دراسات
متون متجاورة متساكنة
الشعر من السماع والقراءة إلى التفاعل
()
باقر جاسم محمد
كلية
الآداب/ جامعة بابل - العراق
لقد أنجز الشعر،
عبر تأريخه الطويل، بناء جملة من الأسس المهمة في التلقي والاستقبال، وحقق
لنفسه، في هذا المجال، سياقاً يعتمد أصلاً على الطبيعة الخطية للغة، سواء حين
يكون التلقي سماعاً من خلال إنشاد الشاعر لنصه الشعري، أم حين يكون التلقي
قراءة عبر الوسيط التدويني الورقي. وقد استقر السياق الخطي حتى صار عرفاً
مسلماً بين الشاعر وقارئه مدعوماً من استمرار النتاج الشعري على وتيرة واحدة هي
الارتباط الوثيق بالوسيط الكلامي في الإنشاد/ السماع، والتدويني الورقي في
الكتابة/ القراءة، حتى صار هذا العرف الموغل في القدم من أهم عوائق أي محاولة
لكسر الأداء الخطي للغة واستحداث طرق بث لسانية شبكية ومتفرعة لا تقوم على البث
اللساني الخطي، ذلك البث الذي أفرز بدوره آلية خطية في الفهم والاستيعاب جعلت
تلقي النصوص غير الخطية غاية في الصعوبة. ومن هنا كان ظهور القصيدة التفاعلية
قد ارتبط بجملة من التطورات العلمية والتقنية في مجال الحاسوب والانترنت. وهذا
الارتباط لم يكن تضايفياً، أعني أنه ليس نتاج إضافة بعض ممكنات الحاسوب
والانترنت إلى الكتابة التقليدية، وإنما هو ارتباط وظيفي أتاح لنا الكشف ليس
فقط عن أهمية البث غير الخطي للنص الشبكي الشعري، وإنما أيضاً عن الممكنات
الهائلة التي ينطوي عليها هذا الضرب الحديث من الإنشاء الشعري. وهي ممكنات تومئ
إلى تشكل جديد للشعر يتجاوز كل ما هو مألوف أو سائد من ضروب الكتابة والإنشاء
الشعري إلى الحد الذي قد يمكننا من القول بأننا على أبواب ولادة جنس أدبي/ فني
جديد هو الشعر التفاعلي. فاختلاف الوسيط من الورق إلى الشاشة الزرقاء وجهاز
الحاسوب والانترنت لم يمدَّ القصيدة بوسائل تقنية شكلية فحسب، وإنما أثر في
طبيعة البث الشعري ونقله من الخطية إلى الشبكية، وأثر في طبيعة الإنشاء الشعري
من حيث أنها لم تعد محض فن كلامي فحسب، إنما اقترنت بجملة من الفنون البصرية
كالرسم والنحت والتصوير السينمائي، والفنون السمعية: الموسيقى والغناء، وبذلك
لم يعد لدينا فن قولي واحد يتمثل في النص الشعري، وإنما صارت لدينا حزمة من
الفنون القولية والأدائية والبصرية والسمعية، وهذه الحزمة تعمل بوصفها متوناً
متجاورة ومتضافرة في إنتاج الأثر الكلي للمشهد السمعي البصري الجديد. وغدت
وظيفة الشاعر أكثر تعقيداً، لأنها لم تعد تقتصر على التأليف التدويني المعروف،
وإنما صارت مهمته تتضمن التـأليف والتوليف، فضلاً عن انفتاح عمليتي التأليف
والتوليف على ممكنات أخرى لإسهام المتلقي في صوغ النص وإجراء تعديلات وإضافات
عليه، حتى ليمكن القول بأن النص الشعري التفاعلي ليس نصاً بعين، إنما نص متحول
وفي حالة صيرورة دائمة.
