العدد الأول - شتاء 2007م

   
 

دراسات
 

القول بالشعر والقول بالنثر (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

  د. حاتم الصكر
 ناقد وأكاديمي من العراق.

الشعر في القصيدة والشعر في النثر.. هذا ما كان يمكن أن يصبح عنواناً مناسباً لهذه المقاربة التي تتوخّى فحص الفواصل والعلاقات بين "الكتابة الشعرية" و"الكتابة النثرية" وهي تقوم على بضعة دوافع وحقائق سأبينها هنا: - في مقدمة الدوافع لهذه المقاربة مقالة الدكتور عبد الله الغذامي الموجزة "محمود درويش ناثر وليس شاعراً"(1) والتي يدل عنوانها على محتواها ويلخصه لغرض توصيله مباشرة، وهو عنوان لا يتوخى تقرير القناعة المتضمنة في مقترح المقالة فحسب، بل يمثل –أي العنوان- إحدى البنى الثقافية الصادمة التي يوجهها الغذامي في مناسبات متلاحقة إلى القناعات النقدية والنظرية السائدة، ضمن ما يسميه بالصدمة الثقافية التي دأب على خلقها محتكّاً برموز ثقافية وشعرية وهدم ما شاع حولها بحجة انتمائها إلى "نسق ثقافي ذكوري مرفوض" كما يصرح في أكثر من مناسبة.

ومن الدوافع أيضاً اللغط المثار والمتكرر حول شعرية قصيدة النثر، وإمكان وجودها بهذا المزج (العسير) بين الشعر والنثر وهما جنسان متباعدان في شروطهما ومزاياهما. وحتى في المقترحات التوفيقية والمعدلة يظل السؤال قائماً، وأعني هنا المقترح الذي تقدم به (أدونيس) إبدالاً لمصطلح "قصيدة النثر" وهو: كتابة الشعر بالنثر أو نثراً.

-   ومن دوافع المقاربة كذلك التأكيد الشخصي على التفريق بين (الشعر) كخطاب له عناصره ورؤاه، و(القصيدة) كمظهر نصّي يتجلّى عن ذلك الخطاب.. وهذا يسمح بفحص (كمية) الشعر و(كيفية) وجوده في نص ما، كشفاً للرؤية والموقف والفن معاً.. فنحن نزعم مثلاً أن قصيدة السيَّاب كوجود نصي يتراكم الشعر فيها بسبب التداعيات والتفاصيل والاندفاع الفني والصوري بأكثر مما يتطلبه وجود القصيدة كمظهر شعري أو تجلٍ للشعر ضمن نص محدد.

أما الحقائق التي تُعنى بها هذه المقاربة ففي مقدمتها التأكيد على أن النظرية النقدية العربية في تاريخها ومنجزها التراثي فرَّقت بين الشعر والنظم، وبين النثر العادي (النفعي) وبين الكتابة الفنية، ولم يمنع ذلك جِنْسَي الشعر والنثر من وجود أي منهما في متن الآخر.. ويؤكد ذلك ما نص عليه أبرز الناثرين العرب، أعني (التوحيدي) حين أورد في "الإمتاع والمؤانسة" رأياً منسوباً إلى أبي سليمان جاء فيه:

"والعبارة حينئذٍ تتركب بين وزن هو النظم للشعر ، وبين وزن هو سياقة للحديث، وكل هذا راجع إلى نسبة صحيحة أو فاسدة، وصورة حسناء أو قبيحة، وتأليف مقبول أو ممجوج"(2)

فضلاً عن إشاراته الصريحة بأفضلية النظم المتشكل على هيئة النثر ؛ والنثر المتشكل في هيئة الشعر.

ومن الحقائق أيضاً: الغبن الذي وقع على النثر العربي بسبب هيمنة الشعر على المنجز التراثي وعلى القوانين المستخلصة من النظرية النقدية العربية.. وذلك أسهم في تأخير النظر والتأمل والدرس لجوانب إشراقية في النثر، وتسبَّب في إهمال شبه تام زمناً طويلاً لفنون السرد العربي الموروث رغم تنوعها وتفوق مستوياتها وتوافر عناصر السرد فيها بكيفيات لافتة.

