العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

دراسات
 

أرابسك الدلالة
قراءة في قصيدة "الربيع" لأبي تمام (
لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

أحمد سعيد عبيدون
ناقد وأكاديمي من اليمن

 

يتألف نظام الرقش على نموذج من "خطوات ثلاث، وتبدأ برسم الدائرة، ويتبعها تقسيم محيطها إلى تقسيمات متساوية البعد، وأخيراً تقام الخطوط المستقيمة بين نقاط التقسيمات المتقابلة وبين نقاط التقسيمات المتجاورة، مما ينتج عنه شكل مضلع يتساوى عدد أضلعه بعدد زواياه المحاطة بإطار الدائرة"(1). لقد كان التدوير واحداً من مميزات شعر أبي تمام، لكنه يتكامل مع بقية الظواهر الفنية المختلفة؛ فإذا كانت ظواهر الترديد تبتدئ حركتها على الجانب الأفقي، تحرص على التشابه الصوتي الذي يضمر تضادات مختلفة، فإنَّ ظواهر الصوغ تقطع هذه الحركة رأسياً على الجانب العمودي محدثة في هذه التقاطعات فراغات دلالية تتجه بحركة الشعر نحو التعقد والالتباس. "كذلك في الرقش، فكثيراً ما ينجلي للعين رؤية التشكلات الدائرية، أو رؤية المكعبات المتداخلة في الرقش… وبعد التدقيق في التكوين تدرك العين أن ما رأته من التشكلات ما كان غير التباس بصري منبثق عن تداخل الخطوط المستقيمة، كما تدرك العين بعد التدقيق أن المكعبات المتداخلة ما هي غير التباس بصري آخر إثر ترداد الدوائر"(2). وإذا كان "لقاء القوس بالخط المستقيم يمثل المركب الأساس في وحدة الرقش الذي تتوازى أهميته التشكيلية مع أهمية التقسيم الثنائي في عمودية اللغة"(3)؛ فإن البدايات الأولى لتنسيق اللفظة وتشكيلها هو التقسيم الثلاثي والرباعي والخماسي، الذي يؤول في النهاية إلى الثنائي الذي يمثل الأساس في ظواهر الترديد المختلفة. وإذا كان الترديد هو العودة الصوتية إلى نقطة البداية أو قريباً منها، وخاصة في ظاهرتي التشقيق والتجنيس، فإننا بذلك نعاين أقواساً دلالية تتكامل مع خطوط الصوغ الرأسية، ليحدث بامتزاجها جميعاً هندسة الزخرف الشعري التي تماثل "زخرفة الأرابسك التي تعمد إلى التناظر والتكرر اللذين لا وجود لهما في الطبيعة، إنما هي إصغاء إلى ألحان خافتة في الأشياء، ثم التعبير عن ذلك بوسائل هي في الحقيقة من وسائل الموسيقى: الإيقاع، الجرس، الشدّة..."(4).

والحقيقة أنَّ هذه الزخرفة الشعرية ليست تنميقاً زائداً، ولعباً خالياً من الفكر، وإنما هي تمثل طبيعة تعقد هذا الفكر، وأسلوب صياغة دقيقة متداخلة العلاقات، ومزاج طريقةٍ وأسلوب حديث يتجاوز الأذن إلى أن يحرك العين والتأمل والتفكير. "هذه الطريقة الحديثة كانت استجابة لروح العصر بصفة عامة، وكانت في الوقت نفسه بصفة خاصة استجابة للروح العربية الإسلامية في التصوير، والتي كانت لا تقدم الإنسان كما هو، وإنما تلح عليه ليبدو شيئاً مخالفاً إلى حد ما لشكل الإنسان، لإمكان الانتقالة من المحسوس إلى غير المحسوس، ومن العيني إلى المجرد. لقد كانت هذه الطريقة ثمرة من ثمرات العصور المتأخرة، والبعيدة عن البداوة، وكانت تتويجاً لمرحلة حضارية جديدة قد تحددت ملامحها…"(5)، كما تعود إلى إدراك الشاعر أنَّ "هندسته الشعرية كانت المعادل لتلك الهندسة السائدة في علوم عصره وآدابه وفنونه، والتي كانت في الغالب هندسة مربعات ودوائر ومثلثات متتابعة، وكأنها إشارة إلى اللامتناهي"(6).

