العدد الأول - شتاء 2007م

   
 

دراسات
 

قصيدة النثر في اليمن والنص المغاير (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                            

د. وجدان الصائغ
 ناقدة وأكاديمية من العراق.

تفرض قصيدة النثر نفسها على الساحة الثقافية اليمنية والشبابية على وجه الخصوص بحيث يصعب تجاهلها فهي تفلح بما تمتلك من تقنيات مدهشة في أن تحفر لها مكاناً في أذهاننا فيصعب علينا نسيانها بل إنها تدهشنا بهيئتها الجديدة غير المتوقعة. تفرض قصيدة النثر نفسها على الساحة الثقافية اليمنية والشبابية على وجه الخصوص بحيث يصعب تجاهلها فهي تفلح بما تمتلك من تقنيات مدهشة في أن تحفر لها مكاناً في أذهاننا فيصعب علينا نسيانها بل إنها تدهشنا بهيئتها الجديدة غير المتوقعة.

ففي المجموعة الشعرية الموسومة "مرقص" للشاعر محمد عبد الوهاب الشيباني (الصادرة عن وزارة الثقافة، صنعاء 2004م)  تجد نسقاً جديداً لكتابة القصيدة التي تغادر فضاءاتها الشعرية لتغدو أداة من أدوات السرد الروائي إلا أنها تنحاز إلى تدوينها الطباعي لتعلن عن هذه المغادرة منذ الفص الأول لهذه المجموعة الموسوم بـ"اليعسوب" إذ يثبت ردفه عبارة "ثابت معنياً بالرواية" وانتهاء بالفص الأخير الموسوم بـ"هؤلاء" ويردفه بعبارة "الرواية ليست معنية بهم"... وحين ننتقل من عتبة العنونة إلى عنونة فصوص المنجز ستجد مثلاً: "أم ضياء/ البنات/ خليل/ بوسي/ فطوم/ أحلام/ رامي/ هديل/ الكابتن سين/ ناهد/ إقبال/ …"، وهي فصوص أشبه ما تكون بمسارد روائية وحين تنتقل إلى تفاصيل المتون ستجد استبطاناً واعياً لتلك الأنوات التي تحركت على مسرح النص وترنحها تحت وطأة الحرمان والفقد الذي يشاكل ترنح الراقص على أرض المرقص هذا المكان الملتبس الذي يحيل إلى تحولات الأمكنة الرامزة للهوية والانتماء وامتساخها بل وصيرورتها مكاناً خصباً لغياب القيم وضياعها، تأمل ما قاله الشيباني في الشذرة الموسومة "علبة" "الليل يمر ثخيناً هنا":

حينما جهزت

شركة النفط

في المساحة المجاورة للمبنى

هنجراً واسعاً حتى يستطيع

موظفوها

إقامة شعائرهم

بالتأكيد لم يكن القائمون على

إدارتها يعلمون

أن شخصاً ما سيحوله بعد سبع من السنين

إلى علبة ليل

يزدحم في جنباتها

الباحثون إلى المتعة

في جو تختلط فيه الموسيقى

وأصوات المغنين الهواة

بلحم الراقصات.

بل الامتزاج الواعي بين أنوات المتون والنسق السياسي يضيء الرؤى الراعفة التي تشهد امتزاج الكوميدي بالتراجيدي وهي حركة تبتعد عن المحلية لتناقش هموم الإنسان أنَّى كان.. لاحظ مثلاً ما قاله عن نساء المرقص المحترقات:

ومن هنا

اختفت كل النساء

مع دخول أول

أيام الصيام

تماماً كما اختفى

الجيش العراقي من بغداد

في التاسع من نيسان.

