دراسات
الرؤية الصوفية في الموقف الفني المعاصر
()
علي الحضرمي
شاعر وأكاديمي من اليمن.
في غالب الفلسفات الجمالية الحديثة، كما في غالب النظريات الفنية، على
اختلافها وعلى ما قد يبدو بينها من المفارقات، يستطيع المرء أن يقف على
ما يشير -بصورة بينة أو بمعنى ضمني- إلى أن ثمة جوانب مشرقة في التجربة
الصوفية تمس قوام التجربة الفنية بمفهومها المعاصر، على خلاف ما قد
يتصور للبعض من أن نزوع التجربة الصوفية إلى ما وراء الصورة الظاهرة
لهذا العالم يجعلها على وفاق مع بعض الفلسفات الجمالية القديمة، من حيث
ارتباط هذه الأخيرة بالميتافيزيقيا، وبخاصة فلسفة أفلاطون التي يتصور
البعض أن اقتران القيمة الجمالية فيها بفكرة المثال، وارتباط الشاعر
بفكرة الإلهام، هو مما يقع على النحو ذاته في التجربة الصوفية. فقد
رُوّجَ أن الشاعر في رأي أفلاطون ذو "رسالة مقدسة، ونفس إلهية خامية،
وعبقرية مشرقة بالقبس الإلهي، وقد هبط إلى الأرض ليهيئها لعصر أمثل،
وهو رجل المثالية، يعيش مع الناس وهو غريب عنهم، ويضيء المستقبل بمشعله
كالأنبياء"(1). وفي ذلك –كما قد لاحظ الدكتور محمد غنيمي هلال- تحوير
لآراء أفلاطون في الشعر(2).
وإذا
كان أفلاطون قد ربط بين الشاعر وفكرة الإلهام، وربط بين القيمة الجمالية
والحقيقة المثالية، فإنه قد فصّل ذلك على نحو من التناقض يجعل فكرة الإلهام
عنده غير ذات قيمة فعلية إزاء وضعية النظام في العالم الأرضي. إنه يجعل الحقيقة
المثالية مقياساً لكل وضع شيئي أو فعلي في العالم الطبيعي. ولكنه، بتأكيده
للقيمة الجمالية في الشيء أو الفعل خارج الإنسان، يجعل النظام الوضعي، في
العالم الخارجي، مقياساً لفكرة الحقيقة المثالية التي ينبغي أن يحاكيها الشاعر.
ويتضح ذلك ببساطة حين نلاحظ -مع الدكتور عز الدين إسماعيل- أن "فكرة أفلاطون
الأساسية في الميتافيزيقيا هي الخير وليست الحق"(3).
مما
يجعلنا "ندرك النقص في القول الذي نسب إلى أفلاطون خطأ وهو أن الجمال هو وضاءة
الحق"(4). فالمثال الجمالي لدى أفلاطون يقترن بفكرة الخير، والشاعر لا يكون
موفقاً –في نظره- إلا إذا تلمّس هذا المثال فيما يحاكيه في العالم الخارجي
(المجتمع أو الطبيعة) المحكوم بقيم محددة تضع كل شيء في وضعه المناسب، فـ"مثال
الجمال أو الجمال المثالي مفهوم سابق يسطير على الفنان حين يعمل، فهو يختار
عناصره من الأشياء الطبيعية، ويؤلف منها وحدة غاية في الجمال، بحسب هذا المفهوم
أو باستخدامه مقياساً خاصاً خفياً(5)، وهو يفترض لهذا المفهوم السابق أو
المقياس وجوداً خارجياً يحاكيه محدداً بمقياس وضعي؛ فالأشياء "تكون جميلة عندما
تكون في موضعها، وقبيحة عندما تكون في غير موضعها"(6)، وكل ما يمكن أن يصل إليه
الفنان في إلهامه هو أن يحاكي جمال الأشياء النابع من محاكاة الأشياء نفسها
للحقيقة المثالية، بكونها (أي الأشياء) واقعة في مواضعها المحددة بمقاييس
الصلاح والمنفعة.
ويتلخص
ما نريد إيضاحه هنا في أن أفلاطون يفترض عالماً مثالياً غيبياً هو عالم الخير.