وإذا كانت تشكيلات الزخرفة في قصائد أبي تمام مختلفة اختلاف حركة الصوغ اللغوية/ الفكرية، من حيث حضور بعض العلاقات واختفاء أخرى داخل القصيدة، ومن حيث نوعية حضورها من زاوية الوظيفة الشعرية بين التشبيه والاستعارة… فإنه لا يكتمل درس شعره إلا إذا أخذنا ننظر في قصيدة من قصائده نلاحظ فيها تشابك الدوائر والخطوط التي تكوِّن (أرابيسك) الدلالة التمامية، ولتكن قصيدة "الربيع"، وهي قصيدة محكمة التشكيل، دقيقة الزخرفة، بحيث تتداخل فيها الدلالات وتتشابك وتلتبس مؤثرة في العين تأثيراً ممتعاً. ولكي نصل إلى المكونات الأساسية، ونقف على نقاط التأثير الشعري، ومناطق الغموض والالتباس فيها، نحاول أن نفرز بعض الدلالات فرزاً واضحاً يبصّرنا بطرق الوصول إلى خطوط هذا النسج الدلالي المعقد ودهاليزه.

في قصيدة "الربيع" أربع دوائر دلالية مختلفة، تتداخل خطوطها وتلتبس أقواسها وفراغاتها، وهي جميعاً تقدم موضوعاً واحداً، هو موضوع الصنعة والإبداع، من زوايا مختلفة، وفقاً وطبيعة هذا المبدع أو الصانع من جهة، ونوعية الفعل الإبداعي المصنوع الذي يقوم به من جهة أخرى. وثمة نقاط دلالية تقف عندها حركة هذه الدوائر وتتقاطع خطوطها مع الدوائر الأخرى. ويمكن تعيين هذه الوقفات الدلالية على محيط كل دائرة بالآتي: المبدع، الأداة، العملية، المادة، المكان، النوعية، والنتيجة.

تبتدئ الدائرة الأولى حركتها من نقطة المبدع الذي يحدده البيت الحادي والعشرون (صنع الذي لولا بدائع صنعه…)، فـ "الله" هو المبدع وهو "الصانع" الأول، حيث يقوم بعملية إرسال الماء إلى الأرض ليصوغ به الأرض صياغة جديدة، ينقلها به من حالة الهمود إلى حالة الإنبات. ونلحظ الماء (مادة الخلق الإلهي) غزيراً في الأبيات الخامس والسادس والسابع والخامس عشر:

-           مطر يذوب…

-           غيثان … الأنواء…

-           ندى… السحاب.

-           النــــدى

أما الأرض فنجدها في الأبيات: العاشر، الحادي عشر، الرابع عشر، والسابع عشر:

-           الأرض

-           الأرض

-           بطونها لظهورها

-           وهادها ونجادها

وإذا ما أردنا تحديداً لمكان هذا الصوغ في الأرض، فإننا نعثر عليه في البيتين الأول والسابع: «غدا الثرى»، «لمم الثرى»، والثرى تراب نديّ قابل للإنبات والثراء، حين يكتسي بالنبات ويتجمل بالأزاهير، فيغدو في حليه يتكسر. إن القصيدة تركز على فعل الخلق الإلهي بوصفه إبداعاً جمالياً مؤثراً في النفوس ومُدخِلاً عليها السعادة والبهجة، وهذا يتضح في وصف عملية الخلق هذه بألفاظ الإبداع والصنع، بل بالألفاظ التي تدل على عملية الصوغ الشعري على وجه الخصوص، كما يظهر في الأبيات: العاشر، الحادي عشر، والرابع عشر:

- وحُسْنُ الأَرْضِ حِيْنَ تُـغيَّر

-           وجوه الأْرض كيف تُصَوَّر

-           تَصُوْغ بطُوْنَها لظُهُورِهـَا

فالعملية الإبداعية الإلهية تتحدد هنا بالألفاظ الثلاثة: "التغيير"، "التصوير"، و"الصياغة". وذكر التصوير هنا إنما هو تركيز على الكيفية الجمالية لهذا التصوير، كما يظهر في قوله: "كيف تصور".

