العدد الخامس  - صيف 2008م

   
 

متابعات
 

قراءة  أولى في عوالم حبيب سروري السردية
رواية «أروى» أنموذجاً
(لقراءة المقال بصيغة أكروبات) 

                         صباح الإرياني
 أديبه وناقدة من اليمن.

روى...أنثى الفصول الأربعة...

 هذه هي رائعة حبيب عبد الرب سروري الجديدة. فكعادة حبيب الراوي، يمتطي فرساً من نور وحكمة، وبها يجوب فيافي الأرض ونفوس البشر في روايته «أروى».

المكان:

العالم، برؤية متسعة الرؤى، دقيقة الوصف لكل بقعة فيه، ولزواياه وخباياه. ثم يضيق، ليصل إلى هذه البقعة المسكونة بالوجع الدائم: اليمن، المتماوجة ما بين البحر والجبل.

الزمان:

الألفية الثانية وامتدادها ما بين ماض وآني ومطلق؛ انسيابية السنين وجدلية الأيام المغزولة بساعات، لدورتها تفاصيل هنيهات تعبر كبرق خاطف، لكنها ترسم ظلالها على كل شيء.

البشر:

هم كما هم: أسماء وسمات؛ لكنهم إثبات حق لوجود كائن.

بداية ومنتهى، حياة وموت، أو موت لحياة، كينونة ولا كينونة، تناقض وصراع، حركة وثبات.

 الحدث:

تاريخ لا يمكن أن يتوقف ما كان الخلق مستمراً. الوصف فيه فوق مستوى الوصف. مشاهد، تقصر أو تطول، هي طريق لحياة بشرية تعبر، تترك حكمتها وتستسلم لأحكام قدرية الخطى تسم أيامها ولياليها، أو فلنقل بداياتها ونهاياتها.

اللغة:

 يتشرب المرء مع كل مفردة من لغة حبيب، جمالاً لا حدَّ له. حين نقترب منه نتذوقه صعب أن نصفه بحلاوة الطعم أو حتى نعرف كنه طعمه. ومصدره نعومة في سلاسة المفردات نستعذبها، نلاحقها، ونعدو خلفها إلى أن نجد أنفسنا في نهاية الفصول.

هذه هي لغة حبيب سروري في كل رواياته، تلبس المرء حلة عشق مفارق لا يدري كيف جاءه. يمكن للمرء قراءته عدة مرات ليجد فيه معنى جديداً في كل قراءة.

ربما كانت هذه هي المقدمة. ما بعدها: وقفة على أرض الواقع. وأولى خطواتي  هي إيضاح أنني لست على علاقة بالنقد الأدبي، وأن كتابتي هذه هي مجرد انطباعات قارئة تعكس ما يمكن للفن أن يوقظ فينا من رؤى وخواطر. قد أكون ميالة للتجريد في  الفن، لكنني أقدس الآداب التي تعكس واقع أممها. وفي جل روايات حبيب سروري كانت اليمن هي هاجسه. ورغم الصور التجريدية التي يهيم بمفرداتها، سواء في «أروى» أم في رواياته السابقة، كثلاثية «دملان» أو ميتافيزيقية «عرق الآلهة»؛ رغم كل التجريدية الفنية التي يرسمها حبيب ببراعة فنان متمرس ومتمكن من استخدام أدواته، سواء الريشة أم اليراع؛ إلاّ أنه ينطلق من واقع صلب المنبت وعريق الجذور.

واقع حبيب هو أرضه، بهمّها وبؤسها ووجعها الذي ينخر فيها كما ينخر المرض الخبيث في الجسم البشري.

وهذه هي «أروى»، وجع حبيب الجديد. لا أذكر أين قرأت ما معناه: «إذا انفجرت الحرية في روح إنسان، لم يبق للرب أي سلطة على هذا الإنسان». هكذا يريد حبيب أن يخلق أنثاه، أنثى الفصول الأربعة، ببرقها ورعدها وزمهريرها وقرها ولطفها وعذوبتها...

أنثاه التي تنطلق أولى خطواتها من واقع مثل اليمن، يحوي، لا متناقضات تضاريسه فقط، بل فوارقه الجغرافية والحضارية ما بين مدينتين تقبعان على الأرض نفسها: عدن. وبينهما هذا الريف القابع في عصور القرون الوسطي. بينما يسرح الانفلات السياسي والإداري ويمرح، وصنعاء.

وباعتبار الأنثى هي نبع الانبثاق أو الميلاد، فهي المصدر للموت. وهذه هي -كما أعتقد- الفكرة الرئيسية للرواية. وهي نفسها فكرة الصراع والتناقض القائم في الفلسفات والأديان والأساطير.

يريد حبيب أن يخلق الأنثى التي ستخلد الأرض. وكما كانت أروى الملكة الحرة، فلمَ لا تكونها أروى اليمن اليوم؟!

 أروى... العشق الأسطوري

لا أعني هنا ما يصوره العشق من مشاعر حسية مباشرة، بل هذا العشق المطلق للحرية، بدون قيد أو شرط، وبدون حسبان لوسيلة بلوغ هذه الغاية. ولأروى شوقها وعشقها المتنامي السامق. لمحتواه متناقضات عديدة؛ وكون أنثى قادرة على احتواء هذه المتناقضات، فهذا دليل عظمة  قصوى.

تصارع أروى، بعشقها للحرية استلابها وعبوديتها لزوج فاسد.

تحمي عشقها للعشق ذاته، بتمسكها بحب رجل (شوقي) ينكر حبها على مدى خمسة وعشرين عاماً. 

وعشقها للثبات (أوسان) الذي اختارته بوعي وحرية، وإن اكتنفه القلق والعصابية والخوف.

عشقها لأخيها (رضوان) المنزه من كل غاية، وكأنّها به تحمي أمانها.

ثم يأتي الراوي (باسل) متيّمها الذي يطير بأشواقه إليها على أمل أن يحصل على أنثاه الدهرية التي جاب البقاع بحثاً عنها، بينما كانت قاب قوسين أو أدنى منه. ما هي علاقة هذه الأنثى العشقية بالخلق والحياة؟ هذا ما لم يتضح بعد.

وهو نفسه ما يثير في نفسي تساؤلات حائرة: هل يسعى حبيب سروري إلى بعث فلسفة وجودية جديدة؟!

هل يريد بتحليله للذات الإنسانية وعلاقتها الكونية بالوجود بشقيه، القول إن من الصعب امتلاك إرادة واعية حرة؟ أم أن هناك إرادة مطلقة للإنسان لا يمكن كبحها؟

هل تحد العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، بل والإرث الثقافي، من حرية الإنسان، وتخضعه لسلفيتها وأحكامها المسبقة على ما هو جائز وما لا يجوز؟! هل تواجه الإنسان صعوبة أن يكون حراً وخالقاً لوجوده؟! كل هذه الأسئلة تثيرها رواية حبيب الجديدة، كامتداد لأسئلته الرواية السابقة.