تقدم القصيدة التفاعلية نفسها بوصفها جنساً أدبياً جديداً وإن كان ذا صلة لم
تنقطع بالشعر. فهي شعر من حيث الانتماء والفعل؛ لكنها تخرج على كثير من ضوابط
الشعرية العربية، أو غير العربية، وسماتها التقليدية أو الحداثية. وهي تقدم
نفسها أيضاً بوصفها محاولة للخروج على كثير من خصائص النص الشعري الورقي وأطره
المألوفة والمستقرة، وذلك لكونها تتعامل مع وسيط مختلف تماماً هو الحاسوب
والشاشة الرقمية، ومع ما يمكن أن يقدمه هذا الوسيط من ممكنات فنية وتقنية تؤثر
في طبيعة الإنشاء الشعري نفسها وفي عملية التلقي في آن واحد. ومن الناحية
التداولية، كانت الوسائل التقليدية في التوصيل الشعري تتسم بكونها تعتمد اللغة
الشفاهية أو المقروءة. وفي كلتا الحالتين كانت لغة تلقي النص الشعري خطية على
الدوام. فحين كان الشعر يلقى شفاهاً، كنا نستمع له، وكان السماع خطياً، أعني
أننا ننصت لبداية تقود إلى نهاية. وحين كان الشعر يكتب في ورق أو يطبع، كنا
نقرؤه، وكانت القراءة خطية أيضاً. أما حين يؤلف شاعر أو منشئ القصيدة التفاعلية
ويصمم مجموعة متونه الصوتية والصورية والتدوينية، فإننا نقوم بمشاهدة العرض
الشعري، ولا نقرأ نصاً لسانياً فقط، فنسمع موسيقى ومؤثرات صوتية، ونشاهد لوحات
فنية وأشكالاً هندسية وإيقونات، وفي الوقت نفسه نقرأ نصاً لسانياً مدوناً،
وسيكون ممكناً لنا أن نسهم في كتابة النص أو نضيف إليه أو نحور فيه، فضلاً عما
يقدمه لنا النص اللساني في القصيدة التفاعلية من الاحتمالات والمسارب المتداخلة
والمتعامدة مع بعضها أو المتفرعة عن بعضها، ومن خلال وسائل تقنية تكنولوجية
متنوعة، فتنتفي الحالة الخطية للتلقي بشكل نهائي، إذ لا تعود هناك بداية ولا
نهاية محددتان للنص، ومسار واحد لتشكل مادة النص بين البداية والنهاية اللتين
نختارهما نحن. وسيكون ممكناً أن ينمو النص الشعري في أية لحظة باتجاهات مختلفة
قد تكون رأسية أو عمقية أو تراجعية أو متفرعة. وإذا كانت الخطية تشير إلى خصيصة
زمنية في الإنصات للشعر، وخصيصة مكانية في قراءة الشعر المدون، فإن للقصيدة
التفاعلية مزية مهمة هي أنها ذات بعد زماني يتعلق بما تتضمنه من الموسيقى
والمؤثرات الصوتية، التي هي جزء أساسي من القصيدة التفاعلية الرقمية. ونحن نعلم
أن الموسيقى والمؤثرات الصوتية توصف عادة بأنها من الفنون الزمانية، فضلاً عن
اللوحات الفنية التي تعد من الفنون المكانية. وبهذا تكون القصيدة التفاعلية قد
امتلكت خصيصة مكانية ذات أبعاد رباعية زمانية ومكانية، وليست خطية، من خلال
الصور الفنية والتشكيلات الهندسية المجسمة والموسيقى والغناء(1).
وحتى النص أو المتن اللساني المدون نفسه سيكون مؤلفاً من طبقات تلغي الكينونة
الخطية ويجري إنتاجها من خلال الأيقونات لتشكل نمواً وتفرعاً عرضياً للنص، مما
يجعله في حالة تحول وتغير ويقبل أن نبدأ قراءته من مواضع مختلفة جداً. فالقصيدة
الرقمية التفاعلية ليست نصاً لسانياً أضيفت له لوحات فنية وأرفق بموسيقى عالمية
أو محلية، وإنما هي نص معقد من كل هذه المكونات بوصفها متوناً متجاورة وتحظى
بالأهمية نفسها، ولم يعد النص اللساني سوى عنصر تكويني واحد من عناصر أخرى.