ولأَنَّ فعل الإبداع هو فعل كيفية وتشكيل، يهدف إلى الإمتاع الجمالي والزينة، فإننا نلحظ إعادة صياغة للزمن، بحيث تتبدل الخصائص الذميمة والمؤذية فيه ليتحول إلى زمن مناسب لهذا الإبداع. وإذا كان أجمل الأزمنة الأربعة في السنة هو فصل الربيع، فإن ثمة تغييراً يحدث في الفصول الأخرى، لكي تتلاءم مع الربيع وتقترب في جمالها من جماله.

فالصيف، الذي يتميز بشدة الحرارة التي تسبب التضايق والانزعاج، يتحول إلى صيف لطيف حميد، قليل الحرارة، يصطاف فيه الناس، ويغدو مقصداً يؤمّونه، لا مهرباً ينفرون من حرارته. يتضح ذلك في لحظ الفرق بين "الصيف": القيظ والحرارة الشديدة والمصيف الذي أصله من فعل "صاف" الذي يحمل في جوهره عدولاً وانحرافاً عن حقيقة الشيء، وانصرافاً للإصابات عن أهدافها؛ فـ"صاف السهم عن الهدف يصوف ويصيف، أي عدل عنه. ومنه قولهم: صاف عني شر فلان واصطاف عني شره، وصاف بالمكان واصطاف: أقام به الصيف، والموضع مصيف ومصطاف"(7).

هكذا تذهب شرور الصيف وينحرف قيظه عن الوقوع على الناس وأذيتهم، حتى يغدو مأمّاً ومصطافاً، يصلح للإقامة والمتعة. أما الشتاء فيبدو أن هذه اللحظة الجميلة فيه هي فلتة لا تقع منه على الدوام، (جديدة) لأنه يقدم الدفء والمطر، وإن كان وبله مثعنجراً، إلا أنه هذه المرة يده جديدة مقبولة "لا تكفر"، لأنه يواسي البلاد بنفسه… هكذا يكيف الصيف والشتاء، ويصاغان صياغة ربيعية، وكأن الزمن كله يغدو ربيعاً جميلاً مزخرفاً كما يزخرف البُرد، وهذا واضح في البيت الأول الذي ترق فيه حواشي الزمن (الدهر) فهو بُرد تترقرق حواشيه ليناً ونعومة.

فالزمن في رقته ونعومته، ربيعٌ مليء بالأزاهير والورود، كما نرى البرد المزخرفة حواشيه بالنقوش والزينة، وهذا يبدو في تكرر كلمة الربيع أكثر من غيرها من ألفاظ الزمن، في الأبيات: الثامن، والثالث، السابع عشر، والثاني والعشرين:

أربيعنا/ للربيع/ الربيع/

الربيع / الربيع...

وفي سياق الحديث عن الزمن نجد في البيت التاسع: "في الأيام بهجة"، وفي البيت الثامن والعشرين نجد الزمن هادئاً وحوادثه محمودة الفعال:

سَكَنَ الزَّمانُ فَلا يَدٌ مَذْمُومَةٌ

للحَادِثَاتِ ولا سَـوَامٌ يُذْعَـرُ

والحقيقة أنَّ الورى كما يبين البيت الثالث عشر يتحولون من مهمة البحث عن العيش إلى السعادة والتمتع:

