العدد السابع - ربيع 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

قال قلبي للإله
(في مئوية الشابي مغنّي الحياة.. ومدوّن أوجاعها)
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات) 

د. حاتم الصكر
ناقد وأكاديمي من العراق

أولاً: مدخل

 1- 1

 تلتمّ حول الشابي في مئويته أقلام شتى  قادمة من جغرافيات متباعدة، ومشارب نقدية وأدبية وشعرية متباينة، وثقافات متفاوتة. لكن الشابي من أكثر الشعراء استحقاقاً لتلك القراءات القادمة من شتات، لأنه لمَّ بوجوده الشعري، وفي وقت مبكر، شتاتاً ثقافياً كان يسِمُ الحياة العربية، فصار رمزاً للصلة بين  المشرق والمغرب، والتجديد والتطور، والتراث والمعاصرة، والكفاح ضد الاستعمار وتمجيد الحياة وجمالها، وكذا المواءمة بين الرومانسية بتجلياتها الإنسانية والفنية والدعوة إلى القوة والعزم والعيش في قلب الحياة لا على هامشها أو في زواياها وحواشيها.

1-2

هكذا كان الشابي جسراً ثقافياً بين المغرب والمشرق، يمتلك امتداداً متعدد الجوانب: في الزمان لأنه جاء في مطالع نهضة أدبية وشعرية حاسمة، ومرحلة من البحث عن طرق جديدة في الفن والحياة، وفي المكان لأنه ألغى تلك المسافات التي باعدت بين المشرق والمغرب ثقافياً واجتماعياً، وفي الفن حيث كانت أشعاره لوحات تجسد المنحى الرومانسي الذي انتشرت ظلاله في أدب العالم وفنونه المختلفة بعد صدمة الحرب الكونية الأولى وبشاعة آثارها المدمرة على البشر والطبيعة والحضارة الإنسانية.

وقد توفرت له أدوات أسلوبية تترجم إحساسه وانتصاره للحياة التي غنى بها ومجّدها. ومن أبرز تلك الأدوات: سهولة المفردات والتراكيب، وقصر الجمل الشعرية، وتوخي الموسيقى الهادئة والإيقاعات الأليفة وتنويع القوافي والأشطر الشعرية تحديثا وملاءمة لإيقاع عصر النهضة الأدبية الشاملة التي عاصرها وأسهم فيها بجهده الشعري والفكري.

 1-3

وقد كان الشابي واضحاً وواعياً لمهمة الشاعر المجدد. فإذ أعلن ثورته في "الخيال الشعري عند العرب" على تقديس الماضي والعيش فيه أسرى تكراره نموذجاً، فإنه أوضح ما يمكن أن يساء فيه فهم مقصده، فقال في مناسبة لاحقة:

 "إذا كنت أدعو إلى التجديد وأعمل له فإن ذلك لا يدفعني إلى الهزء والسخرية من آداب الأجداد، بل إنني لأؤمن كل الإيمان بما فيها من جمال فني وسحر قوي، وأعتقد أنها قد آتت في عصورها الحية لأجدادنا كل ما طمحت إليه أشواقهم من غذاء معنوي دسم. ولكني أومن إلى جانب ذلك أن في الحياة آفاقاً مجهولة ساحرة غير ما في الأدب العربي من آفاق، وأن هذا الأدب إذا كان قد سدَّ خلة آبائنا الروحية فإنه لعاجز كل العجز عن أن يشبع ما في أرواحنا من جوع وعطش وطموح...".

ولم يكن الشابي في هذا المقتبس إلا متوازن النظر ممنهج الفكر، فهو يقر بمنجز العرب الأدبي وتلبيته لحاجتهم الروحية والجمالية  في ظرف إنتاجه وسياقه، لكنه لا يجد الارتهان به واحتذاءه نافعا  لنا وملبيا لحاجاتنا الروحية؛ ولعل ذلك كان دافعه لتبني أفكاره حول الخيال والدعوة إليها في محاضرته -ثم كتابه- حول الخيال الشعري عند العرب.