المتن يوثق بهذه الصورة الكاريكاتيرية لفجيعة المكان الرامز للحضارة (بغداد) بغياب مسانده الدفاعية وجنرالاته العتاة وتركه مستباحاً لأساطيل المارينز ومجنزرات الغزاة. والمخيال النصي يعيده واعياً إلى ذاكرة التلقي ليفضح جوهر الرمز الذي وقف عليه المنجز برمته.. ومثل هذا ينسحب مثلاً على "ليال" "الغازية بشعرها الأصفر وأسنانها الذهبية"، تأمل:

هل خطر ببال الحاجَّة ليال

- بعد نجاتها من مذبحة بائعات المتعة

قبل حرب العراق الأخيرة –

أنها ستكون مسؤولة

عن اثنتين وعشرين فتاة

من بنات جلدتها (الغجريات)؟

...........................

هل خطر ببالها شكل الطاولة الواسعة

التي ستجلس إليها لست ساعات

كل ليلة تمضيها في أكل القات وتدخين المارلبورو الأبيض

وشرب البيرة

وتوجيه البنات، والرد على مكالماتهن

من التلفونات المحمولة؟

وهل خطر ببالها أيضاً

أنها ستستأجر خزانة بنكية سرية

لتضع فيها بسبورات وعقود

عمل الفتيات الممهورة بختمها

الحديدي

هل خطر ببال الحاجَّة – السمينة

بشعرها الأصفر وأسنانها الذهبية –

أنها ستبتكر جدولاً أسبوعياً؟

إذاً يمكنك مباشرة أن تلمح أصابع الشيباني وهو يشكل شخوصه المهيمنة على السردي والشعري والمستجلبة من الواقعي واليومي... هي شخوص تذكرك بشخوص نجيب محفوظ الملفعة بالرمز والتي أرخت كما يؤرخ الشيباني لأسباب هزيمتنا المعاصرة.. هو يرسم صورة كاريكاتورية لكنها للأسف لا تخز ضمير التلقي الذي تعايش معها وإنما يستدعيها بكامل ملامحها من تراجيدية الواقعية العربية.. فتجد في "ليال" الكينونة المغلفة بالعقيدة (الحاجَّة) والمتقشرة عن بشاعة الرؤى وغياب المعتقد وضياع القيم... الشيباني في منجزه الشعري نجح في أن يخلق شراكة بين المتلقي والمبدع الذي اكتفى بنصف الصفحة حين انتقى الهيكل التدويني لقصيدة النثر لسرد تفاصيل روايته – التي خرقت صفحاتها الثلاث والسبعين الحجم المألوف للرواية – ليمنح القارئ سانحة ملء النصف الآخر من الصفحة برؤاه وعذاباته التي سيستجلبها من معايشاته الخاصة للحدث.

وفي مجموعة "الشباك تهتز العنكبوت يبتهج" للشاعر محمد اللوزي (الصادرة في صنعاء 2001م) تجد صياغة يمتزج فيها الغرائبي بالشعري منذ العنونة ومروراً بسيرة الشاعر التي ثبتها في مطلع المجموعة والتي يرد فيها محمد محمد اللوزي:

-  برج الجوزاء، صنعاء 1975م.

-  لم يشارك في أي مهرجان محلي أو عربي أو عالمي.

-  لم يحصل على أي جوائز إبداعية محلية أو عربية.

ثم تنتقل إلى الإهداء الذي يرصفه على الشكل الآتي:

الإهداء..

إلى … … … …

… … … … …

… … … … …

… … … … …

            والمقدمة التي جاءت بالشكل التالي:

مقدمة:

… … … … …، … …

… ، … … …! …

… … … … … … … ، …

… … … … … … … …

…!!.

… … … … …، …

… … … … … ، …

… …، … … … ، … ؟!

… … ، … ؟؟

… … ….. … !!!.