دُنْيا مَعَاش للورى حتَّى إذا

جُلِيَ الربيعُ فإنّما هيَ مَنْظَرُ

وهذا يعني أنَّ مرحلة التمتع جاءت بعد الاكتفاء والاغتناء، وليس قبل ذلك. وإذا كان الزمان هناك رقَّ حتى صار بُرداً، والبُرد هو اللفظ الذي ارتفع في الديوان إلى مرتبة الرمز الذي يتغلغل في كثير من الأمور ليغدو علامة على الحضارة والذوق والنعومة والجمال… كما يتضح ذلك في دائرته من شعر أبي تمام:

ا

إنَّ الطبيعة هنا تغدو –في جمالها ورياضها المليئة بالورود والأزاهير المختلفة الألوان والأجناس– عروساً مليئة بزينتها، كما يبين البيت: "... جُلِىَ الربيع...". يغدو الربيع عروساً، يُجلى على أعين الورى فيكون مثاراً للمتعة والسعادة. ولأن العروس هو اللفظ المفضل لكثير من الموضوعات، أهمها الشعر كما يقول:

إليْكَ بِها عَذْرَاءَ زُفَّت كأَنَّها

عَرُوسٌ عَلَيْها حَلْيُها يَتَكَسَّرُ(8)

فإن الربيع هو قصيدة الله الجميلة في الأرض.

والشطر الثاني هذا: "عَرُوسٌ عَلَيْها حَلْيُها يَتَكَسَّرُ" يدفعنا إلى تعديل هذا التأويل قليلاً، وذلك بأن نعد الربيع بمثابة الحلي والزينة والزركشة التي تلبسها العروس. أما هذه العروس فهي الثرى كما يظهر في البيت الأول: «وغدا الثرى في حَلْيه يتكسَّر»"! كما يتطلب ذلك الترابط الداخلي بين الشطرين.

ونصل الآن إلى الفتنة اللونية الساحرة في الأبيات الأربعة الآتية:

تَرَيَا نَهَاراً مُشْمِساً قَدْ شَابَهُ

زَهْـرُ الرُّبى فَكأَنَّمَا هُوَ مُقْمِرُ

مُصْـفَرَّةٌ مُحْـمَرَّةٌ فَكَأَنَّها

عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغَى وتُمَضَّرُ

مِنْ فَاقِعٍ غَـضِّ النَّبات كَأَنَّهُ

دُرٌ يُشـقَّقُ قَـبْلُ ثُـمَّ يُزَعْفَرُ

أوْ سَاطِعٍ في حُمْرةٍ فَكَأَنَّما

يَدْنُو إليهِ مِـنْ الهَـواءِ مُعَصْفَرُ

صُنْعُ الَّذي لَوْلاَ بَدائِعُ لُطْفِهِ

مَاَ عادَ أَصْفَر بَعْدَ إذ هُو أَخضَرُ

والحقيقة أننا في دراما هذا الربيع نجد كل شيء يغدو رباعياً في عدده، ونحن الآن أمام ألوان أربعة أساسية هي: الأبيض، الأحمر، الأصفر، والأخضر. هذه الألوان تعاد صياغتها من جديد وتُمزج مزجاً جديداً ربيعياً، لتعطي لنا ألواناً أربعة جديدة هي على الترتيب: الأصفر المحمر، الأبيض المخضر، الأبيض المصفر، والأبيض المحمر. ولكن من أين تجيء هذه الألوان؟! إنها تجيء من الفصول الأربعة، بعد أن تخلصت من شرورها وصُفِّيت ولم يبق منها غير أجمل ما فيها: شكلها ولونها:

فالأبيض لون الشتاء والثلوج.

والأحمر لون الصيف: اللفح والنار.

والأصفر لون الخريف والذبول.

والأخضر لون الربيع والنَّماء.

ومن مزج هذه الألوان يتكوَّن لون الربيع الفتَّان. وهنا تكتمل الدائرة الأولى التي لا بد أن تنفرط بهجتها(9) ولا يبقى منها شيء إلاّ في التمنِّي وحسب:

مـا كانت الأيَّام تسْلبُ بَهْجَةً

لو أنَّ حُسْنَ الروض كَان يعمَّرُ

إنَّ المتأمل في حركة الدائرة الأولى يجد أنها حركة شعرية. فالعمليات التي يقوم بها المبدع الصانع هي عمليات: التغيير، التصوير، والصياغة. وهذه المفاهيم هي مفاهيم العملية الشعرية أصلاً.

