العدد السابع - ربيع 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

انتفاضة الطبشي ذي الشارب العسلي
قراءة نقدية لقصة زيد مطيع دماج "المدفع الأصفر"
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. عبد الرضا علي
ناقد وأكاديمي من العراق

قصة زيد مطيع دماج "المدفع الأصفر" واحدةٌ من القصص المهمة في فنه السردي، فهي تشكل منجزاً جمالياً ثرياً في ملمحها الرمزي العميق، وانعطافة دالة على تطور تقنيته السردية، وأهمية اختيار المناسب منها في تنمية الأحداث، وصولاً إلى النهاية المفتوحة.

يتسلم القارئ هذه القصة عن طريق الراوية، وهذا الراوية ليس شخصاً من شخصيات القصة، وليس لما يرويه علاقة مباشرة، من قريب أو بعيد، بشخصية كاتبها، ولا بأحداث مرت به؛ لأنها ليست لوناً من ألوان السيرة الذاتية، ولا شهادة منه على أحداثها؛ لذلك تسمى هذه التقنية بـ"تقنية الراوي العليم".

والراوي العليم وصَّاف خارجي، يطرح ثقله على الأحداث بوصفه مراقباً خارجياً قادراً على الإجابة على كل ما يدور في القصة، فهو يرى ما لا يراه القارئ، ويسمع ما لا يسمعه، ويعرف النهاية وحده، وتتجلى فيه الموضوعية في تقديم الأحداث، وتصوير ما يراه خليقاً بالذكر أولاً، وتأخير ما حقه التقديم ثانياً. وهذه الطريقة في السرد هي التي يطلق عليها عادة بـ"السرد الموضوعي"، وهي طريقة زيد في معظم ما كتب.

في هذه القصة شخصياتٌ فرديةٌ وجماعيةٌ. ومع أن الإجماع يكاد ينعقد على أن الشخصية تشكل نقطة الارتكاز في أي عمل ناجح، إلا أن القاص لم يركز فيها إلا على المرأة العجوز المعمرة، والشابين الجريئين، والطبشي. أما سكان القرية فإن ذكرهم يمر من خلال الأحداث مروراً عادياً، كذكر جنود الحامية المرتحلين.

إن شخصية الطبشي (الجندي) هي الشخصيةُ المحوريةُ التي قدمتها القصة، وأدارت الأحداث المحورية حولها، لذلك كان لزاماً على القاص أن يرسم للمتلقي أبعادها المختلفة: الإنسانية، الفكرية، والنفسية، وما يرتبط بتلك الأبعاد من مزاجية، وانفعال وجداني، فضلاً عن تقديم شيء من تاريخها المرتبط بالمكان (القلعة) عملاً وحياة، كي تبقى تلك الأبعاد شاخصة لدى المتلقي وهو يتابع حركتها في أحداث القصة دون أن تغيب عنه لحظة واحدة، فكانت ريشته قد رسمت تلك الأبعاد قائلة:

"ما زال يرتدي حلته العسكرية الرثة.. وعلى رأسه طربوشه الأحمر بزره الأسود المتدلي خلف رأسه، أو أعلى يمينه، بحسب وضع الطربوش. ورغم أن الشمس قد أكلت من الطربوش لونه فأصبح باهتاً، إلا أنه ما زال مهيباً، متوسط القامة، قوي البنية، ارتسمت تجاعيد قليلة على وجهه الأحمر الذي جعلته حرارة الشمس وقسوة البرد يميلُ إلى السمرةِ.

ذو شارب عسلي اللون، كث في وسطه، ومبروم من أطرافه إلى أعلى، يعطيه مهابة زائدة! وبحاجبين كثين... وعينين تبرقان كعيني صقر... لونهما أزرق مشوب بخضرة داكنة...".

