العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

متابعات
 

دوريس ليسنغ وجائزة نوبل للآداب عام 2007   (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                 علي يحيى منصور
                                                       أستاذ في كلية اللغات - جامعة صنعاء.

 ولدت الكاتبة الروائية الانجليزية المخضرمة في عام 1919. وعاصرت أغلب الكتاب والكاتبات ممن نالوا جائزة نوبل أثناء القرن العشرين. وأطلت على القرن الحادي والعشرين حتى منحتها الأكاديمية الملكية السويدية تلك الجائزة النوبلية الحلم في عام 2007. الكاتبة المحتفى بها الآن في الثامنة والثمانين. هذا حدث غير مسبوق سيخلد كاتبتنا في ذاكرة العالم، وهي تستحق ذلك بجدارة. لم تكن دوريس ليسنغ منسية يوماً. ولعل سبب ذلك لا يكمن في سلسلة إبداعاتها الأدبية فحسب؛ بل في وجهها المتميز الموحي بحنان الأمومة وهيبتها. إن كثيراً من كتاب العالم، من أمثال "صمويل بيكيت" و"فرجينيا وولف" و"إيرنيست همنغواي" و"مرغريتا دورا" و"نجيب محفوظ" و"غونتر غراس"، يطلّون علينا بوجوه كأنها مناظر طبيعية تجتذب قلوبنا، إن شاهدناها مرة لا ننساها أبداً. وبمقدور تلك الوجوه أن تتحول إلى أيقونات جذابة أقوى تأثيراً ربما من كتابات أصحابها المدونة.

. هذه الوجوه الفريدة لا تقبل الاشتباه ولا النسيان. ولدوريس ليسنغ، مثل هذا الوجه الجميل.

من عادة الأكاديمية الملكية السويدية أن تسوّغ منح الجائزة وتعلن رأيها أثناء إعلان المنح. فماذا قالت بحق دوريس ليسنغ؟

"إنها روائية ذات رؤىً في الخبرات النسوية، تصدت، بروح متشككة وحماس بالغ وقوة عارمة، لمحاسبة حضارة متشظية".

جاء منح الجائزة الأدبية لدوريس ليسنغ مفاجئة للعالم المهتم بقضايا الإبداع، بالرغم من أن اسم هذه الكاتبة بقي متداولاً في أوساط التكهن والتوقع طوال ثلاثين سنة. وتمنى الكثيرون لو أنها حظيت بالجائزة. لكنهم انتظروا بصبر، وانتظرت الكاتبة أيضاً بصبر أيوبي مذهل، حتى حلت الساعة الحادية عشرة قبل الظهر تماماً من يوم الثلاثاء المصادف 11 أكتوبر 2007، حين أعلن الخبر السار من ستوكهولم، فسمعه العالم، وسمعته السيدة المخضرمة. وبذا تكون دوريس ليسنغ الفائزة رقم (13) من بين النساء اللواتي فزن بالتكريم النوبلي في تاريخ الجائزة الأدبية الكبرى. وكانت الكاتبة النمساوية ايلفريده يلينك تحتل المرتبة الثانية عشرة بين النساء الفائزات حينما تسلمت الجائزة في العام 2004.

قد يختلف النقاد والقراء والمختصون بالأدب على توقيت منح التكريم لدوريس ليسنغ، ولماذا لم يحصل ذلك قبل عشر سنوات أو عشرين سنة؛ لكن كاتبتنا اخترقت الأحداث منذ سنة 1962 بروايتها "دفتر المذكرات الذهبي"، وحفرت نقشاً ثابتاً في أذهان قرائها، بخاصة النساء. تعلق الناقدة الألمانية "إينا هارفغ" على الحدث الأدبي الكبير لهذا العام قائلة: ظهرت الترجمة الألمانية لرواية "دفتر المذكرات الذهبي" في سنة 1978، أي بعد الاشتباكات الواسعة التي اندلعت حول تحرر المرأة وحقوقها، وأدت إلى كهربة الأجواء. ولا بد أني قد قرأت الرواية في ذلك الوقت تقريباً، أيام كنت طالبة في المرحلة الثانوية تبحث عن شيء ما". وتواصل الناقدة "إينا هارفغ" سرد ذكرياتها: "توجد هوامش وتعليقات بخطي على بعض مقاطع الرواية تشير بوضوح إلى مشاركتي الوجدانية مع أحد تلك المقاطع، إذ رسمت آنذاك خطاً تحت كلماته وهذا نصه: (حينما يبلغ الفتى مرحة من عمره يُفرض عليه الاختيار بين الفن والعلم، وما زلنا نعد أمر هذا الاختيار طبيعياً ولا مفر منه، نجد أنه يختار غالباً الفن لشعوره بأن في الفن تكمن الإنسانية والحرية وحق الاختيار. لكنه لا يدري أنه يقحم نفسه مبكراً في نظام مقيد، لا يدري أن ذلك الاختيار نفسه هو نتيجة لانقسام مزيف تجذر في قلب حضارتنا). لقد جذبتنا هذه الآراء نحن شابات الغرب المتنورات: الفن ضد العلم، الإنسانية ضد النظام، وتطبيق ذلك على الشباب".