إن هذه النقطة واحدة من النقاط التي تتقاطع عندها الدائرة الأولى، وتلتبس خطوطها الجمالية بالدائرة الثانية: دائرة الشاعر الذي يستخدم أدوات الصنعة أو الصوغ الشعري لنظم المعاني وصياغتها في عمليات مختلفة من الزخرفة والتحبير والتفويف… حتى تغدو عروساً عليها حليها يتكسَّر. أما ماء الشعر الذي يصوغ به الشاعر فهو العقل/ التفكير والثقافة:

 ولكنه صوب العقول إذا انجلت

سحائب منه أعقبت بسحائب(10)

وهذه هي الدائرة الثانية. أما الدائرة الثالثة والخطيرة فهي دائرة الإمام/ الخليفة الذي يقوم الآن بعملية إبداع شعرية مماثلة، يجعل العدل والجود أداةً يصوغ بها البلاد وينظم بها العباد، كما ينظم الصائغ الجواهر والعقود، والنسَّاج الأردية والبرود. وهذه هي الدائرة الرابعة: دائرة الصانع الحرفي الفنان، الذي يحسن صناعته ويجود فنه، مقدماً عقوداً ساحرة وبروداً محبَّرة. ونعود الآن إلى الدائرة الثالثة: دائرة الخليفة/ الإمام، ويبدو أن هذه الدائرة ليست على درجة متواترة من الثبات الذي نجده في الدائرة الأولى. فكما لاحظنا الالتباس الترميزي بين الشتاء والخليفة، بين نفع الناس ومواساتهم بنفسه، وبين إحداث الضرر (وبله مثعنجر)؛ نجد الآن هذا الالتباس الزخرفي في الدلالة الجمالية وتقاطع الخطوط الزخرفية بين: العدل والجود، والعدل والجور، في البيت الثالث والعشرين. ونلحظ لفظة "الإمام" تتكرر مرتين في البيت الثاني والعشرين والبيت الثالث والعشرين:

خلق الإمام وهديه المتيسر

في الأرض من عدل الإمام وجوده

إن الخليفة حين يظلم حادث

وتكرر هذه اللفظة إنما هو إلحاح على معنى القدوة والأصل(11)، والخلافة في الأرض، التي ينبغي أن يتمثلها الخليفة، حتى توصله إلى الاقتداء بالمبدع الأول؛ هذا الذي سوف تلح عليه علاقة (المقاربة- الحدس)، بين خلق الربيع، وخُلق الإمام في البيت الثاني والعشرين، في رغبة تحفيزية، يستخدم معها عملية القلب الساخرة أو الآملة أن يكون خلق الربيع خلقَ الإمام.

وإذا كان المبدع الأول يستخدم الماء أداة للخلق والإبداع، فإنَّ ماء المبدع في الدائرة الثانية هو العدل والجود، كما يتضح في البيتين الثالث والعشرين والتاسع والعشرين.

أما مادة الإبداع التي يقوم بتشكيلها فهي محددة في البيتين الثالث عشر والتاسع والعشرين: (البلاد- الورى)، في عملية لا تختلف عن العمليات السابقة، فهي عملية إبداع شعري كذلك: يقوم الإمام/ الخليفة بنظم وصياغة البلاد/ الورى صياغة جديدة، تنقلهم من حياة البؤس والفاقة إلى حياة الغنى والجود:

نظم البلاد فأصبحت وكأنها

عقد كأن العدل فيها جوهَر

ولكن: أي نوع من أولئك الورى الذين يقع عليهم الصوغ؟ إنهم بلا شك الفقراء والمعسرون (… المعْسر) كما يدل البيت الأخير. هذه هي الدوائر الدلالية الأربع التي تكوِّن (ربيع) القصيدة التمَّامية التي هي صياغة خامسة لأربعة أنواع من الربيع هي: ربيع الله في الأرض، ربيع الإمام في الناس، ربيع الصانع الفنان في المادة، وربيع الشاعر في القصيدة. بحيث لا نستطيع أن نرى واحداً منها إلاّ وهو في التباس غامض في أخيه، لكنه جميل جمال الزخرفة التي تلتبس في أعيننا خيوطها ودوائرها التباساً جمالياً مؤثراً. ويمكن أن يساعدنا الجدول الآتي على تصور ذلك.