ويمكن تلخيص "المدفع الأصفر" في أن طبشياً (جندياً) يؤدي خدمته مع زملاء له من جنود و"طبشية" وضباط في واحد من الحصون المنيعة في أعلى قمة جبلية، يجد نفسه فجأة وحيداً في ذلك الحصن ذي المنشآت الكثيرة، الذي يرتفعُ فوق السحب، والضباب، والجبال المحيطة، فيحار في إيجاد تفسير لوحدته، وتسبيب لمغادرة الآخرين للحصن دونه.

"قال لنفسه: لا يمكن لأية قوة أن تقتحم الحصن، أو تستطيع كسر أبوابه المصنوعة من الخشب والنحاس والحديد. ومع وجود عدد من أبراج الحراسة عند كل بوابة لا يمكن أن يحدث ذلك مطلقاً. حدث نفسه بذلك وقال بصوتٍ مرتفع: ليس هنالك أي أثر لمعركةٍ حدثت، وإن حدثت لا بد أن يُسمع دويها!!".

ومن مناجاته لنفسه نفهم أن لهذا الجندي مخبأ سرياً في كهف صغير يقع خلف الحصن، وأن هذا المخبأ ظل مجهولاً لم يكتشفه أحد سواه، لوعورة الممر المؤدي إليه، فهو لا يخلو من خطورة، وكثيراً ما كان يتسلل إليه هارباً من مناكدة بعضهم له وسماجة مزاحهم معه، ولا يعود إليهم وإلى الحصن إلا بعد أن يزول غضبه، وتنطفئ جذوة زعله المتقد.

"منادماتهم الساذجة المبتذلة.. كانت تدفعه للهروب منهم أياماً بلياليها إلى مخبئه السري المجهول في كهفٍ صغيرٍ خلف الحصن من الجانب الآخر، الذي لم يكتشفه أحدٌ سواه، لوعورة الطريق المؤدية إليه، والتي كانت لا تسمح إلا بصعوبة لوضع القدم، وعلى الشخص الذي يجتازها ألا ينظر إلى الهاوية السحيقة، والسير ببطء متجهاً بوجهه ويديه نحو الصخر...".

وحين عاد في المرة الأخيرة من الحصن وجد أن الحامية قد غادرته وحملت معها ما خف حمله وغلى ثمنه، فهالهُ الأمر، ولم يجد بداً من البقاء فيه، فقد ارتبط بهذا الحصن أمداً طويلاً، واقتصرت حياته على حياته، وكوَّنَ عالمه المحدود على وفق عالم الحصن، ولم يكن يطمح إلى أكثر من أن يحيا حياته تلك مع أصدقائه وزملاء مهنته التي حددها وأحبها، فحددت هي بدورها أفكاره وعوالمه البسيطة.

لقد حاول هذا الجندي أن يعيش وحيداً منعزلاً عن العالم في ذلك الحصن العالي، فتوسل بمدفعه، فاستجابت القرية لأصوات قذائفه، وقدمت له الطعام والحطب، فانتشى راضياً مدة من الزمن، فالطعام كثير وأصنافه عديدة ولا أحد يشاركه فيه، وحزم الحطب زادت عن حاجته لها، وأهل المدينة على أهبة الاستعداد لتقديم المزيد منها... لكن أمر الرضا لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما عاد إليه قلقه، فحاول مداراته بالهروب إلى مخبئه السري كما كان يفعل سابقاً، غير أنه حين حل فيه "لم يشعر بالارتياح كعادته في السابق، بل شعر بالضيق والملل، وأسرع عائداً عبر طريقه الوعر".

لكنه حين دخل الحصن دخله مبتئساً حزيناً، ولم يكن منشرحاً، فقد ذكره شريط ذكرياته بأيامه التي قضاها مع زملائه، وبإخلاصهم في عملهم حد التفاني، فترقرقت في مقلتيه دموع كثيرة، فأجهش باكياً، وتمنى أن يكون زملاؤه الجنود معه، على الرغم من مساوئهم الحقيرة.