وصور الجمال الحقيقي الخالص، هي مثُل الخير في ذلك العالم، وهي مقياس لما يجري
في منطقة الحس، وجميع ما في منطقة الحس محاكاة لتلك الصورة الصحيحة "المثالية"،
وكذلك الأعمال والفضائل والنظم محاكاة كلها؛ شأنها شأن الأشياء. واللغة بدورها
محاكاة لما ندركه من الأشياء، التي هي بدورها محاكاة. والحروف التي تتألف منها
الكلمات هي أيضاً وسائل محاكاة لا تأخذ في ذاتها أية قيمة سوى ما تدل عليه من
المعنى المرتبط بالشيء في وضعه المناسب والمحدد. وبهذا تدل المحاكاة، عند
أفلاطون، على العلاقة الثابتة بين شيء موجود ونموذجه. فحين تحاكي طبيعة الأشياء
بالحروف والمقاطع والكلمات والجمل تكون المحاكاة ذات قيمة جمالية إذا دلّت على
خصائص الموجود، وسيئة أو منحرفة عن الجمال إذا تجاوزت هذه الخصائص(7).
فأفلاطون
يحدد مثاله، الذي يقول إنه مطلق، حين يشرط محاكاته بمقاييس الصلاح والمنفعة في
المجتمع الأرضي. لقد ناقض نفسه؛ أكد أهمية الإلهام في الوقت الذي ألزم فيه
الشاعر بما يتنافى مع ذلك. فالقول بأن الشعر من حيث هو "نتيجة إلهام واستسلام
للنشوة، متحررٌ أصلاً من قواعد المعرفة والعقل، يتناقض مع الاتجاه الذي شغل
أفلاطون في جمهوريته"(8).
لقد
أراد أفلاطون شعراً يخاطب العقل ويحتفل بقيم لا تخرج عن المألوف ولا تخالف
العادة، ولا يناقض بعضها بعضاً. ولمّا كان الشعر على خلاف ذلك كله، فإن "موضوعه
وطريقته زائفتان، إنه لا يخاطب العقل، بل العواطف، فهو يثير، ويغذي، ويقوي
الأتفه من الروح، مخاطباً تلك الميول غير المحدودة والحوافز غير المنتظمة التي
نخجل من الانغماس فيها في الحياة الاعتيادية".
ينبغي
إبعاد هوميروس وهزيود، والتخلي عن المأساة والملهاة، وإذا سمحنا للشعر البتة،
فيجب أن يقتصر على الترانيم الموجهة إلى الآلهة والأشعار التي تقال في مدح
الرجال النبلاء (9).
هذا
هو أفلاطون، على خلافٍ مع كل ما قدمنا عن التجربة الصوفية. وفكرة المثال أو
الإلهام ليس لها أية قيمة في ما يتعلق في رأيه في بالشعر. أيُّ إلهام؟ وأيُّ
مثال مطلق هو الذي يظل مشروطاً بوضعٍ نموذجي محدد؟
لقد
ألغى أفلاطون، قيمة الذات الإنسانية في جوهرها الباطن الحر؛ فهدَّ بذلك نظريته
في الجمال المطلق من أساسها. ولعل هذا هو ما دفع هنري لوفافر إلى القول عن
أفلاطون إنه "كان أول نصير لـ فن واقعي موجه توجيهاً اجتماعياً، حسب تعبير
جدانوف"(10).
وقد
عرضنا في الحديث عن التجربة الصوفية كيف تتمثل حيويتها في تأكيدها لقيمة الذات
الإنسانية القادرة على تحقيق وجودها الحيوي المتجدد دائماً، والمتحرر من كل
نظام سابق، محذرة من الألفة والعادة والسكون، مستندة، في نشدانها للقيمة
الجمالية المطلقة، إلى الخيال، بوصفه قوة إبداعية توحد في حركة جدلية بين الحسي
والمجرد، بين المادة والفكر، بين الظاهر والخفي، على مستوى الذات والعالم، مما
يجعلها على خلاف كلي مع فلسفة أفلاطون، بل ومع كل الفلسفات الجمالية اليونانية
التي يميزها طابع عام، هو اعتبار الجمال "صفة في الأشياء"؛ وإذا تجاوزت ذلك
فإنها تبحث في الأثر الذي يتركه الجمال في الفرد بطريقة ثانوية، لا لترى في
الأثر عنصراً جوهرياً، أو هي لا تفعل ذلك لتبحث في النفس، بل لتبحث على وجه
التحديد في فلسفة العقل(11)، على نحو ما فعل أرسطو، فهو وإن كان قد تجاوز
محاكاة أفلاطون، فإنه كان يرى أن الحقيقة أو الماهية لا علاقة لها بالذوق، أو
ما نسميه "الإحساس الجمالي". فالمعنى، لدى أرسطو، هو الماهية، والماهية ملتبسة
بالأشياء. والكلمات لديه، أو في بعض عباراته على الأقل، تعني الأشياء أو
حقائقها الخاضعة للإدراك العقلي والمرتبطة بماهياته، وهو ما لا يدرك عن طريق
الذوق، وما لا يُختلف على أمر تحققه، أو هو ما يوجد في كل حال(12).