ويتطلب هذا النوع الصعب من الأداء، المفضي إلى إحداث تأثير جمالي وفكري متميز،
ذائقة جمالية مختلفة, وهو يستفيد من التكنولوجيا ويدمجها في صلب عملية الإنشاء
والتلقي، دون أن يغيب عنه الهدف الجمالي في نهاية المطاف. وتتسم موارد التأثير
هذه بالتنوع في مداخلها إلى النفس، لأنها تتلقى النص من خلال حاستي البصر
والسمع، وليس البصر فقط، فضلاً عن الحركات الحسية لليدين أثناء إسهام المتلقي
في عملية إنشاء النص، فضلاً عن سعة ممكناته التأويلية، والخصوبة والجدة اللتين
تتحققان في لحظة التفاعل والمشاركة في توجيه بناء النص وإدخال تغييرات جوهرية
في شكله ومحتواه. وهي لحظة تتجاوز كثيراً طرائق التلقي السابقة، مما يسوغ إطلاق
صفة التفاعلية على هذا النمط من القصائد(2). والحقيقة أن
خصائص النص الشعري التقليدية التي عصفت بها القصيدة التفاعلية، وغيرتها على نحو
جوهري، تتوزع كالآتي:
-
1-
وحدة مادة النص وثباتها: إن وحدة مادة النص سمة قارة في النصوص الأدبية
كافة، بصرف النظر عن الجنس الأدبي الذي تنتسب إليه. وأعني بوحدة النص أننا
يمكن أن نقرأ نقدياً قصيدة "أنشودة المطر" للسياب، مثلاً، وأن نتدارسها
وتظل القصيدة مرقومة بعدد محدد من الكلمات والجمل والعبارات الشعرية. وقد
رسمت أو طبعت على نحو يراعي خصائص شعر التفعيلة، وفيها صياغات لسانية شاخصة
لها طابع موضوعي. ويمكن لنا أن نصف ما فيها من وزن أو أوزان شعرية وما
تنطوي عليه من مظاهر بلاغية وأسلوبية وصور شعرية, وأن نحصي ذلك بدقة وشمول،
فلا يعود بالإمكان أن يضاف إلى ما أحصيناه شيء. وهذا ما يمثل المظهر
الموضوعي للنص الأدبي، لأنه مكتمل وذو وجود فيزيائي محسوس. وترتبط وحدة
مادة النص اللسانية بالحفظ الشفاهي من جهة، وبالتدوين الكتابي التقليدي من
جهة أخرى. ولعل مسألة الانتحال في الشعر الجاهلي قد استندت أساساً إلى فكرة
القدرة الخارقة على حفظ النصوص، كما هي، وبدون أي تغيير، شفاهياً، لأن
الشعر الجاهلي لم يدون. ونعتقد بأن القرآن الكريم وحده هو ما حافظ على
صورته ومادته اللغوية دون تغيير أو تحوير أو زيادة أو نقصان. أما ما سوى
القرآن الكريم فهو كله عرضة لشتى أنماط التغيير في الرواية. ويمكن لنا أن
نستثمر هذا المعيار، مثلاً، عند قراءة رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"
للطيب صالح، وقصة "تاج لطيبوثة" لمحمد خضير، وقصيدة "المقصورة" للجواهري،
ونص مسرحية "هاملت" لشكسبير، أو أي نص آخر. فنقول بوحدة هذه النصوص
وثباتها. والمتغير الوحيد في هذه الحالة هو القراءة والتأويل. لكن القراءة
والتأويل من مسؤولية القارئ، وهما يمثلان احتمالية مفتوحة لعدد لا نهائي من
القراءات والتأويلات، من الناحية النظرية في الأقل. وتطيح القصيدة
التفاعلية بهذا المبدأ لأنها تقوم على أساس إمكان زيادة حجم المتن اللساني
أو نقصانه أو تحويره. والأهم من هذا أن المتلقي مدعو بصدق إلى الإسهام
بفاعلية في مثل هذه التحويلات على النص الأصلي. أما ثبات مادة النص، وأعني
