العدد السادس - شتاء 2008م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

وقفة نقدية مع دانتي
النقود وكيف رآها في الكوميديا الإلهية
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

هادي محمد جواد
باحث من العراق.

دانتي الليجري، شاعر إيطاليا الأعظم، وأبو اللغة الايطالية الحديثة، ليس شاعراً عادياً وبكل المقاييس؛ فأنت إذ تقرأ "الكوميديا الإلهية" ستذهل ولا شك لِكَمِّ المعلومات التي استخدمها أدوات في إثراء شعره دون أن يقع في النثرية أو الابتذال أو الإقحام؛ ناقش وأدان بكل وضوح وحدة، فلم يوفر من رآه يستحق الإدانة أو التقريع أو اللوم أو ما كان أرحم من ذاك أو أقسى؛ بمن رآه جديرا بما رأى. لكن عشقه الأعظم من الجهة الأخرى كان لشخصية رآها جديرة حقا، وقد نجح في تصويرها كذلك؛ تلك هي السيدة: مريم. ومريم عنده أكبر من كونها ولدت عيسى النبي؛ إذ اعتبرها قيمةً بذلتها؛ قيمة مطلقة. لكنه لم ينس تلك الأخرى؛ بياتريس: الطفلة الحدث التي رآها في الحادية عشرة من عمرها، لكنه عشقها ومن ثم خلدها كسيدة نساء عالمه الخاص كله؛ رغم أنه رآها في المرة الثانية وقد تزوجت؛ ولم يرها بعدها؛ إلا خيالاً إبداعياً بعد أن خطفها موت مبكر. وعندي أن بياتريس تلك لم توجد إلا في خياله، أو هي أي فتاة انطبقت عليها مواصفات المرأة الخالدة؛ فعشق ما كان مقياسا للأنثى عنده في عقله الباطن، بل قدسّه، سواء كان اسمها بياتريس أم أنه ابتدع ذاك الاسم الموسيقي الساحر. ذا ما رأيته فيه أولا. أما ثانيا فقد رأيت أهمية الكوميديا ذاتها في تاريخ لغته التي صارت لغة الطليان كلهم، وحرضت غير الطليان من أسبان وبرتغال وغاليين (فرانس)؛ بل أوجدت هذي الكوميديا ما صار فيما بعد أُمما.

 دور النص المعياري

 حتى ما قبل 1321 حين توفي، كان الإيطاليون يتكلمون رومانية لم تعد هي رومانية قيصر والتاريخ القديم إلا اسماً؛ فمشكلة كل اللغات التي تفتقد نصاً معيارياً مكتوباً بها، أنها تكون مستجيبة تماما لأي تطور فيها، معانيَ وألفاظاً وحتى قواعد. وذا بالطبع وضع الرومانية القديمة بين اللغات. أما قلة لغات معدودة فهي تَثبت ما شاء لها الثبوت. منها على الأقل اثنتان لا مجال لقول بصددهما بغير ما أشرنا إليه من الثبوت: عربيتنا، وعبرية القبيلة القديمة "إسرائيل"؛ فقد توفر لكل من اللغتين نص معياري جاء على شكل كتاب مقدس يحمل محتوى شريعة ودين. وفي الحالة الموصوفة يكون أي "لحن" أو تغيير في اللغة إياها معرضاً لا للنقد السلبي فقط، بل الاستهجان والرفض وإيقاف القائم بالأمر عند حده. فأنت يمكن أن تكتب نصاً شعرياً أو ديواناً؛ بل دواوين، باللغة العربية بعيدا عن قواعد الشعر التقليدي وأحكامه؛ لكنك لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال أن تكتب نصاً، كان ما كان، بعيداً عن قواعد لغة القرآن، حتى لو كان صاحب الشأن ملحداً؛ كأن تكتب: "أن في البيتُ جبلٍ". ولا يكون الاعتراض على افتقاد المنطق في وجود الجبل العظيم بالطبيعة في بيت الذي هو الأصغر كثيراً ولا بد؛ إن أبسط ما يمكن أن توصف به مثل ذي المحاولة هو جهل القائم بما قام به بالقواعد الضرورية في الموضوع دون أي فرصة للبحث. بل إن الذوق العام اللغوي يمج مثل ذي المحاولة، بالإضافة للمعنى الذي سيغمض، حتى لو كان صاحب العلاقة، المتلقي، يلغو اللغة نفسها في علاقاته اليومية بشكل أو آخر. وفيما يتعلق بهاتين اللغتين نجد شاهداً كبير الأهمية هو في كينونة اللاغين بهما وقد مروا بأدوار خمول حضاري أو نهوض. فعندما كانوا في فتراتهم المظلمة أثناء الخمول الحضاري، تكون اللغة اليومية أقرب للعامية والخلط.

