العدد الخامس - صيف 2008م

   
 

دراسات
 

الرؤية المأساوية في قصة «هوامش وأبعاد»... للقاص المبدع أحمد محفوظ عمر  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

شهاب أحمد عوض القاضي
كاتب من اليمن.

أحمد محفوظ عمر، قاص لم يستنفده القص، بعد تجربة غنية بلا حدود. قلم يختزل الفكرة في براعة فائقة، ويبني من الكلمة عوالم، هي من واقعنا حقاً، لكنها تستحيل عند فعل القص إلى عوالم فنية نتعرفها لأول مرة، وكأننا نلج إليها وسط هالات من الحلم والغرابة والسحر.

تقرأ الكلمة الأولى في القصة، تقرأ الكلمة الأخيرة فيها، وبينهما وقت ليس لك، وليس لأحمد محفوظ عمر؛ إنه التدفق، إنه السريان لفعل القص الذي يجعل من الدهشة مصدراً لنسغ المتابعة (القراءة)، وهو امتلاك للقارئ، بالنظر إلى طبيعة النص باعتباره صيرورة تحقق في فعل القراءة وجودها الخاص والكلي... وهذا لا يحدث إلا في أعمال أدبية لأدباء أمثال أحمد محفوظ عمر.

وكنت متردداً في محاولة الكشف عن عالم أحمد محفوظ عمر، وذلك انطلاقاً من رحابة عالمه واتساعه. وفضلت أن أتناول عملاً من أعماله: "هوامش وأبعاد" من مجموعته القصصية "يا أهل هذا الجبل"(1). وهذا الاختيار تأسس على تحليل الرؤية إلى العالم عند القاص على مستوى قصص المجموعة.  وحظيت قصة "هوامش وأبعاد" بالاهتمام بأن أولاها القاص عناية خاصة وحملت تكثيفاً بالغاً لرؤيته إلى العالم، والتي تتجسد عناصرها الفنية والمضمونية في نسيج معظم قصص المجموعة على نحو أو آخر.

ـ أ ـ

القصة تحاول الإحاطة بما يمس وجود الإنسان وشروط تحققه عيانياً. وذلك في جعله على الدوام أمام اختبارات لا يملك إزاءها إلا إصراره على تحقيق وجوده الخاص، بما هو حر وبما هو إنسان.

وقد حاولت أعمال أدبية كثيرة، ولا سيما تلك الأعمال التي تنتمي إلى "أدب العبث" على مستوى الأدب الأجنبي أو العربي، وضع الإنسان أمام تساؤلاته المصيرية، مؤكدة وحدة الإنسان وقدريته وغرابة عالمه، بغرابة القوى التي تتحكم فيه، وبلا معقوليته، وبالصدفة العمياء التي تتحكم به، وبلا جدوى جهوده أمام سيل التساؤلات الميتافيزيقية، كالموت والحياة والمصير... القصة -إذن- هي محاولة لإعادة طرح تلك التساؤلات مجدداً؛ ولكن الجديد هذه المرة أن يسطرها قلم أديب يمني كبير.

إنها قصة إنسان ما (لم يعطه القاص اسماً) زاغ عقله تماماً وهو يهوي إلى أسفل، قاطعاً في ثوان قليلة المسافة الفاصلة بين أعلى الحفرة وقاعها المظلم العميق، بينما كان ذاهباً إلى عرس الأعراس، دفعته يد مجهولة إلى تلك الحفرة، وأصبح نهباً للمخاوف والمصير المجهول ولضربات الأشباح... لم تنفع محاولاته في الخروج من الحفرة ذات الجدار الدائري المسطح، "إنه الآن يمارس الواقع، وينخر جدار الصمت بصوت مثلوم وحس معدوم، ويضاجع عابسات الأفكار بصدر ضاج وشبق محتضر...". لم تتوقف الأشباح عن تعذيبه بضرب المطارق على رأسه كلما أغمض عينيه. كما لم يتوقف هو عن الاستغاثة وطلب الرحمة، بالدعاء المتكرر، يرجو من الله أن يعينه وأن يخرجه من هذا المكان: "يا رب كل شيء... اعطني ظهراً قوياً ونفساً عميقاً".

