبل تفحصها المباشر – بلمّ جزيئات المشهد الذي يؤشر
طبيعة الصداقة التي جمعت بين الشاعرين، والوقائع المخبرة عنها، لتكون الرسائل
المتبادلة بينهما ارتكاناً حميماً إلى تلك الصداقة، وتمثلاً لقيمها، وإن تجلى
لنا ذلك في الرسائل من وجهة نظر السياب ومشاعره المعبر عنها فيها.
كان مسعى السياب دائباً للخروج
بقصائده من مجال انتشارها المحدود في العراق إلى أفق نشر عربي متسع، وقد واتته
الفرصة حين ذكّره بعض أصدقائه بإمكانية مراسلته لمجلة "الآداب" البيروتية وهو
ما فعله السياب تماماً، ليجد الترحيب من الدكتور (سهيل إدريس) صاحب تلك المجلة
التي نشرت له في أول ما نشرت، وفي أحد أعداد عام 1954م قصيدته الرائعة "أنشودة
المطر"، لتتوالى قصائد السياب في أعدادها اللاحقة، وحتى عام 1957م الذي شهد
تحوله – أي السياب – إلى النشر في مجلة بيروتية جديدة هي "شعر" التي نشرت له في
ذلك العام والعام الذي يليه ثلاثاً من قصائده المتميزة(3).
لقد كانت "شعر" تضم في هيئة
تحريرها مجموعة من الأدباء (الشعراء خاصة) ذوي التوجهات الرانية البصر والبصيرة
نحو التجديد، وكان أدونيس من بينهم. ولعله، ومن تلك اللحظة تحقق للسياب أن يضع
تجربته واهتماماته المعرفية في مسار من الوعي المتطور والنشاط الثقافي الأكثر
حيوية، والذي سيكون لحضور الشاعر أدونيس مساحته الفاعلة فيه.
وإذا كنا لا نقول جديداً حين نشير
إلى معرفة كلا الشاعرين -السياب وأدونيس- لبعضهما قبل ذلك، ومن خلال ما كان
ينشر لهما على صفحات المجلات العربية واللبنانية، بوصفهما اسمين شعريين لهما
تميزهما في المسار الجديد للشعرية العربية، ولكن صلة التعارف المباشر قد تمت
بينهما كما يبدو حين دعت هيئة تحرير مجلة "شعر" السياب في عام 1957م، وبعد
نشرها لأولى قصائده ليقدم إلى بيروت ويقضي هناك عشرة أيام، سكن بعضاً منها في
بيت أدونيس(4)، وستزداد صلة الصداقة بينهما في السنوات اللاحقة عمقاً وحميمية،
تؤشر ذلك اللغة الودود التي تفيض بها رسائل السياب، والموضوعات الاجتماعية
الخاصة التي يبثها فيها، وما كان يطلبه من أشياء وأفعال، لا تكاد تطلب إلا من
صديق ثقة في مودته، مطْمَأَنٍّ إلى إخلاصه واستجابته غير المترددة، وهو ما كان
عليه أدونيس مع السياب حقاً(5).
وفي عام 1960م كان السياب قد تعرض
للفصل من وظيفته، وعاش وعائلته ظروفاً معيشية ونفسية ممضة، مما حدا بأدونيس إلى
أن يدعوه للهجرة إلى لبنان، وذلك ما تحمس له السياب في بادئ الأمر، ثم ما لبث
التردد أن غلب عليه، ليكتب إلى أدونيس مبدياً عزوفه عن ذلك كله(6)، وبديلاً عنه
سيطلب من أدونيس – الذي يبدو أنه قد اقترح عليه جمع قصائده المتناثرة في أكثر
من مجلة وصحيفة وإصدارها في ديوان جديد – أن يتولى ذلك، ولاسيما في لم شتات
القصائد المنشورة في المجلات اللبنانية، و"الآداب" خاصة(7)، وهو ما قام به
أدونيس فعلاً، ليصدر للسياب ديوانه "أنشودة المطر" عن مجلة "شعر" ذاتها، ثم
ليعلن فوز السياب عن ديوانه هذا بجائزة المجلة التي وضعت لأفضل ديوان، والتي
تضمنت – فيما تضمنته – دعوة السياب مرة ثانية إلى بيروت التي قضى فيها شهراً
كاملاً(8).
وحين دعي السياب للاشتراك في
"مؤتمر الأدب العربي" الذي عقد في روما عام 1961م، ذهب من البصرة - التي كان قد
نقل عمله إليها - إلى بغداد، ومنها إلى بيروت، ليطير من هناك في صحبة أدونيس
إلى حيث أُقيم ذلك المؤتمر.
