دراسات
قراءة في "خذ الحكمة من سيدوري" للشاعر عبد الرزاق الربيعي
()
وجدان
الصائغ
إذا كانت الحروب الكونية قد أفرزت مدارس أدبية ناكفت العقل ونددت بطروحاته
الفتاكة، التي قادت الذات الإنسانية العزلاء، قهراً، إلى محرقة كونية جماعية،
فرفعت لافتات تدين المنطق والمؤسسات التي وقفت عاجزة أمام طوفان الحرب،
وأطلقت شعاراتها التي تدين الراهن الملبد برائحة الدم وثقافة الموت (وأقصد هنا
تحديداً الدادية والسوريالية)؛ فإن طاحونة الحروب التي طحنت بشراسة المشهد
الإنساني العراقي على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وما زالت، لا بد أن تترك
بصماتها الراعفة على شغاف القصيدة العراقية. فثمة ما يشبه الدادية، وثمة ما
يقترب من السوريالية إلا أنها سوريالية مخضلة بدخان المفخخات وبصرخات الضحايا،
بنكهة الوجع العراقي، بلون الدم العراقي المسفوح على وجنات الذاكرة، بطعم
المرارة والغصة، بجحيم اللحظة الراعفة؛ وهو ما يصدق على قصائد مجموعة "خذ
الحكمة من سيدوري" للشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي، الصادرة عن منشورات
بابل، زيورخ 2006؛ إذ تجعلك أمام مرايا صقيلة تبصر من خلالها تفاصيل الإبادة
الجماعية، لتلمح أنامل الإنسان العراقي وهو يغمس كسرة خبزه اليومي بدلاء مترعة
بالفجيعة، وحركة عينيه وهي ترقب جمر الواقع. تأمل مثلاً قصيدته الموسومة بـ
"ساحة النصر تمام الخميس" (ص31)، ولاحظ تحديداً كيف يبدأ استهلالتها وكيف يؤرخ
لأيامنا المثقلة بالموت:
تمام
الخميس
انتحرتْ
لحْية مفخخة
فأضفنا
(ساحة النصر)
لسجل
خساراتنا.
وتأمل
كيف ينتقل المتخيل الشعري من هذه الاستهلالة الضاجة بالمفارقة المتمترسة بالسخرية
المريرة إلى قلب النسق السوريالي الذي يشكل صرخة احتجاج بوجه اليومي المثخن
بالفجيعة:
عندما
ارتفع ضجيج الموت
ارتفعت
الأرواح
ارتفع
طوفان دم الخطى التائهة
ارتفعت
سيارات الإسعاف
ارتفعت
أمٌّ تبحث عن فلذة حلمها
ارتفع
مراسل فضائية كان يبحث
عن
ناجٍ
من
غضب السماء
ارتفعت
شظايا ساحة القلب
ارتفع
دخان أحمر
حقيبة
نسائية
قصيدة
حذاء
عمود
فقري
لشرطي
كان ينظم المرور
لهجة
عربية
جريدة
ذكرى
عالقة في الذاكرة
رجل
عائد يبحث عن نفسه
التي
خسرها
عندما
ارتفعت ساحة النصر
ظهيرة
انتحار
لحْية
الخميس المفخخة.
ينجح
المتن في أن يسرب لك صوت المفخخات المدوية، بل وعصفها الذي يطيح بكل شيء، لتلمح
عبر مراياه تطاير الأجساد المحكومة بالموت وقد ضاق بها المكان الحميم! بل
إن تكرار "ارتفع، ارتفعت..." قد جعلك إزاء خط مشاكس رسمه عبد الرزاق معاكساً
للواقع حيث سقوط "الأجساد، الذات، الكلمة"؛ وكأني به يريدها أن تبقى "جنائز
معلقة" قبل أن تسقط في هاوية الفناء، يريدها شهوداً لراهن استبدل بطش
الديكتاتورية بزيف التكنوقراط، ليبقى منشغلاً بمباهج منحتنا الموت بلحى
مفخخة وتأشيرات ملونة للعدم. من اللافت أنك لا تجد فجوة بين ما هو كائن على
الأرض، وسوريالية الصورة التي رسمها عبد الرزاق موظفاً فيها تقنيات السردي
والشعري والتشكيلي، وتحديداً النحت، لتكون قبالة نصب جديد لـ "ساحة
النصر" التي أفرغها السياق الشعري والكارثي معاً من دلالاتها الضاجة بالنشوة
والعنفوان، لتغدو وجهاً شائهاً من وجوه الموت.
وقد
يبلور عبد الرزاق الربيعي بنية تراجيكوميدية يلفح وجهك وهجها الملفع بالأنين.