معيارية شريعة حامُ رابي

 فإن نهضوا اقتربوا أكثر من النص المعياري واستخدموا صِيَغَه وفنونَ القول به وفيه، ومثل هاتين اللغة المسمارية بشكلها الأخير، كما وردنا في نصوص شريعة حامُ رابي؛ فقد بقيت هذي اللغة حتى دمارها الأخير بسقوط ببابل نفسها عام 539 ق م؛ وإن بقيت النصوص المتعلقة حتى قبيل التاريخ الميلادي تدون بها فيما تعلق بالدين والتقاليد؛ بلغة الشريعة أي المسمارية نفسها. أما اللغات التي تفتقد النصوص المعيارية، وهي عندي، لعِظَم جهلي، كل لغات الأرض، فهي يجري عليها وفيها كل ما يشتهي أهلها أو بعضهم أن يجروه وكيفما كان، وقد يوصلها التغيير فيها وعليها إلى ما يكاد يكون لغة أخرى، بل على وجه التأكيد لغة أخرى، ودليلنا: الإغريقية القديمة وإغريقية اليوم، الإيطالية القديمة وإيطالية اليوم، الانجليزية القديمة وإنجليزية اليوم، الفارسية القديمة وفارسية اليوم... إلخ، خاصة إذا جهل المتصدي للأمر قواعد لعبة تغاير اللهجات وانعكاس ذاك على اللغة الأصل(1).

الجنود مسمارياً كمثل

ولدينا مثل بارز هو الأقدم بين أمثال اللغات أو أقدم اللغات المحفوظة ولليوم، وهي تلك اللغة التي رُقمت بالرموز المسمارية على رقم الطين المفخور بالنار، والتي يسميها علماء التنقيب والآثار والتاريخ واللغات الأقدم اليوم: اللغة السومرية أو الاكدية. وهو اسم مكذوب ومقصود الغرض والغاية(2)؛ ففي هذي اللغة المسمارية نجد المتكلمين بها يستخدمون مفردات عربية قاموسية بقليل أو أقل من التغيير باللفظ؛ فيذهل المرء كيف تسنى لهؤلاء الذين عاشوا قبل آلاف من السنوات يجهل كثير منا عددها، كيف تسنى لهم أن يتعلموا عربيتنا أو نحن نلغو لغتهم ونسميها اليوم "العربية القاموسية"؟! فمنذ ظهرت شريعة حامُ رابي (حكم بين 1792 – 1750 قبل الميلاد) نجد فيها وفي باب الجندية مفردتي (Ba – ir – rum) وتقرأ"بائيروم"كما نجد مفردة (Re – du –um) وتقرأ "ريدوم" بل نجد مفردة (eg – gu – nu – du) وتقرأ "ايكو -نو- دو"، ولم تعرف معاني هذي وتلك؛ بل إن الايكونودو هذي كتب فيها ما يمنعني من ذكره المساحة الكبيرة التي تتطلبها حيث لا أريد الإسهاب والتي تنتهي عادة بأن البحث ما زال جاريا للوصول(3) ولو للمعنى العام أو الأولي للايكونودو العنيدة العصية على التفسير ببساطة، والاصطلاحات الثلاثة التي ذكرنا في باب الجندية من شريعة حامُ رابي. فالأول، وهو الريدوم، إنما هو الراضي، أي المتطوع، بلغة اليوم. أما البائيروم فهو البائر والتي معناها القاموسي: حائر بائر: من ليس له عمل. وهو هنا في الشريعة من يُدعى للتطوع عند "حملة الملك" أي الاستدعاء للحرب. فيما الثالث من الاصطلاحات "ايكو- نو- دو" هو أوضحها لكنه يحتاج أولا لإلغاء الفواصل بين الألفاظ، أي الرموز المسمارية في أصل الكتابة؛ فيكون لدينا ايكونودو. ولأن حرف الكاف "ك" إنما هو حرف جيم "ج" وقد كتب هكذا لرغبة علماء التوراة في تضييع العلاقة بين "لغتنا" و"اللغة" الأقدم؛ فيكون لدينا ايجونودو. ولأن حرف الجيم "ج" إنما هو حرف شمسي لا يلفظ اللام قبله عند التعريف، حسب اللهجة المسمارية الأقدم؛ فيكون لدينا ايلجنودو وإذا استغنينا عن الحرف الثاني وهو حرف الياء ين الألف واللام، لأنه أصلا غير موجود في النص، ولأنه مجرد كسرة تفتقر لها اللغات الأوربية الحديثة التي ترجم بها النص المسماري؛ فيكون الناتج "الجنودو". ولأن الحرف الأخير وهو حرف الواو، إنما مجرد الحركة الإعرابية "الضمة"؛ فيكون الناتج النهائي للمفردة التي استعصت على كل العلماء الذين تراصفت أسماؤهم في المصدر الذي أشرنا إليه، إنما تلك المفردة الاصطلاح هي: "الجنود". ولا أدري بعد كل ذا، هل ما نتكلم به من لغة صدرناها لمن سبقونا بألوف السنوات أو نحن أحفادهم(4)؛ أولئك الذين يدعون زورا من قبل علماء التوراة العاملين بالتنقيب والآثار والتاريخ الأقدم واللغات: ساميين. واسم الجميع الحقيقي "ذوي الرؤوس السود" كما أسموا أنفسهم هم بذواتهم وعلى رقمهم الطينية التي تعد بألوف كثيرة وفي مختلف العلوم وشتى أنواع الأدب من شعر ونثر وحتى مسرحية (راجع نص العبد وسيده – نصوص "سومرية" مسمارية).

