مختارات
مختارات من شعر الشابي ومذكراته ونثره
()
-1-
قصائده
قال قلبي للإله
في جبال الهموم أنْبتَّ أغصاني فرقّتْ بين الصخور بجَهْدِ
وتَغَشَّانيَ الضبابُ، فأورقـــتُ وأزهرتُ للعواصف وحدي
وتمايلتُ في الظلام وعطّرتُ فضاء الأسى بأنفاس وردي
وبمجد الحياةِ والشوق غنَّّيْتُ، فلم تفهم الأعاصير قصدي
ورَمَتْ للوهاد أفنانيَ الخُضْرَ وظلّتْ في الثَّلج تحفر
لحدي
ومضتْ بالشذى فقلت: ستبني في مروج السماء
بالعِطْر مَجْدي
وتَغَزّلْتُ بالربيــع وبالفجر فماذا ستفعل
الريــــح بعدي؟
صلوات في هيكل الحب
عـذبــةٌ أنـــتِ كالطـفـولـةِ، كـالأحــلام
كـالـلّــحــن، كـالـصــبّــاح الجــديـد
كالسـمـاء الضـحـوك، كالليـلـة القـمْـراء،
كــالـــورد، كــابــتــسـام
الـولـيــد
يــــا لـهــا مــن وداعـــــةٍ وجــمـــال
وشــبــاب مُــنـَـعَّـــم أُمــْـلــــــود!
يـا لهـا مـن طهـارةٍ تبـعـثُ التقـديـــسَ
فـي مـهجـة الـشــقَـيِّ الـعنـيـد!
يــا لـهـا رقَّـــةً يكــادُ يـَـرفُّ الــوَرْدُ
مـنـهــا فـــي الـصّـخـرة الـجـلـمــود!
أيُّ شـيء تـُراكِ؟! هـل أنـتِ فينوـسُ
تـهــادتْ بـيـن الــورى مــن جــديــد
لِتُعـيـدَ الـشـبـابَ والـفــرح المـعـسـولَ
لـلْــعــالــم الــتـعـيـسِ الــعـمـيــد!؟
أم مـلاكُ الـفـردوس جــاء إلــى الأرض
ليُـحْيـي روحَ الـســلام الـعـهـيــد!؟
أنــتِ.. مــا أنـــتِ؟! أنت رســـمٌ جـمـيـلٌ
عـبـقـريٌ مــن فـــنِّ هــذا الـوجــود
فـيـكِ مــا فـيـه مــن غـمـوضٍ وعـمـقٍ
وجــمــالٍ مُــــقَـــدَّسٍ مـــعــبـــود
أنـتِ مـا أنـتِ؟! أنـتِ فجـرٌ مـن السحـر
تــجـــلّـــى لـقــلـبِــيَ الـمعـمــود
فــأراه الحـيـاةَ فــي مـونِــق الـحـسـن وجـــلّــى لـــه خــفـايــا الـخــلـود
أنـتِ روح الربيـع، تخـتـال فــي الدنـيـا
فــتــهـتـــزُّ رائــعـــاتُ الــــورود.
تحت الغصون
ههنا في خمائل الغاب تحت الزان والسِّنديان والزيتونِ
أنتِ أشهى من الحياة وأبْهى من جمال الطبيعة الميمون
ما أرقّ الشبابَ في جسمكِ الغضِّ وفي جيدكِ البديعِ الثمين!
وأدقّ الجمالَ في طرفكِ الساهي، وفي ثَغرِكِ الجميل الحزين!
وألذّ الحياةَ حين تغنّين فأصغي لصوتكِ المحزون!
وأرى رُوحكِ الجميلةَ عِطراً ضايعاً في حلاوة
التلحين!
قد تغنيتِ منذُ حينٍ بصوتٍ ناعمٍ، حالمٍ، شجيٍّ،
حنون
نَغَماً كالحياة عذباً عميقاً في حنانٍ، ورقَّةٍ،
وحنين
فإذا الكون قطعةٌ من نشيدٍ
علويٍّ، منغّمٍ، موزون
فلِمن كنتِ تُنشدين؟ فقالت: للضياء البنفسجيِّ الحزين
للضّباب المورّد المتلاشي كخيالات حالمٍ مفتون
للمساءِ المطلِّ، للشّفق الساجي، لسحر الأسى، وسحر السكون
للعبير الذي يرفرف في الأفق ويفنى، مثل المـُنى، في سكون
للأغاني التي يردّدها الراعي بمزماره الصغير الأمين
للربيع الذي يؤجِّج في الدنيا حياةَ الهوى وروحَ الحنين
ويوشِّي الوجودَ بالسحر والأحلام والزهر والشذى واللُّحون
للحياة التي تغنِّي حواليَّ على السهل والربى
والحُزون
للينابيع، للعصافير، للظلّ، لهذا الثرى، لتلك الغصون
للنسيم الذي يضمِّخ أحلامي بعطر الأقاح والليمون
للجمال الذي يفيض على الدنيا، لأشواق قلبيَ الـمَشحون
للزمان الذي يوشّح أيَّامي بضوء الـمُنى وظلّ الشجون
للشباب السكران، للأمل المعبود، لليأس، للأسى، للمَنون.