وإذا
كان ثمة من يتفق مع سكوت جيمس في أن "أفلاطون كان صوفياً بكل معنى الكلمة، وقد
اتبع هوى الصوفي الحقيقي حين نبذ الفنون"(13)، فلا بد أن تكون هذه الصوفية التي
يتحدث عنها صوفية أخرى، غير الصوفية الإسلامية التي نتحدث نحن عنها، وغير
الصوفية الجمالية التي نمت حركتها في العالم الغربي في القرون الثلاثة
الأخيرة(14).
وليس
من مهمتنا أن نبحث في علاقة التصوف الإسلامي بالفلسفات المثالية القديمة، أو
بأنواع أخرى من التصوف، وإنما نريد أن نقول إن ما نلاحظه من تماس، بين الموقف
الصوفي والموقف الفني المعاصر، يكتسب أهميته من كونه يقع في الجوانب التي يتميز
بها الموقف الفني المعاصر عن الموقف الفني أو الجمالي القديم، المتمثل في نظرية
المحاكاة التي التزم بها المذهب الكلاسيكي، كما التزم بها معظم الفلاسفة
والبلاغيين العرب من قبل.
ونستطيع
أن نلاحظ ذلك بجلاء حين نلقي نظرة على أهم وجوه الاختلاف بين الموقفين
الجماليين، القديم والمعاصر.
يقول
الدكتور عز الدين إسماعيل: "والموقفان الفنيان المتعارضان، اللذان يخلصان فلسفة
الفن قديماً وحديثاً، هما الموقفان المتمثلان في موقف بعض الفنانين الذين
يريدون أن ينسقوا وجودهم وفقاً للوجود الخارجي، وموقف الآخرين الذين يريدون أن
ينسقوا الوجود الخارجي وفقاً لمشاعرهم ووجدانهم"(15).
ويقول
الدكتور مصطفى ناصف: "إذا نحن فهمنا اللغة والأدب على أنهما إدخال ما ليس
إنسانياً في حوزة الإنساني، كنا محدثين لا قدماء... فإذا قلت الآن التبصر
الخيالي والإدراك الأسطوري، فأنت تؤكد طابع الإنسان، وترى الحقيقة إنسانية
الملامح. إذا قلت إن المنطق الذي ابتدعه أرسطو ليس أهم جانب في حياة الإنسان،
كنت ثائراً على الموقف القديم والوسيط كله. إذ قلت إن دهاليز اللاوعي أكثر
تعقيداً، إن للشاعر منطقاً آخر يسمو على منطق العقل، منطق المعنى المتعدد
المتعاكس السيال؛ كنت قد كفرت بأرسطو والبلاغة والنقد الوسيط كله. حتمية الوضوح
قديماً، وحتمية التعدد والالتباس حديثاً، تعبيران مختصران عن كل ما وجد في
الفلسفة واللغة وبحث الأساطير ونفس الإنسان من تغيير"(16).
ولعله
قد صار من الواضح أن ما يميز الموقف الفني المعاصر في اختلافه عن الموقف القديم
هو ما يوفق بينه (أي الموقف الفني المعاصر) وبين الموقف الصوفي. فكل الخصائص
التي يتميز بها الموقف الفني المعاصر -على نحو ما رأينا- قد وردت في الموقف
الصوفي.