وقد حدث هذا كله عند بداية عرس الأعراس، واستمر إلى ما بعد اختتامه. "جرى الفرح على بعد أمتار قليلة فوق رأسه، وفي جو مليء بالزغاريد الهازجة والصخب المبهرج... وهو مركون على الهامش (في الحفرة) وألف سيخ محمي يدمي وجهه ويطعن أعماقه بهمجية (...) وكان هو هناك حقيقة تناوئ الزيف والأوهام، فماذا يفعل؟!(...) والطريق إلى أعلى طويل طويل، والضياع يبتلع الحقيقة ويزيفها، وفوق كتفيه يحمل عبء السنين العابسة برضى لا حدود له (...) إن الفشل يغطي كل شيء حوله".

مع ذلك يحاول أن يتذكر، لربما أن أحداً ما قد حقد عليه يوماً وقام بدفعه إلى هذا المصير... هل هو ذلك الذي صحح له خطأ في النحو أثناء إملائه رسالة لإحدى العاملات على الآلة الكاتبة؟ حتى أنه قال له حانقاً:

- لا تنسَ! هنا الإخلاص قبل الكفاءة.

أم أنه ذلك الرجل الذي بادره بنظرات حانقة لما كان جالساً في باص للركاب بجانب امرأة لا يعرفها، حيث بدرت منه أو منها استجابات متبادلة، ولم يتنبه أحد من الركاب إلا "حين توقف الباص ولحظ عيني رجل مسلطتين عليه بنظرات ضاربة حاقدة"... إنه ما يزال يعاني، "أحلامه مشنوقة في سقف المجهول الأزلي... تسيجه الموانع اليومية" بينما الظلام اكتمل انتشاره، والمحتفلون يغادرون الساحة. إنه "يرى بوجه أسيف يداً مجهولة تمتد فوق الفوهة، ثم رآها تطبق على الهوة، باصقة مزيداً من الظلام إلى أسفل، فتقبل عليه الأشباح وتتوالى ضربات المطارق على رأسه... فتهاوى راكعاً على ركبتيه، ومضى يبكي بجنون".

ـ ب ـ

القصة، كما تبدو بعد التقطيع والتوليف، هي محاولة لتشخيص وضع إنساني مأزوم، إنه الابتعاد والانعزال عن كل تمظهرات المجتمع، ليس رفضاً لها من خلال إعلان البديل، ولكنه كان التعبير الأمثل عن تدمير قنطرة التواصل الوحيدة الباقية مع المجتمع. "أحلامه مشنوقة في سقف المجهول الأزلي تسيجه الموانع اليومية". إنه إنسان مقموع محبط، لكنه لا يستمرئ ما هو فيه، أي لا يقبل أن يكون ضحية لمجهول ما. ولكنه أيضاً وفي الوقت نفسه لا يقبل أن يكون مع الآخرين، إنما هو نقطة توتر حقيقية لوحدة وجود الإنسان ووحدة مصيره وأفق المجهول الذي تنطوي عليه حياته؛ المجهول الذي يجعل كل الأيام القادمة مستقبلاً، والمستقبل غير الحاضر، والحاضر، على أقل تقدير، بمقدورنا أن نتعرفه، نحيط به، يحيط بنا؛ الحاضر هو كل ما نحن فيه الآن، وذلك القابع في الحفرة محاصراً لا يتمنى غير الحرية، ولكنه لا يريدها في المستقبل، إنه يريدها الآن. في الحاضر "أصبح للثواني أنياب قاطعة". إنه الحاضر -إذن- مطلق الوجود، لم يعد الماضي غير ذاكرة محبطة يتوسلها الإنسان في تفسير ما استغلق عليه من الأمور، ليس لمزيد من المعرفة، ولكن لمزيد من تكريس الحاضر ليس إلا؛ الأمر الذي يختزل أبعاد الزمن الثلاثة إلى الزمن أحادي البعد؛ ليس الماضي سوى حاضر متراجع، كما أن المستقبل ليس سوى حاضر مقبل، فتستحيل العلاقة الزمنية: الماضي -الحاضر- المستقبل، إلى حاضر فقط، كلي الحضور، ضاغط، قامع، لا يرحم... هذا هو حاضر أحمد محفوظ عمر؛ إنه الرعب والقوى المجهولة والخوف الذي لا يبرح المكان. ولم يكن المكان غير عمق حفرة، كأنها بئر مبلطة جافة مهجورة ذات جدار دائري مسطح؛ إنها إذن المكان الدائرة. "الدائرة تتصف بالكمال، والدائرة تعود إلى نقطة بدايتها، فليس لها أطراف محلولة تنتهي عندها، وهي بهذا تلغي مشكلات البداية والنهاية للأشياء جميعاً بأن تسلم بالديمومة اللانهائية للكون"(2).

