العدد السابع - ربيع 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

ملامح صوفية في شعر الشابي (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

د. عبد العزيز المقالح

لست أدري إن كان أحد من الدارسين قد سبقني إلى الحديث عن الملامح الصوفية في شعر الشابي. وإذا كان ذلك قد حدث، فإن قراءتي الموجزة هذه تضاف إلى ذلك الجهد السابق، مؤكدة أن الإبداعات الخلاقة تجمع دائماً بين احتراقات الروح والجسد، وتطوف حول المرئيات الواقعية الثابتة، كما تطوف حول مرئيات تدركها بصيرة المبدع الحقيقي ولا يدركها بصره، وتنهل من عوالم خفية موحية تربطها بعوالمنا الداخلية وشائج لا ننتبه لها، ولا نتمثلها إلاَّ من خلال الكلمات عندما تتحول إلى عبارات تلقائية، نقف أمامها في انبهار متسائلين: أين كانت؟ وكيف ظهرت؟ وهل أضافت إلى أشياء الكون أشياء جديدة، وإلى ألوان الطيف المعروفة ألواناً أخرى، وإلى معاني الوجود معنى آخر؟

 وإذا كنا نرى -ونحن على حق فيما نذهب إليه- أن شوقي ومجايليه من شعراء أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قد أسسوا لما يسمى بالإحياء النهضوي في الشعر العربي الحديث، فإن أبا القاسم الشابي وأمثاله من شعراء الرومانتيكية العرب، قد أسسوا لما يسمى بالتحديث والتجديد المعاصر، وكانوا بإنجازهم الإبداعي الجسر الذي عبر عليه شعراء الحداثة العرب على اختلاف طرائقهم ومستويات تحديثهم. وكان الشابي، الذي رحل مبكراً، من أهم شعراء هذا الجيل، باقترابه من تمثل النـزعة التجديدية المتمردة، وكسره نمطية التعبير الخجول عن الذات في مواجهة الآخر، والاقتراب من كثير من الظواهر الجزئية، التي صارت فيما بعد اتجاهات واسعة وقائمة بذاتها، كما هو الحال مع ذلك التعبير الجزئي عما سمّيناه بالملمح الصوفي.

وقد يقال إن هذا الملمح قديم في الشعر العربي، وأنه يتميز بوضوح شديد في إنجازات الشعراء المتصوفة القدماء في أبلغ دلالاته. وهذا صحيح، إلاَّ أن استرجاعه، أو بعبارة أخرى التنبه له وإعادة إنتاجه -وإن بشكل مختلف ومحدود- يشكّل ملمحاً من ملامح التجريد والتجديد في القصيدة المعاصرة، الأمر الذي يبدو جديراً باهتمام الباحث وعنايته، لما يمثله من ضرورة فنية وتعبيرية، بعيداً عن النظرة الصوفية للوجود وتجلياته، وما تعوّل عليه التجربة الصوفية من حالة انخطاف صوب الماورائيات، ورفد عالم الجمال بما لم يكن في شعر الكلاسيكية من رؤى وتوقدات، تفتح أمام الشاعر فضاءات تعبيرية والتماعات وجدانية بالغة الرهافة والبهاء، تبتعد معها التجربة الشعرية عن المألوف من الأشكال والألوان والأحوال.

وإذا كان أدونيس قد وجد تشابكاً بين السوريالية والصوفية في كتاب له بهذا العنوان، فإن آخرين قد وجدوا مثل ذلك التشابك بين الرومانتيكية والصوفية، لأن كلتيهما يصدران عن منطقة الأحلام والمثالية، وإن كانت الرومانتيكية في غالب نتاجها تأتي من مناطق الخيبات والمآسي، في حين أن الآمال الكبرى، هي مجال الصوفية ومصدر حقيقتها الغامضة. يضاف إلى ذلك أن كلتيهما (الصوفية والرومانتيكية) يمجدان الحب الصافي والنقي، وإن كانت علاقة الصوفي بالحق أقوى من علاقة الرومانتيكي وأعمق. كما أنهما يتقاربان في الاندهاش أمام الطبيعة، ويقفان معاً في محرابها بخشوع.