فإذا
ما رحنا نتتبع هذه المسألة في الفلسفة الجمالية المعاصرة سنجد أن أول ما يمكن
أن نعده نقطة التقاء رئيسة بين الموقف الصوفي والموقف الفني المعاصر يتمثل في
تأكيد كل منهما لأهمية القيمة الإنسانية في مواجهة العالم الخارجي، ومحاولة
استنطاقه بما يلبي نداءاتها الروحية. وكما يرى الدكتور زكريا إبراهيم، فإن
مواقف المفكرين المعاصرين إزاء الفن، قد تختلف إلى حد يجعل من العسير -إن لم
يكن من المستحيل- الاهتداء إلى خصائص مشتركة تجمع بينها، ولكنها في الوقت نفسه
"تكشف عن حرص معظم الفلاسفة على فهم دور الفن في المجتمع الحديث، باعتباره
نشاطاً إبداعياً يكشف عن حرية الإنسان، ويعبر عن قدرته على تجاوز الواقع. وربما
كانت السمة المشتركة الوحيدة التي تجمع بين معظم فلسفات القرن العشرين هي تلك
السمة الإنسانية التي عبّر عنها أندريه مالرو على أحسن وجه، حينما قال: "إذا
كان العالم أقوى من الإنسان، فإن معنى العالم لهو بلا ريب أقوى من العالم"(17).
وهذا هو ما نجده لدى شوبنهاور، الذي يرى أننا أمام رحابة الكون نحس بالتضاؤل
حتى العدم، وحين نرى أن العوالم لا وجود لها إلاّ في تمثلنا، وما هي إلا تغيرات
للذات الأبدية في معرفتها الخالدة، حينذاك ينتهي خضوعنا لها، لأنها هي التي
تعتمد علينا الآن(18). ومعنى ذلك أننا نتحرر من معنى العالم المرتبط بوضعه
الحسي، ونتجاوزه إلى الحقيقة الجوهرية فيه، حيث يتشكل المعنى وفق تمثلاتنا نحن،
وهو ما لا يتسنى لنا -في رأي شوبنهاور- ما لم نتحرر من "الإرادة" التي توجه
إدراكنا للأشياء وفق ما تحدده طبيعة العلاقة النفعية بين الذات في مفهومها
الشخصي (الـ"أنا" الفردية) والعالم المادي في نظامه الظاهري. فالإرادة تجعل
تواصلنا بالعالم محكوماً بحدود العلاقة بين ذواتنا في تركيبها الحسي العضوي
والأشياء في وضعيتها المادية المحدودة.
وفي
حال التأمل الجمالي فإن الذات تتحرر من الإرادة، فتختفي الـ"أنا" الفردية فيها
وتصبح ذاتاً عارفة خالصة، تدخل مع الأشياء والموضوعات في هوية واحدة، وتستغرق
فيها في وحدة صوفية، وعندئذٍ يختفي العالم بوصفه إرادة، ولا يبقى سوى العالم
بوصفه تمثلاً(19). ومن الواضح أن الإرادة التي ينبغي أن نتحرر منها، لدى
شوبنهاور، هي إرادة مفروضة علينا من خارج ذواتنا، وليست الإرادة النابعة من
وجودنا الجوهري المتحرر من نظام العالم المادي.
ويتضح
المعنى نفسه تقريباً لدى برجسون، حين يرى أن ما تبدو به الأشياء في علاقتنا
العادية بها ليس سوى حجاب يفصلنا عن إدراك معانيها الجوهرية، بقدر ما يفصلنا عن
شعورنا الخاص بأنفسنا، وهو حجاب كثيف أمام عامة الناس، ولكنه رقيق، بل يكاد
يكون شفافاً أمام الشاعر والفنان(20). ففي الحالة العادية، كما يقول برجسون،
"أنظر فأحسب أني أرى، وأصغي فأحسب أني أسمع، وأدرس نفسي فأحسب أني قارئ في
أعماق قلبي؛ ولكن ما أراه وما أسمعه من العالم الخارجي إن هو إلا ما تستخلصه لي
منه حواسي بغية أن ترشدني إلى سلوكي"(21). ونفهم من هذا أن علاقتنا النفعية
بالأشياء تحول دون إدراكنا لحقائقها الجوهرية، وأن الاتصال بالمعاني الجوهرية
في الأشياء، وتجاوز حجبها الظاهرية يقترن في الوقت نفسه بالاتجاه إلى أعماق
الذات.