تأمل ما قاله مثلاً في قصيدته "تحت لحية حرب الشوارع في «وادي السلام»" (ص 28)،
ولاحظ كيف استدرجك إلى أن تستعيد مناخات عنونة مجموعته الشعرية الثانية
"حداداً على ما تبقى" (بغداد، 1993):
أما
لحومنا الطازجة
فلا
تخشَ عليها من الانفجارات
ستطلع
لنا لحوماً أخرى
ما
دمنا على قيد العراق
وأصابع
أخرى
وديكتاتوريات
أخرى فسيحة.
من
اللافت أن المتن بسورياليته ينز فجيعة ولوعة مغموسة بالسخرية المريرة؛ وكأني به
يعيد مقولة ديكارت: "أنا أفكر؛ إذن أنا موجود" لتكون قبالة مقولة جديدة هي:
"أنا عراقي؛ إذن أنا أتعذب". هو يجعلك إزاء قدرية ملتبسة، مقلقة، تفقد
الإنسان حرية الاختيار (ما دمنا على قيد العراق) لتوصلك إلى عبثية مطلقة في
زمن ملبد برائحة البارود وتغريد المفخخات وأنين الطفولة.
وقد
يصوغ عبد الرزاق من سورياليته الشعرية فصاً يضيء ثقافة المنفى التي تعصف بكل
شيء ولا تبقي على أي شيء. لاحظ مثلاً قصيدة "البلاغ عاجل" (ص57):
أيتها
النفس المتوثبة!
ارجعي
إلى الفك راكضة
فلديَّ
كلمات ليست في محلها
لديَّ
نصف نهار فائض عن الجيب
لديَّ
اضطراب عاطفي
وكائنة
تعطيك الدقة
في
الموت
لديَّ
أمي وتنور قلبها الحار
وجنونات
مقشرة
لديَّ
رغبة ماكرة لاقتلاع شجرة
من
شرفة الجنة
لديَّ
بالونات من الهواء الحر
لها
أجنحة بالأسود والأبيض
لديَّ
رصاصة تنبض
في
قلب بارد
لديَّ
جغرافيا مدماة
على
جسور جريحة
وبنايات
عارية مدخنة
لديَّ
قبضة من الرماد...
رماد
أشباح الحصى
ولا
حصى
ودمعة
على اللاشيء
الذي
كان كل الأشياء
والأشياء
التي أصبحت
بلمحة
إلى لا...
التوقيع
جلجامش
ما.
يعكس
المتن على مراياه ملامح المثقف العراقي (جلجامش ما) الذي أنهكته ثقافة الحرب،
والتهمت أحلامه المنافي. بل إنك تكون إزاء أجندته الشخصية التي تقشرت عن وجوه
أحبته (أمي وتنور قلبها الحار) وحركتهم الحثيثة للغياب (ودمعة على اللاشيء/
الذي كان كل الأشياء). وهي أجندة يمفصلها الفضاء السوريالي (لديّ رغبة ماكرة
لاقتلاع شجرة/ من شرفة الجنة/ لديَّ بالونات من الهواء الحر/ لها أجنحة بالأسود
والأبيض)، ليمنحها بنية غرائبية تعري الخطاب السياسي الذي أطاح بثمارنا الفكرية
فغدت "جنونات مقشرة"، ومنحنا تأشيرة للشتات (لديّ قبضة من الرماد/... رماد
أشباح الحصى/ ولاحصى) لنكون قبالة تحولات مقلقة (والأشياء التي أصبحت/ بلمحة
إلى لا...). زد على ذلك أن تكرار "لديّ" تسع مرات قد عكس بدقة تفاصيل ثقافة
المنفى التي لن تمنح الذات الواقعة تحت سلطتها إلاَّ حرماناً ووجعاً. لذلك يبدأ
المتن استهلالته «أيتها النفس المتوثبة/ ارجعي إلى الفك راكضة» ليكون المنفى.
وقد
يصوغ المتخيل الشعري صورة سوريالية تضيء الواقع الثقافي المأزوم ومناخاته
الملبدة بالوأد الفكري. تأمل مثلاً الشذرة الثانية من قصيدة "ومضتان" والتي
جاءت تحت مسمى "منحنيات" (ص 73):
في
المنحنيات الشرقية
الضيقة
رأيت
قطعة ليل
مبتورة
الأصابع
ملقاة
على
رصيف
مفخخ
ولافتة
تقول:
ابتعد
عن رأسك
بمسافة
100 تجربة مرة.