لقد كان وضع رومانية عصر دانتي هو وضع مسمارية "ذوي الرؤوس السود" الذين سكنوا ما يسمى الآن الشرق الأدنى وانتشروا منه للعالم، ما نسميه الآن الجنس البشري Homo sapiens. فأسمى علماء التوراة كل لهجة من لهجات ذاك العصر ما أسموه "لغة"، ونحلوها إلى ما اخترعوا من أسماء شعوب ومواضع لم توجد فعلا. فأنت تجد أن بابل حسب التوراة هي أقدم مدينة في العالم، وأنها أقيمت في أرض شنعار؛ إلا أنك لا تجد نصا -أي نص، بأي لغة أو لهجة أو موضع يكون- فيه اسم موقع مدينة بابل "شنعار" كما جاء الاسم في التوراة؛ فكان أن اخترعوا أيضا أسمَيْ أكد وسومر، وهما "اختراعان كاذبان"، فيما البقية مما أسموا وحسب التوراة، كالكنعانيين واليبوسيين والعيلاميين والحيثيين و... إلخ، من عائلة "شعوب التوراة"(5)، لمنح مصداقية مفقودة عند كتّاب التوراة، على مختلف العصور التي كتبت فيها "أسفار" كتب التوراة.

 بين الفصحى والعامية

وصاحبنا دانتي، وقد أمضه تكلم الطليان بلغة أو لهجة وكتابتهم بأخرى، تجرأ فكتب باللغة أو اللهجة التي يتكلم بها في مدينته "فلورنسا"؛ ففتح الباب بذاك لمن يكتب، للكتابة بما يلغو به في حياته اليومية بالضبط؛ فكان أن ظهرت اللهجات التي صارت فيما بعد اللغات الايطالية والفرنسية والبرتغالية والاسبانية... بعد أن كانت كل تلك البلاد تتكلم لغة واحدة هي اللاتينية التي تكلم بها يوليوس قيصر، بلهجات أو لغات محلية؛ فظهرت أمم جديدة بناء على لغاتها الجديدة؛ وهو ما أرادوا للعربية ولم ينجح، لا على يد سعيد عقل ولا غيره.