بهذا المعنى، وضْع إنسان أحمد محفوظ عمر وضع كلي مطلق، إنه تأبيد الحاضر وجعل مصيره المحتوم هو وحدته المطلقة. إنه وجود قد تقرر مصيره مرة واحدة وإلى الأبد، لم يعد يقبل منه استئناف النظر؛ فوجوده مشروط بتحققه انطولوجياً في زمان ومكان محددين، تحديداً قبلياً. وليس له غير أن يبقى بعيداً منكفئاً منتظراً مخرجاً ما؛ لكنه الانتظار المستحيل، الانتظار الذي لا يفضي إلا إلى تعميق معنى وحدة الإنسان ومصائره المجهولة وعزلته في عالم يرفض موضوعياً أن يكون الإنسان هو مركزه. هكذا يتلبسنا الرعب. إنه حاضر ليس لنا، ولكن علينا أن نعيش فيه، أن نتقبله؛ وأن تتقبل حاضرك على رغمك هو أن تكون في حالة سلب محض. يكفي أن نعرف أن الإنسان "قذف إلى الوجود" على حد تعبير هيدجر(3). وكأنه وجود لا يتقرر إلا من خلال وعي حاضره المشروط بحالات أو محددات قبلية؛ الأمر الذي يبقينا أسرى حاضرنا، تطوينا رياح الانتظار الأجوف.

ـ ج ـ

القصة إذن تعبير مكثف عن حالة إنسان يعاني الحصار؛ شخصية عاجزة عن إدراك وضعها أو شرطها الإنساني، وهي عاجزة بالتالي عن تغيير ذلك الشرط، أي عاجزة عن اتخاذ أي قرار يقوم على الاختيار الحر، وهي في وضع يمكن تسميته بأنه قدري، أي أنه وضع يخضع لتحديدات مفروضة قسراً من الخارج؛ والخارج عامل قمع، "لؤم، إنكار"، ولكنه خارج مرفوض وعلى نحو قطعي يمكن تسميته بـ"خارج الغير" غير المقبول، ولا يمكن التواطؤ معه من قبل الأنا. هذه الثنائية (الأنا – الغير) لا تتحقق عيانياً إلا على حد القمع/ الإحباط، كفعل قصدي موجه. فالشخصية لا تحس "بوعي كامل" بتميزها إلا حين تواجه قمعاً (الإخلاص قبل الكفاءة). وهكذا يستحيل الواقع إلى مطرقة كبيرة تدق على رأسه.

في مثل هذا الوضع تتحول الأشياء إلى مدركات عقلية فحسب، لا يبقى ثابتاً سوى مجال "الخارج/ الداخل"، في تباعد مستوييه تباعداً بنيوياً. ويتحول جسد القصة كله أسيراً لحركة الوعي (وعي الشخصية)؛ هو الذي يتذكر، هو الذي يسأل، هو الذي يبكي، هو الذي يكون في بؤرة الحدث عبارة عن: عطالة مطلقة في مواجهة زيف مطلق... فيغدو الداخل(الـ "هنا") هو التعبير عن الإحساس بالوحدة، بالغربة، والخارج مكر/ لؤم/ نكران... بكل الخارج، بكل ما فيه من قسوة ووحشية.

