متابعات
الدكتور شاكر خصباك
احتفاء بستين عاماً من العطاء والإبداع ()
د.
علي حداد
شاعر وأكاديمي من العراق.
أُقيمت صباح يوم الثلاثاء 10/6/2008، على قاعة مركز الدراسات والبحوث
اليمني، صباحية قرائية ونقدية عن المنجز العلمي والأدبي للدكتور
والأديب العراقي شاكر خصباك (احتفاءً به وتقديراً لدوره الإبداعي
والعلمي، ولمناسبة صدور مؤلفاته الأدبية في ثمانية مجلدات). وقد شارك
في هذه الاحتفائية عدد كبير من الأدباء والنقاد وأصدقاء الأديب وبعض
ممن درس على يديه.
وقبل أن ندلف إلى
توصيف ما قدم في هذه الاحتفائية نود التوقف عند مسألة تتردد كثيراً عندما يكون
محور الحديث الدكتور شاكر خصباك وأدبه، مؤداها أن هذا العالِم الجغرافي الكبير
والأديب الثري العطاء لم ينل أدبه الكفايات القرائية والنقدية التي هو جدير بها.
وقد عزا الدكتور عبدالعزيز المقالح الأمر -وشاركه في ذلك بعض الدارسين- إلى أن
شهرة الدكتور خصباك العلمية قد طغت على شهرته الأدبية، "شأنه في ذلك شأن كبار
المبدعين في العالم الذين كانت لهم إنجازاتهم... فتجاهلها النقد بعد أن اشتهرت
أعمالهم العلمية" (مقدمة الأعمال الكاملة لخصباك ص15).
أما الدكتور حاتم
الصكر فعدد أسباباً منها: إن الكتابة السردية العراقية خاصة لم تنل ما ناله
الشعر من القراءة والرصد الفني، ومنها ما يتعلق بـخصباك خاصة، كغيابه عن محيطه
مبكراً ليواصل دراساته الأكاديمية، ثم أسفاره خارج العراق منذ
السبعينيات (شاكر خصباك، مقالات وبحوث، ص45).
ولتبيان
هذه المسألة والوقوف على تشكلها وإشكالها فقد قمنا بتقصي تجربة خصباك الأدبية
وملاحقتها في مراحلها، ومن ثم رصد ما تواصل معها من جهد قرائي، لنصل إلى يقين
يغاير جوانب من تلك الرؤية ومقاصدها التي تنطلق في جوهرها من الرغبة النبيلة في
إيفاء خصباك وأدبه ما هو جدير به من المواجهات النقدية الجادة.
فلقد
سايرت الكتابة القارئة تجربة الكاتب الأدبية، وسعت -بقدر المتاح لها- إلى
تناولها منذ مراحلها الأولى. وانشغل بذلك أدباء ونقاد وكتاب كثر، أشروا إلى
طبائعها ومنجزها، وبشروا بها، وتواصلوا معها، منذ الأربعينيات من القرن الماضي
وحتى وقتنا الراهن. ويكفي هنا أن نشير إلى أسماء كبيرة استوقفتها كتابات خصباك
من أمثال: محمود تيمور، ونجيب محفوظ، وأنور المعداوي، والدكتور علي جواد
الطاهر، وغسان كنعاني، وعبدالمجيد لطفي، والدكتور صفاد خلوجي، وعبدالملك نوري،
وغائب طعمة فرمان، وجعفر الخليلي وعباس خضر، وعدنان بن ذريل، وكمال منصور،
وعبدالله نيازي، وعصام محفوظ، والدكتور عبدالعزيز المقالح، والدكتور عبده علي
الجسماني، والدكتور حاتم الصكر، والدكتور إبراهيم الجرادي، والدكتورة سعاد محمد
خضر، والدكتور علي حداد، وكريم جنتر، ومحمد حسين هيثم... وغيرهم كثير. كل هؤلاء
كتبوا عن آفاق تجربة شاكر خصباك الأدبية ومساراتها المتعددة في أنواعها
ومضامينها، يساوق ذلك كله ما أجري معه من لقاءات أدبية نشرت في صحف عراقية
وكذلك في صحف ومجلات عربية عدة.
ليؤكد
هذا كله حقيقة أن التواصل القرائي الجاد لم يكن مجانباً لتجربة خصباك الأدبية.
نضع ذلك بإزاء الاعتراف أن تجربة –كالتي نحن بصددها- تمتد لمساحة ستين عاماً من
الإنجاز المتواتر والإصرار الذي لا يتوانى لا يمكن لنا أن نتوقع مجاراتها بالكم
والكيف النقدي المماثل لها تماماً.