***
فتنهدْتُ، ثم قلتُ: وقلبي! مَنْ يغنّيه؟ مَنْ يُبيدِ
شجوني؟
قالتِ: الحبُّ، ثم غنّتْ لقلبي قُبَلاً عبقريّةَ التلحين
قُبَلاً علّمت فؤادي الأغاني، وأنارتْ له ظلام السنين
قُبَلاً تَرقُص السعادةُ والحبُّ على لحنها العميقِ
الرصين.
***
وأفقنا، فقلت كالحالم المسحور: قولي! تكلمي! خبِّريني!
أيُّ دنيا مسحورة، أي رؤيا طالَعَتْنِي في ضوء هذي
العيون!؟
زمرٌ من ملائك الملأ الأعلى يغنّون في حُــنُوٍّ حَنون
وصبايا رواقصٌ يتراشقن بزهر التُفّاح والياسمين
في فضاءٍ مُوَرّدٍ حالمٍ ساهٍ أطافت به عذارى
الفُنون.
صوت من السماء
في الليل ناديتُ الكواكب ساخطاً متأجِّجَ الآلام
والآرابِ:
الحقلُ يملكه جبابرة الدجى والروض يسكنه
بنو الأرباب
والنهر للغول المقدسة التي لا ترتوي،
والغاب للحطّاب
وعرائس الغاب الجميلِ هزيلةٌ ظمأى لكل جَنَى
وكل شراب
ما هذه الدنيا الكريهة!؟ ويلَها! حَقّتْ
عليها لعنة الأحقاب!
الكونُ مُصْغٍ، يا كواكبُ، خاشعٌ طال انتظاري،
فانطقي بجواب!
***
فسمعتُ صوتاً ساحراً متموِّجاً فوق المروج
الفِيحِ والأعشاب
وحفيفَ أجنحةٍ ترفرف في الفضا وصدى يَرنُّ على
سكون الغاب:
الفجرُ يولدُ باسما مُتَهَلِّلاً في
الكونِ بين دُجُنَّةٍ وضباب.
7/3/1933
مأتم الحب
ليت شعري!
أيُّ طيرِ
يسمع الأحزان تبكي بين أعماق
القلوب
ثم لا يهتف في الفجر برنَّات
النحيب
بخشوع واكتئاب؟
***
لست أدري
أيُّ أمرِ
أخرس العصفور عنِّي، أتُرى مات
الشعورْ
في جميع الكون، حتى في
حُشاشات الطيورْ!؟
أم بكى خلف السحاب!؟
قيود الأحلام
وأودّ أن أحيا بفكرة شاعر فأرى الوجودَ
يضيق عن أحلامي
إلاّ إذا قطّعت أسبابي مع الدنيا وعشتُ لوحدتي
وظلامي
في الغاب، في الجبل البعيد عن الورى حيث الطبيعة والجمال
السامي
وأعيشُ عِيشةَ زاهدٍ مُتَنَسِّكٍ ما إنْ
تُدَنِّسه الحياة بذام
هَجَرَ الجماعة للجبال تورُّعاً عنها وعن
بطش الحياة الدامي
تمشي حواليه الحياة كأنها الـحلمُ الجميل،
خفيفةَ الأقدام
وتَخِرُّ أمواج الزمان بهيبةٍ
قدسيَّةٍ، في يمَّها المترامي
فأعيش في غابي حياة كلها للفنِّ، للأحلام،
للإلهام
لكنني لا أستطيع، فإن لي أمّاً يصدُّ
حنانُها أوهامي
وصِغارَ إخوانٍ يرون سلامهم في الكائنات
معلَّقاً بسلامي
فقدوا الأب الحاني فكنتُ لضعفهم كهْفاً يَصُدُّ
غوائلَ الأيام
ويَقيهمُ وَهَجَ الحياة ولفحَها ويَذود
عنهم شِرّةَ الآلام
فأنا المكبَّلُ في سلاسلَ حيَّةٍ ضحَّيْتُ من
رأفِي بها أحلامي
وأنا الذي سكنَ المدينة مُكْرَهاً ومشى إلى
الآتي بقلبٍ دام
يصغي إلى الدنيا السخيفة راغماً ويعيش مثلَ الناس
بالأوهام
وأنا الذي يحيا بأرض قفرةٍ مدحوّةٍ
للشك والآلام...
