دراسات
تقنية
القناع الشعري ()
د. أحمد ياسين السليماني
كلية الآداب - جامعة صنعاء
1. إشكالية
المصطلح وتأصيل حضوره:
لم تنفرد
قصيدة القناع، بوصفها مصطلحاً نقدياً جديداً، بتميّز يفرّقها عن غيرها من
المصطلحات الكثيرة التي شابها كثير من الخلط والالتباس، بل عرفت إشكالية نقدية
في خصائصها ووظائفها. وقد يبدو الأمر مألوفاً بعض حين. ولكن قصيدة القناع
الشعري حظيت على نحوٍ خاص بتوترات جلـية من هذا الالتباس الذي اكتنفها، نتيجة
تداخلها أو تشابهها مع غيرها من الأشكال الشعرية، مثل قصيدة استدعاء الشخصيات
التراثية وغير التراثية إلى النص الشعري. بيد أن لهذه القصيدة (أي قصيدة
القناع) ملامحها الفارقة، وخصائصها المميزة ودورها الخاص الذي تلعبه، سواء في
جماليات النص أم في الحياة الاجتماعية، أم في البحث عن قارئ إيجابي، يستطيع أن
يعيد إنتاج النص، كما أُريد لها، لأنها قصيدة رمز وثيق ومتشابك، إذ تحيا
سياقاتها وفق منظومة من العلاقات الداخلية التكوينية المعقدة بدرجة قد تختلف عن
الأشكال الشعرية الأخرى. وقد تنبع إشكالية هذا المصطلح في واقع الأمر من علاقة
الخاص بالعام، والفرع بالجذر، وتحولات الأصل الشعري إلى أشكال شعرية رمزية أدق.
ولئن بدا
هذا اللبس الاصطلاحي ظاهرةً يقرٌّ بها النقد الأدبى عموماً، في سياق تناوله
لقضايا تطوّر الظواهر الأدبيّة، فإنه يعتمد في ذلك على القوانين الديناميكية
الفاعلة التي تطرأ على عملية تطور الظاهرة الأدبية، تلك التي تسهم في إخصابها،
وفي إنتاج مجالاتها الجديدة، وتعمل على صوغ تحولاتها المعرفية المجاوزة لحالتها
السابقة، وفقاً للضرورة والصيرورة. على هذا النحو الإشكالي الملتبس ربما توهم
البعض إمكان المطابقة بين الأشكال الشعرية وقصيدة القناع، تلك التي وردت إلى
الشعر بوصفها تقنية جديدة تحمل مضامين مغايرة عن الأشكال السابقة لها. ولعل
أبرز هذه المقاربات التي تمت عند هذا البعض، هي توهمهم أن ثمة تماهياً بين
قصيدة القناع وبين قصيدة استدعاء الشخصيات التاريخية، والخلط الواضح بينهما
وبين قصيدة القناع والمونولوج الدرامي، مع أن الشكل الأخير أسهم في خلق الشكل
الأول. وإذ توجد بعض المقاربات الظاهرة بين خصائص قصيدة القناع وبعض خصائص
غيرها من الأشكال المسرود عنها آنفاً، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خصائصه
العميقة المتعلقة به، وملامحه الفارقة التي تحيلنا إلى خصوصية شكل يغاير شكل
آخر.
ولا ينفي
ذلك كله، تلك الصلات الواضحة بين قصيدة القناع وقصيدة استدعاء الشخصيات، أو تلك
التي تستدعي تناصاً إليها. فقصيدة القناع هي قصيدة استدعاء وتناص بدءاً، ولكنها
قصيدة رمز دقيق وعميق، إذ أن صوت القناع صوت مسموع مغاير لمتحدث واحد لا يمثل
صوت الشاعر وحده ولا صوت الشخصية المستدعاة وحدها، وإنما هو مزيج متفاعل
تفاعلاً انصهارياً بين الشخصيتين، ليكونا معاً صوتاً ثالثاً مغايراً، يشيع في
القصيدة جواً درامياً يؤسس -ضمن ما يؤسس- لبعض الصلات بينها وبين الحوار
الدرامي؛ لأن قصيدة القناع تُعدُّ امتدادً متطوراً لمجموع تلك الاستخدامات
والإشارات الفنية والمسرحيّة والحوارية، وللظواهر والانثروبولوجيّة القديمة،
بدءاً من تفسير الإنسان الأول للأرواح التي كانت تتبدى فارغة له، أو من تلك
السلطة المقدسة التي كان يتمثلها الطواطم سلطة اجتماعية، يتغطى رأسه بقناع لرأس
حيوان، أو رأس بشر، أو نبات، يقدسونه حتى يجلب لهم الفأل. وكانت العشيرة في
احتفالاتها تلبس الأقنعة المصورة للأشياء التي يريدون أن يجلبوها، أو يريدون أن
يتخلصوا منها، بحسب ما يتذرعون بالتعاويذ في احتفالاتهم، مروراً باقتناص الكهنة
لتأثير الأقنعة على أفراد العشيرة وجماعاتها، بوصفها تجسد سلطة مؤثرة؛ فراحوا
يصنعون هذه الأقنعة للسيطرة على أفراد العشيرة، لاسيما منها تلك الأقنعة التي
تصور الأرواح الشريرة، وانتهاءً بتوظيف الأقنعة في المسرح اليوناني. فقد قيل إن
تسبس اليوناني (القرن السادس ق. م) أول من ابتكر قناعاً خفيفاً من الكتان
لتأدية تمثيلياته البدائية بعد أن كان يطلي وجهه بالمساحيق. كما قيل إن
فرينيخوس (القرن السادس والخامس ق. م) أول من استخدم أقنعة تمثل وجوه شخصيات
نسائية تلعب أدوراً في مسرحياته ويؤديها الرجال(1).
وفي عصر
النهضة بأوربا انتشرت مسرحيات الأقنعة، وأطلقت على الأعمال التي يبتكر فيها
الأشخاص المقنّون الذين يشتركون في عروض ترفيهية، تتكون من أناشيد شعرية وخطب
ورقصات.
على أية
حال إن عادة استخدام الأقنعة من العادات القديمة البدائية التي ارتبطت بعادة
الرقص والتقديس عند الشعوب البدائية القديمة.
تؤسس
الإشارات السابقة فهماً أوليّاً عميقاً لتحولات العمليّة الإبداعيّة، وتعرض
لمراحل تطوراتها التاريخيّة، وتكشف عن كينونتها الديناميكية المتصلة وفق نسق
زمني تتدرج فيه صيرورات تفاعلت فيما بينها عناصر عديدة لإنتاج هذه التقنية
الشعرية عبر مراحل متعددة حتى تشهد بنيتها اكتمالاتها النهائية. ويمكن أن نكشف
عن هذه الصيرروات التي تكرّست بالمعرفة الإنسانية، إما عن طريق الضرورة التي
جسدتها احتياجات الإنسان الأولى، وإما بعنصر المصادفة الذي لعب دوراً مهماً في
وجود الاحتياجات الضرورية اللازمة لمرحلة من مراحل التطور البشري. وينبري، من
هنا، عنصر استقصاء الظاهرة وتتبع مراحلها المتصلة، بوصفها بنية تكوينية واحدة.
ولا يقف أمر استقراء هذه البنية عند الناقد الأدبي أو مؤرخ العمليّة
الإبداعيّة فحسب، بل يحتاج المبدع إلى استقراء تحولات هذه الظاهرة وأن يدرك
إنجازاتها، ويعيد بناء حضورها الإبداعي، ويتهيأ لتحولاتها السابقة، إذا أراد أن
ينجز عملاً إبداعياً تشكل قصيدة القناع قاعدته الأساس، وأن يرفد نفسه بحصيلة
وافرة من المعلومات لا تتصل بالمنجز الشعري فحسب؛ بل تتصل بانفتاحه على ثقافات
إنسانية شتى.
2- إرهاصات
التشكيل:
نخلص إلى
أن بناء قصيدة القناع في اكتمالاتها الأخيرة لم يأتِ من فراغ، ولا يتماهى مع
الأشكال السابقة. ففي حين تكرَّس صلاتها التاريخية ببعض الأشكال الرمزية
والمسرحيّة والدراميّة؛ فإن ذلك لا يعني مطابقتها مع هذه الأشكال، ولا يلغي
خصوصيتها المتميّزة الفارقة. ومع أنه أصبح بدهياً أن تتداخل المفاهيم بعضها مع
بعض، وأن يلحقها الالتباس، يبدو تأصيل هذه المفاهيم بالبحث العميق السبيل
الوحيد لتحديد مشكلاتها وتوضيح ملامحها وخصائصها المغايرة، حتى ينتهي قلق الخلط
والالتباس.
