العدد الثامن - صيف 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

غواية السّرد وغواية الشّعر!!
 
مشروع تساؤل (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. عبد الواسع الحمـيريّ

 

نحاول في هذه القراءة العجلى الإجابة على السّؤال: ما الذي به تكون أو تتحقّق الغواية في السّرد؟ وكيف تكون أو تتحقّق في النّصوص السّرديّة الحديثة؟ متضمّناً السّؤال: ما الذي يميّز الغواية في النّصوص السّرديّة الحديثة عنها في النّصوص الشّعريّة؟ وهو سؤال يتطلّب طرح سؤال آخر، هو: ما الذي يميز الخطاب السّرديّ عموما عن الخطاب الشّعريّ عموماً، على الأقلّ في أصل نشأتهما وتكوّنهما, أو بحسب دلالاتهما اللّغويّة والاصطلاحيّة, وليس بحسب ما آل إليه وضعهما اليوم, في زمن العولمة, وانهيار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبيّة, وصرنا نعجز في الكثير من الأحيان عن التّمييز بين ما يكتب على أنّه شعر, وما يكتب بوصفه سرداً قصصياً أو روائيّاً, إلاّ من خلال ما يضعه الكاتبون على أغلفة أعمالهم من عنوانات فرعيّة تشير إلى هويّة تلك النّصوص التي يكتبون؟ على أنّي بهذا السّؤال لا أودّ المقارنة بين الخطابين، السّرديّ والشّعريّ، من كلّ زاوية من زوايا الاختلاف بين هويّتيهما, بل من زاوية واحدة محدّدة تهيمن في كليهما, وتدمغ كليهما بميسمها دون الخطابات الأخرى, وأعني بها سمة الغواية  ولكي أوضّح ما أعني بهذه السّمة, أودّ القول: إنّ ما يميّزهما (خطاب الشّعر وخطاب السّرد) أنّ كليهما يعدّ -في الأصل- خطاب نفي وتخييل, وإن بقي علينا أن نسأل عن الأساس المنفيّ للتّخيّل في كليهما، وهو سؤال يمكننا صياغته على النّحو الآتي: ما الذي نستهدفه بفعل النّفي والتّغريب في كليهما؟ هل نستهدف تغريب الذّات؟! أم تغريب الواقع (شبكة العلاقات الاجتماعيّة أو التّاريخيّة؟ أم تغريب اللّغة؟ من أين تبدأ (أو تنطلق) علميّة النّفي والتّغريب؟ وكيف تتمّ أو تتحقّق؟ أو وفق أيّ الشّروط تتمّ هذه العمليّة أو تتحقّق؟ وفق شروط الذّات؟ أم وفق شروط الموضوع؟ أم وفق شروط الذّات والموضوع في آن معاً، أي: وفق شروط هي بمثابة مزيج مركّب من شروط الذّات والموضوع, في آنٍ معاً؟! وهنا يمكن القول: إنّ ما يسمّيه سارتر الأساس المنّفيّ للتّخيّل يختلف في الخطاب الشّعريّ عنه في الخطاب السّرديّ (الرّوائي تحديداً), باعتبار أنّ ما يستهدفه الشّاعر بفعل النّفي والتّحييد الشّعريّ هو لا شيء سوى ذاته, أو سوى وضعه السّوسيو- أنطولوجيّ (كفرد) في إطار الآخرين, أي في إطار شبكة العلاقات السّوسيو-أنطولوجيّة التي تربطه بالآخرين الآن-هنا لحظة كتابة القصيدة في حين يتمثّل ما يستهدفه الكاتب السّرديّ, بفعل النّفي والتّغريب, في العالم السّرديّ ذاته, بوصفه «عالم الواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ, وما وراءه نقول هذا انطلاقاً من أنّ المؤلّفين, بخاصّة السّردانيّين, كما يذهب إدوارد سعيد، «كائنون في تاريخ مجتمعاتهم, وهم يشكّلون ذلك التّاريخ, ويتشكّلون خلاله, وتتشكّل تجاربهم بوساطته»(1). لذلك رأينا نجيب محفوظ, على سبيل المثال, يكتب -حسب إدوارد سعيد- سرداً تمثيليّاً أعاد فيه صياغة المجتمع المصريّ, وقدّم رؤية تخيّليّة لمجتمع فريد في تنوّعه, وبخاصّة في الثّلاثيّة. ليس هذا فحسب, بل لقد رأينا نجيب محفوظ, نفسه, يقول, مؤكّداً هذه الحقيقة: «إنّ اللّحن الأساسيّ (الذي يعزفه الكاتب) ينبع من التّاريخ وما وراء التّاريخ, أو من المجتمع وما فوق المجتمع, حيث يندمج هذان المكوّنان المرجعيّان, في تجربة الكتابة السّرديّة, ليكوّنا -معاً- العالم الخاصّ بالرّوائيّ»  ليقول, في موضع آخر, مدافعاً عن تجربته وسلامة نهجه في الكتابة السّرديّة: «أنا عبّرت تعبيراً جيّداً  عن عالمي أنا بالذّات؛ لأنّ الواقع يجب أن يكون الملهم الأوّل للفنّ (السّرديّ) وإنّ وظيفة الفنّان هي التّعبير أوّلاً, والإيصال ثانياً, وأن يكتب من أجل مجتمعه, ومن أجل معاصريه أوّلاً, وأنّ عليه أن يحقّق ذلك كلّه مع المحافظة على مثله العليا الفنيّة». وبما يعني أنّ الأوّليّة في الخطاب الشّعريّ -خلافاً للخطاب السّرديّ- للـ»أنا», لا للـ»أنت» أو الـ»هو», أي للذّات لا للموضوع, للموجود لا لعالم الوجود. ولأنّ الأوّليّة, في الخطاب الشّعريّ, للذّات, لا للموضوع, فهذا يعني أنّ الذّات أو وضعها السّوسيو- أنطولوجيّ في إطار علاقتها بالآخرين (كذوات وكموضوعات) هو الأساس المنفيّ للتّخيّل في خطاب الشّعر. في حين أن الأوليّة في الخطاب السّرديّ للعالم السّرديّ وليس لذات السّارد, لعالم القول وليس لـ»أنا» القائل، التي تختلف مواقعها في خطاب السّرد عن موقعها في خطاب الشّعر, من حيث إنّها -في الخطاب السّرديّ- قد تحتلّ موقع الرّاوي الشّاهد, أو موقع الرّاوي المراقب لعالم ما يجري الآن/ هنا في الفضاء السّرديّ, وقد تحتلّ موقع الرّاوي المشارك في عالم ما يجري, وقد تحتلّ موقع الرّاوي المزدوج... إلخ. وبما أنّ الأوّليّة في الخطاب السّرديّ للعالم السّرديّ, وليس لذات السّارد, فهذا ما وسم الخطاب السّرديّ, عموماً, بسمتين بارزتين, هما: الموضوعيّة، والواقعيّة, أو الإيهام بهما, بالأحرى. في حين يوسم الخطاب الشّعريّ بالذّاتيّة ومفارقة الواقعيّة. وبما يعني أنّ الشّاعر ينفي ذاته أو وضعه السّوسيو- أنطولوجيّ في إطار الآخرين إن شئت, في عالم القصيدة أي أمّا السّارد فينفي عالم السّرد عموماً (متضمّناً نفي الوضع السّوسيو-أنطولوجيّ للسّارد وللمسرود له ولأجله, فضلاً عن موضوعات السّرد وقضاياه عموماً), ما يجعل بنية الرّواية أو بنية العمل السّرديّ بمثابة منفى للواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ الذي تنهض في فضائه. لذلك فنحن نعتقد أنّ العمل السّرديّ عموماً ليس موازياً للواقع, بل هو