أما
إذا كانت المقاصد ذاهبة إلى تشخيص غياب الدكتور شاكر خصباك عن الإسهام المعلن
في الفعاليات الثقافية والأدبية، من خلال الكتابة في الصحف والمجلات أو
المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات العربية التي تعقد هنا أو هناك، فلعل الكاتب
نفسه هو المسؤول عن هذا الغياب، لما هو عليه من زهد في المشاركة بمثل تلك
الفعاليات أو التواصل مع جهات النشر الأدبية، وتوقفه عن الكتابة إلى الصحف
والمجلات منذ فترة بعيدة أشار إليها خصباك نفسه بقوله: "بعد عام 1955 شغلت
بدراسة الدكتوراه في الجغرافيا في انجلترا بحيث صرت في شبه عزلة عن المجلات
الأدبية العربية. وحين عدت إلى الوطن في أواخر عام 1958، اقتضت مني حياتي
الجديدة الانصراف إلى مهمتي العلمية... واضطررت إلى الهجرة إلى المملكة العربية
السعودية... وقد أمضيت فيها أربع سنوات... وحينما عدت إلى الجامعة في عام 1968
شغلت مرة أخرى بعملي الأكاديمي واضطررت إلى الانسحاب من العمل الأدبي والإسهام
في المجلات الأدبية، لأن أفكاري لم تكن تتواءم وسلطة البعث الحاكمة... ثم أُحلت
على التقاعد عام 1980 فعشت في عزلة في بيتي... وأخيراً وبعد خمس سنوات استجابت
السلطة في عام 1985 لطلب جامعة صنعاء للالتحاق بها" (شاكر خصباك، مقالات وبحوث،
ص42).
وإذا
كانت صنعاء قد فتحت للدكتور خصباك مساحة رحبة من العمل الأدبي أو طبقاً لقوله:
"أتيح لي العودة إلى الأدب من جديد والتعبير عن أفكاري بحرية، واستطعت بذلك أن
أخرج أهم أعمالي الأدبية" (المصدر نفسه)؛ فإن ذلك كله لم يدفع بخصباك إلى
معاودة التواصل مع الفعاليات الأدبية من حيث المشاركات ومراسلة الصحف والمجلات،
بل اكتفى بنشر أعماله الروائية والقصصية والمسرحية وسواها بشكل مطبوعات متلاحقة
وعلى نفقته الخاصة.
وعودة
إلى الاحتفائية التي مرت الإشارة إليها، والتي نعدها منطلقاً جديداً من التواصل
مع تجربة الدكتور شاكر خصباك الأدبية والعلمية من خلال ما تضمنته من دراسات
وأبحاث واستعادات قرائية لها قيمتها وتأثيرها في التحفيز على الاهتمام بمنجزه
والإصغاء القرائي الجاد له، فضلاً عن أن هذه الاحتفالية كانت سبباً في جمع ما
كُتب عن أدب الدكتور خصباك بمختلف مجالاته وتبويبه، ثم إصداره في كتاب ضخم
اختير له عنوان "شاكر خصباك، ستون عاماً من الإبداع"، وهو جهد مهم يضع بين أيدي
الباحثين والدارسين كل ما ييسر لهم مهمة التواصل النقدي مع منجز خصباك
والكيفيات القرائية التي قاربتها، عبر مسار زمني يسايرها في حركيته وانشغالاته.
افتتح
الدكتور عبدالعزيز المقالح، فعاليات الاحتفائية بكلمة أشاد فيها بالمتحقق
العلمي والأدبي المتميز للدكتور شاكر خصباك، ثم قدم جوانب من دراسته عن أدب
خصباك الروائي، حيث رآه واحداً من الرواد المتميزين والمثابرين القلائل على
مستوى الوطن العربي الذين أغنوا المكتبة العربية بنتاجهم المتنوع، وهو روائي
ورائد متمرس في مجال الكتابة الأدبية التي هي عنده -طبعاً لرأي الدكتور المقالح-
تدوين فني رفيع لوقائع إنسانية تأتي بتكثيف سردي معبر يحمل أفكاراً قيمية عالية
فيما تتوجه إليه.
وتناول
الدكتور عبدالله البار في ورقته المعنونة بـ"الأدب المسرحي في إبداع الدكتور
شاكر خصباك"، جوانب من منجز الأديب، وقد استوقفه ثراء مسرح خصباك وقدرته على
سبر أغوار الحياة وتفهم أبعادها ثم التعبير عنها.