وتنبري بعض
القراءات النقدية التي ألمحت إلى الأصول الأولى لتشكل قصيدة القناع، وقاربتها
بغيرها من الأشكال دالة على ذلك، لاسيما تلك القراءات التي اهتمت بموضوع خلق
الشخصية المتخيّلة، وسعت إلى تأصيل قصيدة القناع. فهناك من يرى أن الراوي مثلاً
في "حكايات كنتربري" لجوسر ليس الشاعر نفسه، وإنما هو شخصية متخيَّلة أخرى.
وكذلك رأى هذا البعض في قصائد وردزوث وكيتس. فالشاعر وردزوث في قصيدته «أجوب
وحيداً مثل غيمة» لا يكشف عن "أنا" الشاعر، بل عن "أنا" شخصيّة متخيَّلة أخرى،
"وهي شخصيّة ينبغي لها أن لا تختلط مع شخصية الشاعر الخاصة"(2). في حين نجد أن
البعض لا يروق له ذلك الخلط بين شخصيّة المؤلف والشخصيّة الدراميّة، "ويرى أن
الشخصيّة الدراميّة في الشعر تمتلك تميزها في الفكر والإحساس عن الشاعر ذاته،
أو عمّا تفكر أو تحس به هذه الشخصيّة عندما تتكلم، إنما يفعل ذلك من خلال شفتي
المؤلف"(3). ويذهب البعض الآخر من ناحية أخرى إلى مقابلة مصطلح المونولوج
الدرامي بالقناع والشخصيّة المتخيَّلة(4)، وهي مقابلة تنطوي على مغامرة غير
محسوبة، وعلى التباس واضح.
ولا
تَقِلُّ إنجازات روبرت براوننغ أهمية في إطار التمهيد لتشكل قصيدة القناع، فقد
أسس الإرهاصات الأولى المهمة لبعض أوجهها، وألمح إلى التقنيات التعبيريّة
والوظائفية لهذا الشكل الشعري الجديد، بتطويره الحوار الذاتي المسرحي، ويعود له
الفضل في تحديد أوجه هذا الطريق الجديد، وتجسيد بداياته. في حين سعى الآخرون
إلى رصف هذا الطريق، وإظهاره في اكتمالاته النهائية عند وليم ييتس وعزرا باوند،
أي أنهم جميعاً قد ساروا على الطريق نفسه الذي حاول براوننغ أن يحدده، وطوّره
فيما بعد وليم ييتس الذي أشاع فيه -فيما بعد- مغايرة جعلته شكلاً له علاماته
الفارقة التي تميّزه عن مجالات براوننغ، ولا ينفي صلاته التاريخيّة بها. ففي
حين كان الشاعر روبرت براوننغ يستدعي شخصيّاته الشعريّة من أبطاله التاريخيين،
ليتحدث من خلالهم في النص عن واقعهم الماضي، مترجماً كُلّ ما يودون قوله دون
تدخل من الشاعر أو من غيره، ويجعلهم يسردون تاريخهم بوعيهم التاريخي(5)؛ كان
ييتس يستدعي أبطاله التاريخيين مزوّدين بوعيه المعاصر، في إطار علاقة جديدة
بينهم وبينه بوصفه شاعراً. فالعلاقة هنا بين طرفين، لا طرف واحد كما عند
براوننغ. إن العلاقة الجديدة بين ييتس وشخصيّاته التاريخيّة علاقة تقوم على
المجاذبة بين شخصيّة الغياب وشخصيّة الحضور، وبين وعي الغياب ووعي الحضور، وبين
تجربة الغياب وتجربة الحضور، وبين دلالة الغياب ودلالة الحضور؛ لذلك فإن قصيدة
القناع عند ييتس تعَّد بناءً جديداً لمكونات ناتجة عن هذه العلاقة التي أدت إلى
تكوين شخصيّة القناع شخصيّةً لها خصائصها ومكوناتها ووعيها المستقل... ولهذا
فإن قصيدة القناع لها خصائصها ووظائفها الفارقة التي تميّزها عن غيرها.
لقد أنجز
الشاعر المسرحي روبرت براوننغ تحولاً خطيراً في مفهوم "الحوار الذاتي المسرحي"،
استطاع به أن يوجد بعض الأوجه المميّزة، وأن يقدّم أولى وظائفها في النص
الشعري، من خلال إحياء الموقف الدرامي فيها. لقد كان سعيه التجريبي لخلق شخصية
دراميّة يستدعيها من التاريخ لتتحدث عن نفسها في المسرح الشعري، كان يؤذن
بمرحلة شعرية جديدة تطمح إلى إعطاء الشعر وظيفة أخرى، وهى إشارة عمل ييتس على
تطويرها في صور رؤيوية أوسع وأشمل، شملت اختراق أعماق الأسطورة والتاريخ،
وغذّتها النظرية الأنثروبولوجية التي وصفت الحياة البدائية، وقومتها الأفكار
السياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة. بمعنى أن استخدام وليم ييتس وعزرا باوند لتلك
الإشارات التاريخية والفنية عند براوننغ ما كان لها أن تحقق تطورها في بناء
قصيدة القناع لولا تلك التحولات العميقة التي عرفها الحوار الذاتي المسرحي،
وما شهده من تطورات في الشعر.
لقد كشف
الحوار الذاتي المسرحي عند براوننغ عن انفتاح صوت المؤلف على صوت آخر داخلي
للشخصيّة التاريخيّة، وعن علاقة جديدة بينه وبين ذاته الأخرى المتمثلة بذات
"شخصية مُتَخْيلَة و مُبْتَدَعَة"، أو ذات "شخصية تاريخية أو أسطورية"، وهو ما
يكشف عن تعدد صوتي تحاوري داخل النص وفي حنجرة الشاعر، وعن تصور لشكل شخصية
أخرى تؤدي السرد وتجيب عن أسئلة ذات الشاعر الحقيقية في النص، ما أدى إلى وجود
ذاتين متحاورتين في الحوار الذاتي الواحد، وهو الشكل الذي وضع النقاد والشعراء
أمام فرز جديد لنوع من العلاقة بين الشاعر وذاته الأخرى المُبـْتَـدعَة، لتشهد
هذه العلاقة تحولاً كبيراً اكتسب شكله من ذلك الانفصام الكبير الذي حدث بين
شخصيّة الشاعر والشخصية المبتدعة، لتمارس الشخصية المبتدعة مزيداً من
الاستقلالية والانفصال عن شخصية الشاعر، مكتسبة خصائص متميّزة، ومحققة تميّزاً
يفرقها عن الشخصيّة التاريخيّة؛ ليسهم هذا الاستقلال وذاك الانفصال في تكوين
القناع، واستدعاء الشخصيّة التاريخيّة قناعاً له خصائصه وعوالمه. وهذا يحيلنا
إلى تصورات مجاوزة تصدر عن ذات القناع وعن مكوناته الجديدة الناتجة عن تفاعل
شخصيّة الشاعر مع الشخصيّة التراثيّة، ليصدر القناع عن المعاناة والمشكلات
الفرديّة والجماعيّة السياسيّة والاجتماعية التي يزمع الشاعر بلورتها في النص.
وبالرغم من
أن وليم ييتس(6) وعزرا باوند يعدّان من أوائل من مارس قصيدة القناع في صورتها
النهائية، فقد اعتمد ييتس في كتابته لقصائد الأقنعة على الحكايات والخرافات
والأساطير؛ في حين اقتبس باوند من الإشارات الكلاسيكية والإغريقية(7). ويبقى
أنهما اختلفا في طبيعة توظيفهما لهذه الأقنعة، فلكل منهما هدفه الخاص الذي صدر
عنه من خلال الأقنعة. فقد وظّف ييتس القناع "للكشف عن رؤية الشاعر الصوفية
المثالية؛ فييتس يؤمن بالرؤى والأحلام بعالم ما وراء الطبيعة؛ لذا لم يكن
غريباً أن يستمد الشاعر مفهومه للقناع من التراث البدائي لبعض الشعوب والحضارات
القديمة التي سلط الانثروبولوجيون الضوء عليها أواخر القرن التاسع عشر" (8)،
وكان يرى أن الشعر في جوهره يجب أن يدور في فلك الوثنية والصور الوحشية والآلهة
المحرمة لقوة الحياة(9). في حين وظف عزرا باوند(10) القناع للبعد الاجتماعى.