متحوّل عنه, وناهض من أنقاضه. في حين نعتقد أنّ القصيدة متحوّلة عن الذّات الشّاعرة, أو عن وضعها السّوسيو- أنطولوجيّ في العالم, أو هكذا يفترض. وهذا يقتضي أنّ القصيدة تجسّد, في الأصل, نظام التّداخل في الذّات (كروح وكجسد, أو كنظام وعي وإدراك). فالتّخارج منها صوب عالم الخارج. في حين يجسّد القول السّرديّ نظام التّخارج من الذّات صوب العالم, أو هكذا يفترض, وإلاّ صار إلى القول الشّعريّ أقرب منه إلى القول السّرديّ؛ ما يعني أنّنا نكون في الشّعر إزاء نظام مركّب من ثلاثة أنظمة رئيسة لشعرنة الّذات والعالم من خلالها, على الأقلّ: 1- ما نسمّيه بـ»نظام التّداخل» في الذّات. 2- وما نسمّيه بـ»نظام التّخارج» من الذّات.  3-وما نسمّيه بـ»نظام التّداخل في الذّات والتّخارج منها», في الوقت نفسه. والنّظامان الأوّلان جزئيّان أو أحاديّان, غير كلّيين أو غير مركّبين. أمّا النّظام الثّالث  فيعدّ نظاماً كلّياً مركّباً (تعدّديّاً). في حين يجسّد القول السّرديّ نظام التّخارج من الذّات, أو التّخلّي عن الذّاتيّة لصالح الموضوعيّة, أو لصالح الإيهام بها, بالأحرى. على أنّ هذا لا يعني عدم تداخل حدود الخطابين (الشّعريّ والسّرديّ) عموماً, وتحلّي كلّ منهما ببعض سمات الخطاب الآخر. بل بالعكس, فإنّ كلا الخطابين قد يكتسب أو يتحلّى ببعض صفات الآخر, على نحو يقرّب كلاًّ منهما من صاحبه بمقدار ما يتحلّى به من صفاته. لذلك فنحن هنا إنّما نريد من وراء هذه القراءة العجلى اكتشاف الأصل الذي يمثّل سرّ الخصوصيّة في كلّ, أو الذي يمثّل, بالأحرى, أساس ماهية كلّ منهما, وما به يختلف -في الأصل- عن صاحبه؛ ما به يختلف -في الأصل- خطاب الشّعر عن خطاب السّرد، والعكس. ولا نهدف إلى تشييد الحدود الفاصلة بينهما, بل معرفة ما به يأتلفان, وما به أو من خلاله يختلفان, وكيف يأتلفان حين يأتلفان، وكيف يختلفان حين يختلفان. وانطلاقاً ممّا سبق يمكن القول: إنّ ما يميّز فنّ السّرد الروائيّ أو القصصيّ عموماً عن باقي فنون القول عموماً, وفي مقدّمتها فنّ الشّعر, أنّ هذا الفنّ (فنّ القصّ أو السّرد) يعدّ بحقّ فنّ الإغواء والإغراء بامتياز. قد يقال: لكن كيف هذا؟ وهل له الأوّليّة في هذه المسألة على الشّعر؟! وهنا أودّ القول: إنّ هذا الفنّ ينطوي على طاقة هائلة من الإغواء والإغراء، وهي طاقة تتأتّى, في جملتها, من جهة أنّه ينطوي على الكثير من شروط ومقوّمات التّكلّم الواقعيّ؛ فهو ينطوي على أحداث ووقائع وشخصيّات تتلبّس ثوب الواقعيّة, فتتبدّى لنا للوهلة الأولى كما لو كانت أحداثاً وشخصيّاتٍ واقعيّةً فعلاً, كونها متحقّقة الحضور والفاعليّة في إطار زمكاني محدّد؛ غير أنّنا بمجرّد أن نحدّق فيها, ونصغي لكلامها, وننعم النّظر في شبكة العلاقات التي تنشأ بينها في النّص, نكتشف أنّ الأمر لم يكن كما توقّعنا, أو كما كنّا قد تصوّرنا, وأنّه لا يعدو أن يكون مجرّد خدعة