وقد يأخذنا الحديث عن الملامح الصوفية في شعر الشابي إلى قراءة ملامح القلق والتمرد في كثير من قصائده، وهو قلق صوفي بامتياز؛ فضلاً عن أن الشعر في ذاته فعل صوفي، بغض النظر عن قربه أو بعده من هذا المصطلح الغائم، وذلك أن الشعر حلم، وعنصر الحلم يجمع بين الصوفي والشاعر، وكلاهما في سفر دائم لاكتشاف ماهية الأشياء والتحديق صوب المرافئ التي تنشدها الروح بعيداً عن الثابت والمألوف. وإذا كان الشاعر يمتلك من صور التعبير ما يمكنه من جلاء الحالات الروحية، على خلاف الصوفي الذي يجد "العبارة تضيق كلما اتسعت الرؤية"، فإنهما
-معاً- يستخدمان العلاقات والرموز ذاتها، ويبحثان عن تمثلات لغوية وصورية تجسد ذلك الوجد وتعيد تقديمه. وهو ما أدركه الشابي وعبّر عنه في سياق حديثه عمّا كان يمكن أن يضيفه التصوف إلى الأدب العربي القديم لو كان شعراء العربية قد استوعبوا التجربة الروحية للمتصوفة، "حيث يقول: حتى أن المذاهب الفلسفية التي تغلب عليها النـزعة الروحانية لم تعرف سبيلاً إلى نفوس العرب، فمذهب وحدة الوجود، الذي هو أعمق نظريات المتصوفة، لم يشتهر به من متصوفة الأمة العربية إلا من كانوا أغراباً عن العرب، كالسهروردي والحلاج والشمس التبريزي وجلال الدين الرومي".         

وقبل البدء في إيراد النماذج الممثلة لملامح الصوفية في شعر الشابي، ينبغي أن نؤكد ملاحظتين مهمتين: الأولى أنني لست هنا بصدد تقديم بحث معمق عن الشعر الصوفي، والأخرى أن الصوفية في بعدها الديني لا وجود لها في شعر الشابي، ولا في أي شعر عربي حديث حاول الاقتراب من المناخ الصوفي، بما يمثله من إخفاء وإضمار، ومن تنازع بين صبوات الخير ونوازع الشر؛ لكن الصوفية، أو بالأحرى ملامح منها، قائمة في نماذج من الشعر على شكل رؤى تبحث عن حل لمعضلات الحياة في الوجود اللانهائي المطلق، كما في قصيدة الشابي المعنونة "إلى الله":

يا إله الوجود! هذي جراح

                         في فؤادي، تشكو إليك الدواهي

هذه زفرة يصعّدها الهـمُّ

                         إلى مسمع الفضاء السـاهـي

هذه مهجة الشقاء تناجيك

                         فهل أنت سـامـع يا إلهي!؟

 

أنت أنزلتني إلى ظلمة الأرض

                         وقد كنت في صباحٍ زاهِ

كالشعاع الجميل، أسبح في الأفق

                         وأصغي إلى خرير المياه

وأغني بين الينابيع للفجر

                         وأشدو كالبلبل التيـّاه

أنت أوصلتني إلى سبل الدنيا

                         وهذي كثيرة الاشتباه

ثم خلفتني وحيداً، فريداً

                         بين داعٍ من الرياح وناه(1)

 

الخطاب الصوفي إذن –كما هو بديهي- يكمن في التوجه إلى الله والانشغال بمخاطبته والبحث عن الطرق الموصلة إليه. وعنوان النص الذي اجتزأنا منه الأبيات السابقة (إلى الله)، هو عنوان صوفي بامتياز، ويقدم له الشاعر بسطور من النثر تقول: "تعرض القلب الإنساني الذي لا تنتهي أطواره بأزمات نفسية ثائرة، يعصف فيها الألم والقنوط بكل حقائق الحياة وتتزعزع كل قواعد الإيمان والحق والجمال، فيشعر المرء كأنما أنبتَّ ما بينه وبين الكائنات من وشائج الرحم والقربى، فأصبح غريباً في هذه الدنيا القريبة في نفسه، وكأنما الحياة فن من العبث المرعب الممل الذي لا يجدر بالعطف والبقاء. ولكن من رحمة الأقدار أنها حال عارضة لا تدوم إلاَّ كما تدوم عاصفة البحر، تكدر صفاءه وتحيل جماله إلى شناعة، وأنغامه إلى عويل، وانسجامه إلى فوضى، ثم تقر العاصفة وتسكن ويرجع البحر إلى زرقته الصامتة، وألحانة المتزنة، وجماله الساحر الأبدي. وتحت تأثير هذه الحالة النفسية الجامحة نظمت القصيد التالي، ونفسي سكرى بأحزانها الدامية وآلامها المتشحة باللهيب"(2).   