يشيد
عبد الرزاق معماراً سوريالياً يتمركز حول الإبداع بوصفه هوية مفخخة لا
تمنح أصحابها سوى فزع ورعب. فاللوحة التشكيلية الملفعة بالسواد تقودك إلى
«منحنيات» (العنونة) تُضيّق الخناق على الذات المنفلتة خارج السرب لتطيح بها. وما
هذه اللافتة التي رفعها النص في وجهك (ابتعد عن رأسك/ بمسافة 100 تجربة
مرة) إلا تعرية للخطاب الثقافي ومحاكمة الراهن بـ"منحنياته الشرقية الضيقة"،
الذي لا يجد في الذات المبدعة إلا وجهاً معتماً (قطعة ليل) يمارس بحقها
وبشكل جماعي طقوس النحر (ملقاة على رصيف مفخخ) حد التصفية الجسدية. بل إن عبارة
"مبتورة الأصابع" تنجح في أن تسلب هذه الذات المفجوعة بأحلامها قدرتها على
الأداء.
وقد
ينسج عبدالرزاق الربيعي من السوريالية "مناخاً" يحتج على اللغة بوصفها المؤسسة
التي خذلت المثقف العربي حين جعلته خارج أسوارها. لاحظ مثلاً ما قاله في قصيدة
"لام شمسية" (ص98):
تسرف
في
غياب الحضور
مثل
اللام الشمسية
لذا
فبلا
متكأ
افترشت
جلد العاصفة الأولى
قبل
جفاف الصفير
فذوت
عتمة
وطوى
الرحيل
بقية
الوجوه
حينها
ترملت الحروف
وسقطت
(لام) الشفتين
و(ياء) الجهات
وحين
حطت الألف المقصورة
على
(حاء) رحمها المليء بقبور الأجنة
وقعت
بين فكي رحى الفجيعة
وإذا
بك فجأة
بلا
(دال)
ولا
(هاء)
بل
ولا حتى الهمزة التي كانت تغرق بالحلاوة.
يعود
المتخيل الشعري إلى الفردوس اللغوي لينسف مكوناته العاجزة عن انتشال الذات
المتمترسة بالحرف من واقعها المأزوم؛ فيصهرها في بوتقة الحزن التي غلفت الملاذ
الأبدي (اللغة) فـ "ترملت الحروف، سقطت" لتغدو كطلاسم السحرة وتعاويذ المتصوفة،
لا يرتبط فيها صوت الحرف بذاكرته الجمعية؛ ليعود الحرف كما نشأ أول مرة صوتاً
اعتباطياً لا فحوى فيه، مبرأً من دنس الشعارات والخطابات، ولتعود الذات الراعفة
إلى طفولتها الأولى، حيث لا ذاكرة مثخنة بالفقد، لذلك تكون قرينة هذه الأبجدية
التي أعلنت إفلاس رصيدها الروحي في زمن يستبدل إيقاع الحرف بصرير المجنزرات
ودبيب الدبابات، وفردوسها المخضل بالمجاز بلغة اللافتات المزركشة بكل شيء إلاَّ
من حق الإنسان في الحياة! لاحظ كيف ختم عبد الرزاق الربيعي قصيدته! وتأمل كيف
هتك ذاكرة الحروف لتغدو نوارس عمياء:
وإذا
بك
تقطع
الطريق المعاكس للوصول
ولن
تصل
ما
دامت الحروب تشتعل
كلما
أفلت القمر من مداره
ما
دامت المدن تبتعد
ما
دامت الفجيعة قائمة
بياء
"سُرَّ من رأى"
و(دال)
الأخرى
قائمة
بجبل السين
ودمائه
المجمدة الزرقاء
قائمة
بالنهر
الوحيد
الذي
سقط في أحشاء الأرض
ذات
صباح كالح
قائمة
بالنون
وعندما
جلست على عتبة العين
صرت
تسمع طبول القبائل البائدة
القبائل
التي اندثر صليلها
مثل
سماء ملثمة
فمنحتك
عماء الفراشة
وقيوداً
لا تحصى
أيها
اللا تحصى فجائعه
سلام
عليك
وأنت
تطعن الظلمة المحدقة بالصميم
سلام
عليك وأنت مثل اللام الشمسية
تسرف
في
غياب الحضور.
يضعك
المتخيل الشعري أمام بنية سوريالية تدين ثقافة الراهن المتجلببة برائحة الدم
وطعم الموت؛ احتجاجاً على الوأد الثقافي والجسدي، لتستشعر مغادرة هذا
المتخيل منطقة الوعي ليدخل دهاليز اللاوعي، معلناً سقوط المنطق وغياب المعقول.
وخلاصة
القول: إن قصائد مجموعة "خذ الحكمة من سيدوري" للشاعر عبد الرزاق الربيعي قد
وظفت البنية السوريالية لتعكس عمق الوجع العراقي وطعم الموت اليومي، بل إنك
تلمح صيرورتها مرايا تبصر من خلالها أجندة المثقف العراقي المحاصر بتراجيديا
الإبادة الجماعية والتشريد في زمن اللامعقول واللامنطقي.
الهامش:
"جنائز
معلقة": عنوان المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر عبد الرزاق الربيعي، الصادرة في
مسقط، 2000.
|