لقد عرض الشابي ما يتصل بالخيال الشعري في دراسته تلك بمنهج رصين متسلسل الخطوات واضح الترابط، يدهشنا أنه صادر عن فتى في حوالي العشرين من عمره، فيتحدث عن الخيال وضرورته لدى الإنسان وأنواعه، ثم يعرض للخيال الشعري الذي يفرقه عن "الخيال الصناعي" أو المجازي المصنوع بالبلاغة والتزويق، بل ما يصفه في رده على أحد منتقدي محاضرته بأنه "خيال الإحساس والشعور والاندماج في الأشياء اندماجاً فنياً، تلتقي فيه الروح الفنية والفلسفية، ونفهم منه نفسية الأمة، ويتفهم الإنسان من ورائه أسرار وخفايا الوجود"، ليصل من بعد إلى لبّ أطروحته الملخَّصة بأن الخيال الشعري العربي ليس له حظ ولا نصيب في ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره، لأنه خيال مادي لا يتجاوز الظواهر الملازمة لحياة العربي في الصحراء. وأراد الشابي إثبات ذلك عن طريق فحص موقف العربي من الأساطير والطبيعة والمرأة والقصة.

1-4

وهو لا يجد تعارضاً بين التجديد والإعجاب بالأدب القديم، فيقول: "إذا كان لزاماً علينا أن نعجب بهذا الأدب ونفخر به... فإن ذلك الإعجاب لا ينبغي أن ينقلب في نفوسنا إلى تقديس فعبادة فجمود فإطباق لأبصارنا عن كل ما في السماء من أشعة ونجوم...".

ذلك التوازن المفقود بحث عنه الشابي في الحياة أيضاً، فوجد بَوناً بين ما يضمر من أحلام وما يأمل من آمال، وبين ما هو عليه في الواقع وما يواجه اندفاعه ذاك من صعوبات وعوائق.

وقد وجدتُ شواهد نصية كثيرة تمنحها قراءة الشابي نقدياً، ولكنني توقفت عند نص قصير يقع في آخر ديوانه اليتيم "أغاني الحياة" وهي قصيدة "قال قلبي للإله" التي سأورد نصها ثم أقف عندها محللاً.

 

ثانياً: النص:

              في جبال الهموم أنبتَّ أغصاني            فَرقَّّتْ بين الصخور بجَهدِ

               وتغشّانيَ الضبابُ.. فأورقتُ              وأزهرتُ للعواصفِ، وحدي

               وتمايلتُ في الظلام، وعطّرتُ             فضاءَ الأسى بأنفاسِ وردي

               وبمجدِ الحياةِ، والشوقِ غنيتُ             فلم تفهم الأعاصيرُ قصدي

              ورمت للوهاد أفناني الخضرَ              وظلت في الثلج تحفر لحدي

    ومضت بالشذى فقلتُ: ستبني          في مروج السماء بالعطر مجدي   

             وتغزلتُ بالربيع وبالفجرِ                فماذا ستفعل الريح ُ بعدي؟

 

 

 

ثالثاً: التحليل:

3- العنوان

3- 1

يقع النص بأبياته السبعة موقعاً مجهولاً في سياق نصوص الشابي، لأنه بلا تاريخ، على غير عادة الشاعر، مما يتيح للقراءة أن تضعه في سياق حر بين قصائده التي كتبها على مدى ما أتيح له من حياة شحيحة السنوات، ويمنح القراءة فرصة التجول الحر في ثنايا أسلوب القصيدة ومراميها، دون ربطها بسياق من أي نوع: صغيراً كان يتعلق بما حولها، أم كبيراً يتصل بموقعها بين مراحل تطور وعي الشابي الشعري.