لكن ذلك لا يسحب نقاشنا لأفضلية النثر أو الشعر، فنحن نرى أنه أحد الأبواب (المفتعلة) في النقد العربي، بدليل اهتمام المتأخرين به غالباً(3)  وتكرارهم للحجج ذاتها في محاولتهم إعلاء شأن النثر لأسباب دينية غالباً (نزول القرآن نثراً) وأخلاقية (خلوِّه من مبالغات الشعر وكذبه واستحالاته) واجتماعية (استخدام النثر في الشؤون الرسمية ومكاتبات الدول وبيعات الخلفاء وعهودهم وتولياتهم..) وتلك أسباب أمكن الرد عليها حتى من داخل النسق الثقافي وفي السياق الذي جاءت فيه، لكن تلك الدفوع والتبريرات كرست فراق النثر عن الشعر ولم تقدمه إلى مقدمة المشهد الثقافي أو القراءة.

أحاول هنا أن أقرر حقيقةً لافتة في الكتابة النثرية العربية أسهمت في تكريس تبعيته للشعر ووقوعه تالياً له في المكانة والمنـزلة، ويبرز ذلك فنياً في مظهرين:

1. كثرة السجع في المتون السردية المبكرة "المقامة" كمثال وكونه جزءاً من بنية النوع السردي وجمالياته الموسيقية وهو في حقيقة الأمر تقليد أو نسخ لوجود القافية في الشعر. وقد يكون الرد علينا هنا بالقول إن ذلك "السجع" هو من لوازم النظم أو التأليف الشفاهي لغرض تثبيتي على مستوى التأليف والتلقي معاً.. لكن اطّراد السجع بهذا الشكل يزكي الرأي القائل إن في كيفية وجوده في ختام الفقرات والعبارات نزوعاً إلى استعارة أو اقتراض ميزة فنية هي القافية توهم الناثرون أنها سبب انجذاب الناس إليه أو امتيازه وسيادته على الفنون القولية الأخرى دون أن يتنبهوا إلى دور القافية في أن عنصر القافية في الشعر كعامل إيقاعي قد جاء تبعاً لانتظام تفعيلات البحر الشعري المتكررة بثبات والتي تخلق الجو النغمي الخاص في القصيدة، وأن وجود السجع في النثر يحيل إلى الملفوظ الشعري أو إلى الشعر كخطاب تحديداً وكتعبير عن رؤية للعالم والحياة والآخر والأشياء.

2. توازن العبارات إيقاعياً وتوازيها في التركيب النثري يحيل إلى تقسيم البيت الشعري إلى صدر وعجز.. وهذا مثال من مقامات بديع الزمان الهمداني يوضح ذلك..

جاء في المقامة الأذربيجانية:

"فبينما أنا يوماً في بعض أسواقها ، إذ طلع رجل بركوةٍ قد اعتضدها ، ودنيّةٍ قد تقلَّسها، وفوطة قد تطلَّسها، فرقع عقيرته وقال: يا مبدئ الأشياء ومعيدها، ومُحيي العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا، وبارئ النَّسم أزواجاً، وجاعلاً الشمس سراجاً.."(4).

 إن التناظر في صياغة العبارات وتقابل مفرداتها عددياً في الفقرات يؤكد حنين المؤلف إلى محاكاة هيئة الشعر وكيفيته وتقسيمه إلى شطرين. وذلك واضح في قوله:

  يا                                                          و

 مبدئ                    بمقابل             محيي

الأشياء                                        العظام

و                                                           و

معيدها                                     مبيدها

 

فالنداء (المعوض بالعطف) والمنادى المضاف، والمضاف إليه ثم المعطوف بالواو يتناظر بل يتطابق تماماً، وكأن العبارة الأولى صدر بيت شعري والثانية عجزه.. ولنلاحظ أن "ها" تمثل القافية أو تحيل إليها.. ومثل ذلك ينطبق على العبارات الأخرى في المجتزأ مثل:

"وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره..."،

"وموصل الآلاء سابغةً إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا...".

ولكن ذلك الهفو إلى تقليد إيقاعية الشعر سوف يُهجر بظهور التأليف النثري الإشراقي الذي ينادي مناطق روحية غائرة، ولا يستعين بموسيقى الشعر الخارجية، بل يذهب إلى مؤاخاة التصوير والتعبير الشعريين باستطرادات النثر وتمدداته.

ولكنّ ما حصل في شعر الحداثة قد تجاوز تلك المقترحات المتباينة بين تقليد النثر للشعر، أو وجود الشعر في النثر عبر الصورة والعبارة، ليخلق نوعاً جديداً متحصلاً من هدم الحواجز بين الفنون كلها (لا القولية فحسب)؛ وهذا ما عبّر عنه الغذامي وهو يبرر دعوته لقراءة درويش ناثراً وليس شاعراً حين قال: "وكنت فعلاً بحاجة لكسرِ الحد الفاصل بين الشعر والنثر وكسر حدود التلقي والتأويل بين جنسين ظلاّ متوازيين على مدى ذاكرة النظرية النقدية والقرائية في تاريخها كله"(5).

