العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

دراسات
 

قصيدة النثر... تحولات الكتابة(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

سلمان كاصد
باحث وناقد عراقي

لا بد لي في البداية أن أخضع تجربتي في الكتابة النقدية حول قصيدة النثر لاستعراض مفهوم التحولات في الكتابة.

نحن نفترض أولاً أن مفهوم المحورين: العمودي والأفقي، الاستبدالي والتراكمي، صحيح. وأن المحور العمودي الساقط على المحور الأفقي ما هو إلا استعارة اختص بها الشعر. وأن المحور الأفقي التراكمي (الكورنولوجي) ما هو إلا كناية اختص بها النثر. وأن ما هو استعاري يمكن أن يتصف بالكنائية، وبذلك ينهض لدينا شعر نثري، أو القصيدة النثرية. وفي المقابل من ذلك فإن ما هو كنائي يمكن أن يتصف بالاستعارية، وبذلك أيضاً ينهض لدينا نثر شعري. هنا لم نخرج عن الإطار العام الذي اشتغل عليه (ياكوبسن) في تحديد نمطين من الكتابة الشعرية عندما يصبح النثر الموصوف بالكنائية شعراً، كونه احتواءً للاستعارة، وأن يصبح الشعر الموصوف بالاستعارية جزءاً من نمط نثري، كونه احتواءً للكنائية. ولكن متى يحصل ذلك للنمط الثاني؟

هناك –وفق ما أقرأه- محاولات سردية في القصيدة الحديثة تجعلها تتحايث النثر في سرديته التعاقبية، أي أن ما هو سردي يطغى على ما هو وصفي في كثير من أنماطها. وهو ما يحاول فيه الشعراء الذين خرجوا من أردان قصيدة التفعيلة؛ إذ لم يستطع الكثير منهم أن يخلقوا نمطاً مستقلاً بذاته، إنما هو صورة ظلالية لقصيدة التفعيلة. ذلك النمط المهيمن الذي تشم رائحته، بل تنظر إلى صورته الباهتة خلف قصائدهم التي يدعون أنها نمط جديد في الكتابة الشعرية، خرجوا به ليواجهوا العالم. إنها رؤية "كولدمانية" تمازج بين التغيرات السوسيولوجية للمجتمع العربي بخاصة، وبين بناء القصيدة الذي بدأ لديهم يأخذ منحى مشاكلاً لتلك التغيرات.

إن هؤلاء فعلاً بدأوا يأخذون على عاتقهم ممارسة طرح إشكالية هذا العالم في المنظور الشعري الذي يتمثلونه. هذا مع افتراضي أن شعراء قصيدة النثر لا يعني أنهم غير قادرين على استبصار ملامح تجربة قصيدة التفعيلة، فهم أساساً جاءوا من أردانها، بل بادعائهم من مخلفاتها، تلك المخلفات التي وضعت المحرمات-أيضاً- أساساً لتكوينها، عندما تعاملت مع القصيدة العمودية السابقة عليها.

وهنا أصبح مبدأ التشكيل والتساؤلات الملحة قانوناً ينفرد به شعراء قصيدة النثر الذين أرادوا التحدث –علانية- بلا قوانين، ليحاكموا وجودهم العبثي المليء بالفوضى، خارج حدود الانضباط في المجتمعات المتماسكة، ما دام العالم يزخر بالمقاييس والأنظمة الإيقاعية التي تجعل أرواحهم عالقة في أسيجة نظمية قاسية تستخف بوجودهم. لذا كان اللجوء إلى حرية أو ديمقراطية التعبير أحد الأسباب وراء تحطيم تلك الأسيجة الحديدية التي كانوا -هم- من روادها في نهضتها. وأقصد بها هنا قصيدة التفعيلة.

 وكل ذلك لا يعني عدم امتلاكهم (أصحاب قصيدة النثر) مقومات الصياغة الأسلوبية الراقية للغة، بل هم أعلم بتشكيلاتها وقوانينها؛ إلا أن خيالهم الشعري أقرب إلى التحرر من غيرهم. فبدأ همهم الأول والأخير هو البحث عن روح الشعرية في ما هو مألوف في عالمهم اليومي والعادي. ولهذا السبب كان ظهور الجيل الشعري الجديد مدعاة لإنقاذ أفق الشعر من كل المحرمات والممنوعات التي تستلب حرية التعبير، وكأن المجانية –بمفهوم برنار- هي الوقوف ضد نمطية الحياة، والانطلاق نحو آفاق أرحب وعوالم مضيئة.

صحيح أن الذائقة استعذبت الوزن الشعري بوصفه قانوناً يوازي بل يتشاكل مع الإيقاع الحياتي العربي، إلا أن تعويد الذائقة تلك على نمط شعري مختلف سوف يكسبها ذائقة جديدة لا تقوم على موسيقى الإيقاع المتوارث، بل "تتأسس على إيقاع من نوع مغاير تماماً، تحدده تجاربنا ونظام حياتنا الذي يرتكن إلى إيقاع مختلف تماماً"، حسب أدونيس.