  3-1-1

سنتلقف الإشارات التي تبعثها المفردات والصور والتراكيب والإيقاعات والدلالات دون تحجيم، ولا نخضعها لفترة  أو مرحلة وسمت شعر الشاعر بميزة ما، أو نفهرسها ضمن ملمح فني ما  كما فعل محمد لطفي اليوسفي في مقدمة مختاراته للشابي،  فبوّب القصائد في ثلاثة أقسام: الأول لقصائد عدَّها نصوصاً/ بيانات تعلن مفهوم الشابي للكتابة الشعرية، وقسم ثان لقصائد منشقة ومختلفة مع القديم مشارفة لمغامرة التجديد، وقسم ثالث لقصائد وجد فيها تسللاً لرؤى القديم وحضوراً انتقامياً للتراث (في تجربة انشقاقية عليه)، هذا التسييق (اختراع سياقات للنصوص) أو تتريخها (وضعها في سياق تتابعي احتكاما لزمن كتابتها)، أو تغريضها (فهرستها بحسب أغراضها) لن ينال تحليلنا بحكم دوران النص موقعياً بحرية ترتبت على إفلاته من ذكر تاريخ كتابته.

 3-1-2

يحتل العنوان مكاناً مركزياً في قصائد الشابي يجعله بالمقارنة مع مجايليه متفوقاً في تصميم عناوين نصوصه بتنوع لافت وتخطٍّ للتقليدية التي بنى بموجبها شعراء النهضة عناوين نصوصهم ولم يبالوا بدورها كعتبات نصية وموجهات قراءة وجزء من جماليات النص نفسه.

كان الشابي مجدداً في اختراع مسميات قصائده، منساقاً في الآن نفسه لأغراض شعره يعلن عنها ويكشفها بالعنوان، كقصائده المنبني عنوانها على نسق النداء (يا ابن أمي، يا رفيقي، يا حماة الدين، أيها الليل، أيها الحب...) وبعضها بنسق الإضافة (نشيد الأسى، أغاني التائه، رثاء فجر، متاعب العظمة...) وبعضها بالوصف (الرواية الغريبة، النبي المجهول، الصباح الجديد، الأشواق التائهة...)، فيما يجترح بعضها مسميات جديدة بالجار والمجرور (إلى عازف أعمى، إلى الشعب، إلى طغاة العالم، إلى قلبي التائه، من أغاني الرعاة، من حديث الشيوخ، في الظلام، في سكون الليل...) وسواها، مما يدعو لدراسة منفصلة تستقرئ العنوان وتشكلاته ومدلولاته في شعر الشابي، لكننا نشير إلى حصة الطبيعة والعاطفة في تلك العناوين وتراكمها بشكل لافت، كمؤشر إلى تأثره بالرومانسية كحاضنة شعرية وفكرية.

  3-2

ومن هذا ننطلق لمعاينة عنوان النص الذي عكفنا على تحليله: "قال قلبي للإله"، فهو يقدم القول عبر الفعل الماضي (قال) مؤكدا الطابع الحواري كمظهر سردي في القصيدة العربية الحديثة، ويتلوه بالفاعل (قلب) الذي يضيفه إلى ضمير المتكلم لقربه منه وتعبيره عنه، والحكي بلسانه. فلئن اختار الشاعر قلبه راويا ينوب عنه، ويجري وجهة نظره من خلال رؤيته، وبعودة الكلام إليه، فإنه يتخفى وراء موطن عاطفته/ قلبه، موسعا مهمته كما في المجازات الشعرية والاستخدام العامي، حين يسند للقلب العلم بالشيء ومعرفته والإحاطة به.

هي إذن أقوال قلب الشاعر مبثوثة كشكوى للإله الذي جاء في ختام جملة العنوان،  ليكون مستقبِلا للشكوى ومرسَلا إليه ينتظر المرسِل رد فعله واستجابته. لكن العنوان يدعونا -نحن القراء- كمروي لهم لنشاركه الإنصات لأقوال قلبه.

يخفي العنوان أيضاً بجانب السرد وتقديم القول بالماضي والفاعل ثم الجار والمجرور ما يمكن أن نعده ثنائية بين قلب الشاعر الضعيف والشاكي، والإله بقدرته وخلقه الكون وتعاليه.

