دراسات
نص
«الطيور» للشاعر المصري أمل دنقل
()
ذياب شاهين
كاتب من العراق.
تمهيد:
نص «الطيور» للشاعر المصري الراحل أمل دنقل كان قد كُتب في مرحلة عصيبة من
حياته، وهي مرحلة مرضه، حيث كتبه الشاعر في العام 1981، أي قبل وفاته بسنتين.
ومن هنا تتأتى أهمية النص، بوصفه حالة إسقاطية أو مرآوية لما يحدث في عالم
الطيور، فيسقطه الشاعر أو يعكسه على عالمه؛ عالم البشر. والنص مكتوب بطريقة
شفافة، وتكاد تكون صادقة؛ فليس أمام إنسان يموت سوى الشفافية واليقينية
المبدعة. إن طيور أمل دنقل، وحسب ما سوف نفصله لاحقاً، كناية عن مصير الإنسان
ورحلته الوجودية.ما يواجه الطيور يجانس ما يواجهه الإنسان، فالهجرة والتشرد، أو
حتى التدجين والقتل والسجن، هي عوالم تعيشها الطيور ويعيشها الإنسان على
السواء، وهو ما يلمح إليه النص بلغة شعرية شفيفة. إن شعرنة عالم الطيور بهذه
اللغة المبدعة، وإسقاطها على عالم الشاعر، هو ما يلتقطه الشاعر أمل دنقل، وهو
ما سنبينه في قراءتنا لهذا النص.
المتـن
النص على مستوى
التكنيك متكون من ثلاثة مقاطع مرقمة بالأرقام: 1، 2، 3، على التوالي. المقطع
الأول يتكون من جزأين. أما الثاني والثالث فينطوي كل منهما على جزء واحد. ولو
بدأنا بالمقطع الأول، سنقرأ عن طيور يسميها الشاعر "مشردة"؛ هذه الطيور المحلقة
عالياً، أسراباً أو فرادى، لا وطن لها، وهي مندفعة بشكل غريزي إلى المجهول.
إنها مشردة لا مكان لها على الأرض، وبيوتها هناك في أعالي الرياح، حيث الرياح
فراش ودثار، والرياح وطن، والصفير قرين. إنها الطيور المهاجرة، حيث العلى
والرحيل القصي، هنالك. وإذ تلمحها عين الشاعر، تكون أنامله "طقساً ويلهو على
خافقيه المدى". إنها صورة للحراك البشري، في كافة الأزمان والعصور. وهي لم تنزل
الأرض للمكوث، بل هي كالفرسان تترجل للاستراحة قليلاً ليس إلا:
الطيور مشردة في
السموات،
ليس لها أن تحط على
الأرض،
ليس لها غير أن
تتقاذفها فلوات الرياح
ربما تتنزلُ...
كي تستريح دقائق...
الطيور لا يمكنها أن
تنزل أنى تشاء، بل هنالك أمكنة معينة يجب أن تقف وتستريح عليها. إن هذه الطيور
تختار الأمكنة المرتفعة عن سطح الأرض؛ لأنها الأكثر أمناً لها، لأن دقائق
الاستراحة هذه قد تتحول إلى موت أكيد، لذا فهي تقف على التماثيل أو فوق الأشجار
أو على سطوح المباني:
فوق النخيل، النجيل،
التماثيل،
أعمدة الكهرباء،
حواف الشبابيك
والمشربيات
والأسطح الخرسانية...
إن نزول هذه الطيور
يتوسله الشاعر. فهي، بالرغم مما يثيره وجودها من شجن في نفسه، من خلال جمال
أشكالها وأصواتها، لن تكون بمنجى عن الأشرار (القطط). إذن فإن نزولها مرغوب به،
ليس حباً بها، ولكن هنالك من يستغلها لمآربه:
اهدأ، ليلتقط القلب
تنهيدة،
والفم العذب تغريدة
والقط الرزق...