فنيّة ليس إلاّ. إنّ فرادة هذا الفنّ وسرّ خصوصيّته إنّما يكمنان في أنّه ينطوي على الكثير من شروط الواقعيّة والموضوعيّة؛ ولكنّه, مع ذلك في الوقت ذاته, ينفي شروط الواقعيّة فيه بشروط فنيّة (خياليّة) دقيقة جدّاً قلّما يدركها القارئ غير البصير بألاعيب هذا الفنّ؛ ما يحتّم علينا الإشارة هنا إلى بعض تلك الألاعيب بوصفها أهمّ آليّات نفي الواقع نفياً جدليّاً بهدف إعادة بنائه. حيث يمكننا -على سبيل المثال- أن نلاحظ, على مستوى عنصر الزّمن, في العمل السّرديّ, أنّ زمن الوقائع (وهو ذو طبيعة تعدّديّة) هو الذي يستدعي زمن السّرد (وهو ذو طبيعة أحاديّة), ليمارس لعبة الإيهام بتعدّديته وواقعيته., حيث يستخدم الرّاوي (الكاتب) على سبيل المثال, من أجل خلق هذا الإيهام, لعبة الرّجوع بالقصّ إلى الوراء, وذلك بواسطة التّذكّر أو التّداعيّ أو الحلم, أو التّوقّف ليأتي صوت آخر ويأخذ دوره في سرد الكلام, أو بتعديد الرّواة كأنّ هذا الوراء هو الزّمن الماضي, وكأنّ القصّ هو زمن حاضر يعود منه الرّاوي إلى هذا الماضي، وبهذا يوهم زمن القصّ المتخيّل بزمنين: ماض، وحاضر. وفي حركة الرّجوع إلى الوراء, في لعبة الإيهام هذه, يبدو الماضي كأنّه هو الواقعيّ, أي الموجود فعلاً بحدثيّته, وبذلك يوهم بحقيقته على هذا المستوى الثّاني. وهذا بخلاف ما يحدث في فنّ الشّعر، الذي يمتاز هو الآخر بالإغواء والإغراء, أو بأنّه, في الأصل, خطاب غواية, وليس خطاب هداية، على حدّ وصف الخطاب القرآنيّ للشّعراء, حين قال تعالى فيهم: {والشّعراء يتّبعهم الغاوون, ألم ترَ أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون, وأنّهم يقولون ما لا يفعلون}(2). حيث نلاحظ في خطاب هذه الآية، الذي وصف الشّعراء, في عمومهم، بالغواية, أنّه لم يصفهم بما وصف, ولم يقرّر في حقّهم ما قرّر, أو لم يخصّهم بما خصّ من وصف؛ إلاّ لأنّهم: 1- في كلّ عالم من عوالم الكلام أو في كلّ طريق من طرقه، المسلوكة وغير المسلوكة, يرحلون؛ لا بحثاً عن شيء ما محدّد, أو سعياً لتحقيق مقصديّة ما معيّنة, بل سعياً لتجاوز أوضاعهم السّوسيو-أنطولوجيّة التي يعانون في إطار كلّ ما هو مألوف وسائد من العوالم والموضوعات, أو ربمّا بحثاً عن أشياء تخصّهم وحدهم, متضمّناً القول عنهم: إنّهم يسيرون خارج خارطة المألوف والسّائد, لتحقيق مقاصد غير مألوفة ولا معروفة. 2- لذلك فهم يقولون -فقط- ما يخصّهم من العوالم والموضوعات, ويخصّصهم عن غيرهم, أي: ما به يكونون ذواتهم الفرديّة المفردة وهو ما يؤكّد أنّ الخطاب الشّعريّ محكوم بإرادة البحث عن الجديد المختلف من الأقوال الشّعريّة المعبّرة عن الجديد المختلف من أفعال الشّاعر وأوضاعه السّوسيوأنطولوجيّة.  