وإذا عدنا لصاحبنا، دانتي الليجري، فقد رأيت في رؤيته للنقد والعملة ما يستحق أن يقال فيه ما يقال بنصوصه الشعرية، ليكون له الوقع الذي أراده هو بذاته. لكن ما أثار اهتمامي هو ما ذكره عن الشعوب الأقدم، وربما هو ما دعاني للإشارة نفسها فيما سبق من سطور.

النشيد السادس والعشرون (ص869):

شوقا للانضمام إلى هذا الركب، مكث

ظلي دورتين وثلاثمائة وأربعة آلاف

 دورة شمسية،

في نهايتها رأيت سيدتك تدعو

فرجيل لمساعدتك

وتتبعت كل إشاراتها فرأيتها

تدور تسعمائة وثلاثين مرة حول

طرفها، منذ أن كنت إنسانا في الأسفل

اللغة التي تكلمتها تلاشت وانتهت

قبل أن يرفع شعب النمرود يديه

ويعمل فوق طاقته بزمن طويل.

في ذا المقطع يؤرخ لنفسه بالطريقة الكهنوتية التي كانت معتمدة في عصره؛ مثلا كما هي الطريقة التي شاعت في الفترة المظلمة الإسلامية بالتاريخ بالحروف الأبجدية وعلى شكل شعر أو كلام مرسل. لكن ما أثار الاهتمام أكثر هو القول عن عمل شعب النمرود فوق طاقته؛ وهو الشعب الأقدم في منطقة "برس نمرود" في منطقة الفرات الأوسط من بلاد النهرين حاليا، وهو اسم توراتي لم نجد له في اللقى الأثرية من وجود وإن كان ذكر في التوراة(6).

لعلها العولمة!

ولكنه في الصفحة 292 كتب وكأنه يتكلم عن عصرنا والقوى الفاعلة فيه:

«فحيث اجتمعت أداة المعرفة مع القوة الغاشمة وإرادة الشر، فإن البشرية لا تستطيع الدفاع عن نفسها؛ حيث القوة الأكبر والأعظم هي الممتلك الفعلي "لأداة المعرفة"، وبها جعلت البشرية لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وهي سمة السنوات الأخيرة من عصرنا تحت ظلال العولمة». ويصل بعدها لموضوع النقود وحسب الاعتبار التقليدي في كون النقود اختراعاً إغريقياً يقول ص 502:

"ثم رتلنا صائحين بابتهال: كراسوس

أنت خبزت الذهب؛ فهل مذاقه طيب؟".

نجد هنا صاحبنا دانتي الليجري يأخذ بمعلومات عصره وما تلاه إلى أيامنا من أن كراسوس هذا (ونحن نسميه قارون) هو أول من سك نقودا أي أنه مخترع النقود. ولأننا وجدنا في المدخل(7) أن النقد موجود منذ (على الأقل) أن شرعت شريعة حامُ رابي بين سنتي 1792 و1750 قبل الميلاد؛ فنعتبر أنه منساق مع ما توفر له من معلومات في عصره؛ مرجعين ذاك إلى فقدان أي مصدر يوحي بغير ذاك، بسبب عدم ظهور المكتشفات الأثرية الواسعة عصر ذاك. لكن لاحظ الصورة الشعرية الباهرة التي قدم الفكرة بها.

وحيث إننا ما زلنا في العصور القديمة ضمن كوميديا دانتي الإلهية، فقد قدم لنا واحدة من نوادر ما أشير إليه من النصوص الأدبية المسرحية في الأدب الأقدم لـ"ذوي لرؤوس السود" وهم من يسمونهم السومريين والاكديين، وربما كانت الدراما الأولى المكتوية في تاريخ البشرية وقبل أن يعرف اسم الإغريق أصلا؛ وهي قصة "تيسبي".

تراجيديا بابلية

 ص 567: في بابل عشق بيراموسُ، تيسبي فمنعهما الأهل. تواعدا في الساحة تحت شجرة توت التي كانت ثمارها (اكباشها) بيضاء. فوصلت قبله. رأت لبوة فهربت فسقط رداؤها. وصل بيراموس فرأى الرداء وشاهد اللبوة فقتل نفسه. عادت تيسبي فرأته مضرجا بدمه فقتلت نفسها، فتحولت أكباش التوت من بيضاء إلى حمراء" أسطورة بابلية كما أسماها، لكننا لا نجد النص في اللقى الأثرية ولا في المصادر المتداولة؛ ما يعني إخفاؤها من قبل المنقبين ككثير من النصوص الأقدم (راجع كتاب الباحث: "سود الرؤوس/ بحوث خلافية"، وقد اعتمد هذه الحبكة شكسبير في "روميو وجولييت").