لقد حرصت على إيراد مقدمة القصيدة كاملة لما لهذه المقدمة من أهمية في إثبات حالة القلق التي تسبق المناجاة، وهو قلق يذكرنا بحالات كثيرة مماثلة لدى عديد من المتصوفة الذين تنازعتهم الشكوك، وسيطرت عليهم حالات من القنوط، قبل أن تنكشف لأعينهم الطريق وتتساقط الحجب وتنفتح الأبواب.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن النص الشعري عند الشابي سهل التلقي، ميسور التناول، وأن هذا الشاعر أقرب إلى المتلقي من سائر الشعراء الرومانتيكيين؛ إلاَِّ أن هذا النص في -حقيقة الأمر- لا يخلو من غموض وإخفاء. ومن هنا، فإن الاقتراب الأعمق من تجربته الوجدانية، بكل أبعادها، ينطوي على قدر من الصعوبة، لاسيما ما يتعلق منها بالملمح الصوفي، الذي يبدو من خلال تلاحق الصور وتداعياتها:

في جبال الهموم أنبت أغصاني

                         فرقّت بين الصخور بجهد

وتغشاني الضباب، فأورقت

                         وأزهرت للعواصف وحدي

وتمايلت في الظلام، وعطّرت

                         فضاء الأسى بأنفاس وردي

وبمجد الحياة والشوق غنيت

                                     فلم تفهم الأعاصير قصدي

ورمت للوهاد أفنانَي الخضر،

                                     وظلّت في الثلج تحفر لحدي(3).

 

وكثيرة هي النصوص التي تقترب من هذا المنحى الصوفي في شعر الشابي، بدلالات أحواله ومطلقاته الغائمة، كما في قوله:

غير باقٍ في الكون إلاَّ جمال الروح

غضّاً على الزمان الأبيد(4).

 وكذلك قوله: 

كلما أسأل الحياة عن الحق

                         تكف الحياة عن كل همسِ

لم أجد في الحياة لحناً بديعاً

                         يستبيني سوى سكينة نفسي(5)

 

وجمال الروح، بمعناه الأسمى، كما في سكينة النفس، مطمح صوفي، والبحث عنهما في دروب الحياة، بمشكلاتها وتناقضاتها في طليعة ما ذهب إليه المتصوفة، وما عبرت عنه بوضوح تجربتهم الإبداعية، شعراً ونثراً. والواصلون إليها منهم، بعد مجاهدة ومعاناة، قلة قليلة. فما يعكر النفس الإنسانية في الحياة أكبر من أن تنتصر عليه الروح، والتحرر من إغراءاتها أشق على النفس وأصعب، كون هذه الإغراءات غاية من غايات بعض النفوس، أو من غاياتها كلها، إلاَّ من شغل النفس بجلائل الأمور والأعمال، ونزع إلى ما هو أبعد من اليقين والطمأنينة، عن طريق المعرفة اللامتناهية، على حد ما ذهب إليه "الشبلي" المتصوف في إحدى إشاراته: "المعرفة أولها الله، وآخرها ما لا نهاية له". وكثيراً ما كان التوحد بالطبيعة، بمعناه الصوفي، واحداً من الطرق المؤدية إلى ما يشبه اليقين المريح:

في صباح الحياة ضمّخت أكوابي

                         وأتـرعـتها بخـمرة نـفسـي

ثم قدمتُها إليك فأهرقتَ

                         رحيقي، ودُسْتَ يا شعب كأسي!

فتألمتُ.. ثم أسكتُّ آلامي

                         وكفكفتُ من شعوري وحسي

ثم نضّدتُ من أزاهير قلبي

                         بـاقةً لم يمسـها أيُّ إنـسي

ثم قدمتها إليك فمزقتَ

                         ورودي ودُسْـتَها أيَّ دوس

ثم ألبستني من الحزن ثوباً

                        وبشوك الصخور توَّجتَ رأسي

ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شعبي

                         لأقضي الحياة وحدي بـيأس

ها أنا ذاهب إلى الغاب علّي

                         في صميم الغابات أدفن بؤسي(6).