ويأتي
من هذا القبيل، ما قد لاحظه الدكتور سامي الدروبي لدى فيكتور باش، في وصف هذا
الأخير لما أسماه بحالة التعاطف التي هي، في نظره، قوام الرؤية الفنية. لقد وصف
فيكتور باش حالة التعاطف هذه وصفاً يجعل ملاحظة الشيء الخارجي وملاحظة النفس
الداخلية سيان. قال يصف هذا التعاطف: "حتى إذا تحرر سبيل العواطف من ضغط نشاطنا
العقلي بعد أن كان أسيرها في الحالة العادية... أخذ يتدفق... فإذا الطبيعة كلها
تأخذ، تغني، وتتحرك، وترقص. فكل شيء فيها، وكل شيء فينا؛ لأنها أصبحت نحن. إنه
الآن نبع عواطف... إنه امتداد المرء في الأشياء الخارجية، وإضفاء نفسه عليها،
وانصهاره فيها... أن نصغي إلى ما ليس نحن، أن نهب أنفسنا لما ليس نحن، وذلك كله
بسخاء وحماسة يبلغان من القوة، في أثناء التأمل الاستطيقي، أننا لا نعود نشعر
بأننا نهب ونعطي، وإنما نعتقد حقاً بأننا أصبحنا خطاً وإيقاعاً وصوتاً، وغمامة،
وريحاً، وصخرة، وجدولاً..."(22)؛ ذلك أن مظاهر الوجود، في هذه الحال تتحرر
أمامنا مما يفصل بيننا وبينها من المعاني السابقة المرتبطة بحقيقتها الموضوعية
الثابتة، لتتحول إلى لغة تشع بالمعاني المستمدة من نفس الفنان. "وعلى قدر غنى
الذات يكون غنى الموضوع. والذات تكون غنية على قدر تكثرها، أي على قدر تحررها
من التقييدات والتحديدات والتخصصات المفروضة عليها"(23).
فالقيمة
الجمالية ترتبط بمعنى الحقيقة الجوهرية للوجود الكامنة وراء كينونته الظاهرية،
دون أن يعني ذلك أنها تتحقق بمعزل تام عن الوجود الحسي، وإنما يعني أنها معنى
يتجلى في تواصلنا مع العالم خيالياً، بحيث ننفذ من الظاهر إلى الخفي ومن
المحسوس إلى المجرد. وهو ما تتواشج في دعمه معظم الرؤى الجمالية المعاصرة على
اختلافها.
فسواء
ارتبطت الحقيقة الجوهرية بالمثل الأفلاطونية، كما يقول شوبنهاور(24)، على
اختلاف تصور العلاقة بين المثال والتحقق الجمالي بين أفلاطون وشوبنهاور(25)، أم
ارتبطت بجوهر الوجود ذاته في تفتحه وتكشفه من خلال إدراك خاص للظاهر، كما يرى
هيدجر(26)، أم ارتبطت بالموجود أيضاً ولكن بتجاوز معناه المرتبط بعلاقتنا
النفعية به إلى المعنى الحيوي النابع من شعورنا الخاص، كما يرى برجسون(27)، أم
ارتبطت بعالم "لا واقعي" دون أن يكون هو عالم المثال الأفلاطوني، كما لدى
"سارتر"(28)؛ فهذه الرؤى على اختلافها تتقارب عند ملمح جوهري واحد، هو أن
القيمة الجمالية لا تنبع من الواقع الخارجي في معناه الوضعي منفصلاً عن حركة
الوجود الباطن في الذات الإنسانية، بل تنبع من خلال حيوية التواصل بين الذات
والعالم، خارج العلاقة النفعية، في حالٍ يقترن فيها اتجاهنا نحو العالم
بالاتجاه نحو باطن الذات، حيث ندرك في المحسوس ما يحيلنا إلى أبعد من حدود
الظاهر والمألوف.