لكن دانتي بموسوعيته الأدبية لم يكف عن نقل الكثير من المعلومات التي رأى أن يقدمها لنا. وها هي معلومة من الأشد طرافة: ص 576:

 "في الميثولوجيا نهر في هاديس اسمه نهر النسيان يشرب منه الموتى فينسون".

لكن استكمال المعلومة وجدناه مهما أو طريفا، بحيث يستحق الإشارة، في كون الرومان وقد كانوا يعتقدون بعالم آخر أو أسفل وهو نفسه اسم المشرف عليه أو إلهه: هاديس... وإن الميت لا بد له للوصول إلى ذاك العالم الآخر من عبور النهر، وأن المولج بنقل الموتى إلى ذاك العالم عبر النهر لا بد من ثمن يدفع له؛ ولذلك كان الرومان يضعون في فم الميت قطعة نقد هي في النهاية الثمن الذي يقدم لشارون؛ وشارون القبيح هذا هو القائم على زورق العبور. ثم يصل إلى كثير مما يتعلق بالنقود، ومن ذاك تزييفها. ويبدو أن التزييف كان رائجا رغم العقوبة المشددة عليه وهي الإجلاس على الخازوق(8).

الجزء الثالث: النشيد التاسع عشر، ص 804:

ويقرؤن أَلَمَ نهر السين من خطيئة مزيف النقود الذي

ينتظره الموت في جلد خنزير.

 البيت 88:

فبسببهم أنا في حظيرة الخنازير هذه

هم الذين ألحوا عليَّ فزلّفت الفلورين

بإنقاص ثلاثة قراريط من ذهب الخليطة (الصحيح من الترجمة: السبيكة).

البيت 109:

قال البائس سينون: لم تكن ذراعك طليقة

عندما أخذوك إلى الخازوق كما كانت

طليقة عندما كنت تسك... (9).

ويبدو من خلال السياق أن دانتي كان يعتبر كل مسكوكة بمفردها جريمة قائمة بذاتها، وليس للجريمة باعتبارها واحدة، وهي التزوير، من حيث المبدأ(10). ولو طبقنا هذا المفهوم على علماء التوراة العاملين بالتنقيب والآثار والتاريخ واللغات لقضوا وقت بقية بحوثهم طوال الحياة في السجون؛ حيث زوروا الوقائع، بل حتى النصوص الأقدم إلى مجرد مُسوخ؛ خدمة لقناعاتهم الخاطئة في فهم التاريخ وقسره ليتلاءم مع نصوص التوراة.

الشعر ومواصفات النقود

ولقد قدم دانتي في ثنايا الكوميديا مواصفات النقود على الأقل في عصره؛ حيث كانت معدنية مستديرة وبراقة؛ طبعا قبل ظهور النقود الورقية التي هي بالضرورة ليست معدنية ولا مستديرة ولا براقة.

 النشيد الرابع والعشرون، ص 848:

 لقد جربت قطعة النقد هذه

بوزنها ومادة معدنها ودقتها

فاخبرني إن كنت تملكها وتعتبرها في حوزتك!

فقلت: نعم أملكها، براقة مستديرة

لم يتلف الاستعمال أي شيء من طرتها.

وحول المقطع الأخير المتعلق بإتلاف الاستعمال لمادة النقود المعدنية أو شكلها، ينقل لنا الجاحظ طرفة نادرة وهي أن أحد البخلاء أو اللصوص أيام العباسيين كان يضع النقود الذهبية في كيس من الجلد ويقوم بخضها بشدة بحيث يجري عليها نوع من الاحتكاك يؤدي لانفصال بعض أجزاء صغرى من معدنها وهي سرقة لا مدعٍ لإقامة دعوى فيها؛ فإنها بذاك سرقة من عامة الناس. لكن الذي فات على مؤرخنا وأديبنا العربي الكبير الجاحظ أن هذي العملية التي وصفها لا تؤدي لما تؤدي إليه إلا بإضافة "الرمل" أو مادة أصلب من الذهب الطري بطبعه، والذي يقوم بالحك لفصل الأجزاء المطلوب انفصالها من ذهب العملة، وربما كان ذا واحدا من معاني ما أشار إليه دانتي بصدد إتلاف الاستعمال لطرتها.