  

4- الاستهلال

4- 1

 لا يكرر الشاعر فعل القول (قال) في أي من أبيات القصيدة، بل يبدأ نصه مباشرة بمقول قول القلب، مكتفياً بالعنوان/ النص الصغير، ومدمجاً جملته بالنص، فتكون القراءة تتابعية كالتالي:

قال قلبي للإله:  في جبال الهموم أنبتَّ أغصاني...

 والشاعر بصنيعه المقتصد والمجافي للتكرار (عدم إعادة فعل القول الماضي) يحقق بالعنوان وظيفة جمالية وتعبيرية في الآن نفسه.

 

4-2

سينبني الاستهلال إذن (في جبال الهموم) على أساس اندماجه تركيبياً ودلالياً بجملة العنوان، فيكون تفصيلاً لما قال قلب الشاعر للإله، مبتدئاً بالجار والمجرور (في جبال الهموم) متقدمين لأهميتهما بدل القول: "أنبتّ أغصاني في جبال الهموم"، فتكون بداية تقليدية تتابعية في التراتب الفعلي ومتعلقه المترتب على الخلق، والمعبَّر عنه تعبيراً زراعياً (أنبتَّ) وهو يتواشج والطبيعة التي فتن بها الشابي. فالولادة كفعل استنبات في أرضٍ ما تـمَّتْ بالنسبة للشاعر "في جبال الهموم"، محققاً بإسناد الهموم للجبال وإضافتها إليها استعارة عميقة الدلالة، فالهموم متكاثرة وثقيلة وصعبة كالجبال. والإنبات فيها ليس يسيراً كما يعرف الشابي وقراؤه.

واستبق الشابي الإنبات فجعله للأغصان لا للبذرة التي انشق وتفتق عنها، فاختصر البذار والنمو والنضج، وانتقل إلى الأغصان، ليتبعها فعل آخر هو التعايش بين الأغصان وما حولها، رغم أن ذلك قد تمَّ  بجهد وعناء، فصنع مفارقة بين رقة الأغصان وصلابة الصخور، وبين الولادة في جبال من الهموم ثم الإيراق برقّة رغم الصخور.

وهو جانب دلالي يسبق الشابي أجزاء نصه التالية ليعلنه كوجه من وجوه فكره الذي انشغل به، موائما بين قسوة الحياة والعيش فيها بإرادة وحب وأمل رغم ذلك. والملاحظ أن الفعل الوحيد المسند لتاء المخاطب هو فعل الاستهلال (أنبتّ) اعترافاً بالخالق وانبثاقاً عن خلقه له، بينما ستعود الأفعال الباقية كلها إلى ضمير السارد المتكلم (تاء المتكلم) = قلب الشاعر؛ فقد صار عليه بعد استنباته أن ينهض بحياته ويواجه مصاعبها وحيداً (البيت الثاني).

 

5- أنساق التركيب

5-1

تتحكم بنية الجملة الفعلية، وبركنها الأساس (الفعل الماضي)، بسياق النص، وتنعكس نسقياً في أبياته كلها. كما تهيمن جملة الفعل الماضي على التركيب  العام للنص أيضاً، مُلاءمَةً للسرد المتمحور حول الولادة في جبال من الهموم ومتابعةً للنشأة المعذّبة من بعد.

هناك عدة أفعال ماضية تتصدر الجمل لتنقل الحدث (حدث الولادة) إلى مراحل نامية  وتتعلق بزمن الحدث (الماضي) أيضا أفعال ماضية أخرى تترتب عليها كنتائج:

 

 - أنبتَّ أغصاني                               فرقَّت...

- تغشَّاني الضباب                             فأورقتُ.. وأزهرتُ..