ونحاول الآن النظر في بعض هذه الالتباسات الزخرفية للدلالة في تقاطعاتها مع الدوائر الأربع، لنلاحظ سيمياء رحلة الدلالة وتقاطعات خطوطها الزخرفية. وأوَّل هذه التقاطعات توحيد عملية الإبداع في الدوائر الأربع بألفاظ واحدة تقريباً (التغيير، التصوير، الصياغة، النظم) بحيث لا نستطيع إسقاط واحد من هذه الألفاظ الأربعة على الحقيقة، مما يحدث تداخلات جمالية بين ربيع الأرض، وربيع النفوس (السعادة)، وربيع الفن (الزخرفة والنَّقش/ العقود، البرود)، وربيع الشعر (القصيدة التمَّامية). إن الهدف الأخير والنتيجة النهائية هي الوصول إلى لحظة المتعة والسعادة للإنسان، متعة النفس ومتعة العقل. وهذه المتعة لا تنفصل عن الفائدة والمنفعة والإشباع، إنها أعلى درجات الإشباع والإمتاع؛ لأن التحوّل الذي يوضحه البيت الثالث عشر، تحول للناس من لحظة البحث عن مقومات العيش، إلى اليسر والاكتفاء، الذي يفتح منافذ العقل والحس للتأمل والتمتع والفرح (دنيا معاش للورى... فإنما هي منظرُ).

ويمكن متابعة المتعة في الأبيات:

- الرابع عشر: القلوب تنور.

- الخامس عشر: تترقرق عين الزاهرة بالندى وهي تغرورق بدموع الفرح. وإذا تأملنا الالتباس الدلالي الجمالي بين الندى بوصفه ماءً والندى بوصفه مالاً، وزاهرة الثرى من النبات وزاهرة الفقراء من الورى، نتأكد من تداخلات الدوائر ونجد في كل دائرة فراغات تفضي إلى الأخرى.

- السابع عشر: حركة العذراء العروس في زينتها المنتشية والمثيرة للمتعة تبدو تارة وتخفى.

- التاسع عشر: حركة الأرض منتشية تتبختر في خلع الربيع. أخيراً سحر الألوان التي تخلب اللب، وتسحر العين في قمة النشوة والمتعة.

هل يستطيع الإمام/ الخليفة إعادة صياغة الفقراء والورى بالعدل والجود، بحيث يُغنيهم، فينقلهم من وحول الثرى إلى رياض الثراء، من لحظة البحث عن الخبز إلى لحظة الإبداع والتمتع؟ هل يستطيع أن يتعهدهم بماء الجود حتى تتفتح زهراتهم كما تتفتح زهرات الله في الربيع فتترقرق عيونها بدموع الفرح والبهجة؟ الحقيقة إن هذه هي وظيفته التي يبدو أنه لا يؤديها كما ينبغي، لأننا نراه مرَّة -في التباس زخرفي في القصيدة مع الشتاء- لا يضع الأمور في مواضعها، نجده يفصم هذا العقد الجميل ويفرّقه بالجور، فيغدو النظمُ نثراً وتفريقاً، ووضعاً للأمور في غير مواضعها، محدثاً أذى وضرراً.