 

الهـــوامـــــــش:

(1) إياك أعني واسمعي يا جارة، فيما تعلق باللهجة اليمنية الأقدم وموقف د. طه حسين وعديد من علماء اليمن اليوم مع تغيير في شكل الطرح وأدواته. وعندي يكفي القول "بلغة" لا لهجة سبئية؛ ما يعني الاصطفاف مع د. طه حسين؛ فكيف من يقول وجود خمس "لغات" في اليمن الأقدم؟!

(2) قام به علماء التوراة العاملون في التنقيب وتفسير اللقى الأثرية بحثا عن مصداقية لموضوعات معينة في النص التوراتي كما هو بين أيدينا الآن.

(3) ننقل الهامش 18 من على الصفحة 32 من كتاب "العراق القديم – دراسة تحليلية لأحواله الاقتصادية والاجتماعية" تأليف جماعة من علماء الآثار السوفييت، وقد اخترتهم باعتبارهم أقل تأثرا بحوافز العلماء الغربيين (فيما لا أعرف!؟) أنقل هذا الهامش لازدحامه بأسماء العلماء من الشرق والغرب الذين تزاحموا على قول ما هو "غير دقيق ولا صحيح ولا جدير وعن تقصد؛ فليس من المعقول أن يكون الجهل أو الغباء" ((الهامش 18 ص 32 / استعملت هذه الكلمة – ايكو- نو – دو – في المستندات الحسابية للدلالة على العمال الذين كانوا يشتغلون طوال أيام السنة تحت إشراف أحد البستانيين في مزرعة الآلهة "با - اوو "ولدينا نصوص تسجل بيع وشراء هؤلاء الأرقاء. أنظر niki no. 293 فورش و fortsch في كتابه "الأوضاع البابلية في عصر لوكالندا واوركاجينا ". وهناك عدد من المؤلفين يصف هؤلاء بالعبيد؛ انظر دايمل، مجلة "الشرق"، عدد 2، صفحة 28؛ والوت دي لافاي، ص869، 59 الذي خصص دراسة منفردة لهذا الموضوع. انظر Ra 17 p. 7.

            ومن ناحية الدقة تعني كلمة ايكي – نودو صفة سلبية بالنسبة للكلمة "ايكي – دو" التي تعني "يرفع بصره" انظر دايمل: قواعد اللغة السومرية، ص65. ويستطرد الهامش: "وهناك الضمير "ايكي – دو" الذي يقصد به المحترف (دايمل عدد2 ص3). وكذلك تعني الكلمة "ايكي – نو – دو" الشخص الذي لا عيون له أي: أعمى. وقد وردت هذه التسمية في قائمة من العبيد يرقى تاريخها إلى عصر سلالة أكد (سلالة أكد بدأت بعد 1470 ق م وبها بدأ حكم سرجون الاول الذي يسمونه "الاكدي – هادي" ودونت عبارة "وفقأ عيون أربعة عشر ألفاً وأربعمائة أسير أسرهم الآشوريون في مسلة الملك شلمنصر الأول النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد (هو سلمان أوصر أي الاله سلمان وأوصر: الاعلى – هادي) وقد اقتبسها ادور ميبر في كتابه geschte des allertom11p.477 على أساس كلمة "ايكي نو دو" بأنها تعني "لا يرفعون أبصارهم" (الوت دي لافاي في الدراسة التي تدلل على هؤلاء هم أسرى الحرب العاملون بعمى أشبه بالدواب التي تحرك دولاب إدارة الري) في حين في nik 1,293 وفي itt 5, 9236 نجد الرجال الأرقاء يقابلون الـ "ايكي – نو – دو" ويعرفهم جينوياك بأنهم الخصيان الذين تدور حولهم علامة استفهام؛ ولقد كان يسمح لبعض هؤلاء "ايكي – نو – دو" ويذكر ثلاثة منهم بأن يصبحوا من الحرفيين وبذلك كانوا يصيبون مركزا يجعلهم متساوين مع الأحرار وقد جمع هؤلاء مع العمال الأحرار في قائمة واحدة (الوت دي لافاي عدد 130) وبلغوا درجة أنهم كانت تمنح لهم قطع من الأراضي (جينوياك tsa عدد 7) انتهى. وكل هذا ثرثرة مقصودة هدفها التشويش على شريعة حامُ رابي حيث ورد النص؛ وتقصُّد شريعة حامُ رابي هو هدف بذاته لتبقى التوراة هي الشريعة الأولى وعندهم الأخيرة أيضا.