- تمايلتُ            

   وعطّرتُ                                           فلم تفهم

    غنّيتُ

-          رمت                 

       و ظلت                                                   فقلتُ

        ومضت

      -تغزلتُ   

                                            فماذا ستفعل..؟   

  

5-2

 سيلاحظ القارئ تبدلاً طفيفاً في نسق بعض الأفعال، أي خروجها على نسق صيغة الماضي، ولكننا نقدم هنا تفسيراً يحافظ على زمنها ودلالاتها على الماضي. فالفعل المضارع "يفهم" انقلب ماضياً بدخول لم عليه "لم يفهم" فضلاً عن عطفه بالواو، مما أشركه دلالياً بحيز الفعل الماضي المعطوف عليه (وعطرتُ)، والفعل المضارع "تحفر" متحول دلالياً إلى الماضي في حيز الدلالة التي يولدها الفعل ظلت - تحفر، والفعل المضارع الدال على الاستقبال (ستبني) مرتبط كذلك بالحدث الماضي الذي يحدده الفعل السابق عليه (فقلت: ستبني). أما اختراق نسق الأفعال المسندة إلى ضمير المتكلم فإن تفسيرنا لوجودها نفصله هنا،  فالأفعال المسندة للأعاصير وإن تكن مسندة إليها بتاء التأنيث فهي عائدة إلى الراوي(القلب)، لأنها أوقعت الفعل عليه بثقله وبنيته معاً. فالأعاصير الجاهلة بمرماه ومقصده رمت أغصانه تلك (أفنانه) إلى هاويات الوهاد وحفرت لحده في الثلج. فكان ما فعلته الأعاصير تابعاً لفعل القلب نفسه ومتصلاً به.

الفعل الوحيد الواقع دلالياً وصرفياً في حيز المضارع حاضراً والممتد كسؤال مصيري إلى المستقبل هو "ستفعل" (في البيت السابع) المتجه إلى الريح التي ستهب بعد ذبول أغصان القلب، ولا تعود الريح تدري أين تتجه، وتلقي القلب والشاعر بالضرورة في عماء المجهول، كما جاءت بذرة وغصناً نابتاً في صخور جبال الهموم يتغشّاها الضباب، كناية عن جهل لغز الوجود أيضاً.

 

6- قاموس الطبيعة

 6-1

تدعو قراءتي لمعاينة المفردات المنتزعة من قاموس الشابي الأثير إلى نفسه: الطبيعة التي مجّدها شعراً ودعا إلى التنبه  لجمالها وعبقريتها نثراً وهو يتحدث في الخيال الشعري عند العرب،  وكذا في مذكراته عن مظاهرها وإهمال الناس لها، بل يخصص في مذكرات السبت 4 جانفي/ يناير 1930 صفحات للحديث عن عشقه للطبيعة وتردده في قطف وردة  ويرى أن ذلك جرم لن يقترفه.

 

6-2

سنجد أولا مماهاة نفسه بقلبه، ثم الوصول إلى الطبيعة -عبر ذلك- بتسلسل لافت نجرد له هذه الصورة:

  الشاعر > قلبه القائل > الإنبات والإزهار والإيراق > رمي الأعاصير لأغصان القلب...

 هكذا تسلسلت صلة الشاعر بالطبيعة وغدت غلافاً لنشأة قلبه التي هي نشأته أيضاً،  وهكذا تتبع نشأة قلبه عبر مراحل إنباتٍ ونموٍّ تمناها لنفسه فأسقطها على قلبه.

 

 6-3

ثم بعد تلك المماهاة استعار الشاعر مفردات الطبيعة وراكَمها في نصه، نجد منها: الأغصان والصخور والفضاء والعواصف والضباب  والفضاء والورد والأعاصير والظلام  والوهاد والأفنان والثلج والشذى والمروج والسماء والربيع والفجر والريح.

إن احتشاد تلك المفردات في سبعة أبيات لدليل على فتنة الشاعر بالطبيعة ودخولها كمشغّل أساس في رؤيته الشعرية وترميزه للخلق والتكوين والموت أيضاً.

ولنلاحظ أن الطبيعة ليست خيراً وجمالاً كلها في رمزية الشابي، بل هو يجعل منها رمزاً للشر والموت والخذلان (يُنظر ما أسند للأعاصير والثلج من أفعال كالدفن والجهل والقسوة).