هجمتْ بيَ الدنيا على أهوالها وخِضمِّها الرحب
العميق الطامي
من غير إنذارٍ، فأحملَ عُدّتي وأخوضه
كالسابح العوّام
فتحطّمتْ نفسي على شطآنه وتأجَّجتْ في جوِّه
آلامي.
***
الويل في الدنيا التي في شرْعِها فأسُ الطّغام
كريشةِ الرسّام!
23/6/1931
يا ابن أمي
خُلقتَ طليقاً كطيف النسيم وحرًّا كنور الضحى في سماهْ
تغرِّد كالطير أين اندفعت وتشدو بما شاء وحيُ
الإله
وتمرحُ بين ورود الصباح وتنعم بالنور، أنَّى
تراه
وتمشي –كما شئتَ- بين المروج، وتقطف ورد الرُّبَى في رُباه
***
كذا صاغكَ الله يا ابن الوجود وألقتك في
الكون هذي الحياة
فما لك ترضى بذلّ القيود وتَحني لمن
كبَّلوك الجباه
وتُسكتُ في النفس صوت الحياة الـقويَّ إذا ما
تغنَّى صداه
وتطبق أجفانك النيَّرات عن الفجر، والفجرُ عذبٌ
ضياه
وتقنع بالعيش بين الكهوف!؟ فأين النشيد؟ وأين الإياه؟
أتخشى نشيد السماء الجميل؟ أترهب نور الفضا في ضحاه؟
ألا انهضْ وسرْ في سبيل الحياة! فمن نام لم تَنتَظِرهُ الحياة
ولا تخشَ مما وراء التلاع! فما ثَمّ إلا الضحى في
صباه
وإلا ربيعُ الوجود الغرير يطرِّزُ بالوردِ ضافي
رداه
وإلا أريجُ الزهور الصِّباحِ، ورقْصُ الأشعَّةِ
بين المياه
وإلا حَمامُ المروج الأنيقُ يغرِّدُ منطلقاً في
غناه
إلى النُّور! فالنور عذْبٌ جميلٌ إلى النور! فالنور
ظِلُّ الإله.
19/2/1929
أغنية الشاعر
يا ربَّة الشعرِ والأحلام غنِّيني فقد سئمت
وُجُوم الكون من حين
إن الليالي اللواتي ضمَّخت كبدي بالسِّحر أضحتْ مع
الأيام ترميني
ناختْ بنفسي مآسيها وما وجدتْ قلباً عطوفاً
يُسلِّيها، فعزِّيني!
وهدّ من خلَدي نَوْحٌ ترجِّعه بَلوى
الحياة وأحزانُ المساكين
على الحياة أنا أبكي لشقوتها فمن إذا متُّ
يبكيها ويبكيني؟
يا ربة الشِّعرِ غنِّيني فقد ضجرت نفسي من الناس
أبناء الشياطين
تبرّمت ببني الدنيا، وأعوزها في معزف الدهر
غرِّيد الأرانين
وراحةُ الليْلِ ملأى من مدامعه وغادة الحب
ثكلى لا تغنِّيني
فهل إذا لُذت بالظلماءِ منتحباً أسلو؟ وما
نَفْعُ محزون لمحزون!؟
يا ربة الشعر! إني بائسٌ تعسٌ عدِمتُ ما أرتجي
في العالم الدُّون
وفي يديْكِ مزاميرٌ يخالجها وحي السماء
فهاتيها وغنّيني
ورتِّلي حوْلَ بيت الحزن أغنيةً تجلُو عن
النفس أحزانَ الأحايين
فإن قلبيَ قبرٌ مظلمٌ قُبِرتْ فيه
الأماني فما عادت تناغيني
لولاكِ في هذه الدنيا لما لمستْ أوتارَ روحيَ
أصواتُ الأفانين
ولا تغنَّيْتُ مأخوذاً ولا عذُبتْ ليَ
الحياةُ لدى غضّ الرياحين
ولا أصخْتُ إلى الأصداء راقصةً بين الكهوف
على عزف الشياطين
ولا ازدهى النفسَ في أشجانها شفقٌ يُلوِّنُ الغيمَ لهواً
أيَّ تلوين!