فـشوبنهاور،
في تصوره لحقيقة الجمال مرتبطة بمثال أفلاطون، لا يفارق كثيراً سارتر، الذي
يقول إن الجميل لا يأخذنا إلى عالم المثال الأفلاطوني. ذلك أن مثال أفلاطون في
تصور شوبنهاور ليس هو المثال الأفلاطوني نفسه، الذي هو مقياس الفضيلة في العالم
الأرضي خارج الذات، بل هو مثال مطلق يتجلى في انبثاقات العالم الباطن في الذات
المتحرر من "الإرادة"(29)، وهو بهذا يقترب من عالم الخيال اللاواقعي لدى سارتر
أكثر مما يقترب من عالم المثال الأفلاطوني المحدود عقلانياً، وهما بعد ذلك (شوبنهاور
وسارتر) لا يفارقان كثيراً برجسون، وهيدجر. وإذا كان الدكتور زكريا إبراهيم قد
رأى أن برجسون يقول إن "الجميل" ينأى بنا عن مستوى "النافع"، ولكنه لم يذهب
مطلقاً إلى القول بأن "الجميل" يقتادنا إلى "اللاواقعي"(30). كما رأى أن "العمل
الفني لدى هيدجر، شيء، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وأن الجمال لديه لا يعني
التخيل أو اللاواقع، كما وقع في ظن سارتر"(31)، فإن مفهوم "الواقع" الذي لا
تنفصل عنه الحقيقة الجوهرية التي يدركها الفنان، لدى برجسون، ليس هو مفهوم
الواقع الخارجي، في وضعيته المألوفة، بل هو العالم، في شفافيته عن اختلاجات
عالم الشعور الباطن؛ ذلك أننا، كما يرى برجسون، ننتقل في حال التأمل الجمالي
"من الفيزيائي إلى النفسي والحيوي، وكلما انتقلنا من الفيزيائي إلى النفسي
والحيوي قلّت درجة الموضوعية وازدادت درجة الرمزية"(32).
وكذلك
هيدجر حين يقول إن العمل الفني "شيء"، فإنه لا يعني بذلك أن الفن يصور الأشياء
في واقعيتها الطبيعية، وإنما يريد أن العمل الفني يُعدّ ظاهرة قائمة الوجود
الخارجي، شأنه شأن تحقق أي شيءٍ آخر، بمعنى أنه (العمل الفني) بوصفه وحدة
متكاملة في شكل قصيدة، أو صورة، أو تمثال، صار شيئاً أمام رؤانا، ولذلك يجب أن
نتأمله بمعزل عن مبدعه. وذلك لا يعني البتة أن العمل الفني قد تشكل بمعزل عن
فعالية الشعور الخاص في ذات الفنان، وإنما يعني أن مسألة تشكل العمل في وجدان
الفنان تعد أمراً سابقاً يتم في حال التأمل وفي حال الإبداع. أما بعد أن يصبح
العمل الفني موجوداً فحينئذٍ ينتهي دور الفنان ويصير العمل الفني شيئاً مستقلاً
بذاته، وموضوعاً للتأمل، بمعزل عن شخصية مبدعه وما يتصل به من صفات "الإلهام"
و"العبقرية". وهيدجر بعد ذلك لا يرى أن العناصر التي يتكون منها العمل الفني
تحيل إلى موضوعاتها في العالم الخارجي على نحو من التطابق. فمهمة الفن لدى
هيدجر الكشف عن حقيقة الوجود. وحقيقة الوجود في نظره لا تتمثل في التطابق مع
الوجود الخارجي، بل إن الحقيقة التي يشع بها العمل الفني هي الحقيقة التي "ظلت
حتى تلك اللحظة (أي لحظة انبثاقها في العمل الفني) مطوية في ظلام دامس"(33).
وكما يرى هيدجر فإن العمل الفني إنما يتكشف عن تلك الحقيقة الخفية بإشعاعه
الخاص النابع من وحدته الكلية بوصفه عالماً قائماً بذاته(34). ومن أجل هذا يرى
أن اللغة في الشعر تأسيس لوجود خاص، وأن الشعر هو الذي يمنح المعنى للغة وليس
العكس(35).