 

محمد

صنعاء اغسطس 2001م

 

لنكون إزاء إشكالية نقدية يطرحها اللوزي الذي يعكس من خلال صياغته للمقدمة والسيرة حركة النقد العمياء صوب أصحاب الأوسمة والمشاركات وإهماله المبرمج الأصوات التي مازالت تشق طريقها بصعوبة بين الأسماء المهيمنة على المشهد الثقافي بسبب طروحاتها الجريئة يوماً ما أو بسبب الشللية أو... لذلك هو يطلب قارئاً يتجشم عناء الرحلة إلى فراديسه هو دون شراكة اجتماعية أو ثقافية مسبقة... هو إذن يطالب بحياة القصيدة التي تمنح للشاعر هويتها وملامحها ونبرات صوتها... ومحمد اللوزي يواجهك بقصائد وامضة تكثف مساحات النص المنطوق به لتمنح المسكوت عنه جغرافية متسعة. تأمل مثلاً ما قاله في قصيدته الوامضة الأولى الموسومة بـ"قناع" (ص 11):

في الحفلة التنكرية...

التي ستقام غداً

لم يعد ثمة أقنعة نلبسها

وسيلبس كل منا وجهه.

يتكئ المتن إلى بنية تراجيكوميدية بقدر ما تُضحك بقدر ما تخز وتعذب. إنها بنية تجعلك في مواجهة عذابات لا تنتهي.. عذابات نصنعها بأنفسنا حين نخاتل صفاء الروح ونستجيب لعتمة الآخر المخاتل المتربص بأحلامنا.. أنها دعوة للصفاء ولخلع الأقنعة ولمواجهة الذات والآخر بلا خوف أو عنف ومصالحته. وفي قصيدة "أسود" (ص 18) يخلق - واعياً - ارتباكاً في أفق التلقي، لاحظ الآتي:

لا تصغ للأبيض

حتى لو دام

طويلاً أبيض

إنك أمام متن بصري وامض يحاول واعياً أن يهتك ذاكرتك وذاكرة اللون ليمنحه معجماً جديداً، ويرسم وباقتدار جورنيكا جديدة تستبدل عتمة السواد بالبياض، لا لشيء إلا ليكون غلافاً للأسود مرة أخرى لتعكس وعياً حاداً بمحنة الاغتراب الثقافي والفكري، وقد أضاء الخطاب الزاجر "لا تصغ" إلى انفصال الذات عن العالم الخارجي الملبد بالمخاتلة والوحشة.

ويمارس اللوزي لعبته في نسف ذاكرة الألوان في قصيدته "لا أحد" (ص 10) التي يقول في جزء منها:

الأيام معبأة بالسواد

سواد أصفر

سواد أحمر

سواد أسود

أنت لا تعرف من تنتظر

وهذه هي المشكلة؟!

ولو انتقلت إلى قصائد الشاعر أحمد السلامي في مجموعته الشعرية "حياة بلا باب" (الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء 2002م) فإنك ستكون إزاء متن سوريالي يسعى وبمكابدة فنية ووعي جمالي حاد إلى تفكيك العلائق المنطقية بين الأشياء توقاً إلى وخز أفق التوقع ومداهنته للبحث عن حلول لأسئلة يضعها النص في سلالة، أحمد السلامي ومنذ العنونة يجعل من النص مرايا صقيلة تعكس الرؤى الأيديولوجية للذات المبدعة إزاء الحياة والكون وهي رؤى لا تستشفها القراءة العجلى وإنما تبقى رهينة التأويل الذي يمس شغاف البنية الغائبة المسكوت عنها. فـ"حياة بلا باب" تؤشر دلالتين متصادمتين إحداهما الرغبة في هتك أقفاص الأمكنة والأخرى هي شدة الالتصاق بالذات والانغلاق عليها لخلق ارتباكاً في مناخ التلقي يعيه الشاعر ويقصده. ولو تأملت في غلاف المجموعة ستجد هذا الارتباك يتسلل إلى الصورة الفوتوغرافية التي تواجهك بملامح أحمد السلامي الذي يقف محايثاً لباب كبير وثمة ضوء يلفح جبينه يشير إلى انفتاح الباب إلى أن هذه وجهته ووقفته ينعكسان على مرايا شطرت الصورة الفوتوغرافية شطرين وهو انشطار يتوغل إلى عمق المتون الشعرية فيثير حفيظة التلقي ويستفزه لإعادة قراءة الراهن، لاحظ مثلاً ما قاله في قصيدة "دليل" (ص 47):