 

7- الإيقاع

7-1

 تتميز إيقاعات قصائد الشابي في مختلف مراحلها بما عرف عنه من منهج شعري يقوم على بساطة المفردة وقربها من الفهم، واختيار البحور القصيرة أو مجزوءاتها، مع اختيار القوافي المقبولة وقعاً والخفيفة في صداها على القارئ، كما يغير -غالباً- قوافيه في شعره المقطعي، ولا يطيل قصائده، فيصنع بذلك كله إيقاعاً خاصاً به يعضده التكرار المتنوع عنده  (في بداية الأشطر الأولى أو الثانية أو في ثنايا الأبيات).

 

7-2

يختار الشابي البحر الخفيف لقصيدته هذه، مستثمراً طول التفعيلات (فاعلاتن، مستفعلن، فاعلاتن) وكثرة الحركات والسكنات، والطابع النثري للبحر وتواتر كتابة المراثي الشهيرة والشعر الفلسفي والتأملي به.

و يكثر في القصيدة  التدوير الذي لم نظهره في الكتابة الخطية هنا، وهو موجود في البيت الأول، إذ تجدر كتابته العروضية كالتالي:

في جبال الهموم أنبتُّ أغصا                   ني فرقت...

 

وكذلك يجب أن تدوّر الأبيات التالية:

وتغشاني الضباب... فأورق                     تُ وأزهرتُ...            

      وتمايلت في الظلام وعطر                     تُ فضاء الأسى...

وبمجد الحياة والشوق غني                     تُ فلم تفهم...

ورمت للوهاد أفناني الخض                   ر وظلت...    

      وتغزلت بالربيع وبالفج                      ر فماذا...؟

 

لا يستثنى من التدوير إذن إلا البيت قبل الأخير (السادس)، مما يسبغ على النص سمة الاسترسال، لعدم توفر الوقفة المتجانسة إيقاعياً (انتهاء الشطر وتمدد الكلمة للشطر الثاني)، ويؤجل موسيقاها ويفتت وقعها النغمي والنبرة العالية  التي يسببها التصادي والتموسق المطلوب في نظام الشطرين. فيناسب الاسترسال والتمدد ما في القصيدة من سرد تتابعي وتوالٍ للأفعال، وكذلك لاحتواء الفكرة المعبرة عن الحزن والحيرة مما لا يناسبه التقسيم المموسق والصاخب والضاج.

  

8- الدلالة

8-1

يعيش نص الشابي "قال قلبي للإله" على تطابق نظرة الشاعر المشوبة هنا بالخذلان والهوة المصنوعة بفعل التفاوت بين ما كان يرجوه وليداً وما قابله في الحياة، عبر ما يقصه قلبه من شكوى للإله، وما يستمده من حياة الشجرة من أمثولة مطابقة لحياته.

8-2

لكن المدى الدلالي للقصيدة كوني لا شخصي، وشكوى قلب الشاعر تعبر عن معاناة البشر كلهم في نموهم وحلمهم، ثم في تحدي الصعاب لهم وخذلانهم.

وتستفيد الدلالة لتتوضح وتَبين للقراءة من طول الجملة الشعرية -النحوية- فهي عبارة عن ركنين: خبري واستفهامي:

أنبتّ أغصاني في جبال الهموم فرقت... فلم تفهم الأعاصير. ورمت... فماذا ستفعل الريح بعدي؟

ونلاحظ أن جملة الاستفهام هي الوحيدة النافرة عن طبيعة الجمل الأخرى وهي خبرية فعلية كلها.

لقد أراد الشاعر أن يكون التساؤل نهاية مفتوحة للنص، كما هو نهاية للحياة ذاتها، الحياة التي نغادرها دون أن نفقه مغزاها ونهايتها وجدواها.

لقد اختزل الشاعر الموت بمفردة واحدة هو الظرف "بعدي"، رامياً مصير الكون على البعدية التي تظل مفتوحة عقب الموت.

تلك الثنائية الطويلة: الولادة بين الصخور والهموم، ثم السؤال عن المستقبل المجهول، هي أبرز ثيمات شعر الشابي التي تأكدت هنا.