كم ليلةٍ آسى البِلاَدَ بنَفْسِه

فيـها ويَـوْمٍ وبْلُهُ مُثْعَنْجِرُ

إن لحظة الالتباس الشعري هذه، هي لحظة وصول الصوغ في القصيدة قمة تشكيله الزخرفي وقمة تأثيره في وظيفة الفعل الاستعاري؛ لأن الاستعارة هنا تعني أخذاً أو استعارة لخصائص إحدى الدوائر الأربع، وتبادلاً للتأثير والتأثر بينها.

هناك علاقتان اثنتان أساسيتان تهيمنان على صوغ هذه القصيدة: علاقة (التحوّل- الصيرورة)، وعلاقة (المقاربة- الحدس). وفي العلاقة الأولى نجد أدواتاً ملفوظة مثل: "غدا"، "عاد"، وأخرى ملحوظة في الأبيات كما سوف نلاحظ أهمها:

- تحول الدهر من الخشونة والغلظة إلى الرقة والنعومة. وتحول الثرى من الجفاف والعرى إلى الاكتساء والفرح.

- تحول الورى من البحث عن الرزق إلى الاغتناء والمتعة.

- تحول المصيف من الحرارة الذميمة إلى الدفء الحميد.

- تحول الشتاء من البرودة المضرة إلى البرودة المحببة (لا تكفر).

- تحول وهدات الأرض ونجادها من العطش والجفاف إلى الارتواء والزينة، سحر الألوان المختلفة.

- تحول الزمان من حالة الإيذاء والتخويف إلى حالة السكون والإسعاد (سكن الزمان).

أما علاقة (المقاربة- الحدس) فهي العلاقة المهيمنة على معظم الصياغات، وتكاد تكون هي الأساس الذي تهدف القصيدة من خلاله للوصول إلى أهدافها الشعرية. والأداة المهيمنة هي "كأن" ثم "خال" ثم "كاد"، ولنأخذ البيت السابع:

 ... خلت السحاب أتاه وهو معذّر

نلحظ ثمة رغبة حدسية لأن يقوم الخليفة بتقديم الندى/ الكرم للفقراء، يقوم بزيارتهم والمسح على رؤوسهم، ويعتذر عن تقصيره معهم وإهمالهم. وتقف خلف ذلك الرؤية الإسلامية التي ترى في المال حقاً للفقراء يأخذونه مرفوعي الرأس. ويرفده البيت الخامس عشر:

من كُلِّ زَاهِرَةٍ ترقْرَقُ بالنَّدىَ

فكَأنَّها عَيْنٌ عَلَيْـهِ تَـحَدَّرُ

إذ نلحظ ثمة حدساً في أن يكون الكرم/ الندى يفتح إمكانات الأزاهير/ الورى حتى تشرق بالفرح، وترتوي بالغنى والنشوة، وهي نشوة وفرح ينعش أعماق النفس، أو كما يقول: تكاد له القلوب تنوَّر، فرح إلى حد البكاء. وفي البيت الثاني والعشرين:

خُلُقٌ أطَلَّ من الرَّبيْعِ كَأَنَّهُ

خُلُقُ الإِمَامِ و هديُه المتَيَسِّرُ

مقاربة- حدس، في أن يكون هذا الربيع الذي هو قمة جمال الصنع الإلهي في الطبيعة ومتعته، مثالاً يقتدي به الإمام ليحقق الخلافة الصحيحة لله في الأرض، لأن المال الذي أعطاه الله إياه، إنما هو مال الله، يشتغل فيه بمحاكاة فعله عن طريق الكرم والجود والعدل. وفي البيت الثامن عشر:

مصفرَّةً محـمرَّة فكأنَّـها

عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغَى وتمضَّرُ

بيت يحدس برغبة أن تمتلئ الأرض بالرجال الذين يحمون الأرض، ويجمِّلونها بأفعالهم، رجال العرب من مضر واليمن -مثلاً- في وحدة واحدة يمثلون فئتين ملتحمتين قويتين، يعمرون الأرض ويكونون يداً منتصرة على الدوام، يجمعهم إمام/ خليفة ينظم البلاد بالعدل والجود وينقل الناس معه من البداوة والتخلف العقلي إلى التحضر والتمدن:

لم يبق مبدى مُوحِشٌ إلاّ ارتَوَى

            مـن ذِكْرِه فكأَنَّما هو مَحْضَرُ 

هكذا يحدس الصوغ بنقل الناس من الفقر إلى الغنى، من الخشونة إلى الرقة، من الإعسار إلى الخفض، من البداوة إلى الحضارة.