فالنزعة الاجتماعية التي تأثر بها باوند تسعى للبحث عن خلاص في العالم الأرضي
وصور النظام الاجتماعي السائد. وهو في ذلك يختلف عن ت. س. إليوت في "الأرض
الخراب"، "حيث تبدو اهتمامات إليوت الأساسية ذات طابع روحي وميتافيزيقي"(11)،
واستغل أبطال الأساطير في غير ما وضعت فيه(12). وهذا الاختلاف لا يمس خصائص
قصيدة القناع، بل يمس طبيعة التوظيف الشعري وسيلةً لتحقيق عالم مطموح إليه.
وبعدما
استطاع ييتس وباوند أن يؤسسا منهجاً شعرياً جديداً في القناع الشعري، كان من
الطبيعي أن يتأثر بهما الشاعر ت. س. إليوت(13)الذي "كان مدافعاً عن التراث في
الأدب والسياسة والدين"(14)، وهو الذي "كان عالمه الداخلي محكوماً بتراث
إنجليزى جديد، مغروساً في إنجلترا القديمة"(15). وهكذا استطاع إليوت أن يقتفي
آثارهما، "ولذا لم يكن غريباً أن يحاول إليوت خلق عدد من الأقنعة والشخصيات
الدراميّة الناجحة، مقدماً خلالها مونولوجات دراميّة تركت تأثيرها البالغ في
مسيرة الحركة الشعرية المعاصرة"(16). ومنها الحركة الشعرية العربية المعاصرة.
3-قصيدتا
القناع والاستدعاء
ثمة علامات
فارقة تميّز نوعين مختلفين من أنواع قصائد استدعاء الشخصيّات التراثـيّة،
أحدهما يمثّل استدعاء الشخصيّات التاريخية أو الأسطورية استدعاءً موازياً
لشخصيّة الشاعر، يكون فيه الشاعر في موقع والشخصيّة التراثـيّة في موقع آخر،
تفصلهما مساحات واضحة. ويطلق على هذا النوع من القصائد «قصائد استدعاء
الشخصيّات التراثيـّة»، ويكون فيها دافع الاستدعاء، للمماثلة أو للمخاطبة أو
للاستشهاد. في حين تتسم خصائص النوع الآخر بالانصهار؛ لأن شخصيّة الشاعر تتطابق
مع الشخصيّة التراثيـّة المستدعاة، ليعكسا معاً، في بوتقة واحدة، شخصية موحدة
في النص تشكّل القناع الذي يبرز ناتجاً عن تقمص الشاعر للشخصيّة المستدعاة
تقمصاً كليّاً في الصوت والتجربة، تلك التي يتقمصها هو بوعيه المعاصر، ليكون
القناع مرآة عاكسة لعلاقة "ذات" الشاعر بالذات الأخرى. وعلى الرغم من أن هذا
الشكل من أشكال الاستدعاء قد خرج من صلب الشكل الأول، فقد جاء محمّلاً بخصائص
مغايرة ومتطورة عليه، واتسم عنه بخصائصه الفنيّة، لذلك أطلق عليه "قصائد
الأقنعة الشعرية".
وعلى الرغم
من تلك المشابهة الشكليّة الواضحة في مجال الاستدعاء بين قصيدة القناع وقصيدة
استدعاء الشخصيّات التراثيـّة العادية، في كونهما قصائد استدعاء من حيث المبدأ؛
فإن ثمة تمايزات واضحة بينهما تحدد مجالات تشابههما، وتكرِّس من ناحية أخرى شكل
المغايرة بينهما، كاشفة السمات المستقلة لإحداهما عن الأخرى. وتبرز أولى هذه
التمايزات في استدعاء الشخصّية التراثيّة، كثافة وهيمنة، حضوراً وغياباً، في
مساحة النص الشعري. وإذ يبدو الاستدعاء مكثفاً ومهيمناً، وحاضراً في كل مساحات
النص في قصيدة القناع، فإنه في قصيدة الاستدعاء العادية تتفاوت درجات ظهور
الشخصيّة المستدعاة واختفائها، فقد تظهر إشارةً تاريخّية في شكل استدعاء اسم
الشخصية، أو قد يرد ذكرها وروداً إشكالياً يعكس ارتباط هذه الشخصيّة بموضوعٍ
لطالما رغب الشاعر في تناوله شعرياً، مثل قول الشاعر عبد العزيز المقالح في
قصيدة "شكوى إلى أبي نواس":
يا أبا النوّاس
مات الشعرُ
والكأسُ انكسَر
لم يعد في
العصر للظمآن ماءْ
لم يعد في
ليلنا الوحش سمَر
والسماء
ما عاد
شيءٌ في السماء
يُلهمُ
الشعرَ قلوب الشعراء
أجدب الغيم
على آفاقنا
جف المطر(17).
نلحظ هنا
أن استدعاء الشاعر عبد العزيز المقالح لأبي نواس قد جاء من باب التذكير بزمن
الشعر، فلم يعد الشعر المعاصر من وجهة نظره حيّاً كما كان في الماضي، بل إنه
يعاني الانكسارات والموت. فحال الشعر يشكل هنا همزة الوصل بين الشاعر وأبي نواس
المعروف بكونه شاعراً. والشاعر عبد العزيز المقالح يخاطب أبا نواس ويكشف له حال
الشعر، ولكنه لا يستدعيه قناعاً يتحد معه. ويظهر في ضوء ذلك أن الشاعر في موقع
يخاطب به أبا نواس الماكث في موقع آخر في الغياب التاريخي.
وتختلف
مجالات الاستدعاء للشخصيّة التراثيّة في حالة المخاطبة، مساحةً واستحواذاً في
النص. قد يكون الاستدعاء لمخاطبة الشخصية من خلال تجربتها التراثيّة الشاملة،
فتأخذ هذه الشخصيّة مساحات واسعة من النص، محافظة على انفصالها عن شخصية
الشاعر. وهنا تكون هذه الشخصية محكياً عنها، تكتفي بالصمت والاستماع لما يقوله
الشاعر، دون أن تبدي أية مشاركة أو معارضة أو تدخُّل في بناء القصيدة، وتكون
الشخصيّة في ضوء ذلك شخصيّة صامتة ومستمعة فحسب، ويكون الاستدعاء لرد تجربة هذه
الشخصيّة، أو قد يكون لمخاطبتها وللاستشهاد بتجربتها في آن واحد، كقول الشاعر
عبدالعزيز المقالح، وهو يستدعي "عمرو بن مزيقيا"، الحاكم اليمني الذي باع كل
ممتلكاته في اليمن، فارَّاً بأمواله قبيل انفجار سد مأرب:
لقد كنتَ
يا "عمرو" لعنةَ أيامِنا الخاليةْ
وما زلت
لعنةَ حاضرِنا
ثم أيامنا
الآتية
إذا ما
ارتحلنا ذكرناك أول الراحلين
وحين
نَفرُّ من الليل أنت الدليل المهين(18).
وقد يكون
الاستدعاء لمخاطبة الشخصيّة التراثيّة، ولكن المقصود غير ذات هذه الشخصيّة
التراثية، بل شخصية ذات معاصرة؛ فاستعادة التجربة التاريخيّة يأتي في هذا
الموضع لتقديم التجربة المعاصرة، فيكون هدف مخاطبة الشخصية التراثية هو قراءة
خطاب شعري لتجربة الشاعر المعاصرة، لتأكيد تجربة معاصرة باستخدام الإشارات
التاريخية، دون أن تنصهر شخصية الشاعر مع الشخصيّة التراثيّة، كاستخدام الشاعر
عبد العزيز المقالح لشخصية "أيوب" رمزاً للتضحية والنقاء والصبر، كما في قوله:
أيوبْ...
على طريقكم مصلوبْ
أمال رأسهُ
ألقى به على صدرٍ مهشّمٍ منخوبْ
تجفل منه النظرات
تُجفلُ القلوب(19).
إن قصيدة
الاستدعاء تلبي في الأساس حاجة النص لحضور الشخصية التاريخية أو الأسطورية في
مستوى أو عدة مستويات من النص، إشارةً تاريخيّةً دون أن تدخل في علاقات جديدة
مع شخصية الشاعر المعاصر وتجربته. فالشاعر يتجه نحو مخاطبتها منفصلاً عنها،
ومعزولة هي عنه، في إطار من علاقة التوازي أو المقابلة بين تجربتيهما. كما يلجأ
بوساطة ضمير المخاطب إلى مخاطبة القارىء، عارضاً الشخصيّة التراثية علامةً
تاريخيّةً، يدخلها إدخالاً غير مباشر في سياق علاقة غير عميقة يقصد منها إيماءً
رمزياً غير عميق؛ فهو لا يسعى إلى فرضها شخصيةً مزاحمةً لشخصيته، وصوتاً
منافساً لصوته في القصيدة، كما هو مُحقق في قصيدة القناع: تتداخل وتتفاعل تجربة
الشاعر مع تجربة الشخصية وصوته لخلق تجربة جديدة وصوت جديد.