وفي عام 1962م حصل السياب وبدعم
ومسعى من صديقه أدونيس وآخرين، على زمالة دراسية في بريطانيا، ولكن مرضه المزمن
كان قد بدأ حربه على جسمه النحيل، فغادر بغداد إلى بيروت، وأدخل هناك مستشفى
الجامعة الأمريكية، ودامت فترة علاجه ثلاثة أشهر، عاد بعدها إلى بغداد، ليسافر
لاحقاً إلى لندن، في مسعاه للدراسة هناك، وهو ما لم يسعفه المرض وبرد لندن على
تحقيقه، فعاد أدراجه ليسكن في البصرة ينظم الشعر بغزارة لافتة للانتباه(9)،
ويكابد مرضه، ويراسل أصدقاءه، ومن بينهم أدونيس الذي كان قد تخلى عن مجلة
"شعر"، فبارك له السياب ذلك في إحدى رسائله(10)، وقاطع المجلة نهائياً، واتجه
إلى مجلة "حوار" التي صدرت حينها، لينشر فيها قصائده ومقالاته.
وفي عام 1964م كان المرض قد أمسك
بتلابيب جسد السياب ، وأنهكها تماماً؛ فنقل إلى المستشفى الأميري في الكويت،
ليرقد فيه مدة طويلة، من دون أية بارقة بالشفاء، لتكون آخر رسائله التي كتبها
من هناك وقبل وفاته بثلاثة أشهر، هي تلك التي كتبها إلى أدونيس.
(2)
تتوزع الرسائل التي بعثها السياب
إلى أدونيس عددياً، وبحسب الأعوام على النحو الآتي: اثنتان في عام 1959م، وست
في عام 1960، وثلاث في عام 1963م، وواحدة في عام 1964م.. ويبدو لافتاً للانتباه
تواتر بعض السنوات التي لم يؤشر فيها أية رسالة من السياب إلى أدونيس كالذي
نجده في عامي 1957 – 1958م، اللذين شهد العام الأول منهما بداية الصلة الحميمة
بين الشاعرين كما أسلفنا، وكذلك في عامي 1961- 1962م، اللذين نجد فيهما رسائل
عديدة قام السياب بإيرادها لأكثر من صديق، ليس أدونيس من بينهم.
وربما أمكن تبرير خلو العامين
الأخيرين من المراسلات بين الشاعرين بسبب ظروف السياب وما تعرض له من اعتقال
وفصل من الوظيفة ثم انتقاله إلى البصرة، فضلاً عن تكرر ذهابه في خلالهما إلى
بيروت لأكثر من مرة، سواء للعلاج أم لتقديم شعره وقراءته، أو للسفر منها إلى
خارجها، وفي كل المرات تقريباً ، كان يصحبه أدونيس فيها، بما أبعد الحاجة – كما
يبدو – إلى التراسل بينهما.
أما عاما 57 – 58م فليس من تبرير
نركن إليه أقرب من القول إن جامع تلك الرسائل لم يقع على ما يمكن أن يكون
الشاعران قد تبادلاه من رسائل.
احتوت رسائل السياب إلى أدونيس
موضوعات وأفكاراً شتى، فيها الذاتي الذي يخصه أو يخص صديقه، وفيها ما يود
الإشارة إليه من الأمور الأدبية المتعلقة بشعره أو بشعر أدونيس، وغير ذلك من
الأفكار الثقافية التي كانا يتبادلانها.
وفي الرسائل كلها فقد كان شوق
السياب لأدونيس يتداخل مع اعتذاره له عن تأخره في الرد، بسبب ظروفه وهو يتعرض
للفصل، أو وهو يبحث عن عمل، أو حين يتحدث عن مرضه الذي ورد في الرسائل على نحو
متدرج، حتى آخر مراحله.
كانت محبة السياب لأدونيس – كما
بدت في رسائله – شديدة وإعجابه بشخصيته كبيراً، يتواتر الحديث عنهما، ابتداء من
إشارات الود والعرفان له صديقاً وفياً، من مثل: "جميل منك أن تتذكر أخاك الذي
يحبك أقصى غاية الحب، ويقدرك – شخصاً وشاعراً – أعلى درجات التقدير" (الرسائل،
صـ90)، أو قوله: "إن الصديق يكون هبة عظيمة من السماء إذا كان طرازك أيها
العزيز" (صـ98)، أو قوله: "لماذا كنت شاعراً عظيماً إلى هذا الحد، وإنساناً
طيباً إلى هذا الحد، وحبوباً إلى هذا الحد؟" (صـ135).