 

 

الهـــوامـــــــش

 

(1) كمال بلاطة، في هندسة اللغة وقواعد الرقش، ضمن ندوة مواقف: "الإسلام والحداثة"- 26.

(2) المرجع السابق: 31/32.

(3) السابق: 26

(4) علم النفس والأدب: 33.

(5) أبوتمام وقضية التجديد في الشعر: 175.

(6) المرجع السابق: 175.

 يجيء تحليلنا لهذه القصيدة بعد تكشّف أهم الخصائص والعلاقات التي تسم شعره، محاولين إظهار كيفية الدلالة الشعرية فيها، والوقوف على أهم مفاصل الطريقة الصياغية من منظور منهج البحث. فهو تحليل يحمل هذه الخصوصية. نقول ذلك ونحن واعون للتحليلات الكثيرة لهذه القصيدة من منظورات مختلفة. ولا نريد أن نقلل من أي تحليل أو نتداخل معه، في الوقت الذي نشير فيه إلى أهمها: تحليل الدكتور كمال أبو ديب في كتابه: "جدلية الخفاء والتجلي": 229، والدكتور عبد القادر الرباعي في مجلة "فصول" مج14، ع2، صيف 1995: "طاقة اللغة وتشكل المعنى في قصيدة "الربيع" لأبي تمام -دراسة نصية": 105.

(7) ينظر: الصحاح، مادة: صاف، صيف.

(8) الديوان: 2/217.

(9) إنَّ لفظة "بهجة" هي لفظة قرآنية في هذا المقام فقد ذكرت في الآيات:

- "… فأنبتنا به حدائق ذات بهجة" النمل(6).

- "… وأنبتت من كل زوج بهيج" الحج(5).

- "… وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج" ق (7).

أما الألوان المختلفة السابقة في التحليل فنجدها في الآية:

"ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها" فاطر(27).

وأيضاً نجدها في الآية:

"… وأنبتنا فيها من كل زوج كريم" لقمان(10).

(10) الديوان: 1/214.

 إذا كانت مادة الخلق الإلهي هي: الماء، فإن مادة/ ماء الخلق الإنساني هي: العقل. إنَّ ما يفسر وجود الماء في صياغات أبي تمَّام -كما نرى- هو محاولة استعارة سر الإبداع الإلهي (الماء) لتحقيق الخلافة الحقة في الأرض بتفتيق العقل والإبداع بـه والابتكار. والعقل هنا ينقسم قسمين بين الشاعر والخليفة، فالشاعر مادته: العقل/ الشعر، والخليفة: العدل/ المال. ونعثر على الصياغات في القسمين معاً:

 "سماء من ثنائي" 3/73، "فيض القريض" 1/129.

 "سماء الجود" 2/219، "سحاب جودك" ص/314.

 وهذا -في الأقل- ينفي التأويل الآلي للماء بأن "وراء ذلك حرفته القديمة بمصر حين عمل سقاء بجامع عمرو".

 ينظر: أبو تمام وقضية التجديد في الشعر هامش: 151.

(11) ينظر: الصحاح، مادة: أمم.

 إنَّ ما يعزز إقامتنا هذه العلاقة بين (الشتاء) وبين (الخليفة) هو دلالة الشتاء على الزمان أولاً، ثم اشتراك الشتاء في السخط مع الزمان من حيث الاعوجاج والخَرَق:

- فضربت الشتاء في أخدعيه…

- يا دهر قوّم من أخدعيك…

وقد جاء في شعره أن الزمان مذموماً يدل على السلطان، فيكون (الشتاء) -إذن- ابناً للزمان على طريقة أبي تمام في الصياغة.