وتبرز
خصائص قصيدة الاستدعاء التراثي في إطار تقديم الشاعر للشخصية التراثية، حيث
يقدمها ليتكلّم عنها دون أن يستغرق في البحث عن صورتها العميقة، أو قد يستدعيها
اسماً وفعلاً ماضيين، لا اسماً وفعلاً يتداخلان مع الحضور تداخلاً عميقاً
منصهراً. إنه يعرض الشخصيّة وهي تؤدي دورها في الإيماء الرمزي، مستخدماً اسم
الشخصيّة، أو ما يوحي بها، مثل استخدام الشاعر لعبارة "صندوق وضاح" استخداماً
إيمائياً مستقلاً عن ذات الشاعر في اطار تناوله لشخصية وضاح اليمن مثلاً، التي
يكشفها القارىء في النص كشفاً يقابل به بين الشاعر والشخصية، وبين ما تجسّده
تجربة الشخصيّة وما تجسّده تجربة الشاعر، لإحداث عمليّة المشابهة بينهما.
فالشاعر هنا يعرض تجربة الشخصيّة ليشابهها بتجربته، أو ليطلب من القارىء تنفيذ
هذا التشابه. وهنا تكون تجربة الشاعر متبوعة بتجربة الشخصية. وهما لا يسيران في
خط واحد كقصيدة القناع. وهكذا تتيح الشخصيّة التاريخيّة أو الأسطورية معرفة
مشكلة الشاعر المعاصرة دون أن يقدم لنا الشاعر تحليلاً لها. في حين تتداخل
الأزمنة في قصيدة القناع وتتفاعل، وكل واحدة منهما متبوعة بالأخرى لأنهما
يذوبان معاً في شخصيّة واحدة في النص برمته. هذا الذوبان هو نتاج التطابق بين
شخصية الشاعر والشخصيّة التراثية.
وإن تراءى
لنا في بعض قصائد الاستدعاء نوع من التفاعل بين الشاعر وشخصيته التاريخيّة، فإن
هذا التفاعل لا يلغي ذاتَيْ كل منهما، المستقلة داخل النص؛ إذ تحافظ كلُّ ذات
منهما على خصوصيتها وصوتها. على عكس قصيدة القناع، التي تشهد تفاعلاً واندماجاً
كليّاً بين ذات الشاعر وذات الشخصيّة، تتقهقر فيه هاتان الذاتان في داخل النص،
لتبرز بدلاً منهما ذات واحدة معبرة عنهما معا،ً هي نتاج هذا الانصهار في
التجربة، الذي لا نستطيع معه أن نعثر على شخصيّة أو تجربة أو ذات منفصلة عن
الأخرى. ونجد أنفسنا أمام ذات مختلفة عما سبقها، تتسم بخصائص وأبعاد جديدة.
وتعكس هذه الذات تجربة متطورة، لها مواقفها وتصوراتها الموضوعية الجديدة التي
تظهر في بنية قصيدة الاستدعاء العادية.
وبينما
يكون حضور الشخصيّة التاريخيّة في قصيدة الاستدعاء حضوراً نسبياً يتفاوت بحسب
مخاطبة الشاعر لها في النص أو بعض مستوياته، تتميز قصيدة القناع بكثافة تفاعل
الغياب مع الحضور، ويكون الغياب متناصاً مع الحضور في اللغة والتجربة والوعي؛
لأن المشكلة هنا، تمثل مشكلة القناع وتجربته ووعيه، ويكون صوت الغياب متشابكاً
مع صوت الشاعر؛ ليخرج من النص صوت واحد هو صوت القناع الذي يحمل رؤى وأفكاراً
جديدة، تستطيل امتدادات النص من بدايته حتى نهايته.
ومع ظهور
هذا التشكيل الصوتي في بنية قصيدة القناع، لا يُسمع صوت الشاعر وصوت الشخصّية
التراثية مستقلين؛ بل تبْرزُ في النص أشكال المجاذبة الناتجة عن هذا التركيب
الصوتي؛ لأن الشاعر لا يستدعي شخصيّة صامتة، بل يستدعي شخصيّة تحمل صوتاً
يميزها، ويكشف عن هويتها، ويستعير شكلها. ولا يتحدث بصوته فحسب، بل بصوت
الشخصيّة المستدعاة. لذلك تخرج قصيدة القناع بصوت واحد مركب، لا نستطيع معه
معرفة إن كان صوتاً للشخصيّة التراثيّة أم للشاعر؛ لأن كلا الصوتين يتزاحمان في
أضيق مساحات النص التي تتضمّنها في الصعود والهبوط، ويدخلان في سياق جديد يعيد
إنتاجهما صوتاً واحداً، يخرج من صلبيهما. في حين لا نجد في قصيدة الاستدعاء أية
مشقة للفصل بين صوتي الشاعر والشخصيّة التراثيّة، أو في إمكانية العثور على أحد
الصوتين مستقلاً. وهكذا تتسم قصيدة الاستدعاء بتعدد الأصوات الظاهرة، إما بصوت
الشاعر وحده مخاطباً الشخصيّة التراثيّة، وإما بصوت الشاعر وصوت الشخصيّة
التراثية التي تتحدث عن نفسها في بعض مواضع القصيدة. وهذا يمكن لقارىء النص أن
يدركه.
وتبرز في
ضوء ذلك حالات تجاذب الأصوات في قصيدة القناع، وتعدد مجالات الصوت في قصيدة
الاستدعاء على قاعدة يظهر علاماتها ويحدد أُطرها نوع الضمير الذي ينطق به
الشاعر في القصيدة، وينجز مجموعة الخصائص المحددة لنوع القصيدة. فمثلاً ضمير
المتكلم هو الذي ينطق صوت قصيدة القناع، ويحدد نوعها، وهذه إحدى العلامات
الفارقة؛ لأن شاعر قصيدة القناع لا يتوجه بالحديث عن الشخصية، ولا يهدف إلى
مخاطبتها، بل يجعلها هي التي تتكلم بعد أن يعيرها صوته ووعيه المعاصر؛ لذلك
فالضمير هنا ليس ضمير الشاعر معزولاً عن الشخصيّة، ولا ضمير "أنا" الشخصيّة
معزولاً عن "أنا" الشاعر؛ إنه ضميرهما معاً، ضمير القناع في النص الذي يلبسهما
ويصورهما. إنه ضمير صوت القناع المتكلم الذي ينطق به، ويتنازل بسببه عن ذاتيته
وغنائيته، موصولاً بالرغبة في تحقيق قدر من الموضوعية. إنه ضمير القناع الذي
يخلف الشخصيتين في النص.
أما قصيدة
استدعاء الشخصيّة التراثيّة فإن ضمير المخاطب يهيمن على مجالاتها، لأن الشاعر
يخاطب الشخصيّة التراثية، معتمداً على السرد التاريخي لوقائع تجربتها الشخصية.
وقد يعتمد على الإشارة الهامشية لها، أو يتعرض لبعض ملابساتها، تاركاً القارىء
يرسم خطوط التلاقي بينهما في بنيان النص، متداخلة مع شخصيّة الشاعر؛ لأن
الشخصيّة التراثيّة هنا شخصيّة مستمعة أو محكي عنها في النص، تظهر في مستوى من
مستويات بنيانه، ما يفضي إلى اعتمادها شخصيّة مسموعاً عنها في النص فقط، لأنها
لا تتفاعل ولا تعرف عمليّة التراكب بينها وبين الشاعر، ولا تشهد التفاعل الرمزي
إلا منفصلة، بعضها عن بعض.
لذلك؛ فإن
ضمير المخاطب يعكس مجالات السرد عن الشخصيّة التراثية المحكي عنها دون أن ترد
أو تشارك في صوغ هذا المحكي عنها وإنتاجه. وبالقدر الذي يحدد به ضمير المخاطب
مناطق حضور ذات الشاعر ومساحات المخاطبة، يحدد من جانب آخر جغرافية وجود
الشخصيّة التاريخيّة، ويحدد الزمن الذي يدخل الشاعر لحظاته، ويسرد زمناً
تاريخيّاً جديداً للشخصيّة في قصيدته المعاصرة، لأن الشخصيّة التاريخيّة إما أن
تكون مخاطبة وإما مخاطباً بها عند قراءة النص.