ولا حاجة بنا للتذكير بأن هذا القول فيه تعميم كبير وتأكيد شامل لا يدع مجالاً للاستثناء بقوله: "على مدى... تاريخها كله"، وهو زعم تدحضه القراءة المتأنية للنثر العربي ولقواعده التي رصدها النقاد بل أشار الغذامي نفسه إلى بعضها وهو يحلل متوناً سردية عربية قديمة في مناسبات نقدية سابقة على مرحلة (الصدمات) التي يعيشها خطابه النقدي حالياً.

كما أن حصر كسر المد الفاصل بين الشعر والنثر به شخصياً وبحاجته المعرفية يصادر مقولات سواه من النقاد وحاجتهم المعلنة مراراً لمثل ذلك الكسر والهدم وإلغاء الفواصل الفنية والجمالية، ضمن مقولة اقتراض المزايا والخصائص بين الفنون المختلفة.

ولتهوين مسألة عدّ درويش ناثراً يعلي الغذامي من شأن النثر و"خطورته" و"أهميته" التي أسقطها على وعي درويش أيضاًَ مقتطعاً بعض أقواله أو قراءاته كتصديره ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" بعبارة من التوحيدي "أحلى الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه النثر؛ ونثر كأنه النظم" مشتقاً –أي الغذامي- من ذلك ميل درويش شخصياً ليعد ناثراً بحجة استشهاده بقول يؤكد إمكان مجيء النثر بهيئة النظم ليغدو "أحلى الكلام".

ومن حجج الغذامي أن النثر ليس خطيراً فحسب، بل هو "أقوى مفعولية"؛ والمقصود بالتفضيل هنا المقارنة بالشعر.. وهذه مسألة جمالية لا يمكن التسليم بها بسهولة، بل يمكن القول بالعكس تماماً أي ادعاء المفعولية الأقوى في نفس المتلقي للشعر. وهذا الزعم يؤكده درويش نفسه حالته الشعرية عند التوصيل وجمهوره، وفعل قصائده في مناسبات كثيرة ليس أبرزها احتجاج (الكنيست) على قصيدته "عابرون في كلام عابر" ويؤكد مفعولية شعره ما يقوله درويش نفسه في مقابلة مع المجلة "الثقافية" في العدد ذاته الذي نشر فيه الغذامي مقالته.

يقول درويش(6): "إنني أحاول أن أقرأ لنفسي وأقرأ ما يريد القارئ أن يسمع... وعندما نقول أمسية شعرية فهي عبارة عن حفلة، وفي الحفلة يجب أن تطرب الذاكرة الشعرية القديمة بإسماعهم نغماً قديماً...".

ولا أحسب أن الغذامي، المهتم بالنسق والهيمنة الشفاهية على القصيدة العربية وما فرضته من مزايا وأعراف، ستفوته إشارات درويش إلى جمهوره ومستمعيه فضلاً عن مزايا قصائده (الإنشادية) الحافلة بغنائية واضحة لا مجال لتذكر وجود النثر فيها.

لقد خلت مقالة الغذامي القصيرة من ذكر أي مبرر يسوّغ عدّ درويش ناثراً وليس شاعراً، بل كان المقال دفاعاً عن نوع من النثر هو "نوع من الخطاب المعرفي الذي تستطيع معه الذات أن تكون إنسانية عالمية، وتكون ذاتاً مفكرة وتكون صاحبة رؤية مستقبلية عميقة وواثقة" وأظن أن كلاماً من هذا النوع لا يمنح مقولة نثرية درويش أية مصداقية، بل يمكن ببساطة أن نحيل مزايا هذا الخطاب "المعرفي" الموعود إلى الشعر نفسه، وهو ما يفعله درويش بنجاح، كشاعر ذي خطاب خاص يتجلى في قصائده كمظاهر نصية لخطابه، ومن عناصر خطابه الشعري المنبثق من صلب المعرفة وتجلياتها وتنويعاتها:

قضية وطنه المحتل وما تثير في موضوع الحرية.

مكانة الذات في شعره.

وجود الآخر ومقولاته.

الأنثى ومكانتها والحب وتنويعاته.

العالم كحقائق كونية.

الموت وحتميته ومواجهته.

المكان كذاكرة وحيّز وفضاء.