لقد أحس أن الوحدة أو العزلة حولت الحصن إلى سجنٍ واسع، "لكنه ضيق (مطبق) سجن انفرادي"، فقرر إذَّاك أن يضع حداً لقلقه المشوب بالحزن، فأسرع إلى مدفعه و"لقَّمةُ قذيفة وأتبعها بأخرى، وبثالثة، ورابعة..."، ثم غطى ماسورة مدفعه العملاق بطربوشه الرث، واختفى دون رسم أو أثر، فظلت السلة في مكانها دون أن تتدلى.

عالجت "المدفع الأصفر" أموراً عديدة، وأوحت بأخرى في البعدين: الموضوعي، والفني. ففي الموضوعي ناصبت القصة العزلة العداوة، وأقامتها عليها، وبينت أن الابتعاد عن الجماعة، واتخاذ العزلة منهجاً للعيش دون الاقتراب من الآخرين، والانزواء عنهم، سواء أكان في حصن منيع، أم في كهف سري، أسلوبٌ مرفوضٌ حيوياً، ومحكوم عليه بالجنون، فكان لا بد لبطل القصة (الطبشي) من رفضه، فأوحت قذائفه الأخيرة بهذا الرفض، فهي لم تُطلق في الهواء جزافاً، إنما كانت تُطلق على العزلة المقيتة، وتهزمها إنسانياً بالإيحاء لا المباشرة. ومثل هذا الموقف وإن بدا فردياً في العمل الفني، لصيقاً بذات البطل وشخصيته، إلا أنه تعبيرٌ عن موقف جماعي للناس قاطبة، فـ"الفردي وحده –كما يرى النقد الحديث- يثير اهتمام الفن عندما يكون فيه شيء يعبر عن العام فيعكسه"(1)، وتلك قدرة القاص المبدع.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التحدث عن الحرب، أو عن أهل الحصن، أو أهل المدينة، أو غير ذلك، لم يكن من هموم القاص، لكونها أموراً لا يحتاج إليها في حبكته، ولا علاقة لها بما تهدف إليه القصة، لذا لم يمعن القاص بأية أحداث جانبية تضر بالسرد، وتفكك بناء الحبكة.

أما في البعد الفني فقد أوحت بالرمز -تلميحاً- لتستثير به أخيلة المتلقي الجاد الذي يحسنُ التأويل، ويكشف عن دلالات النص الخفية.

فالرمز يدل على معانٍ مختبئة في نفس المبدع، لا يريدُ التصريح بها، وإنما يقوده إليها لا وعيه، وأحلامه الباطنيةُ، وتكون مهمة النقد أساساً في تحليل تلك الرموز، وتفسير اتجاهات اللاشعور، على وفق ما يعتقده الناقد صواباً في كشفه للألفاظ الموحية، وعلاقة تلك الألفاظ بعوالم الأعماق الغامضة.

تلك هي الرموز التي تجيء غفلاً من مبدعها. أما الرموز التي يسعى إليها المبدع سعياً، فإنها -وإن اختلفت عوامل استخدامها-  تبقى رموزاً مصنوعة، لا دور لعالم الأعماق في تفجيرها وإطلاقها. فتستحيل إذَّاك أساليب تعبيرية يجنح إليها المبدع على وفق ما يمليه عليه خياله فنياً، وهو الأكثر استخداماً، أو يدعوه إليه الموقف فكرياً، وهو الأقل استخداماً(2). وواضح أن رموز زيد هي من النوع الأول، التي يكون للخيال فيها السطوة الأخيرة.

إن النفس تبيح للذات أن تعبر عن دواخلها بالأساليب الغامضة أو الرمزية، لذلك ترى نازك الملائكة ألاَّ مفر من مواجهة تلك الأساليب إذا أردنا فناً يصف النفس، ويلمس حياتها لمساً دقيقاً(3).