إن ما يميز
قصيدة القناع عن قصيدة الاستدعاء هو ذلك الخلق الجديد للأنا المغايرة، وأن
قصيدة الاستدعاء تبرز ذواتاً متعددةً تمثل ذات الشاعر وذات الشخصيّة التاريخيّة
أو الأسطورية، أي ذاتاً ساردة وذاتاً أخرى مسروداً عنها، ذاتاً حاكية وذاتاً
أخرى محكياً عنها، وهما ذاتان تتبوآن مكانيهما في سياق القصيدة. أما قصيدة
القناع فهي تلغي ثنائية الذات هذه في النص، وتبرز فيها ذات واحدة مغايرة، تختلف
كل الاختلاف عن ذات الشاعر وذات الشخصيّة التاريخية، ذات واحدة معبرة عن كل
إرهاصات هاتين الذاتين وطموحاتهما، ذات ناتجة عن انصهار ذات الشاعر مع ذات
الشخصيّة، وتمثّل خلاصة تجربتهما ومواقفهما ورؤاهما. إنها نابعة من الاندماج
التركيبي للذوات السابقة شكلاً و موضوعاً، فكراً وتجربة، مكاناً وزمناً.
إن الذات
المغايرة في قصيدة القناع هي ذات معبرة وطامحة؛ فهي تطمح لتحقيق سعي متقصٍّ
لارتياد عوالم التعبير السياسي والأيديولوجي والاجتماعي، لإحداث فعل المجاوزة
والتغيير؛ فعن طريق هذه الذات يمكن الهروب من رقابة السلطة وعيونها، لأنها (أي
قصيدة القناع) تتمتع بإمكانات واسعة تتيح للشاعر التعبير من خلالها عن معاناته
ومشكلاته وطموحاته بطريقة، لا تبدو معها ذاته المباشرة. إنها ذات مُضَللة،
مليئة بالرمز والغموض المعقّد والمتشابك إلى الدرجة التي لا نستطيع أن نفرّق
بين كونها ذات الشاعر أو كونها ذات الشخصيّة؛ إنها ذات أخرى مستقلة، تمارس
سلطتها داخل النص وخارجه، ذات معبرة عن طموحات الشاعر والشخصيّة التاريخيّة
معاً، السياسيّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة.
4-
القناع والرمز:
تتأسس
قصيدة القناع على قاعدة يدخل الرمز في بنياتها المختلفة، وفي توتراتها
الداخلية؛ فللرمز حضور قوي ووجود حيّ في لُحْمتها، وفي سياقاتها النصّية
والدلاليّة. وعلاقة القناع بالرمز علاقة ارتباط الجزء بالكل، أو الخاص بالعام؛
فالقناع جزء خاص ودقيق من أجزاء الرمز المختلفة، له خصائصه، وحضوره الذي يميزه
عن غيره من الأنواع أو الأشكال الرمزية. وإن عُدّ النص المقنّع وعاءً لتداخل
شخصيّة الشاعر وتفاعلها التركيبي مع الشخصيّة التراثيّة، فإن الرمز بمثابة
الخيط الذي يصل هذا التفاعل وتشابكاته في بناء النص الجديد، تلك التي تصل إلى
أعلى درجات الغموض والتعقيد والتوتر، فهو علامته في خلق سياقاته الدلالية
والإشارية المصورة للمشكلة الباطنة المأمول توضيحها وتقديم تصوراته عنها، وهذه
لا يمكن إدراكها إلا بالقراءة الفاحصة للنص.
يعبّر
الرمز عن خصائصه في السيطرة على النص المقنع، وفي خلق الذات المغايرة. وهو في
قصيدة القناع يؤثر الحركة، ويرفض الثبات في اللغة؛ لكي لا يكرّس السلطة في
اللغة، ويحول هذه اللغة إلى سلطة جديدة، ويؤسس من داخل اللغة سلطة مغايرة، يوجد
بها ذاتاً مغايرةً في النص، تكتسب قوتها من الإبداع الرمزي الذي يفجر الشاعرية،
ويدخل معها بانتظام في منظومة علاقات جديدة في داخل النص المقنّع، لتتحول هذه
السلطة النصيّة الجديدة إلى سلطة تواجه الثبوت اللغوي والسلطة الخارجية، وهو
مسعى طالما راود الشاعر المعاصر الذي يتوق إلى التعبير عن الواقع، وما يجول في
خلجاته.
الرمز في
قصيدة القناع يفجر اللغة، ويتيح التعبير عن مكامن الشعور الباطني، بعيداً عن
رقابة السلطة، ولذلك كان لجوء الشاعر إلى استخدام الرمز والغموض لإضاءة الجوانب
المهمة في المشكلة الاجتماعية المثخنة في صورة من صورها، وليصور ذلك الابتهاج
في العثور على مساحات واسعة في الشعر لإخراج المعاناة والأحلام الإنسانية
الباطنيّة، عبر مدركات اللغة التعبيريّة والرمزية القلقة، ليترجم مكنونات
الشعور الجماعي؛ لأن الرمز في قصيدة القناع يحقق سبراً عميقاً لدواخل النفس
الشاعرة في بنية النص الشعري، وعبرة يُسرّب الشاعر ما لا يستطيع ولا يقوى على
الإفصاح عنه جهرة أو التعبير عنه ظاهرياً. أي أن النص القناع يحيل بالرمز
المكبوتات الموجودة في نفس الشاعر إلى تجليات رمزية، تحافظ على التوازن الذي
يراعي اللبس في اللغة الشعريّة، وما تحمله في طياتها من مستويات تعبيريّة
ودلاليّة في النص؛ لأن الوضوح قد يوقع الشاعر في متاهات أدوات قمع السلطة. هذا
التوزان هو الذي يحافظ على شكل التصادم غير المباشر بين الشاعر بقناعه والسلطة
الخارجية الموجه إليها الخطاب الشعرى.
ولعل في
قدرة القناع الشعري على إظهار المكبوت في نفس الشاعر، وفي تضليل السلطة،
والإفلات من رقابتها، ما يوحي بمعادلةٍ، يحقق الرمز فيها مغامراته في خدمة
اللغة الشعرية وخدمة الشاعر، وفي إبراز التكوين الجديد للقناع بصَهر شخصيّة
الشاعر مع الشخصيّة التراثيّة؛ لأن بناء الشخصيّة المغايرة، أي القناع، ما هو
إلا بناء رمزي يتحقق في النص، ولكنه لا يحمل أي وجود حقيقي خارج النص، لأنه لا
يمثل شخصيّة الشاعر أو الشخصيّة التراثية. كل ذلك يحدث من جهة، ومن جهة أخرى
يكشف عن قدرة القناع واللغة الشعرية نفسها على توليد مستويات رمزيّة.
ولأن الرمز
لا يقوم إلا في اللغة أو الإشارة، فإنه في قصيدة القناع يخرج اللغة من نظامها
السابق الرتيب ومن ثبوتها الزمني إلى آفاق زمنية ومكانيّة مختلفة، ويمنح النص
عوالم فنية جديدة. فهو يمنحها مدى غير محدود من الحركة والتغيير حين يُدخلها في
علاقات جديدة، وفي إطار يختلف عن إطارها السابق. لذلك فالرمز ليس شاهداً على
تحولات قصيدة القناع، بل هو محرك أساس لها؛ لأنه لا يعكس الواقع عكساً مباشراً،
بل يقدّمه تقديماً مُنْتجاً في إطار جملة من التحولات الرمزية واللغوية. وهو لا
يعكس لغة الغياب والحضور عكساً مباشراً، بل يدخلها في تحولات عميقة وفي سياقات
رمزّية مغايرة. وبالقدر الذي يتفاعل الشاعر فيه مع الواقع واللغة والمعرفة
يزداد حجم وحضور الرمز في قصيدة القناع، وتبرز إمكانات اللغة الشعرية في تقديم
تصورات الشاعر إزاء الواقع؛ الأمر الذي أفاد كثيرا شعراء الأقنعة ومكنهم من
الاستفادة من خصائص اللغة الرمزية في قصائد الأقنعة، لأن الرمز فيها هو وجود
متفاعل ونشط يحقق المغايرة في المجال اللغوي والاجتماعي في عمل إبداعي وجمالي،
وهو الشعر المقنّع. لذلك فإن الرمز في قصيدة القناع يختلف عنه في قصائد
الاستدعاء أو في القصائد الأخرى، لأنه هنا هو وجود خاص مليء بالتوترات، وحضور
مكثّف ومهيمن، يحقق مستويات أفضل في المجاوزة الشعرية والتعبيرية، أو يأمل
إنجازه في الواقع. لهذا وجد الشاعر المعاصر في قصيدة القناع ملاذاً آمناً
لترجمان أشواقه الغائرة في أعماق النفس والحلم الإنسانى.