إن الشاعر وكأنه يغبط
الطيور على ما هي فيه. لكنه يستشعر الخوف الذي تعيشه الطيور المهاجرة وهي تنزل
للاستراحة، فهي عندما تنزل عالم البشر فإنها تكون مرتعبة وتفزع من أية حركة غير
عادية، سواء كانت خفق حذاء أم حجر تطلقه كف طفل صغير، أو حتى عندما يتحول الظل
من حائط إلى آخر، فضلاً على تعالي الأصوات التي يسميها الشاعر "حصوات الصياح":
سرعان ما تتفزعُ...
من نقلة الرجل،
من نبلة الطفل،
من ميلة الظل عبر
الحوائط،
من حصوات الصياح!
في الجزء الثاني
يلتفت الشاعر إلى نوع ثانٍ من الطيور، وهو الطيور الباقية في بلدانها، ويصفها
بـ "الطيور المعلقة في السماء":
الطيور معلقة في
السماوات
ما بين أنسجة
العنكبوت الفضائي للريح
مرشوقة في امتداد
السهام المضيئة
للشمس...
إن هذه الطيور، والتي
ليس لها القدرة على الهجرة، هي طيور معلقة في سماء بلدانها، وكأنها ثريات
تتلاعب بها الأنسجة العنكبوتية للريح، وتتقافز من على أجسادها السهام المضيئة
لأشعة الشمس. إن هذا النوع من الطيور كناية عن الناس التي لا تستطيع مغادرة
أوطانها، فهي لا تستطيع أن تعيش في وطن آخر، إما لضيق ذات اليد وإما حباً في
البقاء في وطنها الأم؛ ولكن مع ذلك فإن الشاعر يطالبها بالحركة والطيران:
(رفرفْ...
فليس أمامك
-والبشر المستبيحون
والمستباحون صاحون-
ليس أمامك غير
الفرار...
الفرار الذي يتجدد كل
صباح!).
إن المقطع أعلاه
مكتوب بين قوسين، وهو كمن يخاطب نفسه عندما وجد نفسه بين أناس ارتضت أن تكون ما
بين مستبيح ومستباح. إن الشاعر وجد ألاَّ طائل من مصير ليس له القدرة على
تغييره، وليس هنالك سوى الفرار، وهو قرار يكاد يتجدد كل صباح.
على المستوى التقني
نقرأ تشاكلاً بين جزأي المقطع الأول، فهنالك وصف ثم استدراك، أي هنالك إخبار عن
حالة ثم استدراك بصيغة المخاطب، وهو متمثل في المقطعين اللذين يبدآن بفعلي
الأمر "اهدأ" وكذلك "رفرفْ". ولكن كما أسلفنا فإن المقطع الأول يتكلم عن طيور
مشردة (مهاجرة) ليس لها وطن، أو لفظتها أوطانها. وفي الجزء الثاني يتكلم عن
طيور معلقة لا تبارح مكانها، ولكنها تمارس لعبة مزرية بحق نفسها تتناوب فيها
على دور الجلاد والضحية.
في المقطع الثاني
نقرأ عن طيور من نوع آخر، وهي طيور لا تطير وليس لها القدرة على الطيران؛ هذه
الطيور هي الطيور الداجنة، وهي ليس لها قدرة على تغيير مصيرها، إذ إن مصيرها
بيد الآخرين، وهي سعيدة بما هي فيه، وراضية بأسرها بسعادة غامرة:
والطيور التي أقعدتها
مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش
فوق مناسرها...
فانتفخت،
وبأعينها... فارتخت،
وارتضت أن تقأقئ حول
الطعام المتاح.
إن هذا النوع من
الطيور هو كناية عن البشر العبيد، والذين ليس لهم القدرة على تغيير واقعهم. إن
الشاعر أمل دنقل لم يعطهم اسماً، بل أعطاهم صفة تأتي بعد أداة وصل؛ تصغيراً
لهم. إن هذا النوع من الطيور ارتضى مخالطة الناس (كناية عن السادة والأقوياء)،
وبالتالي ارتضوا ما يجود به عليهم هؤلاء الأقوياء، إذ إن مناسرها (مناقيرها)
مطمئنة، فلن تستخدمها في صيد الغذاء، بل تستخدمها فقط في تناول الغذاء الذي
يأتي إليها جاهزاً وما عليها سوى أن تقأقئ حوله إلى أن يحين موعد ذبحها:
ما الذي يتبقى لها
غير سكينة الذبح،
غير انتظـــار
النهـايـــة؟!