وبهذا يكون الخطاب القرآنيّ قد أقرّ أو قل  قرّر حقيقة الشّعراء عموماً، وأنّهم بمثابة كائنات غير كائنة في زمكان محدّد بحثاً عن شيء ما محدّد, إنّهم كائنات راحلة دوماً, باحثة دوماً, متجاوزة دوما. وأقرّ أو قرّر, من ثمّ, حقيقة الشّعر عموماً, وأنّه بمثابة قول بلا فعل, أو لنقل: إنّه بمثابة قول ينفصل فيه عن الفعل, ويتعالى عليه. وهذا يقتضي أنّ الآية قد تضمّنت الحكم على الخطاب الشّعريّ عموماً، بكونه, فضلا عمّا سبق: - خطاباً ذاتيّاً من جهة, كونه يقول الذّاتي لا الموضوعيّ, الخاصّ لا العام, ما يخصّ الذات ويخصّصها (وضع الذّات القائلة في عالم القول).  - انفعاليّاً عاطفيّاً, يحكمه أو يتحكّم فيه منطق الرّغبة والرّهبة, يعبّر عن مواقف انفعاليّة عاطفيّة, لا عن مواقف أيديولوجيّة, أو واقعيّة. - خياليّاً لا عقلانيّاً. - ديناميّاً تجاوزيّاً.  فهو -إذاً- خطاب غواية، وليس خطاب هداية. وهو خطاب غواية لأنّه يقول الخاصّ من العوالم, بطريقة خاصّة, أو لأنّه يسمّي الأشياء بغير أسمائها الحقيقيّة؛ ما يعني أنّه يسمّي المتعالي من الأوضاع والعوالم (بمعنى المفارق بذاته وصفاته) بطريقة متعالية (على طريقة التّسمية السّائدة)؛ فـ»الهيام» من: هام يهيم هيماً وهيماناً: أحبّ امرأةً حبّاً عظيماً حدّ الهيام، والهِيمُ «بالكسر»: الإبل العطاش الباحثة بلهفة عمّا يروي عطشها من الماء، والهُيّام «بالضّم والتّشديد»: العشّاق الموسوسون (الذين يردّدون أسماء محبوباتهم دون وعي منهم أو إرادة, أو الذين يلهجون بذكرهن في كلّ مكان وآن)، ورجل هائم وهيوم: متحيّر، والهُيام «بالضّم», كالجنون من العشق، وقلب مستهام: هائم، وليل أهيم: مظلم ولا نجوم فيه(3). وبما يؤكد أنّ من أخص خصائص عالم الشّعر أنّه عالم تحكمه أو تتحكّم فيه الرّغبة والرّهبة, الدّيناميّة والتّجاوز, الانفعاليّة واللاّعقلانيّة, الغموض والالتباس.  لذلك فنحن نعتقد أنّ ما يميّز الكينونة الشّعريّة عموماً, حسب التّعبير القرآنيّ في الآية الكريمة, أنّها كينونة غير واقعيّة: لا تعيش الواقع, على الأقلّ, كما هو في ذاته, وإنّما كما تحّسّ به هي, أو كما تشعر به وتعانيه أو تتخيّله (نقول: كما تعانيه, انطلاقاً من وعينا بأنّ الشّعراء لا يرضون عن واقع الحياة التي يحيون, ما يجعلهم في مواجهة دائمة معه, سعياً إلى تجاوزه, أو لتجاوز أوضاعهم الأنطولوجيّة في إطاره). ولأنها كينونة غير واقعيّة فهذا يقتضي أنّها غير كائنة في «زمكان» واقعيّ أو وقائعيّ محدّد, لذلك فهي كينونة ديناميّة متحوّلة دوما, متجاوزة دوماً, وأنّها, من ثمّ, غير عقلانيّة, وبالتّالي غير عمليّة, وأنها لذلك, أو بسببه, تقول ما لا تفعل, أي أنّ كلامها الشّعريّ عبارة عن كلام غير عمليّ, ومن ثمّ, غير أداتيّ أو وظيفيّ, ومن هنا كانت غوايته. وبهذا يتّضح أنّ ما يميّز غواية فنّ الشّعر عنها في فنّ القصّ أو السّرد أنهّا في فنّ الشّعر أوضح وأظهر, أمّا في فنّ السّرد أو القصّ فأخفى مسلكاً وأدقّ طريقةً, ولكنّها الأقوى فاعليّةً وتأثيراً. يتجلّى ذلك من جهة أنّنا بمجرّد أن نعلم أنّنا أمام