وهكذا تتحول القصة إلى صراع بين الـ"هنا" والـ"هناك"، دون أن ينفتح هذا الصراع للانتقال إلى مستويات أخرى، إنما يبقى على هيئة توتر تنتظم فيه العلاقة الملتبسة بين الـ"أنا" والغير، باعتبارها توتراً لا يفضي إلى أي شيء، إنما فقط يؤسس أو ينشىء حالة إنسانية مأزومة/ محبطة تعيش في الجحيم الذي هو "الآخرون" على حد تعبير "سارتر"؛ إنها حالة غير مدركة على نحو كامل لشروط تحققها الإنساني، حائرة بين قول: نعم، وقول: لا. هي -إذن- في المسافة بين القولين. ففي الوقت الذي تتعرض فيه للقمع من الـ"هناك"، تتمنى الـ"هنا" البراءة، وكأنها في مجال اتهام، وهي براءة تجعلها أكثر قبولاً، أكثر تكيفاً. مع ذلك تعلم عدم قبولها لكل الميراث القيمي الذي يمثله الـ"هناك"... فبين "نعم"، و"لا"، وتحت ضربات سوط الغربة عن العالم وعن الإنسان، وتحت صمت ميتافيزيقي لا يرحم، تتجلى الرؤية المأساوية عند أحمد محفوظ عمر في إنجاز نص يعبر بكثافة عن انعزال الفرد وغربته المطلقة ووحدته اللامتناهية في هذا الكون. وهذا ما عبر عنه أحمد محفوظ عمر في مقابلة سابقة له، إذ قال: "فالإنسان معقد التكوين، ملول، قلق، تتقاذفه أهواء وأنواء ومطامح متعددة في حياة غامضة، غارقاً في خضم همومها، وهو في كل الأحوال لا يملك لها درءاً، يثور، يتمرد، ولكنه يستكين، يخضع، وهو لا يستطيع أن يشكل محيطه وفق ما يريد، بل يجد نفسه في هذا المحيط رغماً عن أنفه"(4).

ـ د ـ

إن أحد مظاهر أزمة شخصية القصة هو أنها لا تفعل، وشخصية لا يقوم الفعل عندها مقام السلوك/ العادة، إنما تتجوف من الداخل وتمتلئ بالقش (ت. س. إليوت)؛ إذ أن أبرز فعل تاريخي يقوم به الإنسان هو أنه يفعل في الطبيعة والمجتمع. أما إنسان أحمد محفوظ عمر فهو مكتفٍ بذاته، لا يفعل ولا ينفعل، كأنه شخصية غفل، الشيء الذي يصنعه هو أن ينتظر؛ والانتظار اختيار سالب.

أن يتحول الإنسان إلى نقطة ساكنة/ بؤرة جمود، فإن الوضع الإنساني يتحول بدوره أيضاً إلى كلية، إلى معنى مطلق. لذا استغرق القاص جهده في تفصيل وصف اليد التي دفعت ذلك الإنسان إلى عمق "الحفرة"؛ فمرة هي: "اليد الطولى اللعينة"، ومرة "اليد الآثمه"، ومرة "اليد المجهولة الحاقدة"... إن من رماه في غياهب البئر (الحفرة) يد مجهولة. بالمقابل، لا نرى أنه يستعمل يديه أو حتى يشير إليهما.

وهكذا تتمثل "اليد" عنده -في وعيه الخاص- علامة سالبة، ونحن نعرف أن "اليد" تحيل أيضاً لمجموعة كبيرة من المعاني الإيجابية، أبرزها أنها رمز للفعل، للتغيير. وهذا الأمر جعله يعطي نعوتاً سالبة لليد، ليس لأنها هي سبب حصاره وأزمته، كما يبدو من المعنى المباشر، إنما لأنها رمز الفعل، رمز لإرادة التغيير؛ إذ أن مجموع الأوصاف السالبة التي مُنحت لليد تعني رفضها كأداة للتغيير والتحويل، إنما فقط هي أداة رعب وتدمير.

إنه يرفض تلك اليد. وفي رفضه لها، يرفض –لا واعياً- كل المحمول القيمي الذي تؤشر إليه اليد، وفي مقدمة ذلك أنها أداة تغيير يمكن بواسطتها التعبير عن إرادة الخلق، كما يمكن بواسطتها التعبير عن إرادة التدمير... وهي يمكن لها أن تكون أيضاً وسيلة لإنماء الحرية، أو يمكن لها أن تكون وسيلة لفرض مزيد من القمع وإحداث مزيد من الاستلاب الاجتماعي والروحي.

أنها -إذن- تستوطن اللاوعي عنده، باعتبارها قيمة سالبة، لأنه إنسان لا يفعل، "تسيجه الموانع اليومية"، وأن "الفشل يغطي كل شيء حوله". وفي رفضه للفعل يرفض أداته (اليد)، وفي سبيل ذلك يدمغها بالقصور، باللؤم، ويلغيها. وهو في كل هذا يحاول أن ينفيها موضوعياً، بأن يخلق مسافة مستحيلة الفهم بينه وبين اليد المجهولة، ويحاول في الوقت نفسه أن يضعنا على مستوى المسافة نفسها، بحيث يتملكنا عدم الفهم عينه باتجاه الوصول إلى معنى محدد، هو أن الوجود الإنساني وجود صدفي/ عبثي، وأنه يمكن لحادث ما غير متوقع أن يغير من مصير الإنسان وأن يضعه أمام اختبارات غير منطقية ليست في الحسبان، تمس وجوده نفسه. هكذا يصبح الغموض وعدم الفهم صنو اللافعل في عالم عبثي مسدود الأفق.