 

في هذا النص، الذي يتجه به الشابي إلى الشعب، أكثر من ملمح يذكرنا بشعر الصوفية، إن لم يكن شعراً صوفياً. من ذلك "خمرة النفس"، ثم هذا الإحساس بأهمية الانعزال والاتجاه إلى الغاب، بكل ما كان يحمله المعنى في تصورات الرومانتيكيين من براءة وطهارة وشعور بالأمان الواسع؛ ألم يكن الصوفية يعشقون البراري المقفرة، ويهربون من ذنوب الناس -لا من الناس- إلى الخلوات باحثين في هوائها عن سكينة النفس وهدوء البال، والتعلق بأمل الوصال من خلال استقراء الكائنات، والتأمل في متواليات الكون العجيب، بشعور الصوفي الذي ينظر إلى الطبيعة بعين القلب وليس بمنطق العقل!؟ وهو ما تشير إليه بوضوح الأبيات التالية من قصيدة بعنوان "فكرة الفنان" وهي من أكثر قصائده شفافية عن وعيه بالتقارب بين فكرة الفنان والرؤية الصوفية:

عِشْ بالشعور وللشعور فإنما

                         دنياك كونُ عواطف وشعور

شِيدت على العطف العميق، وإنها

                         لتجفُّ لو شِيدت على التفكير.     

                                     *          *          *

فتعيش في الدنيا بقلب زاخر                        يقظ المشاعر حالم مسحور

في نشوة صـوفـية قدسـية              هي خير ما في العالم المنظور(7).

 

يعلق الدكتور عز الدين إسماعيل على هذه الأبيات وأمثالها في مقدمته لديوان الشابي بقوله: "إنها إذن دعوة إلى تخلية مرآة القلب وتخليصها من الشوائب العالقة بها، حتى تنعكس على صفحتها صور الوجود المادي والمعنوي... وربما كان لقراءته الصوفية الباكرة أثر في هذه التجربة"(8).

وفي مكان آخر يقول: "إذن فمعانقة الحياة في صميمها من شأنها أن تولد هذه النشوة: نشوة التعرف على حقيقة الكون وحقيقة الوجود، والمعرفة امتلاك، وهي -من ثم- قوة، وعندما تتغلغل روح الإنسان في أعماق الوجود فتعرفه على حقيقته تكون بذلك قد اكتسبت القوة التي تؤهلها لمواجهة الظواهر العارضة"(9).    

لست بحاجة إلى مزيد من القول لكي أؤكد أن هذه الإشارات تحدد ملامح الشاعر المتصوف الكامن في الشابي، أكثر مما تحدد ملامح الشاعر الرومانتيكي، وأنها تكاد تتحدث عن الملامح الصوفية الخاطفة في شعره بما تعكسه من تجليات إشراقية وإشعاعات روحية. وأعود مرة ثالثة إلى مقدمة الدكتور عز الدين إسماعيل لأستزيد من إشاراته اللماحة، لاسيما حين يقول: "إن شاعراً يبحث عن الحقيقة الكلية المستخفية وراء مظاهر التعدد، وعن روح الجمال المثالي الذي يكمن في هذه الروح، وهذا الشاعر الذي سعادته في معانقة النور، لا يمكن أن يتخذ من العقل وسيلة للفهم والتعرف على الأشياء، لما يمثله العقل من صرامة المنطق، لمجافاته لطبيعة التجربة الشعورية..."(10).

إن الشابي، الشاعر الرومانتيكي المهموم بذاته في كثير من قصائده، يعد من أكثر شعراء هذا الاتجاه تعبيراً عن هموم الآخرين، ومن أكثرهم إحساساً بالمصير الإنساني. ومن خلال ذلك الهمّ المتعدد الجوانب، ذاتياً وإنسانياً، ينطلق الشابي في معارج الروح وتجلياتها النفسية، وتأملاتها المليئة بهواجس حضورها الكوني، والتي تتطابق فيها جوانب من رؤيته إلى الوجود مع الرؤى الصوفية، حين ترتقي بالحسي إلى المستوى الروحي:

شردت عن وطني السماوي الذي

                          ما كان يوماً واجماً مغموما

شردت عن وطني الجميل.. أنا الشقيُّ،

                          فعشت مشطور الفؤاد يتيما(11).

 

أخيراً: هل لي أن أقول إن جزءاً من القاموس اللغوي للشابي يتماثل مع قاموس الصوفية، وأن جوانب من تجربته الشعرية تأتي -لذلك السبب- تأسيساً صوفياً باللغة إن لم يكن بالرؤية؟ سؤال تحتاج الإجابة عليه إلى إطلالة أوسع، وإلى وقفة أشمل وأطول من هذه القراءة العاجلة.             

 

 الهوامش:

 (1)                ديوان أبي القاسم الشابي، دار العودة، ط1، 1972، ص240.

(2)                المصدر نفسه، ص239.

(3)                نفسه، ص492.

(4)                نفسه، ص270.

(5)                نفسه، ص134.

(6)                نفسه، ص248.

(7)                نفسه، ص319.

(8)                نفسه، ص22.

(9)                نفسه، ص23.

(10)            نفسه، ص31.