وإذا
ما نظرنا إلى سارتر، سنجد أن وضعه للمثال الجمالي خارج الواقع لا يعني أن
القيمة الجمالية في تحققها تنشأ عن قطيعة بين الذات المبدعة والعالم. أو لنقل:
لا يعني إنكار الموضوع الخارجي بوصفه مادة غفلاً تستثير -فنياً- شعوراً داخلياً
حراً يقوم على التخيل، هو ما يسمى بـ"الخبرة الجمالية". فالموضوع الجمالي لدى
سارتر "شيء"، ولكنه في الوقت نفسه يحيلنا إلى عالم لا واقعي. إنه "شيء" من حيث
هو قائم عيني. أما من حيث ما يشع به من معانٍ فإنه يستند إلى التخيل، مما يجعله
يظل منفلتاً، "وهيهات لنا أن نستوعبه حتى لو قدر لنا أن نتأمله إلى ما لا
نهاية!"(36). وبهذا فإنه "يستدرجنا إلى عالم لا واقعي، دون أن تكون هناك سماء
أفلاطونية يحيا فيها مثال الجمال"(37). ومعنى هذا أنه لا يمكن إدراك المثال
الجمالي كما لو كان يحيا في سماء معقولة، مع أنه، بحكم استناده إلى التخيل، لا
يمكن أن يتحقق إلا في عالم لا واقعي"(38).
وهكذا
نلاحظ أن هذه المواقف إزاء القيمة الجمالية وحقيقتها، وإن كانت تبدو مختلفة في
جوانب منها، فإنها في الجوانب التي تعنينا تحوم في أجواء متقاربة. وأهم ما
تحيلنا إليه في مجملها، وإن لم يكن أي منها يقرر ذلك كلياً وبوضوح، هو أن
المعاني في التجربة الجمالية تنبثق من التحققات الوجودية الشيئية أو الفعلية،
متحررةً من معاني القيمة الوضعية السابقة والمألوفة في الطبيعة وفي المجتمع، في
الوقت الذي تتحرر فيه الذات المدركة من سيطرة الوعي العقلاني، ومن سيطرة
العلاقة النفعية بالعالم الخارجي، فيندمج كل منهما بالآخر في هوية واحدة تتحقق
فيها حرية الذات ومن ثم قدرتها على خلق المعنى اللامتناهي في مواجهتها للعالم،
واستنطاقه بما يلبي نداءاتها الروحية المطلقة.
الهـــوامـــــــش:
(1)
د. محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، 348.
(2)
انظر المرجع نفسه، 348.
(3)
د. عز الدين إسماعيل: الأسس الجمالية في النقد الأدبي، 46.
(4)
المرجع نفسه، 46.
(5)
المرجع نفسه، 39.
(6)
المرجع نفسه، 37.
(7)
د. محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، 30-31.
(8)
المرجع نفسه، 34.
(9)
سكوت جيمس: صناعة الأدب، 40.
(10)
هنري لوفاقر: علم الجمال، 15.
(11)
د. عز الدين إسماعيل: الأسس الجمالية، 40.
(12)
د. مصطفى ناصف: نظرية المعنى في النقد العربي، 82.
(13)
سكوت جيمس: صناعة الأدب، 43.
(14)
أنظر على سبيل المثال: كولن ولسن: الشعر والصوفية.
(15)
د. عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية،
125.
(16)
د. مصطفى ناصف: نظرية المعنى في النقد العربي، 83.
(17)
د. زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 12.
(18)
د. عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفية، 105.
(19)
سعيد توفيق: ميتافيزيقيا الفن عند شوبنهاور، 81-82.
(20)
برجسون: الضحك، 117.
(21)
المرجع نفسه، 117.
(22)
د. سامي الدروبي: علم النفس والأدب، 100.
(23)
المرجع نفسه، 101.
(24)
سعيد توفيق: ميتافيزيقيا الفن عند شوبنهاور، 225.
(25)
المرجع نفسه، 225 وما بعدها.
(26)
زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 264 وما بعدها.
(27)
برجسون: الضحك، 117. وكذلك عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفية، 503.
(28)
د. زكريا إبراهيم، المرجع السابق، 205.
(29)
سعيد توفيق: ميتافيزيقيا الفن عند شوبنهاور، 236.
(30)
د. زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 142.
(31)
المرجع نفسه، 256.
(32)
د. عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفية، 503.
(33)
د. زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 273.
(34)
المرجع نفسه، 69.
(35)
هيدجر: هيلدرلن وماهية الشعر، ضمن كتاب "ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقيا؟"، 146
وما بعدها.
(36)
د. زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، 235.
(37)
المرجع نفسه، 255.
(38)
زكريا إبراهيم: المرجع نفسه، 255.
|