وقرب نهاية القصة ننصت إلى البكاء كلحن مأتمي ينتظم القصة ويمنحها روحاً مأساوية، وذلك من خلال استسلامه. "فأغمض عينيه، واستمر الاحتكاك وتوالت ضربات المطارق على رأسه، فتهاوى راكعاً على ركبتيه ومضى يبكي بجنون". ولقد أغمض عينيه؛ إنه الآن مع نفسه، أصبح في الداخل، في الـ"هنا"، وانصرف يتلقى ضربات الأشباح ويبكي. إذن، لم يعد للخارج/ الـ"هناك" من وجود، قام بإلغائه عبر لحظة يأس واحدة. يكفي فقط ألاَّ تسأل لمعرفة ما يحدث، وأن تقوم برحلة إلى الداخل؛ هنا تلغي الخارج، لم يعد له من وجود. الوجود الحقيقي هو الـ"هنا" (الداخل)، ويبدأ مع ذلك سيادة الذاتي، سيادة طاغية لا تقوم إلا بإلغاء

الآخر/ الغير، ولا تفعل إلا بواسطة عناصرها الخاصة: وعي يدور ويظل يدور متلمساً جدران الحفرة في محاولة للتعرف والفهم المستحيل. يقول جورج لوكاش: "إن الوجود الذاتي بدون صفات مكمل لإنكار الواقع الخارجي"(5).

إن إنكار الواقع الخارجي هو -بوجه أو بآخر- محاولة لتضخيم أو مبالغة للواقع الداخلي للإنسان. ويسعى القاص لإبراز هذه المسألة في أكثر من وسيلة أو تكنيك فني. فمثلاً شخصية القصة هي شخصية بدون اسم، بدون عمر أو لا نعرف عمرها. كما لا يشير القاص إلى مكان الحدث أو زمانه. بعبارة موجزة: ليس هنالك ما يشير إلى التاريخ الشخصي أو ما يشير إلى ما يميز محيطه الاجتماعي، إليه كإنسان، كوجود متعين. هذا الأمر يجعل من العالم الداخلي للإنسان عالماً بلا حدود؛ إنه هو الوجود المطلق فحسب، الذي يقبل به ويتحول عنده إلى معيار خاص لمفاضلة أشياء العالم الخارجي، وهي مفاضلة تتأسس جوهرياً على مبدأ الرفض أولاً، ثم الانتقاد السلبي للأشياء، ثم الركون إلى حالة من الانكفاء والتوحد.

وحدة الإنسان هنا إحساس ميتافيزيقي قديم، إحساس يعيد الأشياء إلى بداياتها الأولى، في عالم خالٍ إلا منه، عالم ضاج بالرعب، بالنفور، يكون الإنسان فيه مجرد كائن يتملكه خوف ورهبة من الاتصال بما هو خارجي، وكأن الخارج رعب مقيم لا يبرح.

فإن تبدو العلاقة بين الإنسان والعالم على هذا النحو، أي علاقة يتوسطها الرعب والخوف، معناه رفض طرفي تلك العلاقة، والوقوع في ثنائية تنافر بين الإنسان والعالم تنافراً أزلياً لا يحل. وهكذا فلا يسع الإنسان إلا أن يبكي قدراته الخائرة في عالم لا يقبله، في عالم يتمظهر إليه رعباً وخوفاً وقلقاً لا ينتهي. وهذه الرؤية هي أرقى تجسيد للرؤية المأساوية عند أحمد محفوظ عمر، كما عبر عنها لوسيان غولدمان(6).