ولا استخَفّ حياتي، وهي هائمةٌ، فجْرُ الهوى في
جُفون الخُرّدِ العِين.
7/3/1928
أغنية الأحزان
غنِّني أنشودةَ الفجر الضَّحوكْ
أيها الصدّاحْ!
فلقد جرّعني صوتُ الظلام
ألَماً علّمني كرهَ الحياة
إن قلبي مَلّ أصداء النواح
غنّني، يا صاحْ!
***
حطّمت كفُّ الأسى قيثارتي
في يد الأحلام
فقضت -صَمتاً- أناشيدُ الغرامْ
بين أزهار الخريف الذاويةْ
وتلاشت في سكون الاكتئاب
كصدى الغرِّيد.
-2-
نثر
من الخيال الشعري عند
العرب
-
إن الخيال ينقسم في نظري إلى قسمين: قسم اتخذه الإنسان لا للتنويق والتزويق
ولكن ليتفهم من ورائه سرائر النفس وخفايا الوجود، وهو هذا الخيال الذي نلمح من
خلفه ملامح الفلسفة وأسرّة الفكر، ونسمع من ورائه هدير الحياة الكبرى يدوّي بكل
عنف وشدة، وهو هذا الفن الذي تندمج فيه الفلسفة بالشعر، ويزدوج فيه الفكر
بالخيال. وقسم اتخذه الإنسان أولاً ليعبّر به عن ذات نفسه حين لا يجد لها
مساغاً في الحقيقة العارية، ثم تطور هذا النوع مع الزمان فكان منه هذا النوع
الذي نعرفه، والذي أُلِّفت فيه كتب البلاغة على اختلافها. قلت هذا من قبل،
ولكنني أردت أن أقول الآن إنني أسمّي هذا القسم الأول بـ"الخيال الفني" لأن فيه
تنطبع النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير، واسميه بـ"الخيال
الشعري" لأنه يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور. أما القسم الثاني فإنني
أسميّه "الخيال الصناعي" لأنه ضرب من الصناعات اللفظية، وأسمّيه "الخيال
المجازي" لأنه مجاز على كل حال، سواء قُصد منه المجاز كما عندنا الآن أم لم
يقصد منه كما عند الإنسان القديم. وبعد هذه الكلمة، فأيّ نوع من أنواع الخيال
أريد أن أبحث عنه عند العرب؟ فللخيال نواحٍ كثيرة. هل إنني سأبحث عن الخيال
الفني أم عن الخيال الصناعي؟ وهل إنني سأعرض له من وجهته الصناعية البحتة، التي
تتناول المجاز والاستعارة والتشبيه ومبلغ قوة العرب في هذا الضرب من الكلام، أم
إنني سأبحث في المجاز والاستعارة والتشبيه، من ناحية أخرى، هي تطور هاته
التمجّزات مع العصور، واتباعها سنة النشوء، والتدرج من حسن إلى أحسن، ومن صالح
إلى أصلح، وأثر الشعراء والكتاب في تطور هذه المجازات ورقيها واصطباغها بألوان
العصور المختلفة التي ارتقت معها في سلم الحياة، أم ماذا؟
أما أحسستم إذ ذاك، وأنتم بين أحضان الطبيعة، بذلك الشعور القوي الغامض الثمل
يستحوذ على مشاعركم ويستولي على نفوسكم فيجعلها أدنى إلى الخلود منها إلى هذا
العالم الفاني؟ ستقولون: بلى!
ولكن، أيُّ شيء هو هذا الذي حرك في نفس البلبل حب النشيد فانطلق يغني بين
الغصون المزهرة، وداعب قلب القُبّرة الصغيرة فاندفعت تغرد راقصة بين الحقول،
وأثار الفَراشَ فرفرف بين الشقيق والأقحوان، وأهاج النحلة فانطلقت تدمدم فوق
أعشاب الربيع باحثة عن رحيق الورود، وأيقظ في أعماقكم ذلك الإحساس المبهم
المبهج اللذيذ؟ أي شيء يا ترى هذه القوة الساحرة التي تسكر كل شيء وتعبث بكل
شيء؟
-3-
يوميات
من مذكرات الشابي
-
ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب.