به أن النص التقليدي يتخذ سمة الثبات حين ينتهي منه المؤلف، ولا يعود
بالإمكان أن نضيف إليه شيئاً أو نحذف منه شيئاً. وحين يضيف أحدنا شيئاً إلى
النص أو يحذف منه، فإن عمله هذا يعد تحريفاً للنص قد يتطلب الإدانة،
لارتباط شكل النص بإرادة المؤلف التاريخي الذي منح النص هذا الشكل لغاية
معينة ترتبط بوحدة الرؤية التي يتبناها المؤلف. وحتى حين يعمد مؤلف النص
نفسه إلى إعادة كتابة نصه مرة أخرى فإن ذلك سيؤدي إلى إنتاج نص مختلف وجديد
تماماً. فالنص الشعري التقليدي لا ينمو ولا يتحول، لأنه صيغة ثابتة
ومستقرة. وحين أعاد أدونيس كتابة بعض قصائده واصفاً ذلك بأنه "صياغة
نهائية" فإنه قد أنتج، في الواقع، نصوصاً جديدة، لأن أي تغيير أو زيادة في
المبنى تؤدي لا محالة إلى تغيير في المعنى. إذن فقد صار لدينا لكل نص أعيدت
كتابته من نصوص أدونيس نصاً رديفاً له، أو متناصاً معه. ويمكن في النظرية
الأدبية أن يتناص الكاتب والشاعر مع نفسه(2). ويمكن لنا أن
نستثمر هذه الخصيصة عند قراءة رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح،
وقصة "تاج لطيبوثة" لمحمد خضير، وقصيدة "المقصورة" للجواهري، ونص مسرحية
"هاملت" لشكسبير، أو أي نص آخر. فنقول بوحدة مادة هذه النصوص. والمتغير
الوحيد في هذه الحالة هو القراءة والتأويل. لكن القراءة والتأويل من
مسؤولية القارئ، وهما يمثلان احتمالية مفتوحة لعدد لا نهائي من القراءات
والتأويلات، من الناحية النظرية في الأقل. أما القصيدة التفاعلية فإنها
تحرض القارئ على أن يتدخل المتلقي في النص في حالتين: الأولى إذا كانت
القصيدة التفاعلية مبثوثة على الانترنت ضمن برنامج يقبل دخول المتصفح/
المشاهد عليه وإجراء ما يراه من تغيير. والثانية أن تكون القصيدة التفاعلية
مرقومة في قرص
CD،
وفي هذه الحالة يكون بإمكان المشاهد أن يغير في النص من خلال عملية
الانتقاء والتوجيه لمسار التلقي ومن خلال إحداث نوع من النمو الكمي عبر
التكرار، ويسمح البرنامج المستعمل في رقمنة النص للمتلقي أن يضيف للنص ما
يراه من تحوير أو زيادة.
-
2-
وحدة الرؤى في النص: فإذا كان النص الأدبي ينتج رؤى محددة للعالم لها صلة
على نحو ما بالرؤية الاجتماعية وبقصدية المؤلف وموقعه الطبقي، كما يقول
لوكاتش، فإن الرؤية التي يمكن أن نجدها في قصيدة أبي العلاء المعري:
"غيرُ مجد ٍ في ملتي واعتقادي نوح ُ باك ٍ ولا ترنمُ شادي"
قد تتغير في عملية القراءة ثم التأويل، ولكن هذا التغيير لن يكون إلا على نحو
محدود؛ فلا يمكن الزعم، مثلاً، أن هذه القصيدة تطرح رؤية مبتهجة بالوجود، أو
أنها تمتدح أميراً ما، أو أنها تتغزل بامرأة. وحتى إذا ما زعم أحد أن هذا ممكن
فإن ذلك يقع في باب التأويل للنص وليس في باب قصدية النص أو المؤلف. ولسوف يطاح
بهذه الخصيصة في حال تعدد المؤلفين، وكذلك في حال تمكن القارئ/ المشاهد من أن
يتدخل في إنشاء النص وتوجيه صيرورته أثناء القراءة أو الإضافة إلى متنه اللساني
أو الصوري المصاحب. وهذا مما يحدث في القصيدة التفاعلية.