وكان إعجاب السياب بشاعرية أدونيس
متصلاً بمحبته له، وهو ما كرر ذكره في أكثر من رسالة، كما أخبر عنه في رسائله
لسواه من أصدقائه(11)، غير أن ذلك لم يمنع السياب من إبداء عدد من الملاحظات
الناقدة لشعر أدونيس كقوله عن إحدى قصائده:" كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من
صور لا أكثر. ولكن: هل غاية الشاعر أن يري قرَّاءه أنه قادر على الإتيان بمئات
الصور؟ أين هذه القصيدة من "البعث والرماد"، تلك القصيدة العظيمة التي ترى فيها
الفكرة وهي تنمو وتتطور، والتي لا تستطيع أن تحذف منها مقطعاً دون أن تفقد
القصيدة معناها. أما قصيدتك الأخيرة، فلو لم تبق منها سوى مقطع واحد لما أحسست
بنقص فيها، ليس هناك من نمو للمعنى وتطور له"(صـ85)، ولا يفوت السياب أن يأخذ
على أدونيس مجانبته للشعر الإنجليزي:"مازلت، أيها الصديق متأثراً بالشعر
الفرنسي الحديث أكثر من تأثرك بالشعر الإنكليزي الحديث، هذا الشعر العظيم: شعر
إيليوت وستويل، ودلن توماس وأودن وسواهم"(صـ86).
انشغل السياب – وفي كل رسالة من
رسائله – بالإشارة إلى جوانب من تجربته الشعرية، حتى أخذ ذلك المساحة الأوفر
منها.
وستكون أولى الملاحظات الدالة أن
نكتشف أن كثيراً من قصائد السياب المتميزة كانت قد مرت عليها يد أدونيس تنقيحاً
وتعديلاً، وبطلب من السياب نفسه(12)، الذي أخذت المسألة عنده مدى أوسع من ذلك
حين وضع بين يدي أدونيس دواوينه المطبوعة في بيروت، يتولى جمع قصائدها
وتبويبها، والحذف منها.
وكثيراً ما أشار السياب في رسائله
إلى ما كان ينتاب مزاجه الشعري من تقلب، فيتدفق في فترة ما، أو يبدو نزراً في
أخرى حد النضوب، لتتلبس السياب حالات من القلق، يبثها في رسائله إلى أدونيس.
يذكر السياب في أولى رسائله إلى
أدونيس عام 1959 أن لديه شعراً كثيراً. وستكون المفارقة أن يكرر ذلك في آخر
رسائله إليه عام 1964م، حيث يكتب:
"إن نفسي تتدفق بالشعر، لكنه
يتدفق من ينبوع ألم عظيم ويأس" (صـ200)، وبين هذين التاريخين، فكثيراً ما تحدث
السياب عن حالات من الركود الشعري كانت تنتابه، فيشكو ذلك إلى أدونيس، بقوله:
"وأنا الآن في حالة ركود شعري" (صـ92)، أو: "لم أكتب شيئاً منذ مجيئي من بيروت"
(صـ146)، وقوله:"لا أكتب الآن شيئاً، إنني أمر في فترة ركود" (صـ171).
كان الحديث مع أدونيس – في بعض
رسائل السياب – قد أفضى إلى تناول تجارب عدد من الشعراء بشيء من الملاحظات، فقد
أشار السياب إلى ما عدّه انحداراً في الشعر، وهو ينتقي أسطراً من قصيدة للبياتي
من دون أن يذكره بالاسم: "أما رأيت إلى الشعر الحر كيف استغله بعض المتشاعرين:
وعلى الرصيف
جوعان يبحث عن رغيف
والشارع الممتد يزخر بالجموع
من ثائرين مزمجرين
فليسقط المستعمرون
يا.. يسقط المستعمرون
وإذا شاعت كتابة الشعر دون التقيد
بالوزن(13)، فلسوف تقرأ أو تسمع مئات من القصائد التي تحيل "رأس المال"
و"الاقتصاد السياسي"، وسواها من الكتب، ومن المقالات الافتتاحية للجرائد إلى
شعر، وهو لعمري خطر جسيم"(صـ85).
وحين بلغ السياب أن (سليمان
العيسى) قد بعث برسالة وقصيدة إلى مجلة "شعر"، كتب إلى أدونيس: "إذا كان الأمر
كذلك فانشروهما، دون احتفال بالمستوى الفني، لأن أثرهما في صالح المجلة سيكون
كبيراً"(صـ94).