ويحقق
الرمز في قصيدة القناع بعداً آخر: يضيق الهوة بين لغة الحضور ولغة الغياب، وبين
المستدعي والمستدعى، وبين دلالة الغياب ودلالة الحضور؛ ليسهم في تحويل فوضى
تداخلهما إلى نظام، وإلى سياقات جديدة تلغي المساحات الفاصلة في الزمان
والمكان، في الحضور والغياب، لتحيلنا إلى لغة شعرية أخرى وإلى حقل دلالي ثري،
يمحو ذلك الجَدْب الذي طرأ على اللغة والدلالة؛ ليجسد من خلالها رؤية جديدة،
تحيل القارىء إلى فتوحات دلالية خارجية. أي أن القناع الرمزي يولّد نصاً آخر
وراء النص، وكتابة أخرى خلف الكتابة الشعريّة الظاهرة. وهكذا تتحول -في عمليّة
أخرى- المستويات الدلاليّة في النص من الخفاء إلى التجلي، عن طريق الاستكشاف
النقدي، كاشفة عن دلالات سياسيّة وأيديولوجيّة واجتماعيّة. ولهذا حين يستدعي
الشاعر الشخصيّة التاريخيّة أو الأسطوريّة فإنه بالإيماء الرمزي يُغيّر بناء
هذه الشخصيّة، التي تتحول من بنية قابعة فى التاريخ إلى شخصيّة دينامية متفاعلة
في صوتها ووعيها، كما أنه يقوي موقفها التاريخي والمعاصر، ويمنحها أبعاداً
وخصائص، تكتسبها من جدليّة التفاعل مع شخصيّة الشاعر نفسه.
والرمز في
قصيدة القناع لا يعيد بناء ذات الشاعر، ولا ينتج الشخصيّة التراثيّة فحسب، بل
كذلك يعيد بناء هذه الشخصيّة القناعيّة والشخصيّات المنصهرة المكوّنة لها بناءً
آخر، يحدده القارىء الذي يتواصل مع المستويات الرمزية في النص، بُغْية تحديد
ملامح شخصيّة القناع، بالكشف عن المضامين الدلالية والرؤى التاريخيّة
والمعاصرة، لأن القناع الشعري يصل الخبرة الإنسانية الماضية بمثيلتها المعاصرة
ليُخرج النص حاملاً رؤية مستقبلية خصبة عبر تحصّنه بالرمز الشعري.
إذن
فالقناع الشعري بتداخله مع الرمز يجسّد إطارين: يمثل الإطار الأول إعادة بناء
الشخصيّات، ذات الشاعر وذات الشخصيّة التراثيّة، في تصورات الشاعر الذهنيّة،
قبل كتابة النص وبعده. والإطار الثاني يعمل على إعادة إنتاج مستويات النص
بقراءته قراءة كاشفة، ينفذها القارىء، دون أيّ تدخل من الشاعر. وتبني هذه
القراءة مستويات النص. ويقاس هذا البناء وفقاً لمستوى قراءة النص. وليس
بالضرورة أن يتطابق البناء الذي يعيد إنتاجه القارىء مع ذلك البناء الذي تصوره
الشاعر، بل يمكن أن يتجاوزه.
ومن
الضروري أن تؤدي محاولة بناء شخصيّة القناع إلى تحديد هُويته؛ لأن هويّة القناع
لا تصور هويّة الشاعر ولا هويّة الشخصيّة التراثيّة، إنها هُويّة أخرى مغايرة
تأخذ شكلها وخصائصها وأبعادها من الدلالة الرمزية المستنتجة من قراءة سياقات
النص، ومن تفاعل هويّة الشاعر مع هويّة الشخصيّة التراثيّة، اللتين تدخلان في
شبكة من المجاذبة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. ولأن هويّة
القناع لا يسهل الكشف عنها، نتيجة للغموض الرمزى الذي يحيط بالنص المقنّع، فإن
تحديد شكلها يتطلب فك هذه الرموز وتحليل مستوياتها، للكشف عن هوية القناع
السياسيّة والأيديولوجيّة والاجتماعيّة، التي لا تتأتى إلا بسبر عميق لبنية
النص، لأن هوية القناع تحمل في طياتها رسالة للقارىء وللسلطة التي يحاول الشاعر
إخفاء هويته وإخفاء صورته عنها، حتى لا تصل إليه عيون السلطة ورقابتها.
ولأن
القناع يرتبط عادة بالتعبير الاجتماعي والسياسي والفكري، فإن وجود الرمز في
طياته يحدد أنساق التعبير عن هذه المستويات المختلفة؛ لأن القناع الشعري يتيح
مجالات واسعة للتعبير عنها، ولأنه لا يقدّمها تقديماً خطابّياً مباشراً، بل
يعكس تصوراته لهذه المفاهيم بقناعه الذي يُدْخِل اللغة في منظومة من الترميز
يعجز رقيب السلطة عن الكشف عنها أو تحديد هويتها دون أن يصيبه اللبس. مما يعني
أن ارتباط الرمز باللبس يشكّل جوهر عمليّة التقنع في قصيدة القناع، وتحدد درجات
غموض اللغة الرمزيّة في قصيدة القناع مساحات التعبير عن الواقع في أدق تفاصيله
وتعقيداته دون خوف، حيث لا يقدّم هذا الواقع في النص الشعري إلا بمقدار ما
تقدمه اللغة الشعرية الرامزة.
ويبقى أن
الرمز لا يتجسد في تجربة الشخصيّة التراثيّة، أو في تجربة الشاعر الحقيقيّة،
لأنها أشياء واقعية وواضحة، فلكلِّ تجربة وقائعها المستقلة؛ وإنما يبرز الرمز
في تفاعلهما وعلاقاتهما الجديدة ونظرهما للأشياء والواقع. وينعكس فى اللغة؛
لأنها وسيلة التعبير. لذلك لا يقدّم القناع، الذي يشكّل أرقى الأشكال الرمزية،
تجربة الشاعر والشخصيّة التراثيّة تقديماً حقيقياّ، ولكنه يقدّمها في آليّة
جديدة ومنظومة من التداخلات والتحولات اللغوية والرمزيّة والتصورات الذهنيّة
المغايرة، ليحول ما هو فردي إلى جماعي، وما هو ذاتي إلى موضوعي.
5- القناع
والتناص:
تعدُّ
ظاهرة التناص أحد تجليات النص الشعري الإبداعي الجديد الذي يتسم بخاصيّة
انفتاحه على نصوص أخرى، لاسيما التراثيّة منها. فهو يتميز عن الأشكال الشعريّة
السابقة بكونه نصاً مخترقاً وقابلاً لاحتضان نصوص أخرى.
إن بروز
ظاهرة التناص في قصائد الاستدعاء عموماً، يعدٌّ من أبرز تجليات قصيدة القناع
ومن أهم خصائصها، لأن قصيدة القناع تقوم أساساً على تعدد الاستدعاء، وتنفتح
انفتاحاً معقداً على مجالات التناص العميقة. وتتضح مظاهر هذا الانفتاح خلال
مستويات النص المقنّع. ويؤكد ذلك استدعاء الشاعر النص التراثي والتاريخى
والأسطوري، لكي يستلهم أهم علاماته وإشاراته ودلالته التاريخيّة والاجتماعية.
فالشاعر يحيل هذه الدلالات إلى تجربته المعاصرة، ولكن في إطار عمليّة تفاعل مع
دلالاته المعاصرة. والشاعر هنا يسعى إلى إنتاج تجربة جديدة، يصورها القناع من
خلال هذا التداخل النصي. إن الغياب التراثي يدخل طرفاً رئيساً في صياغة هذه
التجربة الجديدة، ويبحث الشاعر من خلالها عن مغامرة إبداعية للغة الشعريّة، كما
يبحث عن شكل جديد للتعبير يحيل هذا الارتياد المتداخل -وهو يصل إلى أعلى
درجاته- إلى إتمام أرقى مجالات التناص. ويؤدي هذا الأمر إلى قيام بنية جديدة
تقوم على أنقاض العلاقة الحميمة بين نصين مختلفين، هما: النص التراثي، والنص
المعاصر.