ولهذا عُدَّت اللغة لعبة قصيدة النثر، في انعطافاتها المتعددة، بسبب تنوع صورها وتلاقحها من ينابيع مختلفة، متباينة، بحيث بدت الصور فيها تتلاحق واحدة بعد الأخرى، في نسق جديد يبدو مليئاً بالغموض، ذلك الغموض الذي يتمحور حول سؤالنا الدائم: ما الذي يقصد الشاعر بقصيدته هذه؟

إن من أكبر معضلات قصيدة النثر هو هذا الغياب في تأويل الخطاب. وكما يقول (المسدي): "إن ثمة تعارضاً بين الوظيفة النحوية التي هي دلالة وضوح، وبين دلالة النظم في قصيدة النثر التي هي بنية غموض". 

وفي ضوء ذلك تعد قراءة النص الشعري نوعاً من أنواع المجازفة العسيرة، ما دامت تفترض رؤيتين: الأولى تعني الوصول إلى آفاق ما أراده الشاعر (إيجاد المعنى)، والأخرى تدعي تحول قارئ النص إلى منتج له (إنتاج المعنى). ولهذا السبب تعددت الطرائق وهي في سبيلها إلى البنى العميقة في قاع قصيدة النثر لتخترق الشكل اللغوي أو النسيج العنكبوتي الذي يوحي بهشاشة المظهر على السطح، في الوقت الذي تختبئ خلفه كل تجارب الشاعر الذهنية والثقافية والاجتماعية.

وفي ضوء ذلك فإن دراسة الظاهرة الخطية في الشكل تعد من العناصر المهمة في تبيان أهم سمة في قصيدة النثر، وهي: مدى توازن نسج القصيدة بما يعوض عن إيقاعية قصيدة التفعيلة. أي بمعنى آخر: هل أوجد الشاعر في قصيدة النثر نظاماً يعوض عن النظام الإيقاعي في قصيدة التفعيلة؟

أعتقد أن الاختزال في قصيدة النثر لا يعني فقط اختصار ألفاظها بما يعادل التقليل من مساحتها الفضائية؛ إذ الاختزال مرتهن بالصورة الشعرية التي تدفع الشاعر إلى كيفية القول الشعري، أي القدرة على مجانسة الصورة للغة الناقلة، فاللغة تشير إلى خصوصية القصيدة التي تستحيل مادة من سياقات غير مألوفة في توصيل رؤية الشاعر للعالم. فهي محيط الصورة، وسياجها المخادع.

ولهذا السبب يبدو أن مطابقة الاختزال في اللغة، بوصفه شكلاً جديداً في قصيدة النثر، لمجالات التكثيف في الصورة، باعتباره براعة في اختزال المعنى، لم يكن تركيباً غريباً –كما يدعي البعض- على المنتج الشعري العربي؛ فالقصيدة العربية حفلت بما هو مدهش في التعبير عن هذا التطابق. بيد أننا نعلل ذلك بأن ما ضيّع تلك الومضات في قصائد الشبان الذين قرأوا في ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب هو الانبهار بالمفعول السردي والخطابية العالية، التي تتوجه باتجاه يمتلك في أغلب مفاصله رؤى سياسية مسقطة بقسرية وبتحريضية عالية.

فنياً إن الانبهار بالمفعول السردي يغيّب الصورة أمام تراكم اللغة؛ وكأني بالشاعر قد تلبسته اللغة، فنسي الإحاطة بالصورة. وعليه يبدو أن الالتفات إلى تجانس مساحة لغة القصيدة مع مكثفات الصورة فيها قد يحفز الشاعر إلى أن يكتشف عالماً هو أقرب إلى الإيماءة منه إلى التصريح، أو الشفرة منه إلى الإفصاح.

أنا لا أفترض هنا أن محاولة الشباب لتأسيس جماليات جديدة في مواجهة كسر الذائقة الجمعية السائدة، وباسترضاء الحساسية النقدية التقليدية، غير مجدية، بل العكس؛ إنها محاولة رائعة في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي دون الاتكاء على أبوية التقليد الشعري، أو محاولتهم في كسر كاثوليكية الثنائي: الشكل والمضمون.

بات واضحاً أن قصيدة النثر تجربة قابلة للجدل، ما دامت قد واجهت ثنائية الشكل والمضمون، بسبب وعيها الحاد وثقافة كُتّابها وإحساسهم بضرورة التحول نحو أنماط مختلفة، نتيجة تحولات البنى الفكرية والاقتصادية للمكونات المجتمعية المعيشة -في عالم صارت فيه التقنيات المتوالدة تحاول-وباستمرار- كسر الشكل الواحد المهيمن، والمضمون الأحادي الموقف. لهذا نستشهد بقول إليوت: "لقد صار الشعر إقلاقاً للوعي السائد".

بيد أننا يجب ألا نفهم الإقلاق هذا على أنه "ملصق" سياسي أو لوحة خالية من المعنى، ما دام أحدهما يعارض الآخر: المعنى الكامل في "الملصق"، والخلو التام في المعنى من لوحات لغوية اعتمدت رؤى سردية مغرقة في الذاتية. الصورة هي التي تخلق جمالية الذاتي، وليس الذاتي هو الذي يخلق جمالية الصورة. ذلك ما أخفق فيه الكثير ممن قرأوا ضمن فعاليات الملتقى، بالرغم من تألق البعض الذي ابتعد عن الخطاب، فتألق في تركيب عوالمه في تحول جديد نحو نمط ثالث أسميه "كنائية السرد في القصيدة الشابة" التي تكونت بفعل:

1- مؤثرات الميديا.

2- تلاقح الأجناس الثقافية.

3- التحول من الشفاهي إلى البصري.