وعلى وفق ما مر فإن القارئ الجاد يمكن أن يجد في هذه القصة رموزاً خاصة أوحى بها العمل عن وعي حرفي، كأن تكون العجوز المعمرة رمزاً غير مباشر للأمة التعبى التي تستطيع -رغم ما أصابها من إنهاك- أن تجد حلولاً لمشاكل أبنائها، لهذا كان الناس وجلين منها في آخر القصة، كما جاء على لسان شابين ممن امتثلوا لأمرها: "كيف نقابل العجوز..؟ ماذا نقول لها؟ أنقول لها إننا جبناء!؟".

كما يمكن أن تكون "الأضرحة السبعة" رمزاً للماضي المجيد، المضمخ بعبق الإخلاص، والتضحية، والشهادة من أجل الآخرين؛ لأن قداسة الرقم توحي بالكثير، فالسماوات سبع، والله جلَّت قدرته قد استوى على العرش في اليوم السابع، وبنات نعش سبع، والسنوات العجاف سبعٌ... إلخ، لهذا ليس جزافاً أن يرد هذا الرقم عند زيد رمزاً للقيم المقدسة، فقد استخدمه الكثير من المبدعين في آثارهم، الرسمية والشعبية، وما زال صوت المرأة في ريف اليمن يردد منتظراً عودة المهاجر:

سبعة نجوم عديتهم بالفرد

هاتوا لي المحبوب قد هزني البرد(4).

 

وما زلنا نتذكر هذا الرقم في قصيدة محمد حسين هيثم الدرامية "بنو عمي"، فقد كان عدد أبناء العم سبعة، وإن أضحوا غباراً.

ولما كان الرمز في هذه القصة تلميحاً إلى الأشياء في حَدِّه الأقصى، فإن بإمكان القارئ أن يجعل حبل السلة المتين رمزاً موحياً بحبل الحياة، الذي يسبب انقطاعه موتها المؤكد.

لقد ترك القاص نهاية القصة مفتوحة، حين أخفى بطلها عن مسرح الحياة، فلم يقل لنا إن كان قد عاد إلى كهفه، أم هرب إلى مكان معين، أم ألقى بنفسه من أعلى قمة الحصن، أم غير ذلك؛ لأنه أراد من كل واحد من قراء قصته تلك أن يعيش تصوره الخاص في عملية الاختفاء، كي تبقى "المدفع الأصفر" قصتهم جميعاً، حين يطلقون قذيفة الخلاص على العزلة المقيتة ليعيشوا ملتصقين بالجماعة حياة لا انفصام عنها.

وبعد، فقد قلتها سابقاً، وأكررها اليوم: إن كتابات زيد مطيع دماج القصصية تتصف بقدرتها على النفاذ إلى داخل نفس المتلقي دون استئذان، لكونها تمتلك لغةً جميلةً، وحبكة مؤثرة، يستقبلها القارئ بترحاب مشوب بإعجاب ومحبة. فهو يكتب بلغة صافية، بعيدة عن كل توعر أو ضبابية أو ارتباكٍ، مما يتيح لمتلقيه متعة الانسجام مع أحداث قصصه، وحركة شخصياتها، وعوالمها، الظاهرة والخفية، فضلاً عن أنه يعي دور السرد، وأهميته في تنمية الأحداث، لذلك لا ينبو السرد في آثاره عما جيء به من أجله، فلا يطنب فيترهل الوصف، ولا يوجز تقصيراً فيربكُ النص.

 

 

 

هوامش:

(1)                م. أوفسيانيكوف، وزسمير نوفا: موجز تاريخ النظريات الجمالية، تعريب: باسم السقا، دار الفارابي- بيروت، 1975، ص446.

(2)                عبدالرضا علي: نازك الملائكة الناقدة، ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، 1995، ص171.

(3)                نازك الملائكة: مقدمة "شظايا ورماد"- ديوان نازك الملائكة، مج 212.

(4)                عبدالفتاح عبدالولي: ومنير سعيد بجاش: من أغاني المرأة في الريف، مجلة "أصوات" اليمنية، ع3، 1994، ص140.