-
3-
تتميز النصوص الشعرية التقليدية بكونها مبنية من المادة اللسانية فحسب: وقد
يعمد الشاعر نفسه أو أحد الناشرين إلى إرفاق المادة اللسانية برسوم أو صور
أو أشكال معينة، وهي إضافة تسمى في النقد الحديث بـ"النص الموازي". وهذه
الرسوم والأشكال ثابتة وغير قابلة للتغير. وهنا نلاحظ اقتصار النص الموازي
على مادة بصرية غير لسانية فحسب. ونلاحظ أيضاً أن ذلك لن يؤدي إلى التقليل
من قيمة المادة اللسانية التي تحتفظ بأهميتها وهيمنتها على بقية مكونات
النص البصرية. أما في القصيدة التفاعلية فإن المادة اللسانية ليست سوى مكون
من جملة من المكونات البصرية والسمعية المتنوعة، مما ينهي، أو يقلص، إلى حد
بعيد، هيمنة المادة اللسانية على بقية المكونات.
-
4-
يمثل الورق الوسيط الأساس في تلقي النص الشعري التقليدي: وقد نقرأ النص
الشعري مدوناً في الحاسوب. لكن الوسيط الأصل هو الورق. وبهذا يمكن أن نقول
إن النص الشعري التقليدي يقبل أن يحول من الورق إلى الحاسوب أو من الحاسوب
إلى الورق. أما القصيدة التفاعلية فإنها تولد على شاشة الحاسوب وتعيش هناك،
وهي غير قابلة للنقل إلى الورق على الإطلاق، إلا على سبيل المجاز، من خلال
وصف مكوناتها باستعمال اللغة، مما يختزل هذه المكونات الأساسية ويغيرها على
نحو جوهري.
-
5-
السمة الأجناسية للنص الأدبي: فالقصة أو الرواية تتميز بسمات فنية أدائية
محددة تختلف كلياً عن سمات الشعر وعن سمات النص المسرحي، مشتقة من الخصائص
الخمس أعلاه. ولعلنا قد أثبتنا أن الوصف الدقيق للقصيدة التفاعلية يظهر
أنها نص مختلف على نحو جوهري عن جنس الشعر من حيث الخصائص، ويتجاوز مفهوم
جامع النص
architext
إلى مفهوم أوسع وأكثر شمولاً حتى من مفهوم جامع الأجناس الأدبية
archigenre؛
لأنه نوع من جامع الفنون والآداب
archiarts،
فهو مفهوم مفتوح يشمل الأنواع الأدبية والسينما والأنواع الفنية كافة.
-
6- والحقيقة أن عملية
التلقي للقصيدة الرقمية التفاعلية تختلف عن عملية تلقي القصيدة التقليدية،
فنحن نتحدث عن عملية مشاهدة للقصيدة الرقمية التفاعلية بإزاء عملية القراءة
أو الإصغاء للقصيدة التقليدية. وأثناء المشاهدة، قد يحدث انقطاع أو توقف في
تلقي أحد المتون، مثل المتن اللساني، ثم يجري استئناف المتن اللساني، ولكن
ليس من نقطة التوقف نفسها. والفرق كبير بين أن نشاهد متوناً لسانية وصورية
وموسيقية ويكون متاحاً لنا أن نوجهها وأن نؤثر في تشكلها أو أن نضيف إليها،
وبين أن نقرأ نصاً مطبوعاً أو نصغي للشاعر أو سواه وهو يلقي النص. وسوف
يتعين على النقد الأدبي الذي يقرأ، أو لنقلْ: يشاهد القصيدة التفاعلية، أن
يتعامل مع جملة من الفنون المرئية والسمعية، وأن يستثمر الأدوات والممكنات
في الحاسوب وفي شبكة الانترنت على نحو متكامل.