(3)
لا يمكن لقراءة تتفحص الرسائل
التي بعثها السياب لأدونيس أن تكتمل جدواها من دون الإجابة على السؤال الآتي:
ما الذي يمكن لتلك الرسائل أن
تضعه بين يدي المتأمل لتجربة السياب الشعرية ومنجزها؟
ولعل أول ما يمكن قوله أن تلك
الرسائل قد أفصحت عن جانب كبير من انشغالات السياب الإنسانية والثقافية
والإبداعية التي عايشها في تلك المرحلة المهمة من عمره القصير، بما يمكن عدها
فيه مستندات ذات موثوقية عالية لقراءة حياة السياب وشعره. وهي في خضم ذلك كله
تعكس جانباً من شخصية السياب، الانفعالية التي تستجيب لمؤثرات اللحظة المباشرة
والشخص الذي تنشد إليه فيها، فتبوح له بكل ما لديها. وتحب معه ما يحب ومن يحب،
وتكره معه ما يأخذ منه ذلك الموقف، بل إنها لتباسطه بكل ما لديها لقد عززت ظروف
السياب النفسية والحياتية ذلك في شخصيته إلى حد كبير.
وعلى صعيد التجربة الشعرية فقد
عبرت تلك الرسائل عن مرحلة هي الأبرز حضوراً وعطاءً عند السياب من حيث الوعي
المعرفي والجمالي الذي وضعه في قصائده المنشورة في خلال تلك المرحلة التي أفردت
صوته الشعري وخلدته، كما شهدت فهمه الناضج لتقنية توظيف الأسطورة والرمز في
الشعر وإغنائه بهما. فلقد حشد السياب في قصائده ومنذ بداية نشره لها في مجلة
"شعر" وسواها رموزاً أسطورية ودينية كثيرة راح يستمدها من مصادر ثقافية متنوعة
انهمك في الاطلاع عليها واستثمارها.
ولأننا منشدون إلى حديث رسائله
إلى أدونيس فلعله أمر جدير بالوقوف عنده ذلك الذي يخص الرمز الأسطوري الفينيقي
(أدونيس) الذي اتخذه الشاعر (علي أحمد سعيد) اسم شهرته الشعرية، في حين تبناه
السياب – ولا نظن أن ذلك محض صدفة – رمزاً شعرياً، يستعيد خصب مضمونه في أكثر
من قصيدة، وإن أحاله إلى مماثله في التراث العراقي القديم – والبابلي خاصة –
وهو الرمز "تموز" الذي استثمره السياب في تكوينات شعرية متلاحقة جسدت مرحلة
مثيرة في مسار تجربته الشعرية(14).
ويبدو أن اكتشاف السياب لرمز (أدونيس)
كان بمثابة الفتح المبين عنده، وهو ما أشار إليه (جبرا إبراهيم جبرا) الذي كان
قد ترجم هذه الأسطورة ضمن ما ترجمه من كتاب "الغصن الذهبي" الذي ألفه (جيمس
فريزر)، فكان جبرا على حد قوله: "يطلع السياب على ما ترجمه من أسطورة أدونيس
أولاً بأول، وفي الوقت نفسه كان شاعرنا (السياب) مبهوراً ومشغوفاً بها إلى حد
أنه كان يستظهر لوحات منها ومشاهد عن ظهر قلب"(15).
(4)
لقد كان تعرف السياب بأدونيس
ومراسلته محطة خصبة في حياته، وحضوراً كان بحاجة شديدة إليه، ليستوعب جانباً من
مساحة انشغالاته النفسية والثقافية والإبداعية، وهو ما أبانت عنه رسائله جلياً،
غير أن تلك الرسائل بقيت في حدود مودة حميمة واهتمامات إبداعية متقاربة، ولم
يتجاوز السياب ذلك إلى ما عداه، فهو لم يقف مثلاً ليناقش الفكر السياسي الذي
كان أدونيس يتبناه وقتها، حيث كان منتمياً إلى الحزب القومي السوري، بل لقد كان
السياب يذهب بفكره في تلك السنوات إلى ما هو نقيض ذلك، فقد تخلى عن انتمائه
الماركسي، وصار على أقرب ما يكون من الطروحات العربية القومية.
ومع صلة السياب بأدونيس والآخرين
من جماعة مجلة "شعر": جبرا ويوسف الخال ومحمد الماغوط وسواهم، أولئك الذين
كانوا يكتبون قصيدة النثر ويبشرون بها، فإنه لم ينجرف إلى تيارهم، وبقي متمسكاً
بقصيدة التفعيلة شكلاً تعبيرياً يكتب فيه نصوصه المتميزة، متجاهلاً أمر قصيدة
النثر، حتى إنه لم يقف عندها، أو يناقشها في رسائله. ولعل في ذلك جانباً من
اعتداد السياب بثقافته وذائقته، والمسار الذي اختطه لتجربته الشعرية.