وقد
بدا لنا أن الدكتور البار يذهب إلى القول بتأثير مسرح توفيق الحكيم الذهني في
التوجه المسرحي عند خصباك، مبيناً -وباستطراد- ريادة الحكيم في المسرح وتأثيره
في المسرح العربي بعامة، وهو ما لا تؤيده الوقائع تماماً، إذ المنجز المسرحي
عموماً -وعند خصباك تحديداً- لا علاقة له بمسرح الحكيم، فهو لم يتأثر به بقدر
استعاداته لمثاقفته مع المسرح الغربي، ولاسيما من خلال اهتمامه المبكر بأدب
الكاتب الروسي تشيخوف، وجوانب التقارب في الرؤية والفن التي تمثلها كل منهما.
أما
ورقة الدكتور حاتم الصكر، الموسومة بـ"شاكر خصباك... التجاهل والعرفان"، فقد
سعت إلى تبيان العوامل التي أدت بتجربة خصباك الأدبية إلى ما رآه الناقد "جناية
من الإهمال والتجاهل" على حد وصفه، وهو أمر طال الجيل الخمسيني الذي ينتمي إليه
خصباك، من خلال طبيعة المنجز الأدبي الذي قدمه والذي تمسك بالواقعية هوية فنية
له.
وذهب
الدكتور علي حداد، في دراسته "دراما الواقع الحصيفة، قراءة في الأعمال المسرحية
للدكتور شاكر خصباك"، إلى تقصي المقومات الفنية التي أسس عليها خصباك نصوصه
المسرحية، عبر رصد عنصر "الصراع" وفاعليته المجسدة في عناصر الفعل المسرحي
الأخرى، راصداً التوجهات الواقعية التي احتكم إليها الكاتب وهو يرسم أحداث
مسرحياته ويحرك شخصياته فيها، وما تمثلته الاستجابات الفنية في اللغة والحوار
والتأنيث المكاني من ترديد لتلك الرؤية والتمسك بقيمها.
ومن
وجهة نفسية قرأ الدكتور عبده علي الجسماني أدب خصباك، فرآه يعكس حقيقة هموم
الإنسان كما يعيشها في واقع حياته اليومية، وما يكابده أبطال قصصه ورواياته
ومسرحياته من صراعات مع الذات من جهة، ومع واقع الحياة من جهة أخرى.
أما
القاص محمد الغربي عمران فقد استعاد في ورقته ما تردد على أقلام الدارسين وفي
مراحل مختلفة من تأملهم لتجربة خصباك الأدبية، ليصل إلى القول أن شاكر خصباك
يحضر ضمن جيل من كتاب القصة والرواية الذين يسجلون في منجزهم السردي تطور
الرؤية وأبعاد تشكيلها موضوعاً، وهي تتمسك بالرصد الواقعي الذي يسعى إلى تجاوز
الهيمنة المباشرة، لتصنع ما يطلق عليه "إنعاش الواقع المصور في الرواية".
ورأى
الدكتور إبراهيم الجرادي في كلمته أن تكريم الدكتور شاكر خصباك هو تكريم لجهد
إبداعي وإنساني دؤوب ومعطاء، امتد على أكثر من خمسين عاماً، في أعمال أدبية
وعلمية تجسد سعي الكاتب في الدفاع عن كرامة الإنسان العربي ومواجهة الاستبداد
والعسف والطغيان.
وقد
أُلقي بعض الكلمات الأخرى من قبل شخصيات أكاديمية وسياسية عززت اليقين بمكانة
الدكتور خصباك وجهوده العلمية والأدبية الثرية التي أغنت المكتبة العربية
بالعطاء المعرفي والثقافي المهم.
وفي
ختام هذه الاحتفائية أُعطيت الكلمة للدكتور شاكر خصباك، الذي قُلِّد بأكثر من
قلادة من الفل اليمني المعطار، ووضعت بين يديه أكثر من باقة ورد؛ حيث أبدى شكره
واعتزازه بهذا الذي قيل فيه وفي أدبه، شاكراً الدكتور عبدالعزيز المقالح،
الراعي النبيل لهذه الاحتفائية، ومن خلاله اليمن، التي وفرت له وطناً ومساحة
فيء طيِّب لكي يكتب كل ما يريد وبحرية تامة.
أخيراً،
فإن تلك الاحتفائية الكريمة بالدكتور شاكر خصباك وأدبه تؤسس لتقليد نبيل ينبغي
له أن يتواصل، لينال من خلاله الأدباء والعلماء والمفكرون، الذين أثروا مجالات
الإبداع والمعرفة بعطائهم، الاعتراف المستحق بأيادي فضلهم البيضاء على أجيال
متلاحقة، شكل منجزهم لها زوادة من المعرفة والجمال والقيم الإنسانية التي يصدح
عطاؤهم بها.
|