تمثل الخطاطة رقم (1) الاختلاف البنيوي للقصيدة الرقمية التفاعلية عن
القصيدة التقليدية، مع ملاحظة أن مصطلح "القصيدة التقليدية" يعني هنا قصيدة
الشطرين وقصيدة التفعيلة معاً:
أما الخطاطة رقم (2) فتمثل القصيدة الرقمية التفاعلية وبنيتها المعقدة والمكونة
من متون مختلفة في طبيعتها، ومن طبقات وتشعبات عنكبوتية مختلفة لكونها قصيدة
متداخلة في مكوناتها، ومتعامدة ومتناسجة في طبقاتها.
واستناداً إلى كل
ذلك، يهمنا هنا أن نعلن الحاجة إلى قيام نقد تفاعلي يستثمر إمكانات الحاسوب من
جهة، ويتمكن من التعامل مع مكونات القصيدة التفاعلية البصرية والسمعية والتقنية
كافة بكفاءة وبأدوات مناسبة تتلاءم مع طبيعة تلك المكونات من جهة أخرى.
والحقيقة أن القصيدة الرقمية أو التفاعلية تتميز بأنها تغير الخصائص الفنية
للقصيدة الشعرية التقليدية على نحو جوهري، وتقدم عدداً أكبر لاحتمالات النقد
والتأويل اللذين يجب أن يقترنا بكشف يبين اللحظة الزمنية التي تحدد الدقيقة
والساعة واليوم الذي جرت فيه قراءة النص فضلاً عن مسار القراءة وخطتها التي
سلكها الناقد أثناء القراءة، لأن النص التفاعلي موضوع النقد قد يختلف ويجري
عليه تغيير كبير بعد حين، بما يدخله عليه المؤلف الأول أو المؤلفون اللاحقون أو
القراء. هذا فضلاً عن كون القصيدة الرقمية التفاعلية تمتلك سمة إضافية هي أنها
تتعامل مع وسيط مختلف تماماً هو الحاسوب وشبكة الانترنت وتسمح بمسارات مختلفة
للقراءة. وكل من هذه الخصائص يمنح القصيدة الرقمية سمة الاحتمال لا القطع في
التشكل والنمو والتغير في كل حين.
الهوامش والإشارات:
(1)
كان مفهوم الأبعاد الأربعة، ويتضمن الأبعاد الثلاثية للزمان (الطول والعرض
والعمق) زائداً الزمن بوصفه بعداً رابعاً، أحد أهم النتائج التي حققها الفكر
الفلسفي المعاصر. والمفهوم بالإنجليزية هو
spatiotemporal.
والجمع بين الأبعاد المكانية الثلاثة مع البعد الزمني هو أحد المظاهر الفنية
الحداثية التي تتجاوز حركة الحداثة التي أنتجته، ليغدو إنجازاً إنسانياً مهماً
وثابتاً. وهو تستثمره حركات ما بعد الحداثة. للمزيد حول الدلالة الفلسفية لهذا
المصطلح، أنظر:
Robert Audi (general editor) (1999) The Cambridge Dictionary of
Philosophy, 2nd edn. Cambridge University Press. Cambridge
an New York. Item spatiotemporal Continuity. P 867.
(2)
تغري ممارسة أدونيس في هذا المجال بإجراء دراسة معمقة تظهر مدى صحة فرضية أن
إعادة كتابة النصوص قد تسببت بوجود نصين لا نص واحد.
|