تبقى مسألة أخيرة أثارتها لدينا
رسائل السياب هذه، حين بدت لنا أشبه ما تكون بالمونولوج المعلن، أو بالنص
المونودرامي، فقد كان صوت السياب وبوحه هو ما نقرأه فيها، ليمسي ذلك مجالاً
للإثارة والبحث عن النص الآخر المغيب بين سطورها الذي تمثله رسائل أدونيس التي
جاءت رسائل السياب – في الغالب عليها – استجابة لها وسجالاً ودوداً معها.
هوامــــش
وإحــــالات:
(1) ينظر: ماجد السامرائي، رسائل
السياب، دار الطليعة، بيروت 1975م.
(2) وضع السامرائي تاريخ إرسالها
ومكانه على النحو الآتي: البصرة 17/ 9 / 1964م. وإذا كان ذلك التاريخ صحيحاً
فإنها ستكون قد أرسلت من الكويت التي كان السياب قد نقل إلى المستشفى الأميري
فيها بتاريخ 6/ 7/ 1964م. ويبدو أن الدكتور إحسان عباس قد رأى تلك الرسالة حين
قال يصفها: "يبدو عليها بعض الاضطراب في الخط والسهو في غير موضع " (بدر شاكر
السياب، دراسة في حياته وشعره، صـ167).
(3) ينظر: رسائل السياب، صـ84،
وإحسان عباس، صـ211، وما بعدها.
(4) ينظر: المصدر نفسه.
(5) طلب السياب في إحدى رسائله أن
يبعث له بكتاب "الأسطورة في الشعر المعاصر" لأسعد رزوق، صـ87. وطلب في ثانية ما
كان الدكتور إحسان عباس قد كتبه عنه (صـ92). وفي ثالثة دعاه لأن يبحث له عن
فرصة للعمل (التدريسي) في بيروت، (صـ90)، هذا فضلاً عما كان يتواتر في رسائله
من طلبات لنشر هذه القصيدة أو تلك، بعد أن يقوم أدونيس بمراجعتها وتصحيحها وحذف
ما لا يعجبه منها. ويبدو أن بعض رسائل السياب كانت تصله من خلال أدونيس، لاسيما
الرسائل التي كان بعض الأدباء الغربيين يبعثونها إليه. فهو قد بعثها إلى الناقد
الإنكليزي دنيس جونسن دافيس، قوله: " استلمت رسائلكم الكريمة طي رسالة من
أدونيس، وبتاريخ 30 حزيران 1960م.
(بدر شاكر السياب، رسائل غير
منشورة، مجلة عيون، دار الجمل، ألمانيا، العدد 70، السنة الرابعة 1999، صـ5).
(6) رسائل السياب، صـ88.
(7) المصدر نفسه، صـ94.
(8) ينظر: علي حداد، بدر
شاكر السياب قراءة أخرى، صـ20، ومصادره.
(9) كتب السياب في تلك السنة
(1963) ثلاثاً وأربعين قصيدة.
(10) يقول السياب: "إنك ابتدأت من
حيث الشهرة خارج نطاق جماعة (شعر) منذ الآن، وسوف يخلو لك الميدان، فلا منافس"
(صـ171).
(11) يقول السياب في رسالة إلى
يوسف الخال: "أذهلتني (أغاني مهيار الدمشقي). إن أدونيس، كما عرفت ذلك منذ مدة
غير قصيرة، شاعر عظيم.. عظيم" (الرسائل، صـ137).
(12) تنظر رسائل السياب، صـ86،
87، 88، 89، 94.
(13) يبدو تحامل السياب على
القصيدة واضحاً، وإلا فهي من الشعر الحر الموزون، وعلى بحر الكامل.
(14) أورد السياب الرمز "تموز" في
قصائده التي كتبها في عام 1956، ومنها قصيدته "أغنية في شهر آب"، ثم تواتر
توظيفه في قصائد الأعوام اللاحقة: مدينة بلا مطر سربروس في بابل، تموز جيكور
(التي أشار فيها إلى واقعة تخص أدونيس (الذي طعنه الخنزير فقتله) ولكن السياب
وابتداءً بالعنوان ينقل الحديث إلى "تموز" لاسيما حين يقرنه بذكر الآلهة عشتار).
(15) جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة
الثامنة صـ24.
|