شاعر ونصغي لخطاب شعريّ نكون قد أسلمنا أنفسنا لخيال الشّاعر، الذي نعرف سلفاً أنّه (خيال الشّاعر) المؤسّس الحقيقي لمنطق الشّعر, وشعرنا بالضّرورة, وفي الوقت نفسه, أنّنا أمام كلام مخيّل (كلام هراء على صعيد الواقع, أو لا يقول الحقيقة على الصّعيد العمليّ)، وأنّ حظّه من الواقعيّة أو العمليّة صفر, فإن قدّم لنا الشّاعر شيئاً ما ممّا نعتقد أنّ له صلةً بالواقع, فذلك يكون تفضّلاً منه وكرماً. وهذا بخلاف ما يكون عليه حالنا ونحن نتلقّى كلام السّارد (في نصّ القصّة أو الرّواية). لذلك يمكن القول: إنّ ما يميّز كلام القاصّ أو السّارد (في نصّ القصّة أو الرّواية) عن كلام الشّاعر (في نصّ القصيدة) أنّ الأوّل ينفي شروط الواقع الذي يستهدف بشروط (كليّة) واقعيّة وأخرى ممكنة, أي بشروط الواقع نفسه, وبشروط الفنّ السّرديّ, في الوقت نفسه, أو بشروط الواقع نفسه مخيّلاً. في حين أن الشّاعر ينفي شروط الواقع بشروط الفنّ, ولا شيء سوى هذه الشّروط. لذلك فنحن في القصيدة لا نجد, في الأصل, إلاّ خيال الشّاعر, وقد فعل فعله فيما نعتقد أنّه يمثّل عالم القصيدة, أو فيما يمثّل عالم قولها، تفكيكاً وتركيباً. أمّا في القصّة أو الرّواية (المعاصرة), فنجد الواقع وما يحقّق شرط تجاوزه, في آنٍ معاً, أعني أنّنا نجد الواقع والخيال متلازمين, أو قل: نجد الواقع الذي أنشئت في سياقه مخيّلاً. وهذا يقتضي أنّ كلام القصّة, وبخاصّة القصّة الحديثة، كلام مركّب من الواقع وما يعلي عليه أو يحقّق تجاوزه؛ إنّه كلام تعدّديّ, في الأصل, لانهائيّ, مراوغ؛ يسمّي ولا يسمّي, في آنٍ معاً, أو قل: يسمّي ويروغ في التّسمية, في الوقت عينه؛ إنّه يقول ولا يقول, في آنٍ معاً فهو يغريك -دوماً- بأنّه يقول الواقع؛ واقعك الخاصّ أنت, كما عرفته أو كما عانيته, أو ما تشعر أنّه يخصّك أنت وحدك دون سواك، فإذا ما أقنعك, وشعر أنّك قد صدّقت, وأسلمت نفسك لإغوائه وإغرائه, خذلَكَ, بمعنى: راغ عنك وراوغك: ترككَ وحيداً, حالك في ذلك حال من يبسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. أمّا كلام القصيدة, على الأقلّ في وعيها التّقليديّ (منشِئاً أم متلقّياً)، فأحاديّ, إفراديّ (غير تعدّديّ)، نهائيّ, يسمّي الأشياء بطريقة أحاديّة خياليّة أو متخيّلة. الشّاعر في الخطاب الشّعري يخرق ويخترق كلّ أنظمة القول أو الكلام، التّوجيهيّة والتّركيبية والدّلاليّة؛ حيث الشّعراء -كما يقول الخليل بن أحمد- أمراء الكلام، يصرّفونه أنّى شاؤوا. أمّا الكاتب السّرديّ فيخرق ويخترق كلّ أنظمة الحياة اليوميّة السّائدة في زمنه, أكانت اجتماعيّة, أم سياسيّة, أم اقتصاديّة, أم ثقافيّة... إلخ. الأوّل يخرق أنظمة القول, التّواصل, أنظمة التّبادل اللّغويّ الثّقافيّ. والثّاني يخرق كلّ أنظمة الفعل والتّفاعل (السّلوك) الاجتماعيّ بين أفراد المجموعات البشريّة. الشّاعر كائن كينونته في أفق التّحوّل والصيرورة. والسّرديّ كائن كونه الواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ. الأوّل يستهدف وضع الذّات في إطار المجتمع الذي ينتمي إليه, ويمثّل أحد أفراده. أمّا الثّاني فيستهدف وضع المجتمع برمّته, أو بالأحرى بعض أوضاعه السّوسيو- أنطولوجيّة المستفحلة، أو التي باتت مؤرّقة, من وجهة نظره, وتستدعي منه التّدخّل الجراحي بالتّحليل والنّقد