ومهما بدت
بعض مجالات المقاربة في التناص واضحة في قصيدتي القناع والاستدعاء العادي، فإن
القناع لا يعكس التناص من حيث هو تناص؛ لأنه يقوم على علاقة تداخل وتفاعل بين
نصيّن أو أكثر، يوضح هذه العلاقة في كل نسق من أنساق البنية الشعرية للنص،
خفاءً وتجلياً. إن أثر التناص في قصيدة القناع محوري، يثبت حضوره في بناء النص
كله، ويظهر في كلِّ جزء من أجزائه، حيث يمارس توتراته الداخليّة العميقة في كل
سياقات النص، ويبرز بين بنية وبنية أخرى في القصيدة الواحدة. هذه التوترات
الناتجة عن استخدام لغة الغياب، تؤدي إلى توليد مستمر للشاعريّة في النص
المقنّع، وإلى تدفقها في سياقاته المختلفة.
وتبدو
علامات المفارقة الأخرى واضحة. ففي حين نجد التناص في قصيدة القناع بناءً كلياً
متجسداً فيها، فهو في قصيدة الاستدعاء العاديّة يمكن تحديد تضاريسه في جزء أو
أجزاء محددة من بناء القصيدة. كما يمكن إدراك الاقتباسات والإحالات، وإدراك
انتسابها إلى الشخصيّة التراثيّة المخاطبة في النص، حين يتوجه الشاعر بالحديث
عن هذه الشخصية، أو إليها بتحوير مسرودها الشعري أو النثري أو القرآني في سياق
من سياقات النص. وعلى الرغم من أن وجود هذه الاقتباسات والإحالات الجديدة في
النص يلغي ارتباطاتها بنصوصها بكون تحولها إلى جزء لا يتجزأ من النص الجديد،
فإنها تستقر -مع ذلك- في مستوى من مستويات النص، يسهل تعيينها فيه، ويمكن تحديد
انتماء هذه المسرودات المحوّرة للشخصيّة. في حين يتحقق التناص في قصيدة القناع
في بناء النص المتكامل، محقـقـاً اختراقـاً وحضوراً في كل مستويات النص،
متداخلاً ومتفاعلاً من بداية النص حتى نهايته، فهو وجود يصعب معه التكهّن
بانتماء الإحالات والاقتباسات والأفكار المحورة إلى الشخصيّة التراثيّة أو إلى
شخصيّة الشاعر؛ لأن الشخصّية الموجودة في النص لا تعكس شخصيّة الشاعر أو
الشخصيّة التراثية، بل هي شخصية القناع؛ وعليه فإن هذه الإشارات والإحالات
والتحويرات، إنما تنتسب إلى القناع وحده. فإذا كان القناع ينهي علاقته بالشاعر
وبالشخصيّة التراثيّة، ويترجم عن نفسه، وكذلك النص الذي لا يمثل النص التراثي،
أو النص المعاصر قبل تداخله معه، فإن التناص في قصيدة القناع لا يمثّل إلا
القناع، لأنه يلغي انتماء النص للنصوص السابقة، ليدخل مع القناع في النص
المقنّع في شبكة جديدة من العلاقات، تؤدي وظائف جديدة، ولا تكشف عن سلالات
انحداراته في نصوص أخرى إلا بالقراءة النصيّة الفاحصة.
إذن، تتسم
قصيدة القناع بكونها تنهج تداخلاً متناغماً، ينفي تشكلها من نص واحد، وهي علامة
تميزها عن غيرها من القصائد الأخرى، لأنها قصيدة لا تقوم إلا على التناص، ولا
تنبني إلا تحت ظلال نص آخر أو نصوص أخرى، ولا يمكن أن نقتفي أثرها إلا من خلال
تفاعلها مع آثار نصوص أخرى. فالتداخل الحادث بين الشاعر وشخصيته التراثيّة يصل
بالتناص إلى حالة التماهي، ويصل بالتناص إلى أعلى درجاته، بحيث لا يمكن له أن
يتم إلا بالانفصال الجذري، والتنكر التام للأصول السابقة المتداخلة؛ لأن أي
انجذاب للنص التراثي المستدعى إلى أصوله قد يفقده خاصيّة الذوبان والانصهار مع
التجربة المعاصرة، ويعوق انتقاله إلى مستوى التماهي معها، مما يفقد قصيدة
القناع أهم شروطها الرئيسة. فإذا كان قيام التناص في الشعر عموماً يلغي التراث
ويقضي عليه(20)، فإن التناص في قصيدة القناع لا يترك أثراً مستقلاً لوجوده، ولا
يُظهر دلائل تؤكد انتماءه لغير النص المقنّع، وتقرّبنا كلُّ استدلالات التعرف
عليه إلى انتمائه إلى قصيدة القناع نفسها، وإلى القناع ذاته.
ولا يقف
التناص في قصيدة القناع عند تلك الحدود التي عرفتها قصيدة الاستدعاء العادية،
أو عند تلك الحدود التي عرفناها سابقاً في قصيدة القناع، بل ينطوي على تناص في
الوعي والمواقف والرؤى والدلالات، وهو تناص يتعلق بالمعرفة الإنسانية وبالثقافة
التراثية والمعاصرة، حيث تبدو الشخصيّة التراثيّة في قصيدة القناع، كأنها نصٌ
سيميوطيقى مليء بالعلامات والإشارات المعرفيّة والثقافيّة والاجتماعيّة التي
تلخص الخبرة والوجود الإنساني لتعيد صياغتها بتداخلها مع علامات الشاعر
المعاصرة ودلالاته، في عمليّة يسهم التناص فيها بإعادة إنتاج هذه النصوص بكل ما
تنطوي عليه من وعي ومعرفة وثقافة وتصورات، تتجمع في نص واحد مغاير، ينطوي على
كل هذه السمات، تلك التي لا تصور انتماءه لشيء خارجه، بل تصور انتماءه لذاته
المقنعة. الأمر الذي يعني أن التناص في قصيدة القناع يرتبط بموضوع الإنتاجية
الشعريّة والمعرفية وبالخبرة الإنسانية؛ مما يحولنا إلى دينامية كامنة في
القصيدة تطرح مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية، وتصوغ تصورات تطمح
إلى تغيير الواقع، وتتجه نحو مقارعة السلطة ومخاطبة الناس؛ لأن العودة إلى
الماضي هنا استلهام لإحالته للحضور، وليس للغياب ذاته؛ فالتناص يهدف لتحوير
الغياب، وإعادة إنتاجه في شكل الحضور المتفاعل. وهكذا يهدم التناص في قصيدة
القناع النصوص، لا لقطع جذورها، بل ليعيد بناءها ويعيد إنتاجها إعادة مغايرة
تنتظم في علاقة وفي نظام جديدين.
ويمكن
إحداث نوع من المفارقة بين التناص الواقع في قصيدة القناع وغيره في قصيدة
الاستدعاء العادي، من حيث طبيعة التناص، عن طريق إبراز تجلياته في كل منهما في
بعض النماذج الشعريّة. فالتناص في قصيدة الاستدعاء العادي ينطوي على مفارقة
واضحة من حيث تجلي ضمير المخاطب الذي يتوجه بالحديث عن الشخصيّة أو إليها دون
أن يتمثّلها أو يتقمّصها، يجعل وجود الشخصيّة معروفاً، والإحالة أو الاقتباس
متبوعاً بها ومحصوراً في السياق الوارد فيه، كقول عبد العزيز المقالح في قصيدته
"الرسالة الثانية"، وهي من رسائله الموجهة إلى "سيف بن ذي يزن":
حزني عليك
عاد كلُّ
غائبٍ إلى الديار
ألقى
الشريدُ للدجى قيوده
ألقى شجونه
وطار
وأنت في
منفاك يا "سيزيف"
لا الصيف
كان مشفقاً ولا الحريق
ولا "بروميثيوس"
قد ألقى على طريقِكَ الشتوى
ومض
نار(21).