الماضي كزمن ووجود ووقائع.

ولا أظن أن هذه المحاور -وكثيراً مما لست بصدد حصره- في شعر درويش تبتعد كثيراً عن "الخطاب المعرفي" الذي يرى الغذامي أن النثر مكانه الصحيح.. ألسنا بذلك نعود إلى مقولة "دينية" و"أخلاقية" و"اجتماعية" النثر ضداً للشعر، مضافاً إليها -من طرف الغذامي- الناحية المعرفية؟

وفي التفاتة قصيرة يعود الغذامي ليتحدث عن "نثر" درويش المقترح من طرفه (أي الغذامي) فهو "ليس نثراً بمعنى أنه إقناعي ووصفي" وهو ما يسمى اليوم "الكتابة" وهو (نوع خاص) من النثر مثلما هو شعر من نوع خاص.

هنا يعود الغذامي إلى شعر درويش كمرجع لتقييمه، والحكم على هويته الخطابية؛ فينبغي أن يكون نثراً خالصاً كما أنه ليس شعراً خالصاً.. فهل يريد به ما أراد (الباقلاني) في "إعجاز القرآن" حين قال: "نظم القرآن جنس متميز وأسلوب متخصص، ليس من باب السجع ولا من قبيل النثر أو الشعر بل نظام خاص بنفسه"؟!(7) وهنا يمكن أن نستعير مصطلح "النص" لنلغي التجنيس المعلن لشعر درويش.. وفي هذا نظر أيضاً.

إن أية دراسة لشعر درويش سترينا ما سبق أن شخّصناه في شعر السياب من وجود الشعر كخطاب بكمية أكبر مما تتطلبه القصيدة كوجود نصي.. هذا واضح في اتجاهه إلى الخارج والمناجاة وطابع الغنائية التي طبعت شعريته رغم مقترحات النقاد لقراءتها على أنها "غنائية درامية" أو "رؤية متقدمة للموضوع الغنائي، وما يلبيه من شجن الروح ويوفر الشفافية التي قال الشاعر إنه يحتاجها للتعبير عن المناخ الإنساني الحزين"(8).

فضلاً عن الغنائية كموضوع وأداء يبرز حرص درويش على كتابة قصيدة التفعيلة بمقترحها العراقي (السياب والرواد) وموقفه المعلن من قصيدة النثر وتأكيده على الموسيقى في شعره.. ولعل في قوله إن السياب "من أهم الشعراء الرواد الذين ما زال الكثير من شعره قابلاً للقراءة والحياة ولاختراق الأزمنة" ما يؤكد إعجابه بالسياب واعتباره نموذجه أو مثاله، وذلك يشجعنا على ربط خطاب الشاعرين وكمية الشعر في قصائدهما.

أخيراً، كان بإمكان الغذامي أن يعكس المقولة فيرى في نثر درويش شعر شاعر، وبذا يؤاخي النثر بالشعر أو أن يبحث عن حنينه لكسر حدود النثر والشعر لدى شاعر آخر لا يمثل الموضوع الغنائي ومستلزماته الإيقاعية ما يوجد متنضداً بـبراعة في شعر درويش

 

الهـــوامـــــــش:

(1)        المجلة الثقافية، السعودية، الأثنين 6/3/2006م، ص5.

(2)        أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين، وأحمد الزين، مكتبة الحياة، بيروت د.ت، ص130.

(3)        يراجع "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي مثلاً والباب الذي عقده في "ترجيح النثر على الشعر"، ج1، ص58-60.

(4)        بديع الزمان الهمداني: المقامات، المقامة الأذربيجانية.

(5)        الغذامي: المجلة الثقافية (الهامش رقم 1 نفسه).

(6)        محمود درويش للثقافية: حللت المعادلة الصعبة.. جمعت النخبة والجمهور في منظومة واحدة. حاوره في عمان عبد الكريم العفنان، المجلة الثقافية العدد المشار إليه في الهامش (1)، ص15.

(7)        الباقلاني: إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، القاهرة 1971م،  ص159.

(8)        صبحي حديدي: محمود درويش وشكل الصوت الغنائي، ضمن كتاب "زيتونة المنفى" دراسات في شعر درويش، تحرير جريس سماوي، المؤسسة العربية للدراسات – بيروت، 1998م ص1. يشير الحديدي هنا إلى غنائية ملحمية تجسدها قصيدة "فانتازيا الناي" وسيشير حديدي لاحقاً إلى غنائية درامية في شعر درويش إلى جانب الغنائية الملحمية.