-
ها أنا أنظر، فأرى صوراً كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحرّكت حواليَّ
كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراد الجبل... ثم أنظر، فإذا رسوم غامضة
مضطربة متقلِّبة كأمواج البحار، وأطياف ملوّنةٌ كقوس قزح، جميلةٌ كقلب الربيع،
تمرّ أمامي ثم تختفي، وتتراقص حواليَّ ثم تبتعد، ثم تتوارى في أعماق الظلام
الدامسة. وأرى أحلاماً صغيرة ناشئة تُغردُ كطيور الغابات، وتنمو نموَّ الأعشاب،
وتفتُّح الورود، ثم تجفُّ وتذبل وتتناثر فتذروها الرياح، ثم تضمحل وتتلاشى في
سكون المنون.
-
ها أنا أنظر، فإذا أصحابي المتوفَّون يعودون إلى الحياة ثانية، كأجلِّ وأجمل ما
عرفتهم أوّل مرة. وإذا بنفسي تُمثلُ معهم فصول الحياة الغابرة التي مثّلناها
بالأمس وطوتها الدهور، وتنسى متاعب العيش وأحزان الحياة، وتحسب أنها ما زالت
تلك النفس التي عرفتها بالأمس مِضْحاكة فرحة كقُـبّرة الحقول، وتنسى أنها قد
أصبحت غريبة بين أشباح لا يفهمونها، وحيدة بين أنصاب جامدة تحرّكهم بواعث
المادة وشهوات الجسد، بعيدة جداً عن ذلك الملأ السعيد الذي عرفته في عهدها
الماضي، والذي ضربت بينها وبينه صُروف الحياة، فاندفع في سبيل الخلود، فظلّت
هاهنا وحدها تندبهم وترثيهم.
-
أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوماً في هذا العالم إلا
وأزداد غربة بين أبناء الحياة، وشعوراً بمعاني هاته الغربة الأليمة.
-
"إن لك من معارف أبيك، وسمعته الحسنة، وصيته البعيد، وشهرة اسمك، ضماناً
لاسترجاع منصب أبيك إليك لو تسعى...".
هاته هي الكلمة التي كثيراً ما أسمعُها من أقاربي وأنسبائي ومن يمتّون إليّ من
الصداقة بسبب متين. يقولون ذلك دائماً بلهجة من يغبطُني على مثل هاته الأمور
وتجمُّعها لديّ، ويعنّفني في شيء من العنف على تضييعي لمِثل هاته الأسباب التي
لو وجدها غيري لصعد منها بسلم إلى سماء المناصب، كأنهم يحسبون أن المناصب هي
كلّ شيء في هذا العالم، وأنّ منصب القضاء هو سيّدها. ولو علموا ما الذي يبغّض
إليّ المناصب على اختلافها، ويبغّض إليّ المناصب الشرعيّة بالأخص، لعذروني.
-
إنني شاعر. وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف -قليلاً أو كثيراً- مذاهب الناس
فيها. وفي نفسي شيء من الشذوذ والغرابة، أحسّ أنا به حين أكون بين الناس،
يجعلني أتبع سنناً ورسوماً تحبّها نفسي وربّما لا يحبّها الناس، وأفعل أفعالاً
قد لا يراها الناس شيئاً محبوباً، وألبس ألبسة ربّما يعدها الناس شاذة عن
مألوفاتهم.
أنا شاعر. والشاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي إليه الحياة، لا ما يوحي إليه البشر.
وفي المناصب الشرعية بالأخص قيود، وطقوس، وسنن متعارفة، اصطلح عليها الناس،
وألفوها، فأصبحت مقدّسة عندهم لا يمكن أن تمسّ بسوء. وأنا أعلم أن نفسي تأباها
وتنكرها ولا تخضع إليها.
أنا شاعر. والشاعر يجبُ أن يكون حرَّاً، كالطائر في الغاب، والزهرة في الحقل،
والموجة في البحار. وفي المناصب -والشرعيّة بالأخص- خنق لروح النفس، وقضاء على
أغاني القلب، وإجهاز على راحة الضمير.
كيف يمكن لشاعر يحبّ أن يحسّ بالحياة إحساساً كاملاً، وأن يتحدث إلى الناس
بأصوات قلبه الكثيرة، أن يسكن إلى حياة "الوظيف"؛ تلك الحياة الخاملة، الآسنة،
التي تشابه غدران الفلاة، والتي تقضي على صاحبها أن يحيا كما يحبّ الناس لا كما
يحبّ هو أن يعيش!؟
"إنك لو أردت أنت منصب أبيك، فإنّ لك من أصدقاء أبيك، وشهرته الطائرة، وخدماته
الطاهرة، ومعارفك وصيتك، ما يحقّق لك هاته الأمنية في أسرع من لمح البصر".
|