 

8-3

لا يخفى طابع الشكوى إلى الله في النص وما يحمل من ضعف ورقّة. وهو من أبرز خطط البرنامج الشعري للشابي الموائم بين الرومانسية المهومة والحالمة والمفارقة للواقع، والقوة بحب الحياة والنفور من وضعها اللا إنساني في الوقت نفسه، فهي مشتهاة ومنتبذة، ومطلوبة ومكروهة، وضرورية وعابرة.

 

 9- موجهات قراءة أخرى

9-1

خطياً تحيلنا النقاط بين الكلمات إلى مواصلة القراءة ورصد التتابع الحدثي في النص، وكذلك القِطع المنتزعة (الحروف) من الكلمات لتعترض التنغيم والاحتفاء الزائد بالموسيقى، وهو ما هجره الشابي لصالح الفكرة والإيقاع العام للنص.

9-2

الخاتمة تقع في قلب الموجّهات المتأخرة أو المؤجلة،  فهي تطابق نهاية الحياة ذاتها، فتلك الشجرة التي يُشبّه القلب نفسه بها ولادةً ونمواً وذبولاً ربما كانت شجرة ورد بشذاها وعطرها (البيت السادس) فهي تفنى وتنتهي لكن يظل عطرها كما يظل من الشابي الفاني مثلا شعره.

 

9-3

السرد مفتاح مهم لهذا النص، كما في أغلب قصائد الشابي، لكنه سرد يقوم على التتابع والتجريد أحيانا لا على ملموسية حدثية أو تعيين. والسرد يسهم في  ترتيب أفعال النص نشأة ونمواً ومصيراً، فلا بد من مراعاة وجوده في النص عند إنجاز القراءة.

9-4

قِصَر القصيدة يناسب اختزال الحياة وقِصَرها؛ هنا يتنبأ الشابي بنهاية مبكرة لحياته القصيرة. واختياره سيرورة الشجرة (شجرة الورد) يعطي أمثولة على الخلود أيضاً، إذ يظل عطر الوردة (شذاها) بعد غيابها بالقطف والموت أو بالإخفاء والنسيان.

خطّياً تناظر الأبيات السبعة لخلق الشجرة/ القلب/ الشاعر الأيام السبعة التي خلق الله فيها الكون، كما تنص الكتب السماوية، لكن الاستراحة هنا كانت بالموت انتظاراً لما تفعله الريح/ الذكرى الباقية.

9-5

الوحدة مختارة كموقف رومانسي يكمل الافتتان بالطبيعة. والشاعر يذكر الوحدة في البيت الثاني وكأنها ملازمة للوجود، فيفخر بأنه (قلبه) الوردة أزهرت ووحدها في لجة العواصف.

 

9-6

الأسئلة التي تستدعيها القصيدة كونية في جوهرها ومرجعها، تختار المصير مركزاً للسؤال، والمعاناة سبباً للتساؤل، وما دامت قد بدأت بالخلق والتكون الصخري الشاق، فكان لا بد أن تلتفت إلى النهاية والمصير، وهما لا يقلان قسوة عن البداية، موجهة وجهها للخالق بحثا عن جواب.

 

رابعاً: خاتمة

تلك مرامٍ أخذتنا إليها قصيدة الشابي القصيرة بأبياتها السبعة دلالياً وإيقاعياً وبنائياً،  وتأويلاً منا، وهذا شأن النصوص المتميزة اللافتة، فهي تسحبنا باتجاه أبنيتها نحن وعدتنا القرائية وذخيرتنا وخبرتنا بالنوع الشعري وما ورثناه أو اكتسبتاه من عادات قراءة وطقوس تقبّل، فحدث أن عاينّاها أسلوبياً وتأويلياً، وحدث أن عاينّاها بسياقها النصي كإعلان عن استراتيجيات الشاعر ومقاصده الفكرية ورؤيته الشعرية.

وليس ذاك بكثير على نص الشابي؛ نص -كصاحبه- ذي حضور في قلب الحداثة ومن خلالها، وفي تداعياتها وعنف أسئلتها المعلنة أو المسكوت عنها في أغلب الأحيان...