السّيرة الرّوائيّة والسّرد الرّوائيّ: سمير عبد الفتاح أنموذجاً

على أنّنا نودّ أن نميّز -أخيراً- بين نمطين من السّرد: نمط السّرد الرّوائيّ, ونمط السّيرة الرّوائيّة, بوصف هذا الأخير نوعاً من السّرد الذي يتداخل فيه «الرّوائي» بـ»الرّاوي», تداخلاً يجعل كلاً منهما شرط الآخر وضرورته, على نحو يصير خلاله الرّوائي مصدراً لتخيّلات الرّاوي, فالكيان الجسديّ والنّفسيّ والذّهنيّ للرّوائيّ يشرّح في السّيرة الرّوائيّة, ويعاد تركيبه, فالتّجربة الذّاتيّة تشحن بالتّخيّل. وتوفّر هذه الممارسات الإبداعيّة حريّة غير محدودة في تقليب التّجربة الشّخصيّة للرّوائيّ, وإعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها, وكلّ وجوهها, دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتّجربة, والانقطاع التّخيّلي عنها. وانطلاقاً من هذا التّمييز بين الرّواية والسّيرة الرّوائيّة يمكننا القول، على سبيل التّمثيل لا الحصر: إنّ ما يميّز النّصوص السّرديّة عند سمير عبد الفتاح, وبخاصّة في مجموعته الموسومة: «رجل القشّ لعبة الذّاكرة» إضافة إلى رواية «السّيد م» أنّه تمثّل ضرباً من السّيرة الرّوائيّة؛ كونها تجسّد, في مجملها, حالة التّّصدّع الكيانيّ للكائن (السّارد) وتشظّي كينونته السّرديّة إلى كيانين سرديّين داخليّين, على الأقلّ، أحدهما يحتلّ, في الفضاء السّرديّ, موقع الرّاوي أو السّارد الذي يتبنّى وجهة نظر المراقب كلّيّ النّظرة, كليّ المعرفة, العليم بكلّ دخائل المرويّ عنه والمرويّ له, في الوقت نفسه؛ وثانيهما يحتلّ موقع المرويّ له (أنت) والمرويّ عنه (هو) في الوقت عينه. لذلك نجد من سمات الخطاب السّردي في هذه المجموعة القصصيّة, أنّه يمثّل وصفاً داخليّاً (استبطانيّاً) لأحداث داخليّة استبطانيّة, تنهض بها أو تمارسها شخصيّات داخليّة هي بمثابة معادل رمزيّ لـ»أنوات» الكاتب (السّرديّ) المتشظّية في أفق الكتابة السّرديّة, ما يعني أنّه يجسّد حضور العالم الدّاخليّ بشخصيّاته, وهيمنة هذا العالم هيمنةً مطلقةً على عالم الوجود الخارجيّ (الاجتماعيّ أو التّاريخيّ) الذي يبدو غائباً أو شبه غائب عن عالم هذه المجموعة القصصيّة, ما يحيل الفعل السّرديّ الواصف, في هذه المجموعة, فعلاً يجسّد صراع الوجود (وجود الـ»أنا» الفرديّة المفردة) في الزّمن: زمن السّرد, في مواجهة حالة اللاّ وجود خارج الزّمن (خارج زمن السّرد)؛ بحثاً عن تحقّق ممكن للوجود في زمن الرّؤيا