إن اليد الآدمية...
واهبة القمح
تعرف كيف
تسن السلاح.
إن هكذا نوع من
الطيور ليس له وظيفة سوى أن يكون طعاماً، هي طيور ليست كأي طيور، كما أن خير
نهاية لها أن تموت ذبحاً، إذ إن اليد الآدمية التي تطش القمح لها كل يوم هي
ذاتها اليد التي ستمرر السكين على رقبتها ذات يوم. والشاعر أمل دنقل لا يريد
للبشر بأية حال من الأحوال أن يكونوا من هذا النوع من الطيور، إذ إن الروح
الشاعرة والمتوثبة فيه تقول له: "رفرف"، فمكان الشاعر بين الأرض والسماء، أو
كما يقول هيدجر، في "البين بين".
في المقطع الثالث
والأخير من هذا النص، يلخص الشاعر الدراما الوجودية للمخلوقات متمثلة بالطيور،
والتي هي قطعاً تشاكل الدراما الإنسانية في تفاصيلها، حيث يقول:
الطيور... الطيور
تحتوي الأرض
جثمانها...
في السقوط الأخير!
والطيور التي لا
تطير...
طوت الريش واستسلمت.
إن ما يطلق عليه
الشاعر -بكل حب- "الطيور... الطيور" في المقطع أعلاه، هي الطيور التي لا يأكلها
أحد، ولن تكون بأي حال من الأحوال طعاماً للآخرين، هي الطيور الحرة السعيدة
بحريتها بالرغم مما تعانيه في تفاصيل حياتها، هي الطيور التي تموت في الفضاء
وتسقط كمحارب شجاع في رحلتها الحياتية الأسطورية. هذه الطيور سترحب بها الأرض،
وتدفن كما يدفن الفرسان. وعلى عكسها، هنالك الطيور التي لا تطير، فهذه طيور
داجنة ومستسلمة ومذعنة، وليس لها مكان لتدفن فيه، بل هي ستصير طعاماً للآخرين.
إن الشاعر ليتساءل هنا عن هذا الاختلاف بين فصيلتين من الطيور، حين يقول:
هل ترى علمت
أن عمر الجناح
قصيرٌ... قصيرْ؟!
إنه تساؤل وجودي عميق
يطلقه أمل دنقل، وهو كناية عن قصر الحياة وتهافتها. ولما كانت الحياة قصيرة،
أليس الأجدى أن نعيش حياتنا بطريقة محترمة وغير مهينة؟! وما المانع إذا كان لكل
طائر جناح؟!
الجناح حياة
الجناح ردى
والجناح نجاة
والجناحُ... سدى!
إذاً، فالجناح يمثل
مصيراً للطائر، وهو كناية عن قدرة الإنسان وطموحه. فقد يكون هذا الجناح حياة
كريمة أو لا يكون، وقد يكون ميتة كريمة أو يكون ميتة حقيرة، قد يكون نجاة
وقلوعاً نحو المجد. إذن فالجناح حسب أمل دنقل يمثل ثوباً (سدى) نلبسه وننزعه
بأيدينا، وكل سيختار الميتة التي تناسبه، مع الإقرار بحقيقة أنها قد لا تكون
الميتة التي ستحدث فعلاً.
في الأخير نقول إن
هذا النص المرهف للشاعر أمل دنقل يعبر عن صراع الإنسان مع الحياة. وإذا علمنا
أن الشاعر كان قد كتبه في أيام محنته ومرضه، فهو يحيل إلى رسالة يريد الشاعر
إيصالها للمتلقي والقارئ في كل حين، وهي رسالة معبرة وتدل على روح شاعرة وشفافة
تصارع الموت بكل نبل. إن الشاعر أمل دنقل كان طائراً محلقاً ومرفرفاً في سماء
مصر، عاش ومات فيها، إلا أن عمر جناحه قصير، فأورثه حياة بعد حياته، ومكانة
يستحقها.
|