إن أسطورتي
"سيزيف" و"بروميثيوس"، هنا، أُدخلتا في سياق حديث الشاعر عن "سيف بن ذى يزن"،
ولا يربط بينهما سوى تشبيه سيف بسيزيف، وشخصية بروميثيوس جاءت لإحداث نوع من
المقاربة الأيديولوجيّة، والمشابهة في الرغبة في تحقيق الحريّة والانعتاق، ولا
يجمع بينهما أي شيء آخر؛ فالتناص بالألفاظ، والنص تتداخله نصوص متعددة، ولكنها
محصورة في سياقها الخاص بها الواردة فيه، وهي لا تخرج في علاقاتها معاً عن نطاق
علاقة المقابلة فحسب، وفي الأطر المحدودة؛ لأن التناص لا يقوم في النص من
بدايته حتى نهايته، ولا يصور صوتاً واحداً كما هو في قصيدة القناع. الأمر الذي
يشرح التناص في قصيدة الاستدعاء العادي، ويكرس للجمل والاقتباسات والإحالات
التي يتم استدعاؤها، ويؤكد وجود الشخصيّة التاريخيّة في القصيدة، ويستحضر عنها
اقتباساً أو إحالة، كقول الشاعر اليمني شوقي شفيق في قصيدته "نشيد الفصول"،
مستخدماً ضمير المخاطب، حين يتحدث عن حمدان القرمطي، ليحيلنا فيها إلى بعض
مقولات حمدان القرمطي التاريخيّة التي نشعر بانتسابها التاريخي إليه لا إلى
الشاعر، متداخلاً معه كما هو في التناص في قصيدة القناع:
حمدان يسطو
على وردة ويخلخلُ متكآت البحر
يرفشُ
خطواتِه بتقارب الحلم
ويقول: "لا
تسيروا من مصافكم حتى تنبعث
بين
أيديكم. فإذا سارت فاحملوا، فإنه لا تردُ
لكم راية
إذا كانت مأمورة"(22).
وعلى غير
هذه العادة، نجد التناص في قصيدة القناع يبلغ أقصى درجات محله في تملّكه للنص
المقنّع بأكمله؛ إذ يتعاظم التناص إلى درجة لا نستطيع معها أن نَفْصلَ النص
الداخل عن النص المدخول فيه، وأن نعود بكل منهما إلى أصوله ومرجعيته السابقة له
من خارج النص؛ لأن التناص يستقيم في البنية الكلية للنص، والنص يعكس هذا
التداخل الظاهر في سياقاته.
ويمكن أن
نلاحظ ذلك في التناص القرآني الذي تجسّد في قصيدة القناع "من حوليات يوسف في
السجن" لعبد العزيز المقالح، حيث التناص محورٌ كليٌُّ، لا يمكن أن ينتسب إلى
الشخصيّة التراثيّة، فهو تابع للشخصيّة المغايرة، أي لقناع القصيدة؛ لأن التناص
اللفظي المصور لغة الغياب يدخل في علاقة جديدة مع لغة الحضور، ويستكمل حلقات
تحولاته فيها لينفصل انفصالاً كليّاً عن الشخصيّة، وعن لغتها الغائبة. يقول
المقالح:
حين جاءتْ
إلى الجبِّ قافلةٌ
ومن الجبِّ
أنقذني أهلها
ورأيتُ
السماءَ ضحكتُ، كأني من رحم الأرض
جئتُ. وها
أنذا الآن في الجب(23).
ويقول في
القصيدة نفسها:
لم تكن
قريتي قبلْ مصرَعِها،
لتصدق أن
"العزيز" خصيٌّ يتاجر
في عرض
أبنائِها،
و"العزيزة"
في القصرِ تنهشُ
في عرْضه
وتتاجرْ،
تزني
بأولاده واحداً واحدا(24).
وهكذا
يتواصل التناص في امتدادات القصيدة، ويستطيل مع استطالاتها. والتجربة بعينها من
التجربة نفسها، ينصب اهتمام الشاعر على شخصيّة واحدة لاستخدام دلالاتها
التراثيّة متداخلة مع تجربته المعاصرة، تتفاعل وتتواصل حتى نهاية القصيدة، دون
أن تظهر القصيدة مستويات متباعدة في كل مستوى من مستوياتها، فنحن لا نستطيع أن
ننسب كلمات مثل: "الجب"، و"العزيز"، إلى الشخصيّة التراثيّة نسباً يفصلها عن
تفاعلاتها الجديدة، ويمكن أن نلحظ ذلك في قول عبد العزيز المقالح:
حصحصَ
الحق،
هل تستطيعُ
القيودُ على شفتي
أن
تبلّغَها أنني قد
قبلتُ
الشروطَ.. من الآن سوف
أرَاودُها
أنا عن نفسها،
وأشقُّ
القميصَ بأنفاسي
الداميات
الأظافر(25).
---
إنتهى الجزء الأول من الدراسة
الهـــوامـــــــش:
(1)
إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، القاهرة، دار المعارف،
1985، ص182.
(2) فاضل
تامر، مدارات نقدية، بغداد، دار الشؤون الثقافية، ط1، 1987، ص 253.
(3) نفسه،
ص 255- 256.
(4) نفسه،
ص 252.
(5) أنظر،
محيي الدين صبحي، قصائد رؤيوية، الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى،
ب ط، الدار العربية للكتاب، 1988، ص29-30.
(6) وليم
بتلر ييتس (1865 - 1939)، واحد من أعظم الشعراء الإنجليز في النصف الأول من
القرن العشرين. ولد في دبلي، أسس مسرح آبي الشهير عام 1894، وأصبح قائداً لحركة
إحياء الأدب الإيرلندي. وفي سن الثالثة والأربعين كان أشهر شاعر وكاتب مسرحي
إيرلندي، (كان قد نشر أكثر من مائة كتاب من بينها ستة دواوين ومسرحيات وأعمال
نثرية، بالإضافة إلى نسخ عديدة ودواوين لكتاب آخرين). أنتج أعماله الكاملة في
ثمانية مجلدات. كان شاعراً رومانسياً، كتب عن الحب، والحكايات الإيرلندية
الخرافية والأساطير. امتد تأثيره إلى ت. س. إليوت. انظر ليليان هيرلاندز، ج. د
بيسرسى، ستيرلنج. أ. براون، دليل القارىء إلى الأدب العالمى، تر. محمد الجوراء،
بيروت/ دمشق، دار الحقائق، ط1، 1986، ص 363-364.
(7) ألن
تيبت، دراسات في النقد، تر. عبد الرحمن ياغى، بيروت، مكتبة المعارف، 1961، ص
77- 78.
(8) فاضل
تامر، السابق، ص 254.
(9) أحمد
كمال زكي، الأساطير، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967، ص86.
(10) عزرا
باوند، (1885-1972): شاعر أمريكي، يعد مركز الحركة المعاصرة لأدب القرن
العشرين. ولد في نورث ويست، درس في جامعة بنسلفانيا، سافر من أجل الشعر عام
1907. عمل محرراً أجنبياً في مجلة الشعر، ساعد ت. س. إليوت بأن راجع قصيدته
الأساسية "الأرض الخراب" قبل نشرها، كما ساعد جيمس جويس بإحساسه العملي للنشر،
كما كان عوناًً لوينهام لديس. أصدر ديواناً بعنوان "الطاعة للصفات الجنسية" عام
1917 الذي شد اهتمام العالم الشعري إليه، كتب مقطوعات غامضة، وهي بحث عن معاني
الحياة الثقافية في العالم بين الشرق والغرب. انظر ليليان هيرلاندز، ح.د.
بيسرسى، ستيرلنج بروان، السابق، ص 63- 64.
(11) فاضل
تامر، السابق، ص 255.
(12) أحمد
كمال زكي، الأساطير، السابق، ص86.
(13) ت.س.
إليوت (1888-1965) شاعر وكاتب بريطانى، أمريكي المولد. لم يكن تقليدياً في
تحديده الفني، وفي تجربته للغة. اقترب أحياناً من التجارب الفنية للرسامين.
انظر ليليان هيرلاندز السابق، ص 42.
(14)
ليليان هيرلاندز، نفسه، ص 42.
(15) نفسه،
ص 42.
(16) فاضل
تامر، السابق، ص 258.
(17) عبد
العزيز المقالح، ديوان عبد العزيز المقالح، بيروت، دار العودة، ط2، 1980، ص
268-269.
(18) نفسه،
ص 110.
(19) نفسه،
ص 211.
(20) أنظر
رولان بارث، درس السيميوطيقا، تر/ بنعبد العالي، المغرب، دار توبيقال، ط3،
1993، ص 64.
(21) عبد
العزيز المقالح، ديوان المقالح السابق، ص 295- 296.
(22) شوقي
شفيق، ديوان مكاشفات، عدن، دار الهمداني، ص 73- 74.
(23) عبد
العزيز المقالح، ديوان "عودة وضاح اليمن"، بيروت، دارالعودة، ط1، 1976، ص 20.
(24) نفسه،
ص 21- 22.
(25) نفسه،
ص 24.
|