ـ هـ ـ

قصة "هوامش وأبعاد" نص إشكالي، لا يحمل للقارئ معنى واحداً ومباشراً، لكنه النص الزئبق، كلما حاولت أن تأتيه من جهة ما، أو حاولت التعرف على وجه واحد، تبرز أمامك أكثر من جهة، أكثر من وجه. ولكي يبدو النص كذلك، من الناحية الفنية والأسلوبية، أو على مستوى الرؤية، قام القاص بتوظيف متآزر لمجموعة من الوسائل الفنية، تأتي شخصية القصة في مقدمتها؛ فهي شخصية قلقة، حائرة، منكسرة، تسيجها الموانع اليومية، يسكنها صراع داخلي حاد يجعلها دائمة التفكير، دائمة التساؤل، حركتها حركة اعتماد، أي حركة في المكان نفسه وليست حركة نقلة(7). ومن مميزات هذه الحركة الصراعية، أنها صراع الدوران على النفس، والإعادة والتكرار... صراع داخلي لا يعيد بناء الشخصية من الداخل، ولكنه يقود بتكراره إلى أن يغزو اليأس حقل الوعي، ويقوم بإنتاج بنية نفسية ليست غير الخواء. ولهذا انتظم السرد والأسلوب التصويري في القصة على هيئة أسلوب التتابع التكراري، وليس التتابع التقليدي المنطقي الذي تقودنا فيه المقدمات إلى النتائج. أما أسلوب التتابع التكراري فإنه "تنمية القص من خلال إعادة القص بصورة جديدة في كل مرة ولكنها تنطوي على الجوهر الواحد نفسه، وتوسع أفقه وتضيف إليه. ومن خصائص هذا التتابع أنه يوهمنا بأنه يقدم جديداً في كل مرة، ولكنه في الواقع يعيد الدق على الأوتار القديمة نفسها بتنويعات جديدة، وهذه التنويعات العديدة على اللحن الواحد، تتحقق عبر تتابع الصور وتباينها، وعبر ضرورة المزج بين العناصر المتباينة والمتماثلة"(8).

إن سطوة تأثير القصة نابعة -إذن- من التتابع التكراري في لغة السرد والتصوير البلاغي الجميل. فاختيار الكاتب لوسائله الفنية (الشخصية، المكان، الأسلوب) هي قدرته الفنية على إظهار موضوع القصة. فالتكرار والتفصيل من حيث الأسلوب قد جعل القصة تتوتر على مستويين: الانتظار، والتوقع. كما جعلها تكثيفاً مستمراً للرعب، تكثيفاً مستمراً لطرح الأسئلة. فالقاص إنما أراد أن يضعنا على مستوى المشاركة الوجدانية الكاملة مع النص، أن يبقينا أسرى لكآبة لا تحد، وأسرى لهاجس التوقع بأن هناك مخرجاً ما يأتي فجأة؛ ولكنه يضيِّق علينا الخناق أكثر فأكثر، كلما تدافعت علينا، وعلى إنسان أحمد محفوظ عمر، سحب الظلام وأحاط بنا رعب اللامعرفة، اللامدرك، في حاضر يتداعى.

هكذا تظهر بنية النص: اندماجاً عضوياً بين الأسلوب والرؤية. لا يتمظهر الأسلوب زياً ولا زخرفاً، لكنه يؤسس نزوعاً فنياً في النص، وكأنه نسغ الرؤية، يصعب الفصل بينهما، بل إن أحدهما يفصح عن الآخر في تكامل إبداعي جميل.

 

الهـــوامـــــــش:

(1) أحمد محفوظ عمر: "يا أهل هذا الجبل" (مجموعة قصصية)، دار الفارابي، لجنة نشر الكتاب، عدن، 1978.

(2) كولن ولسون وآخرون: فكرة الزمان عبر التاريخ، عالم المعرفة، الكويت، ص17.

(3) جورج لوكاش: معنى الواقعية المعاصرة، دار المعارف، مصر، ص20.

(4) مجلة "الفنون" - لقاء مع القاص أحمد محفوظ عمر أجراه الأديب فيصل صوفي.

(5) جورج لوكاش: المصدر السابق، ص27.

(6) انظر إلى مفهوم الرؤية المأساوية في منهج لوسيان غولدمان بتفصيل أكثر في كتاب د. جمال شحيد

"في البنيوية التركيبية"، دار ابن رشد، الطبعة الأولى، 1982، ص61.

(7) د. محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 1988، ص42.

(8) مجلة "فصول" - القصة القصيرة: اتجاهاتها وقضاياها، المجلد الثاني، العدد الرابع يوليو/ أغسطس/ سبتمبر، 1982، ص31.