(4) وجدت عند عملي على تعريب للمعجم السبئي الصادر عام 1982 أن حوالي نصف المفردات الواردة فيه وبمجرد القراءة الأولية، هي مفردات قاموسية.

(5) شعوب التوراة، أي: لا وجود لها في غير نصوص التوراة، فأنت مثلا لن تجد –قط- نصا منشورا بلغته عن اليبوسيين أو الفرزيين أو الادوميين.

(6) جاء ذكر الموضوع في التوراة في سفر التكوين فصل 10 جملة 8 وما بعدها: وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض الذي كان جبار صيد أمام الرب. لذلك يقال: "كنمرود جبار صيد أمام الرب". وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنة في أرض شنعار ومن تلك الأرض خرج آشور وبنى نينوى ورحوبوت عير وكالح ورسن بين نينوى وكالح وهي المدينة الكبيرة...". ومن هذا الفصل جاءت التسمية "أكد". أما معنى "ارك" الوارد فهو مدينة أور أوك،، أي "مدينة الشواطئ" واسمها اليوم كما متداول في الآثار "اوروك" أو كما متداول بين الناس "الوركاء". أما الاسم "شنعار" فلا تجده في غير التوراة علما على العراق كما أشرنا.

(7) البحث أصلا فصل من كتاب "يوميات دينار ذهبي- في العملة واستعمالها"، لذا نجد الإشارة لمدخل غير موجود هنا.

(8) أطرف وأدق وصف للإجلاس على الخازوق تجده في رواية للكاتب اليوغوسلافي ايليتش: "جسر على نهر الدرينا" رغم النفس الطائفي المقيت الذي كتبت به تلك الرواية الرائعة.

(9) في ذا المقطع، وهو طويل، يشير دانتي إلى من كان يدعى ماستر آدم: البريسكي الذي أمره الكونت غيدو روفينا بتزييف الفلورين الفلورنسي فوضع واحدا وعشرين قيراطا من الذهب بدلا من أربعة وعشرين؛ فخلق في شمال إيطاليا أزمة خطيرة.

(10) جميلة هادي الرجوي: يهود صنعاء مركز عبادي للدراسات والنشر، 2006. تعتبر مهنة صك النقود من أكثر المهن مسؤولية وخطورة، حيث كان يقوم بهذه المهنة بعض صياغ الفضيات. وقد اتخذ أئمة اليمن لهم بعض الصياغ ليقوموا بصك النقود لهم. وأشار حبشوش إلى أنه حدث أن تلاعب اليهود مرة بسك الفضة، فقامت السلطات بجمع الصياغ وساقتهم للسجن بدعوى أنهم غشوا المسلمين، وحكم عليهم بجزاء قدره 2200 ريال. وبعد تلك الحادثة بدأ الصياغ يضعون ختم "الخليفة" على النقود وإضافة اسم الصائغ، ويكون مسؤولا حتى لا يحصل أي تلاعب". وبهذا تكون عقوبة التزوير في اليمن شديدة التساهل، لذلك كثر التزوير في كتابة تاريخ اليمن على أيدي علماء التوراة، ولكن الأهم أن الذي تشير إليه جميلة يفسر تماما ما حار به علماء النّميات طويلاً، وهو وجود حروف في عديد من أطرزة المسكوكات غير قابلة للتفسير؛ أما تفسيرها فهو لتثبيت مسؤوليات القائمين بالسك حسب الاكتشاف الوارد عند جميلة.