في الضياع كف

للكف عين فيها دمعة

في الدمعة حنين إلى ذيل ثوب دليل مفقود

أنت إزاء نسقين أحدهما منطوق به يفكك العلائق المنطقية بين الأشياء لخلق مسرح عبثي ضاج بالإثارة والآخر مسكوت عنه ملفع بالمرارة ومتخم بالتوق إلى الانعتاق من عذابات الوحشة والترقب لحضور الآخر الحميم الغائب. فاليد تحيل إلى الرغبة في الأداء والمصافحة، والعين تحيل إلى الترقب، والدمع يحيل إلى الإحساس العارم بالهزيمة القصوى، ويكثف السطر الأخير الرغبة في الخلاص من دوامة الوحدة.

وتضيء قصيدة "فزع" (ص 69) أفقاً آخر.. لاحظ:

كمن يتجمد بانتظار صوت الطلقة

أو كالذي – لمرات عديدة – يكتم تنفسه حد الاختناق

يتوقع لحظة ظهور الوحش في فيلم مرعب

أترقب فزع انفتاح الباب

يخلق صورة تشبيهية معقدة نسبياً فهو يؤخر المشبه واعياً، "أترقب فزع انفتاح الباب" ليقدم وبأداة تشبيهية واحدة هي الكاف صورتين متكاملتين تمظهرتا في الأسطر الثلاثة الأولى وشكلتا المشبه به. السلامي أراد أن يصوغ صورة تتكور على الفزع من انفتاح الباب الذي يحرك المتن إلى أكثر من بعد أسطوري فثمة أنكيدو الذي اجتاز الباب لينتقل من اللاوعي إلى الوعي الذي أطاح به وثمة أوديب الذي رفض الانفصال عن الرحم الأنثوي فقضى صريع رغبته.. تتظافر هذه الوجوه لتعكس إحساسات شتى منها الانفصال الحاد عن العالم الخارجي بعتمته.

وتصوغ سوسن العريقي منذ عنونة مجموعتها "مربع الألم" (الصادرة عن وزارة الثقافة، صنعاء 2004م) قصيدة أنثوية تحيل إلى الأمكنة المغلقة/ الجدران التي تختزن في ذاكرتها تاريخ القهر الأنثوي وهي تفصص مجموعتها إلى أربع زوايا اتساقاً مع تشكيلات الألم، وتبدأها بإهداء لافت فحواه: "إلى براكين الألم التي أحرقتني/ فتوهجت/ حباً/ وغناء/ وتراتيل جنون". هي شهرزاد معاصرة تجوهرها فضاءات النحر الثقافي لتكون فينيقاً أنثوياً ينفض عن كاهله غبار الإلغاء والتهميش ليحلق مزهواً بتراتيله. سوسن تخلق نصاً يمتلك ثقافة الحضور ويمارس لعبة الإلغاء الآخر المعتم المتربص بحركة أناملها نحو بياض الورقة لذلك تخلق قصيدة جديدة رافضة لكل أنواع التهميش. تأمل مثلاً ما قالته في قصيدة أخذت علامة الاستفهام عنواناً لها:

تصوغني سؤالاً

تشكل إجابته

مسبقاً

وتحصرني فيه

من

دون

استفهام!

أنت أمام تراجيدية أنثوية وأمام شهرزاد محاصرة بثقافة الإلغاء لذلك فإن المخيال الشعري يستبدل علامات الترقيم بديلاً عن الكلام ليخلق منها وثاقاً يؤطر المتن الشعري ليعكس رؤاه الملتبسة إزاء ما يحصل.

وخلاصة القول، فإن قصيدة النثر في اليمن وتحديداً الشبابية قد صاغتها مواهب نأت عن المكرور والمستهلك لتخلق لها فردوساً شعرياً مدهشاً ينجح في أن يترك في الذاكرة نقوشاً لا تنسى.

 

الهوامش