السّرديّة. أو لنقل: إنّه يمثّل نوعاً من صراع الحياة في مواجهة الموت, الوجود في مواجهة العدم (الخوف والفراغ)؛ بحثاً عن ولادة ممكنة في عالم الرّؤيا السّرديّة: الحلم، وبما يؤكّد أنّه صراع باعثه الأوّل: «همّ الوجود في الأبديّة» أو في عالم الرّؤيا السّرديّة: الحلم (التي تعدّ في الأصل رؤيا شعريّة أو مشعرنة), لا في عالم الواقع الاجتماعيّ أو التّاريخيّ. وغايته: «تحقيق الوجود -الآن/ هنا- في عالم الرّؤيا السّرديّة», وليس خارج هذا العالم. لذلك نجد تحوّل ميدان التّوتّر والصّراع في رؤيا هذه المجموعة؛ فبدل أن كان يمكن أن يكون صراعاً في الخارج، ميدانه علاقة الـ»أنا» بـ «الآخر», أو صراع الإنسان مع الإنسان, أو مع كائنات الكون أو الطّبيعة الخارجيّة (شبكة العلاقات الاجتماعيّة أو التاريخيّة)، صار صراعاً داخليّاً، ميدانه الإنسان في علاقته بذاته, أو بإمكانات وجوده الفرديّ في عالم الخيال (أو الذّاكرة) السّرديّة؛ أي بين الكائن (السّرديّ) وإمكانات كينونته السّرديّة الفرديّة المفردة, أي بين الـ»أنا» والـ»لا أنا», أو بين الـ»أنا» والـ»أنا الأخرى», بين «أنا» السّارد (بوصفها «أنا» الوعي أو الذّاكرة) و»أنا» المسرود عنه وله, في الوقت نفسه (بوصفها «أنا» اللاّوعي). ومن هنا فإنّ الفعل السّرديّ في هذه المجموعة لم يعد فعلاً همّه الأوّل تفكيك وضع الـ»أنا» في عالم الخارج الواقعيّ أو التّاريخيّ, لإعادة صياغته على نحو يحقّق للـ»أنا» تجاوزاً له, بقدر ما صار همّه الأساس تفجير الدّاخل الوجوديّ لإعادة خلقه وإيجاده على نحو يحقّق له الولادة والتّجدّد الدّائمين. ومن هنا نجد تصدّع الكينونة الدّاخلية للوحدة الإنسانيّة السّرديّة, وظهور الكيانات المتصارعة داخل الكائن السّارد الفرد نفسه. وهو أمر جسّدته في هذه المجموعة القصصيّة ظاهرة تداخل الأصوات المتصارعة, وتبادل مواقع السّرد في نصوصها كافّة. على أنّ اللاّفت في خطاب هذه المجموعة, أنّ الأحداث التي استهدفها السّارد عبارة عن أحداث داخليّة تشخّص حالة الوجود التي عليها المسرود عنه وله, وتمثّل, في الجملة, أفعال الشّعور أو التّأمّل (الانعكاسيّ) أو الاستبطان المتعمّق؛ استبطان الذّات واستبطان الأشياء التي تتأمّلها الذّات أو التي تقع في دائرة همّها واهتمامها, من نمط قوله: «لا تتذكّر متى بدأت تسمع صوت المدفع» (ص 8)  «حتى أنّك لم تفكّر بأيّ شيء. تتأمّل النّجوم الوهميّة التي تلمع اللّحظة, ومن ثمّ, تسقط لتخترق التّراب

-الوهميّ أيضاً- وتتلاشى، لا شيء في ذاكرتك سوى الفراغ (ص8). وهي أفعال من شأنها أن تعبّر, في جملتها, عن الحالة الدّاخليّة للمسرود له, وتنهض بوظيفة الإشارات الشّكليّة للوصف من وجهة نظر داخليّة صرف

 

 الهـــوامـــــــش:

 (1) الثقافة والامبريالية, ترجمة: كمال أبو ديب, دار الآداب، بيروت, 1997، ص66. (2) الشّعراء، 224. (3) مادة "هام" في القاموس المحيط.