ويبدو أن رواية "دفتر المذكرات الذهبي" ستجذب اهتمام القراء والنقاد من جديد، وتستعيد عصرها الذهبي. وقد يتفرغ مترجم مختص لنقلها إلى العربية، وتلك مهمة ملحة.

تتمحور أحداث الرواية حول امرأتين بعد طلاقهما، وما اختبرتاه من خيبة بعد الانتماء إلى الحزب الشيوعي. وتشمل أحداثها أيضاً قضايا الجسد وشؤون الجنس والإبداع الأدبي النسوي. وصارت  (الرواية) الكتاب المقدس للحركة النسوية. وحين سئلت دوريس ليسنغ عن تلك الظاهرة، ردت بشدة وقالت: "لقد أزعجني دائماً أن تصبح روايتي (دفتر المذكرات الذهبي) إنجيلاً لحركة تحرير المرأة؛ لأنني لم أكن أهدف إلى كتابة مقال في الحركة النسوية، بل لأسرد شيئاً عن حياة النساء. ما يزال الناس يصفون الرواية بأنها بيان سياسي. ليس ذلك بصحيح. لم تستهوني الحركة النسوية في الستينيات والسبعينيات، وما زلت على موقفي حتى اليوم".

وكما يشير بعض النقاد إلى مشابهة بين "دوريس ليسنغ" و"فرجينيا وولف"، فإن آخرين يجدون شبهاً بين النوبلية الجديدة ومعاصرتها الكاتبة الفرنسية "مرغريتا دورا" (توفيت في سنة 1996)؛ إذ أن كلا المرأتين كاتبتان خاضتا عالم السياسة أيضاً ويطيب لهما أن تُعرفا بالصفتين. كما تجمعهما سيرة حياة متشابهة حين اكتسبتا خبرة مبكرة في المستعمرات قبل أن تبدأ كل واحدة مسيرتها الأدبية في أوروبا. ولطالما ربط المختصون بالأدب بين سيرة حياة الكتاب والشعراء وأعمالهم الأدبية. ولا تستثنى دوريس ليسنغ من ذلك. قضت الكاتبة موضع البحث السنوات الثلاث الأولى من عمرها في (كرمنشاه- إيران) حيث ولدت هناك في العام 1919 لأب انجليزي يعمل مديراً لمصرف في تلك المدينة، ولأمّ تنحدر من أصل إيرلندي- اسكتلندي. عادت الأسرة إلى إنجلترا لمدة وجيزة ثم رحلت في سنة 1924 إلى "روديسيا" التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك (زيمبابوي حالياً)، حيث استقرت الأسرة في مزرعة للذرة ابتاعتها لتحقيق حلم لم يتحقق في النهاية. غادرت دوريس ليسنغ "روديسيا" إلى "إنجلترا" بعد طلاقها وتركت عند الأب ولداً وبنتاً. وصلت إلى إنجلترا وفي جعبتها رواية حصدت بها أول نجاح أدبي لها وهي تحمل عنوان "مأساة أفريقية" تتناول قصة حب ممنوعة بين العنصرين الأسود والأبيض.

جانب آخر ذو أهمية بالغة لإلقاء الضوء على شخصية دوريس ليسنغ نفسها نستكمل به التعمق في دراسة أعمالها، وهي دراسة ما صرحت به للصحف والمجلات عبر عمرها المديد، وكيف أن بعض تلك التصريحات والأحاديث فُسرت بغير ما ذهبت إليه كاتبتنا. ولنسق نموذجاً طريفاً من تلك الملابسات الإعلامية:

 انتشر خبر صحفي بأن دوريس ليسنغ آمنت بالنظام الملكي. فتصدت المعنية بنبرة قوية، وجاء ردها بما عُرف عنها من حضور بديهة، وقالت: "محض هراء! إن كل ما قلته حينما شاهدت كيف أن السيدات الإنجليزيات يعبرن عن احترامهن لمرغريت تاتشر بانحناء تحية تقدم للملوك فحسب؛ قلت ساخرة إن من الأفضل لنا أن نتمسك بالملكية".

ولعل دوريس ليسنغ ستظفر باهتمام القراء العرب لهذه المناسبة، وسيتسابق المترجمون عن الإنجليزية إلى توفير ترجمات لبعض رواياتها وقصصها القصيرة. كما نوجه الدعوة إلى أقسام اللغة الإنجليزية في جامعات العالم العربي لإبداء المزيد من الاهتمام بدوريس ليسنغ. وكذلك الأطراف العربية الأكاديمية الأخرى مدعوة لدراسة موضوع التصوف، بالذات ما يخص التصوف الإسلامي، الذي انشغلت به الكاتبة الإنجليزية في سلسلة من الروايات بعنوان "كانوبوس في ارغوس"، وامتد ذلك الاهتمام الملفت من 1956 حتى 1969، ويكاد أن يكون مجهولاً تماماً لدى معظم القراء العرب من غير المختصين.